الصديق عثمان
2008-08-31, 01:27
بسم الله الرحمن الرحيم
إن أكثر ما نلاحظه في هذا الزمان وخاصة في شهر رمضان المبارك الدرجة المذهلة التي تصلها نفوس المسلمين من الغضب ما يؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها وصلت في بعض الأحيان إلى القتل فحاولت في هذا الموضوع المتواضع الحديث عن الغضب بين ما هو محمود منه وما هو مذموم وبين الترهيب منه والترغيب في تركه ،
و الفقرة الأخيرة من الموضوع-كيفية علاج الغضب بعد هيجانه- فهي منقولة
تعريف الغضب لغة:
قال القرطبي -رحمه الله تعالى- " والغضب في اللغة : الشدة ، ورجل غضوب أي شديد الخلق ، والغضوب الحية الخبيثة ؛ لشدتها , والغضبة : الدرقة من جلد البعير يطوى بعضها على بعض سميت بذلك لشدتها "
حقيقة الغضب:
يقول الشيخ أبي حامد الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين:
اعلم أن الله تعالى خلق الحيوان معرضا للفساد والموتان ،بأسباب في داخل بدنه ،وأسباب خارجية عنه، أنعم عليه بما يحميه عن الفساد ،ويدفع عنه الهلاك ،إلى
أجل معلوم سماه في كتابه ،وأما السبب الداخل ،فهو أنه ركبه من الحرارة والرطوبة ،وجعل بين الحرارة والرطوبة عداوة ومضادة ،فلا تزال الحرارة تحلل الرطوبة ،وتجففها ،وتبخرها ،حتى تصير أجزاؤها بخارا يتصاعد منها،فلو لم تصل بالرطوبة مدد من الغذاء ،يجبر ما انحل وتبخر من أجزائها لفسد الحيوان فخلق الله الغذاء الموافق لبدن الحيوان وخلق في الحيوان شهوة تبعثه على تناول الغذاء ،كالموكل به في جبر ما انكسر ،وسد ما انثلم ،ليكون ذلك حافظا له من الهلاك بهذا السبب .
وأما الأسباب الخارجية التي يتعرض لها الإنسان ،فكالسيف ،والسنان،وسائر المهلكات التي يقصد بها ،فافتقر إلى قوة وحمية تثور في باطنه ،فتدفع المهلكات عنه ،فخلق الله طبيعة الغضب من النار ،وغرزها في الإنسان ،وعجنها بطينته ،فمهما صد عن غرض من أغراضه،ومقصود من مقاصده ،اشتعلت نار الغضب ،وثارت به ثورانا يغلي به دم القلب وينتشر في العروق ،ويرتفع إلى أعالي البدن كما ترتفع النار ،وكما يرتفع الماء الذي في القدر ،فلذلك ينصب إلى الوجه ،فيحمر الوجه والعين،والبشرة لصفائها ،تحكي ما وراءها من حمرة الدم ،كما تحكي الزجاجة لون ما فيها ،وإنما ينبسط الدم إذا غضب على من دونه ،واستشعر القدرة عليه،فإذا صدر الغضب على من فوقه ،وكان معه يأس من الانتقام ،تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب ،وصار حزنا ولذلك يصفر اللون،وإذا كان الغضب على نظير يشك فيه ،تردد الدم بين انقباض وانبساط ،فيحمر ويصفر ويضطرب .
وبالجملة فقوة الغضب محلها القلب ،ومعناها غليان دم القلب بطلب الانتقام ،وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها ،وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها ،والانتقام قوت هذه القوة وشهوتها ،وفيه لذتها ،ولا تسكن إلا به.
الغضب المحمود والغضب المذموم:
1-قد يكون الغضب غيرة على الدين حينما تنتهك حدود الله أو تحتل أرض من بلاد المسلمين أو يغتصب عرض مسلم فهنا يكون الغضب محمودا وهكذا كان حال سيدنا موسى –عليه السلام- قال الله تعالى :< ولما رجع موسى الى قومه غضبان أسفا ...> ولقد ثمن القرآن هذا النوع من الغضب في نفوس المسلمين وأمرهم به قال تعالى :< محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم> وقال تعالى:< يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم> وقال تعالى :<ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه>
وقد كان الرسول –صلى الله عليه وسلم –أغير خلق الله على دينه وأغضبهم له ،عن أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري –رضي الله عنه – قال:<جاء رجل إلى النبي –صلى الله عليه وسلم-فقال:إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا ،فما رأيت النبي –صلى الله عليه وسلم- غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ ،فقال :أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليوجز ، فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة >متفق عليه
وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قدم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من سفر وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل ،فلما رآه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- هتكه وتلون وجهه وقال:<يا عائشة أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله> متفق عليه.
إن التفريط في هذا النوع من الغضب يولد قلة الأنفة مما يؤنف منه من التعرض للحرم ،والزوجة والأمة ،وصغر النفس، والقماءة، وهو أيضا مذموم إذ من ثمراته عدم الغيرة على الحرم ،وهو خنوثة قال- صلى الله عليه وسلم- <إن سعدا لغيور وأنا أغير من سعد وإن الله أغير مني> والغيرة خلقت لحفظ الأنساب ولو تسامح الناس بذلك لاختلطت الأنساب ،ولذلك قيل :كل أمة وضعت الغيرة في رجالها ،وضعت الصيانة في نسائها .
2-الغضب المذموم:
ولست في هذه الفقرة بصدد الحديث عن حمية الجاهلية وغضب الكفار والمشركين لانتشار الدين ،أو غضب الناس لتطبيق أمر فرضه الله كتطبيق العدالة وما إلى ذلك بل أقصد غضب المسلم من أخيه لأمر دنيوي وهذا النوع من الغضب لم يكن عند رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم - شيئا قط بيده ، ولا امرأة ، ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله ، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله -عز وجل- ولأن الله جعل الرسول-صلى الله عليه وسلم- هو قدوتنا فكان لزاما على المسلم أن يتجنب هذا النوع من الغضب ليتصف بنقيضه فيصبح بذلك حليما والحلم من الخصال التي تنشر المحبة والألفة بين المسلمين وتقتل البغض والضغينة والشحناء وقد جاء القرآن الكريم يحث المسلمين للتحلي بهذه الخصلة ،قال تعالى :<خذ العفو وأمر بالمعروف وأرض عن الجاهلين> وقال تعالى <فاصفح الصفح الجميل >
وفي السنة النبوية جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي –صلى الله عليه وسلم -:هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال :< لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة،إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل ابن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي ،فإذا أنا بسحابة قد أظلتني ،فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام،فناداني فقال :إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك ،وما ردوا عليك،وقد بعث إليك ملك الجبال ،فسلم عليا ثم قال:يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك ،وأنا ملك الجبال ،وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك ،فما شئت ؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين . فقال النبي –صلى الله عليه وسلم :< بل أرجوا أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا>متفق عليه.....الأخشبان :الجبلان المحيطان بمكة ،والأخشب هو الجبل الغليظ ،وعن أبي هريرة –رضي الله عنه – أن رجلا قال :با رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني ،وأحسن إليهم ويسيئون إلي ،وأحلم عنهم ويجهلون عليا ،فقال: لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل ولا يزال معك من الله تعالى ظهير عليهم ما دمت على ذلك> رواه مسلم ...تسفهم :بضم التاء وكسر السين المهملة وتشديد الفاء ،والمل :بفتح الميم وتشديد اللام وهو الرماد الحار وهو تشبيه لما يلحقهم من الإثم بما يلحق آكل الرماد من الألم ،ولا شيء على المحسن إليهم لكن ينالهم إثم عظيم بتقصيرهم في حقه وإدخالهم الأذى عليه. –رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين-
وللحلم حظ وافر في حياة الصاحبة والتابعين والصالحين إذ جعلوه زادا لحياتهم وماء يطفئون به إساءة الجهلة والحاسدين فصلحوا وأصلحوا
يروى أن رجلا سب الأحنف بن قيس –وهو يماشيه في الطريق –فلما قرب من المنزل وقف الأحنف وقال :يا هذا ،إن كان بقي معك شيء فقله ها هنا ، فإني أخاف إن سمعك فتيان الحي أن يؤذوك .
وقال رجل لأبي ذر :أنت الذي نفاك معاوية من الشام ؟ لو كان فيك خير ما نفاك ! فقال : يا ابن أخي إن ورائي عقبة كؤودا ،إن نجوت منها لم يضرني ما قلت ،وإن لم أنج فأنا شر مما قلت.
وقال رجل لابي بكر :والله لأسبنك سبا يدخل القبر معك !!قال:معك يدخل لا معي !!
وقال رجل لعمرو بن العاص :والله لأتفرغن لك ،قال هناك وقعت في الشغل ،قال :كأنك تهددني ؟والله لئن قلت لي كلمة لأقولن لك عشرا،قال عمرو:وأنت والله لو قلت لي عشرا لم أقل لك واحدة .
وشتم رجل الشعبي فقال له:إن كنت صادقا فغفر الله لي وإن كنت كاذبا فغفر الله لك.
يقول علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-
البس أخاك على عيوبه واستر وغط على ذنوبه
واصبر على ظلم السفيه وللزمان على خطوبه
ودع الجواب تفضلا وكل الظلوم إلى حسيبه
واعلم أن الحلم عند الغيض أحسن من ركوبه
وقال:
العلم زين فكن للعلم مكتسبا وكن له طالبا ما عشت مقتبسا
أركن إليه وثق بالله واغن به وكن حليما رزين العقل محترسا
ويقول الإمام الشافعي –رحمه الله -:
إذا سبني نذل تزايدت رفعة وما العيب إلا أن أكون مسابيه
ولو لم تكن نفسي عليا عزيزة لمكنتها من كل نذل تحاربه
ولو أنني أسعى لنفعي وجدتني كثير التواني للذي انا طالبه
ولكني أسعى لأنفع صاحبي وعار على الشبعان إن جاع صاحبه
وقال- رحمه الله -:
لما عفوت ولم أحقد على أحد أرحت نفسي من همي العداوات
إني أحيي عدوي عند رؤيته لأدفع الشر عني بالتحيات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه كأنه قد حشا قلبي محبات
ولست أسلم من خل يخالطني فكيف أسلم من أهل العداوات
الناس داء وداء الناس قربهم وفي اعتزالهم قطع المودات
قال سالم ابن ميمون الخواص :
إذا نطق السفيه فلا تجبه : فخير من إجابته السكوتُ
سكتُّ عن السفيه فظن أني : عييتُ عن الجواب وما عييتُ
شرار الناس لو كانوا جميعا : قذى في جوف عيني ما قذيتُ
فلستُ مجاوبا أبدا سفيها : خزيتُ لمن يجافيه خزيتُ
أسباب الغضب وكيفية إزالتها:
يقول الشيخ أبي حامد الغزالي –رحمه الله –في كتابه إحياء علوم الدين:
لقد عرفت أن علاج كل علة حسم مادتها ،وإزالة أسبابها ،فلا بد من معرفة أسباب الغضب ،وقد قال يحي لعيسى -عليهما السلام-:أي شيء أشد ؟قال: غضب الله قال فما يقرب من غضب الله ؟قال : أن تغضب ، قال فما يبدي الغضب وما ينبته ؟قال عيسى :الكبر والفخر والتعزز والحمية.
والأسباب المهيجة للغضب هي : الزهو ،والعجب ،والمزاح ،والهزل ،والهزء،والتعبير والمماراة،والمضادة ،والغدر ،وشدة الحرص على فضول المال والجاه،وهي بأجمعها أخلاق رديئة مذمومة شرعا ،ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب ، فلا بد من إزالة هذه الأسباب بأضدادها ،فينبغي :
1-أن تميت الزهو بالتواضع ،
2- وتميت العجب بمعرفتك بنفسك ،
3-وتزيل الفخر بأنك من جنس عبدك إذ الناس يجمعهم في الانتساب أب واحد، وإنما اختلفوا في الفضل أشتاتا ،فبنو آدم جنس واحد ،وإنما الفخر بالفضائل ،والفخر والعجب والكبر من أكبر الرذائل،وهي أصلها ورأسها ...
4-وأما المزاح فتزيله بالتشاغل بالمهمات الدينية التي تستوعب العمر وتفضل عنه إذا عرفت ذلك.
5-وأما الهزل فتزيله بالجد في طلب الفضائل والأخلاق الحسنة ،والعلوم الدينية ،التي تبلغك إلى سعادة الآخرة.
6-وأما الهزل فتزيله بالتكرم عن إيذاء الناس ،وبصيانة النفس عن أن يستهزأ بك .
7-وأما التعبير فبالحذر عن القول القبيح ،وصيانة النفس عن مر الجواب ،وأما شدة الحرص على مزايا العيش فتزال بالقناعة بقدر الضرورة ،طلبا لعز الاستغناء ،وترفعا عن ذل الحاجة .
هل الغضب هو الشجاعة؟
ومن أشد البواعث على الغضب عند أكثر الجهال ،تسميتهم الغضب شجاعة ،ورجولية ،وعزة نفس ،وكبر همة ،وتلقيبه بالألقاب المحمودة غباوة وجهلا ،حتى تميل النفس إليه وتستحسنه وهو في الحقيقة مرض قلب ونقصان عقل،وهو لضعف النفس ونقصانها والدليل على أنه ضعف النفس أن المريض أسرع غضبا من الصحيح ،والمرأة أسرع غضبا من الرجل ،والصبي أسرع غضبا من الرجل الكبير ،والشيخ الضعيف أسرع غضبا من الكهل ،وذو الخلق السيئ والرذائل القبيحة أسرع غضبا من صاحب الفضائل قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب >.
نتائج الغضب :
لاشك في أن ما أمرنا به ديننا الحنيف في كل الخير لنا وما نهانا عنه فيه هلاكنا وقد يوفق الإنسان في إيجاد الحكمة من الأمر والتحريم وقد لا يوفق لمحدودية العقل البشري وانطلاقا من هذه القاعدة فقد عدد العلماء السابقين والمعاصرين نتائج غير محمودة للغضب فمنها ما يعيب الخلق ومنها ما يعيب الخلقة.
تأثير الغضب على الخلقة:يقول الشيخ محمد الغزالي –رحمه الله- في كتابه <جدد حياتك> نقلا عن المفكر <ديل كارنيجي> :
ثم يتساءل-يعني ديل كارنيجي-كيف نؤذيك محاولة القصاص؟ إنها قد تودي بصحتك ،كما ذكرت مجلة (لايف ) أن أبرز ما يميز الذين يعانون ضغط الدم هو سرعة انفعالهم،واستجابتهم لدواعي الغيض والحقد.
قال:وأصيبت إحدى معارفي بداء القلب ،فكان كل ما نصحها به الأطباء ألا تدع للغضب سبيلا إليها مهما بلغ الخطب ،فإن المريض بقلبه قد تكفي لحفر قبره غضبة واحدة .
تاثير الغضب على الأخلاق:
إن المرء مع تفاقم الغضب يغيب عنه وعيه ويتسلم الشيطان زمامه فلا يعي ما يقول أو ما يفعل فتراه يسب ويشتم غيره ويغتاب ويحقد ..ويهجر ،ويحسد، ...إلى غير ذلك من سيئ الأخلاق التي نهانا الشرع عنها .
يقول الله تعالى:<والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا >
وعن ابن مسعود –رضي الله عنه –قال :قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-:<سباب المسلم فسوق وقتاله كفر> متفق عليه
وعن أنس –رضي الله عنه-أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال:<لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا >
وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال:<تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال :أنظروا هذين حتى حتى يصطلحا ،أنظروا هذين حتى يصطلحا >رواه مسلم.
.....يتبع
إن أكثر ما نلاحظه في هذا الزمان وخاصة في شهر رمضان المبارك الدرجة المذهلة التي تصلها نفوس المسلمين من الغضب ما يؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها وصلت في بعض الأحيان إلى القتل فحاولت في هذا الموضوع المتواضع الحديث عن الغضب بين ما هو محمود منه وما هو مذموم وبين الترهيب منه والترغيب في تركه ،
و الفقرة الأخيرة من الموضوع-كيفية علاج الغضب بعد هيجانه- فهي منقولة
تعريف الغضب لغة:
قال القرطبي -رحمه الله تعالى- " والغضب في اللغة : الشدة ، ورجل غضوب أي شديد الخلق ، والغضوب الحية الخبيثة ؛ لشدتها , والغضبة : الدرقة من جلد البعير يطوى بعضها على بعض سميت بذلك لشدتها "
حقيقة الغضب:
يقول الشيخ أبي حامد الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين:
اعلم أن الله تعالى خلق الحيوان معرضا للفساد والموتان ،بأسباب في داخل بدنه ،وأسباب خارجية عنه، أنعم عليه بما يحميه عن الفساد ،ويدفع عنه الهلاك ،إلى
أجل معلوم سماه في كتابه ،وأما السبب الداخل ،فهو أنه ركبه من الحرارة والرطوبة ،وجعل بين الحرارة والرطوبة عداوة ومضادة ،فلا تزال الحرارة تحلل الرطوبة ،وتجففها ،وتبخرها ،حتى تصير أجزاؤها بخارا يتصاعد منها،فلو لم تصل بالرطوبة مدد من الغذاء ،يجبر ما انحل وتبخر من أجزائها لفسد الحيوان فخلق الله الغذاء الموافق لبدن الحيوان وخلق في الحيوان شهوة تبعثه على تناول الغذاء ،كالموكل به في جبر ما انكسر ،وسد ما انثلم ،ليكون ذلك حافظا له من الهلاك بهذا السبب .
وأما الأسباب الخارجية التي يتعرض لها الإنسان ،فكالسيف ،والسنان،وسائر المهلكات التي يقصد بها ،فافتقر إلى قوة وحمية تثور في باطنه ،فتدفع المهلكات عنه ،فخلق الله طبيعة الغضب من النار ،وغرزها في الإنسان ،وعجنها بطينته ،فمهما صد عن غرض من أغراضه،ومقصود من مقاصده ،اشتعلت نار الغضب ،وثارت به ثورانا يغلي به دم القلب وينتشر في العروق ،ويرتفع إلى أعالي البدن كما ترتفع النار ،وكما يرتفع الماء الذي في القدر ،فلذلك ينصب إلى الوجه ،فيحمر الوجه والعين،والبشرة لصفائها ،تحكي ما وراءها من حمرة الدم ،كما تحكي الزجاجة لون ما فيها ،وإنما ينبسط الدم إذا غضب على من دونه ،واستشعر القدرة عليه،فإذا صدر الغضب على من فوقه ،وكان معه يأس من الانتقام ،تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب ،وصار حزنا ولذلك يصفر اللون،وإذا كان الغضب على نظير يشك فيه ،تردد الدم بين انقباض وانبساط ،فيحمر ويصفر ويضطرب .
وبالجملة فقوة الغضب محلها القلب ،ومعناها غليان دم القلب بطلب الانتقام ،وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها ،وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها ،والانتقام قوت هذه القوة وشهوتها ،وفيه لذتها ،ولا تسكن إلا به.
الغضب المحمود والغضب المذموم:
1-قد يكون الغضب غيرة على الدين حينما تنتهك حدود الله أو تحتل أرض من بلاد المسلمين أو يغتصب عرض مسلم فهنا يكون الغضب محمودا وهكذا كان حال سيدنا موسى –عليه السلام- قال الله تعالى :< ولما رجع موسى الى قومه غضبان أسفا ...> ولقد ثمن القرآن هذا النوع من الغضب في نفوس المسلمين وأمرهم به قال تعالى :< محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم> وقال تعالى:< يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم> وقال تعالى :<ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه>
وقد كان الرسول –صلى الله عليه وسلم –أغير خلق الله على دينه وأغضبهم له ،عن أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري –رضي الله عنه – قال:<جاء رجل إلى النبي –صلى الله عليه وسلم-فقال:إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا ،فما رأيت النبي –صلى الله عليه وسلم- غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ ،فقال :أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليوجز ، فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة >متفق عليه
وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قدم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من سفر وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل ،فلما رآه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- هتكه وتلون وجهه وقال:<يا عائشة أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله> متفق عليه.
إن التفريط في هذا النوع من الغضب يولد قلة الأنفة مما يؤنف منه من التعرض للحرم ،والزوجة والأمة ،وصغر النفس، والقماءة، وهو أيضا مذموم إذ من ثمراته عدم الغيرة على الحرم ،وهو خنوثة قال- صلى الله عليه وسلم- <إن سعدا لغيور وأنا أغير من سعد وإن الله أغير مني> والغيرة خلقت لحفظ الأنساب ولو تسامح الناس بذلك لاختلطت الأنساب ،ولذلك قيل :كل أمة وضعت الغيرة في رجالها ،وضعت الصيانة في نسائها .
2-الغضب المذموم:
ولست في هذه الفقرة بصدد الحديث عن حمية الجاهلية وغضب الكفار والمشركين لانتشار الدين ،أو غضب الناس لتطبيق أمر فرضه الله كتطبيق العدالة وما إلى ذلك بل أقصد غضب المسلم من أخيه لأمر دنيوي وهذا النوع من الغضب لم يكن عند رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم - شيئا قط بيده ، ولا امرأة ، ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله ، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله -عز وجل- ولأن الله جعل الرسول-صلى الله عليه وسلم- هو قدوتنا فكان لزاما على المسلم أن يتجنب هذا النوع من الغضب ليتصف بنقيضه فيصبح بذلك حليما والحلم من الخصال التي تنشر المحبة والألفة بين المسلمين وتقتل البغض والضغينة والشحناء وقد جاء القرآن الكريم يحث المسلمين للتحلي بهذه الخصلة ،قال تعالى :<خذ العفو وأمر بالمعروف وأرض عن الجاهلين> وقال تعالى <فاصفح الصفح الجميل >
وفي السنة النبوية جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي –صلى الله عليه وسلم -:هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال :< لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة،إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل ابن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي ،فإذا أنا بسحابة قد أظلتني ،فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام،فناداني فقال :إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك ،وما ردوا عليك،وقد بعث إليك ملك الجبال ،فسلم عليا ثم قال:يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك ،وأنا ملك الجبال ،وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك ،فما شئت ؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين . فقال النبي –صلى الله عليه وسلم :< بل أرجوا أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا>متفق عليه.....الأخشبان :الجبلان المحيطان بمكة ،والأخشب هو الجبل الغليظ ،وعن أبي هريرة –رضي الله عنه – أن رجلا قال :با رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني ،وأحسن إليهم ويسيئون إلي ،وأحلم عنهم ويجهلون عليا ،فقال: لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل ولا يزال معك من الله تعالى ظهير عليهم ما دمت على ذلك> رواه مسلم ...تسفهم :بضم التاء وكسر السين المهملة وتشديد الفاء ،والمل :بفتح الميم وتشديد اللام وهو الرماد الحار وهو تشبيه لما يلحقهم من الإثم بما يلحق آكل الرماد من الألم ،ولا شيء على المحسن إليهم لكن ينالهم إثم عظيم بتقصيرهم في حقه وإدخالهم الأذى عليه. –رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين-
وللحلم حظ وافر في حياة الصاحبة والتابعين والصالحين إذ جعلوه زادا لحياتهم وماء يطفئون به إساءة الجهلة والحاسدين فصلحوا وأصلحوا
يروى أن رجلا سب الأحنف بن قيس –وهو يماشيه في الطريق –فلما قرب من المنزل وقف الأحنف وقال :يا هذا ،إن كان بقي معك شيء فقله ها هنا ، فإني أخاف إن سمعك فتيان الحي أن يؤذوك .
وقال رجل لأبي ذر :أنت الذي نفاك معاوية من الشام ؟ لو كان فيك خير ما نفاك ! فقال : يا ابن أخي إن ورائي عقبة كؤودا ،إن نجوت منها لم يضرني ما قلت ،وإن لم أنج فأنا شر مما قلت.
وقال رجل لابي بكر :والله لأسبنك سبا يدخل القبر معك !!قال:معك يدخل لا معي !!
وقال رجل لعمرو بن العاص :والله لأتفرغن لك ،قال هناك وقعت في الشغل ،قال :كأنك تهددني ؟والله لئن قلت لي كلمة لأقولن لك عشرا،قال عمرو:وأنت والله لو قلت لي عشرا لم أقل لك واحدة .
وشتم رجل الشعبي فقال له:إن كنت صادقا فغفر الله لي وإن كنت كاذبا فغفر الله لك.
يقول علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-
البس أخاك على عيوبه واستر وغط على ذنوبه
واصبر على ظلم السفيه وللزمان على خطوبه
ودع الجواب تفضلا وكل الظلوم إلى حسيبه
واعلم أن الحلم عند الغيض أحسن من ركوبه
وقال:
العلم زين فكن للعلم مكتسبا وكن له طالبا ما عشت مقتبسا
أركن إليه وثق بالله واغن به وكن حليما رزين العقل محترسا
ويقول الإمام الشافعي –رحمه الله -:
إذا سبني نذل تزايدت رفعة وما العيب إلا أن أكون مسابيه
ولو لم تكن نفسي عليا عزيزة لمكنتها من كل نذل تحاربه
ولو أنني أسعى لنفعي وجدتني كثير التواني للذي انا طالبه
ولكني أسعى لأنفع صاحبي وعار على الشبعان إن جاع صاحبه
وقال- رحمه الله -:
لما عفوت ولم أحقد على أحد أرحت نفسي من همي العداوات
إني أحيي عدوي عند رؤيته لأدفع الشر عني بالتحيات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه كأنه قد حشا قلبي محبات
ولست أسلم من خل يخالطني فكيف أسلم من أهل العداوات
الناس داء وداء الناس قربهم وفي اعتزالهم قطع المودات
قال سالم ابن ميمون الخواص :
إذا نطق السفيه فلا تجبه : فخير من إجابته السكوتُ
سكتُّ عن السفيه فظن أني : عييتُ عن الجواب وما عييتُ
شرار الناس لو كانوا جميعا : قذى في جوف عيني ما قذيتُ
فلستُ مجاوبا أبدا سفيها : خزيتُ لمن يجافيه خزيتُ
أسباب الغضب وكيفية إزالتها:
يقول الشيخ أبي حامد الغزالي –رحمه الله –في كتابه إحياء علوم الدين:
لقد عرفت أن علاج كل علة حسم مادتها ،وإزالة أسبابها ،فلا بد من معرفة أسباب الغضب ،وقد قال يحي لعيسى -عليهما السلام-:أي شيء أشد ؟قال: غضب الله قال فما يقرب من غضب الله ؟قال : أن تغضب ، قال فما يبدي الغضب وما ينبته ؟قال عيسى :الكبر والفخر والتعزز والحمية.
والأسباب المهيجة للغضب هي : الزهو ،والعجب ،والمزاح ،والهزل ،والهزء،والتعبير والمماراة،والمضادة ،والغدر ،وشدة الحرص على فضول المال والجاه،وهي بأجمعها أخلاق رديئة مذمومة شرعا ،ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب ، فلا بد من إزالة هذه الأسباب بأضدادها ،فينبغي :
1-أن تميت الزهو بالتواضع ،
2- وتميت العجب بمعرفتك بنفسك ،
3-وتزيل الفخر بأنك من جنس عبدك إذ الناس يجمعهم في الانتساب أب واحد، وإنما اختلفوا في الفضل أشتاتا ،فبنو آدم جنس واحد ،وإنما الفخر بالفضائل ،والفخر والعجب والكبر من أكبر الرذائل،وهي أصلها ورأسها ...
4-وأما المزاح فتزيله بالتشاغل بالمهمات الدينية التي تستوعب العمر وتفضل عنه إذا عرفت ذلك.
5-وأما الهزل فتزيله بالجد في طلب الفضائل والأخلاق الحسنة ،والعلوم الدينية ،التي تبلغك إلى سعادة الآخرة.
6-وأما الهزل فتزيله بالتكرم عن إيذاء الناس ،وبصيانة النفس عن أن يستهزأ بك .
7-وأما التعبير فبالحذر عن القول القبيح ،وصيانة النفس عن مر الجواب ،وأما شدة الحرص على مزايا العيش فتزال بالقناعة بقدر الضرورة ،طلبا لعز الاستغناء ،وترفعا عن ذل الحاجة .
هل الغضب هو الشجاعة؟
ومن أشد البواعث على الغضب عند أكثر الجهال ،تسميتهم الغضب شجاعة ،ورجولية ،وعزة نفس ،وكبر همة ،وتلقيبه بالألقاب المحمودة غباوة وجهلا ،حتى تميل النفس إليه وتستحسنه وهو في الحقيقة مرض قلب ونقصان عقل،وهو لضعف النفس ونقصانها والدليل على أنه ضعف النفس أن المريض أسرع غضبا من الصحيح ،والمرأة أسرع غضبا من الرجل ،والصبي أسرع غضبا من الرجل الكبير ،والشيخ الضعيف أسرع غضبا من الكهل ،وذو الخلق السيئ والرذائل القبيحة أسرع غضبا من صاحب الفضائل قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب >.
نتائج الغضب :
لاشك في أن ما أمرنا به ديننا الحنيف في كل الخير لنا وما نهانا عنه فيه هلاكنا وقد يوفق الإنسان في إيجاد الحكمة من الأمر والتحريم وقد لا يوفق لمحدودية العقل البشري وانطلاقا من هذه القاعدة فقد عدد العلماء السابقين والمعاصرين نتائج غير محمودة للغضب فمنها ما يعيب الخلق ومنها ما يعيب الخلقة.
تأثير الغضب على الخلقة:يقول الشيخ محمد الغزالي –رحمه الله- في كتابه <جدد حياتك> نقلا عن المفكر <ديل كارنيجي> :
ثم يتساءل-يعني ديل كارنيجي-كيف نؤذيك محاولة القصاص؟ إنها قد تودي بصحتك ،كما ذكرت مجلة (لايف ) أن أبرز ما يميز الذين يعانون ضغط الدم هو سرعة انفعالهم،واستجابتهم لدواعي الغيض والحقد.
قال:وأصيبت إحدى معارفي بداء القلب ،فكان كل ما نصحها به الأطباء ألا تدع للغضب سبيلا إليها مهما بلغ الخطب ،فإن المريض بقلبه قد تكفي لحفر قبره غضبة واحدة .
تاثير الغضب على الأخلاق:
إن المرء مع تفاقم الغضب يغيب عنه وعيه ويتسلم الشيطان زمامه فلا يعي ما يقول أو ما يفعل فتراه يسب ويشتم غيره ويغتاب ويحقد ..ويهجر ،ويحسد، ...إلى غير ذلك من سيئ الأخلاق التي نهانا الشرع عنها .
يقول الله تعالى:<والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا >
وعن ابن مسعود –رضي الله عنه –قال :قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-:<سباب المسلم فسوق وقتاله كفر> متفق عليه
وعن أنس –رضي الله عنه-أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال:<لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا >
وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال:<تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال :أنظروا هذين حتى حتى يصطلحا ،أنظروا هذين حتى يصطلحا >رواه مسلم.
.....يتبع