المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التاريخ الاسلامي


yacine414
2011-03-17, 16:43
الخلافة الراشدة
حروب الردة :

لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اتسع نطاق الردة ونجم النفاق في كل مكان إلا ما كان من المدينة ومكة والطائف والبحرين، ثم إن المناطق التي تقع إلى الشمال من المدينة، قد خاف أهلها بإرسال جيش أسامة، وقالوا : لو لم يكن للمسلمين قوة لما أرسلوا مثل هذا الجيش، فلنترك الأمر إلى قتالهم مع الروم، فإن انتصر الروم فقد كفونا القتال، وإن انتصر أسامة فقد ثبت الإِسلام، وهذا ما جعل الردة والنفاق تنكفأ في تلك البقاع.

وكان المرتدون فريقين، أولهما قد سار وراء المتنبئين الكاذبين أمثال مسيلمة وطليحة والأسود، وآمنوا بما يقول الكذّابون، وثانيهما بقي على إيمانه بالله وشهادته بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإقام الصلاة، إلا أنه قد رفض تأدية الزكاة وعدّها ضريبة يدفعها مكرهاً، وقد أرسل هذا الفريق الثاني وفداً إلى المدينة لمفاوضة خليفة رسول الله، وقد نزل على وجهاء الناس في المدينة، عدا العباس ابن عبد المطلب رضي الله عنه، وقد وافق عدد من كبار المسلمين على قبول ما جاءت به رسل الفريق الثاني، وناقشوا في ذلك الأمر، أبا بكر، ومنهم عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة، وغيرهم، إلا أن أبا بكر رضي الله عنه قد رفض منهم ذلك، وقال قولته المشهورة "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لجاهدتهم عليه".

وقال عمر لأبي بكر رضي الله عنهما : كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال : لا إله إلا الله، فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه، وحسابه على الله. فقال أبو بكر : والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً(1) لقاتلتهم على منعهم. وهكذا رأى أبو بكر رضي الله عنه أن الإِسلام كل لا يتجزأ وليس هنالك من فرق بين فريضة وأخرى، والزكاة وإن كانت من النظام الاقتصادي، إلا أنها ركن من أركان الإِسلام، وعبادة بحد ذاتها، ولا يمكن تطبيق جزء من الإِسلام وإهمال آخر. ورأى الصحابة أن الأخذ باللين أفضل إذ زلزلت الأرض بالردة والنفاق.

وقال عمر رضي الله عنه : يا خليفة رسول الله ! تألف الناس وارفق بهم، فأجابه أبو بكر : رجوت نصرتك وجئتني بخذلانك ؟ أجبار في الجاهلية وخوار في الإِسلام ؟ إنه قد انقطع الوحي، وتمَ الدين، أوَ ينقص وأنا حي؟ أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بحقها، ومن حقها الصلاة وإيتاء الزكاة، والله لو خذلني الناس كلهم لجاهدتهم بنفسي.

وردّ أبو بكر وفد المنافقين الذين امتنعوا عن دفع الزكاة، مسفهاً رأيهم، مستمسكاً بالحق في إجبارهم على الخضوع الصحيح للدين فعاد رجال الوفد إلى قبائلهم وأخبروهم بقلة عدد المسلمين - وكان جيش أسامة قد انطلق - وأطمعوهم بغزو المدينة.

__________________

(1) العناق : السخلة، الأنثى الصغيرة من الماعز.

وكان أبو بكر رضي الله عنه عندما عاد إلى المدينة بعد أن شيعَ جيش أسامة قد جعل كبار الصحابة على منافذ المدينة إلى البادية، ومنهم علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود، وطلب من أهل المدينة أن يكونوا في المسجد استعداداً لكل طارئ، وقال لهم : إن الأرض كافرة، وقد رأى وفدهم قلة، وإنكم لا تدرون أليلاً تؤتون أما نهاراً وأدناهم منكم على بريد، وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم، ونبذنا إليهم عهدهم، فاستعدوا وأعدّوا.

كان أبو بكر رضي الله عنه يريد أن يؤخر قتال المنافقين والمرتدين حتى يعود جيش أسامة، لذا كان يستقبل الرسل ويبعث بآخرين، إلا أنه في الوقت نفسه أراد بعض المنافقين أن يستغلوا الفرصة ويهاجموا المدينة قبل عودة الجيش الإِسلامي من بلاد الروم، وقبل استكمال المسلمين لقوتهم. فلم تمض أيام ثلاثة على عودة أبي بكر إلى المدينة من تشييع أسامة حتى داهمت المدينة غارة ليلاً، وقد اطمأن المغيرون إلى أن الجيش الإِسلامي قد ابتعد عن المدينة وأوغل في البعد.

وصلت الغارة إلى المدينة المنورة وقد خلفت وراءها قوةً ردءاً لها في (ذي حسى)(1)، وعندما طرقت الغارة الأنقاب وجدت عليها المقاتلة، ووراءهم أقوام أشبه بالمراسلين، فأوصلوا الخبر إلى أبي بكر في المسجد، فأرسل أبو بكر إلى المقاتلة عن الأنقاب أن اثبتوا، وسار بأهل المسجد إلى الأنقاب، فانهزم المغيرون وولوا الأدبار، ولحقهم المسلمون على إبلهم حتى (ذي حسى)، فوجدوا الردء هناك، وقد نفخوا الانحاء(2)، وربطوها بالجبال، ودهدهوها(3) بأرجلهم في وجه إبل المسلمين، فنفرت الإبل ورجعت بالمسلمين إلى المدينة، فأرسل المنافقون إلى إخوانهم في (ذي القصة)(4) بالخبر، فأسرعوا إليهم، وحضر أبو بكر ليلته، ثم خرج في آخر الليل ماشياً، وعلى الميمنة النعمان بن مُقَرّن(5)، وعلى الميسرة عبد الله بن مقرن(6)، وعلى الساقة سويد بن مقرن(7)، فلما أصبح الصباح لم يشعر المنافقون إلا والمسلمون يعجلون فيهم السيف. فلما كانت ضحوة ذلك النهار ولّى المنافقون الأدبار، ووصل المسلمون إلى (ذي القصة)، ترك أبو بكر النعمان بن مقرن في عدد من المسلمين، ورجع هو بالناس إلى المدينة.

__________________

(1) ذي الحُسى : موقع قرب المدينة.

(2) الانحاء : ضروف السمن.

(3) دهدهوها : دفعوها.

(4) ذي القصة : مكان يبعد 35 كيلو متراً عن المدينة.

(5) النعمان بن مقرن بن عائذ المزني : أبو عمرو، صحابي فاتح، من الأمراء القادة الشجعان، كان معه لواء مزينة يوم فتح مكة، استشهد يوم نهاوند عام 21 هـ . وله عشرة إخوة كلهم من الشجعان.

(6) عبدالله بن مقرن بن عائذ المزني : أخو النعمان.

(7) سويد بن مقرن بن عائذ المزني : أخو النعمان، أبو عائذ، أسلم مع أسرته، شهد فتح العراق، وحضر القادسية والمدائن، قاتل تحت لواء أخيه النعمان بنهاوند، وتحت لواء أخيه نعيم في الري وهمدان، ثم قاد فتح طبرستان وجرجان، سكن الكوفة ومات بها.

ارتفعت معنويات المسلمين في هذا النصر، وثبت مسلمو القبائل على دينهم، وجاء نصر آخر إذ وصلت إلى المسلمين أموال الصدقات من عدة جهات، فقد جاء صفوان بن صفوان(1) بصدقات بني عمرو وذلك في أول الليل من جهة النقب الذي عليه سعد بن أبي وقاص(2). وجاء الزبرقان بن بدر(3) في وسط الليل بصدقات بني عوف من جهة النقب الذي عليه عبد الرحمن ابن عوف(4) وجاء عدي بن حاتم الطائي(5) في آخر الليل بصدقات قومه من جهة النقب الذي عليه عبد الله بن مسعود(6)، وكان ذلك بعد مسير جيش أسامة ابن زيد بشهرين كاملين، ثم كان النصر الثالث إذ لم تمض عشرة أيام حتى رجع جيش أسامة غانماً ظافراً، فاستخلف أبو بكر أسامة بن زيد على المدينة، وقال له : أريحوا وأريحوا ظهركم، ثم خرج في الذين خرجوا إلى (ذي القصة) والذين كانوا على الأنقاب، فقال له المسلمون : ننشدك الله يا خليفة رسول الله، أن تعرض نفسك، فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام، ومقامكم أشد على العدو، فابعث رجلاً فإن تصب أمرت آخر، وجاء علي بن أبي طالب بزمام راحلة وقال له : أقول لك ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد : شمّ(7) سيفك ولا تفجعنا بنفسك، وارجع إلى المدينة، فوالله لئن أصبنا بك لا يكون للإِسلام بعدك نظام أبداً فقال : لا والله لا أفعل، ولأواسينكم بنفسي. فخرج إلى (ذي الحسى) و (ذي القصة)، والنعمان بن مقرن وأخواه كما كانوا في التشكيل السابق، ثم نزل أبو بكر بمن معه إلى الرَبَذة بالأبرق وقاتل المنافقين وغلبهم، فولّوا الأدبار، ورجع أبو بكر إلى المدينة، وجاءت صدقات كثيرة إلى المسلمين تزيد على حاجاتهم، وكان جند أسامة قد أخذوا الراحة المطلوبة، فعقد أبو بكر أحد عشر لواءً لقتال المُرْتدِّيْن في كل أنحاء الجزيرة العربية وهم :

____________________

(1) صفوان بن صفوان بن أسيد من بني تميم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاه على صدقات بني عمرو الذين هم فرع من بني تميم.

(2) سعد بن أبي وقاص مالك بن أهيب الزهري، أبو اسحاق: من المسلمين الأوائل، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، فاتح القادسية والمدائن، فارس الإِسلام، أحد رجال الشورى، اعتزل الفتنة، وتوفي قرب المدينة في خلافة معاوية بن أبي سفيان عام 55 هـ .

(3) الزبرقان بن بدر التميمي : صحابي، أحد وجهاء قومه، ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقات قومه، وبقي عليها حتى أيام عمر رضي الله عنه، كف بصره في آخر حياته، ومات عام 45هـ في أيام معاوية رضي الله عنه وكان شاعراً.

(4) عبد الرحمن بن عوف الزهري القرشي، أبو محمد : صحابي جليل، من العشرة المبشرين بالجنة، وأحد رجال الشورى، من السابقين إلى الإِسلام، شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان تاجراً مشهوراً، توفي عام 32هـ أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه.

(5) عدي بن حاتم الطائي، أبو طريف وأبو وهب : أمير : صحابي، أسلم في السنة التاسعة للهجرة، شهد فتح العراق، وحضر الجمل وصفين والنهروان مع علي رضي الله عنه، وفقئت عينه يوم صفين، مات بالكوفة عام 68 هـ أيام عبد الملك بن مروان.

(6) عبدالله بن مسعود الهذلي، أبو عبد الرحمن : صحابي، من السابقين للإسلام، وأول من جهر بقراءة القرآن بمكة، خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان قصيراً، توفي في خلافة عثمان رضي الله عنه عام 32هـ، قال عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه : وعاء ملئ علماً.

(7) شم : اغمد.



1- خالد بن الوليد(1) : وأرسله إلى طليحة بن خويلد الأسدي(2)! فإذا فرغ منه سار إلى مالك بن نويرة اليربوعي التميمي(3) بالبطاح(4).

2- عكرمة بن أبي جهل(5) : وأرسله إلى مسيلمة الكذاب الحنفي(6) في اليمامة.

3- شرحبيل بن حَسَنة(7) : وأرسله دعماً إلى عكرمة بن أبي جهل في اليمامة.

4- المهاجر بن ابي أمية(8) : وبعثه لقتال أتباع الأسود العنسي(9) في اليمن، فإذا فرغ سار إلى حضرموت.

5- عمرو بن العاص(10) : وسيره إلى قبيلة قضاعة في الشمال.

6- خالد بن سعيد بن العاص(11) : ووجهه إلى مشارف الشام.

7- حذيفة بن محصن : وأمره بالحركة إلى أهل دَبا.

___________________

(1)خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي، أبو سليمان، سيف الله : الصحابي الجليل، من أشراف قريش في الجاهلية، كان يلي أعنة الخيل، أسلم عام 7هـ، سر به رسول الله وولاه الخيل، اشتهر بحروبه ضد المرتدين، قاد الفتوح في العراق ثم الشام، توفي في المدينة عام 21 هـ، وقيل بحمص.

(2) طليحة بن خوليد الأسدي ارتد : ثم عاد إلى الإِسلام، وبايع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان قد استخلف، ورجع طليحة إلى دار قومه وبقي فيها حتى خرج مجاهداً إلى العراق، وقد أبلى بلاء حسناً في الفتوحات.

(3) مالك بن نويرة بن جمرة بن شداد اليربوعي التميمي، أبو حنظلة : فارس شاعر، أسلم، وولاه رسول الله صدقات قومه، وعند وفاة رسول الله اضطرب أمره وفرق ما جمع من صدقات في قومه، وقيل ارتد، قتله ضرار بن الأزور بأمر خالد بن الوليد أثناء حروب المرتدين.

(4) البطاح : منزل لبني يربوع، وقيل ماء في ديار بني أسد بن خزيمة، وتقع جنوب وادي الرقة في بعض الأودية المتجهة إليه من الجنوب.

(5) عكرمة بن أبي جهل المخزومي، من صناديد قريش في الجاهلية والاسلام، أسلم بعد فتح مكة، وحسن إسلامه، كان على رأس كردوس في اليرموك واستشهد يومذاك عام 13 هـ .

(6) مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفي، أبو تمامة : متنبئ كذاب، ولد ونشأ باليمامة في بلدة الجبلية القائمة حتى الآن في وادي حنيفة شمال الرياض بأربعين كيلاً. عرف في الجاهلية برحمان اليمامة، وعندما ظهر الإِسلام في الحجاز جاء مع وفد بني حنيفة قوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ويقال أنه تخلف عن الوفد، وأسلم الوفد، ولما رجعوا كاتب رسول الله، وأراد أن يشاركه في الأمر، وأن يكون لهم نصف الأرض ولقريش النصف الآخر، وأظهر أن قريشاً قوم يعتدون، وانتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقض على فتنة مسيلمة، وعندما استخلف أبو بكر أرسل له الجيوش فقضت عليه عام 11 هـ. واستشهد في قتاله عدد كبير من الصحابة.

(7) شرحبيل بن حسنة الكندي حليف بن زهرة : صحابي من القادة، أسلم بمكة، وهاجر إلى الحبشة، وأوفده رسول الله إلى مصر، قاد جيشاً لفتح الشام، عزله عمر وولى معاوية مكانه، وتوفي بطاعون عمواس عام 18 هـ، وحسنة أمه أما أبوه فقاسم بن عبد الله.

(8) المهاجر بن أبي أمية : صحابي، من القادة المشهورين، شهد بدراً مع المشركين،ثم أسلم، وأخته هي أم المؤمنين أم سلمة هند، تخلف عن تبوك، ولاه رسول الله على صدقات كندة، أرسله رسول الله إلى اليمن وقبل أن يسير توفي رسول الله، أرسله أبو بكر لقتال من بقي من المرتدين في اليمن، وتولى إمرة صنعاء.

(9) الأسود العنسي : عيهلة بن كعب بن عوف العنسي المذحجي : متنبئ كذاب، أسلم لما أسلمت اليمن، وارتد أول من ارتد في الإِسلام وذلك أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وادعى النبوة، اغتيل قبل وفات رسول الله بشهر واحد تقريباً.

(10) عمرو بن العاص بن وائل السهمي القرشي، أبو عبد الله : أحد قادة الشام، وفاتح مصر، من أهل الرأي والحزم، أسلم بعد الحديبية، ولاه رسول الله إمرة ذات السلاسل، ثم استعمله على عُمان، فتح قنسرين، وصالح أهل حلب ومبج وإنطاكية، تولى أمر فلسطين، ثم مصر، عزله عثمان بن عفان رضي الله عنه عن مصر، ثم عاد إليها عام 38 بأمر من معاوية رضي الله عنه، وتوفي بالفسطاط عام 43 هـ.

(11) خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس : صحابي، من الولاة المجاهدين، أسلم في بداية الدعوة، لقي العذاب الشديد في سبيل دينه، هاجر إلى الحبشة، شهد فتح مكة وتبوك، أرسله رسول الله إلى اليمن، وتوفي رسول الله، فاستدعاه أبو بكر، فجاءه، وخرج مجاهداً، شهد فتح أجنادين، واستشهد في مرج الصفر قرب دمشق عام 13 هـ .

8- عرفجة بن هرثمة(1) : وسيّره إلى مهرة، وأمره أن يلتقي مع حذيفة.

9- طريفة بن حاجز : ووجه إلى بني سَليم ومن معهم من هوازن.

10- سويد بن مُقَرن : بعثه إلى تهامة اليمن.

11- العلاء بن الحضرمي(2) : وقد اتجه إلى بلاد البحرين.

أُسس قتال المرتدين : كتاب الصديق إلى الناس كافة (انظر في التاريخ الإسلامي ص 223).

وبعد أن قاتل أبو بكر الصديق عبس وذبيان (بالأبرق) من أرض (الرَّبّذة) وهزمهم، اتجه قسم منهم إلى (البزاخة)، وهي ماء لبني أسد، وهناك طليحة بن خويلد الأسدي، فلما عقد أبو بكر الألوية، طلب من خالد أن يسير إلى أرض طيء لتنخذل طيء وعبس وذبيان، وأظهر أن أبا بكر سيتجه إلى خيبر ومن هناك سيرفد خالداً في بلاد طيء.

سار خالد بن الوليد إلى بلاد طيء ولكن عدي بن حاتم طلب من خالد أن يمهله ثلاثة أيام ليكسب إليه قومه ففعل، ومن بلاد طيء، نزل خالد إلى (بُزاخة)، وقتلت طليعته (عكاشة بن محصن)(3) (وثابت بن أقرم)، ولما التقى الجماعة هزم (عيينة بن حصن)(4) مع قومه فزارة، فانفصل عن القوم، وفرّ طليحة بعدها نحو بلاد الشام، وكان طليحة قد ارتد في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فارسل إليه ضرار بن الأزور(5)، فنزل المرتدون في (سميراء) وبدأ عددهم بالتناقص، وفي هذه الأثناء توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزاد عدد المرتدين وانضمت غطفان بإمرة عيينة بن حصن إلى بني أسد، وكانوا قد خالفوا طيئاً (عوف وجديلة وغوث)، فلما انضمت غطفان إلى أسد فرّ ضرار بن الأزور ببعض من معه إلى المدينة، وانفضت جموعه.

وعندما جاء خالد وهزم أعداءه في البزاخة أسلمت أسد وعامر وغطفان. وبعد انتهاء خالد من بني أسد وأحلافهم اتجه بأمر من الخليفة إلى بني يربوع في تميم في البطاح وعليهم مالك بن نويرة. وكان الخلاف في بني تميم على أشده وقد جاءتهم سجاح(6) من الجزيرة ببني تغلب فدخلت بلادهم

____________________________--

(1) عرفجة بن هرثمة الأزدي، من أهل البحرين، قاتل تحت إمرة العلاء بن الحضرمي فوجهه للعمل في البحر ففتح جزيرة، ثم سار مدداً إلى عتبة بن غزوان حين غزا (الأبلة) ثم صار إلى الموصل وتوفي في خلافة عمر في عام 20 هـ.

(2) العلاء بن الحضرمي : أصله من حضرموت، سكن أبوه مكة، فولد العلاء فيها، ونشأ في ربوعها، أسلم وهاجر، ولاه رسول الله البحرين، وجعله عاملاً على الصدقات فيها. وأقره أبو بكر وعمر عليها، ويعد أول مسلم ركب البحر للغزو، مات في طريقه إلى البصرة عام 21هـ.

(3) عكاشة بن محصن : من بني أسد، صحابي من أمراء السرايا، يعد من أهل المدينة إذ إنه حليف الأنصار مع أنه مع المهاجرين، شهد المشاهد مع رسول الله، قتل في حروب الردة، وكان طليعة للمسلمين.

(4) عيينة بن حصن : سيد فزارة، قاتل المسلمين أميراً لقومه، ثم أسلم وكان من المؤلفة قلوبهم، ثم كان مع طليحة الأسدي مرتداً، فأسر وأرسل إلى المدينة موثوقاً.

(5) ضرار بن الأزور بن أوس، من بني أسد، أحد الأبطال في الجاهلية والإِسلام، صحابي قاتل يوم اليمامة، شهد اليرموك وفتح الشام، وقطعت ساقاه، وتوفي بعدها بأيام.

(6) سجاح بنت الحارث بن سويد بن غطفان من بني تميم، فرع بني يربوع، أم صادر: متنبئة كذابة، كانت في بني تغلب في الجزيرة، منتصرة، شاعرة، جاءت من الجزيرة فتبعها بنو تميم، وسارت بهم إلى بني حنيفة، فالتقت بمسيلمة وتزوجت به، ثم رجعت إلى الجزيرة، وأسلمت =

فوادعها من وادعها، وفرّ من وجهها من فر. وسارت بعد ذلك إلى اليمامة فكان أمر مسيلمة قد قوي، فخافها مسيلمة فاستأمنها، فأمنته، وتزوجها وبقيت عنده ثلاثة أيام ثم رجعت إلى أرض قومها، وكانت قد تنبأت مثل مسيلمة، وسار معها عدد من وجهاء بني تميم، وكانت قد صالحت مسيلمة على نصف غلات اليمامة ... وعندما عادت إلى الجزيرة وجاء المسلمون أسلمت وحسن إسلامها.

ولما عادت سجاح إلى الجزيرة، تحير بنو تميم الذين وادعوها، وندموا على ما كان منهم، ولم يلبثوا طويلاً حتى وصلت إليهم جيوش خالد بن الوليد، فعندما جيء برؤسائهم إلى خالد، جادلهم، وشهد جماعة على بني يربوع أنهم لم يؤذنوا فقتلهم، وقتل ضرار بن الأزور الذي كان على طليعة خالد مالك بن نويرة ... وحدثت خلافات في قتله، فتزوج خالد امرأته أم تميم ابنة المنهال بعد انقضاء عدتها.

وسار عكرمة بن أبي جهل إلى مسيلمة الكذاب في اليمامة، وتبعه شرحبيل ابن حسنة، ولكنه لم يدركه، وكان عكرمة قد أسرع فهزمته جموع بني حنيفة فبقي شرحبيل ينتظر المدد، وجاء أمر أبي بكر لعكرمة بالانتظار أيضاً، وإذا فرغ سار إلى حذيفة بن محصن وعرفجة بن هرثمة لقتال المرتدين في عمان حتى يلتقوا مع المهاجر بن أبي أمية الذي يكون قد فرغ من اليمن وسار إلى حضرموت.

وكان خالد قد عاد إلى المدينة والتقى بأبي بكر وذلك بعد الانتهاء من البطاح، فاعتذر لأبي بكر فرضي عنه، وأرسله إلى مسيلمة الكذاب، فسار إلى البطاح والتقى بجنده هناك وانتظر حتى جاءه المدد، فقام إلى مسيلمة ... ولما وصل إليها كان شرحبيل بن حسنة قد سابقه في قتال القوم فهزم، وكان يساعده بعض بني حنيفة بإمرة ثمامة بن أثال(1) رضي الله عنه، فلام خالد شرحبيل في تسرعه : وعسكر مسيلمة في بني حنيفة في عقرباء في أعلى وادي حنيفة - وتسمى اليوم الجبيلة - وسلك خالد ثنية في جبل اليمامة (طويق) وعلى المجنبتين زيد بن الخطاب(2) أخو عمر، وأبو حذيفة بن عتبة(3)، وكانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة، وراية الأنصار مع ثابت بن قيس بن =

___________________________

بعد مقتل مسليمة، وأقامت بالبصرة وتوفيت في خلافة معاوية رضي الله عنه عام 55 هـ، وصلى عليها والي البصرة سمرة بن جندب.

(1) ثمامة بن أثال بن النعمان اليمامي، من بني حنيفة، أبو أمامة : صحابي، من سادات اليمامة، اسر بيد المسلمين وهو في طريقه لزيارة البيت، أطلق سراحه بأمر رسول الله، أسلم بعد ان أدى العمرة، ولما ارتد بنو حنيفة ثبت على إسلامه، وقاتل المرتدين بجانب عكرمة وشرحبيل، ثم سيره أبو بكر إلى البحرين فقاتل المرتدين هناك تحت إمرة العلاء بن الحضرمي، واستشهد هناك.

(2) زيد بن الخطاب بن نفيل العدوي القرشي : أخو عمر بن الخطاب،وكان أسن من عمر، وأسلم قبله، صحابي، يعد من شجعان العرب في الجاهلية والإِسلام كانت راية المسلمين بيده يوم اليمامة، وثبت يومذاك حتى استشهد، وقبره هناك.

(3) أبو حذيفة بن عتبة بن عبد شمس : صحابي، هاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، شهد بدراً مع المسلمين وفيها قتل أبوه وعمه وأخوه كفاراً، وحضر المشاهد كلها، واستشهد يوم اليمامة.



شماس(1)، وكان ضرار بن الأزور قد سار في قسم من الجند من ثنية من الشمال، ونزلوا من جهة(ملهم)(2) إلى عقرباء، وجرت معركة حامية الوطيس تراجع المسلمون في أولها حتى دخل بنو حنيفة على خالد في فسطاطه، ثم حمل المسلمون حملة رجل واحد أزالت المرتدين عن مواقعهم، وأجبرت مسيلمة الالتجاء إلى حديقة عرفت باسم حديقة الموت، وفيها صرع مسيلمة الكذاب وعدد كبير من جنده، واستشهد من المسلمين عدد من القراء ووجهاء الناس، منهم زيد بن الخطاب وثابت بن قيس وغيرهم كثير.

وفي عمان ظهر لقيط بن مالك الأزدي، وغلب عليها، واضطر جيفر وعباد الإلتجاء إلى الجبال وعلى سواحل البحر، وأرسل جيفر إلى أبي بكر الصديق يستنجده، فبعث أبو بكر حذيفة بن محصن إلى عمان وعرفجة بن هرثمة إلى مهرة، وأوصاهما إذا التقيا أن يبتدئا بعمان، وإذا اقتربا منها راسلا جيفرا وعبادا، ثم أتبعهما بعكرمة بن أبي جهل الذي كانت وجهته اليمامة، فلما هزم طلب من الخليفة أن يسير بمن معه إلى عمان.

اتجه عكرمة في أثر حذيفة وعرفجة فأدركهما قبل الوصول إلى عمان، وهناك راسلوا جيفرا وعبادا، وعسكر المسلمون في صحار(3)، وتجمعت جموع لقيط في دبا، وجرت معركة بين الطرفين كاد ينجح فيها لقيط لولا النجدات التي وصلت للمسلمين من البحرين وغيرها، فانتصر المؤمنون، وهزم لقيط، واستولى المسلمون على الغنائم، وارسلوا الخمس مع عرفجة إلى أبي بكر الصديق، وبقي حذيفة يدير شؤون عمان، وسار عكرمة إلى مهرة. وكان القوم فيها قد ارتدوا، إلا أنهم اختلفوا فقسم منهم في السواحل مع (شخريت) وهم أقل عدداً، وبدأ بهم عكرمة، فدعاهم للإِسلام، فوافقوا، الأمر الذي أضعف القسم الثاني الذين كانوا في المناطق المرتفعة مع (المصبح)، فهزموا أمام المسلمين الذين حازوا على الغنائم، فأرسل عكرمة الخمس مع (شخريت) إلى المدينة المنورة.

وأما اليمن فقد كان عليها عدد من الولاة كلٌ على جزء، وقد ادعى فيها النبوة الأسود العنسي، وأرسل له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسل والكتب، واستمر ذلك حتى مات وهدأت الأمور باليمن، فلما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم انتقضت اليمن، فالتجأ عمال النبي عليه أفضل الصلاة والسلام إلى المسلمين إلا عمرو بن حزم(4) وخالد بن سعيد بن العاص فإنهما عادا إلى المدينة، ووصل الخبر إلى أبي بكر فحارب المرتدين بأن أرسل إليهم الرسل والكتب كما كان

_______________________

(1) ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي الأنصاري : صحابي، خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد المشاهد التي بعد أحد كلها، وكانت راية الأنصار بيده يوم اليمامة، واستشهد يومها.

(2) ملهم : قرية من قرى اليمامة، ولا تزال معروفة حتى يومنا، تقع إلى الشمال من الرياض على بعد ستين كلم منها.

(3) صحار : قصبة عمان مما يلي الجبل، وهي طيبة الهواء والخيرات والفواكه، مبنية بالآجر والساج، كبيرة ليس في تلك النواحي مثلها. ولا تزال قائمة إلى الآن بين مسقط والفجيرة.

(4) عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان الأنصاري، أبو الضحاك : صحابي، شهد الخندق، وما بعدها، استعمله رسول الله على نجران وتوفي عام 53 هـ .. في أيام معاوية رضي الله عنه.

يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم - فلما رجع جيش أسامة من غزوه، وعقد أبو بكر رضي الله عنه الألوية، بعث (عَتَّابُ بن أسيد)(1) عامل مكة أخاه خالد بن أسيد(2) إلى المرتدين في تهامة فغلبهم، وبعث عثمان بن أبي العاص على الطائف ابن ربيعة إلى شنوءة فقهرهم.

وتحرك كذلك بتهامة اليمن الأخباث من (عك) و (الأشعريين) فسار إليهم الطاهر بن أبي هالة، وأخبر بذلك أبا بكر، فانتصر الطاهر قبل أن يصل إليه كتاب وجواب أبي بكر.

وأرسل أبو بكر جرير بن عبد الله البجلي إلى (بجيلة) و (خثعم) فانتصر عليهم، وأقام بنجران حسب أوامر الخليفة.

وأرسل أبو بكر كتاباً إلى طاهر بن أبي هالة يأمره بأن يسير إلى صنعاء لمساعدة المسلمين، كما كتب إلى عبد الله بن ثور أن يجمع إليه من استجاب له من أهل تهامة، وينتظر التعليمات.

أرسل أبو بكر رضي الله عنه المهاجر بن أبي أمية إلى اليمن، فسار عن طريق مكة، فمشى معه خالد بن أسيد، ومرّ بالطائف، فمشى معه عبد الرحمن ابن أبي العاص، ثم انضم إليه جرير بن عبد الله البجلي ببالسراة، وعبد الله بن ثور بتهامة، كما انضم إليه من نجران فروة بن مسيك(4)، فأوثق المهاجر عمرو بن معد يكرب(5)، وقيس بن عبد يغوث المكشوح وهما من المرتدين، وأرسلهما إلى أبي بكر رضي الله عنه. ووصل المهاجر إلى صنعاء ودخلها، ولاحق شذاذ القبائل الذين هربوا.

وارتدت حضرموت، وكان عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها (عكاشة بن محصن) و (زياد بن لبيد البياضي) ثم ارسل اليها المهاجر بن أبي أمية، ولم ينطلق من المدينة بعد حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسيَّره أبو بكر إلى اليمن، وهو في طريقه إلى عمله الجديد، فوصل إلى صنعاء ودخلها، وكان عمال أبي بكر ينتظرون والي حضرموت الجديد. وسار المهاجر إلى حضرموت، كما سار إليها عكرمة بن أبي جهل، فالتقيا في مأرب، فاقتحما حضرموت، وأرسل

_________________

(1) عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان الأنصاري، أبو الضحاك : صحابي، شهد الخندق، وما بعدها، استعمله رسول الله على نجران وتوفي عام 53 هـ. في أيام معاوية رضي الله عنه.

(2) عتاب بن أسيد بن أبي العيض بن أمية بن عبد شمس، أبو عبد الرحمن، وأموي قرشي مكي، من الصحابة. كان شجاعاً عاقلاً، من أشراف العرب في صدر الإِسلام، أسلم يوم فتح مكة، واستعمله رسول الله عليها عند مخرجه إلى حنين، وكان عمره 21 عاماً، وبقي عليها، وأقره أبو بكر، واستمر فيها إلى أن مات.

(3) خالد بن أسيد : أخو عتاب بن أسيد، وهو من الفرسان المشهورين.

(4) فروة بن مسيك بن الحارث بن سلمة الغطيفي المرادي، أبو عمر : من الصحابة، وهو من اليمن، وفد على النبي وأسلم، فاستعمله على مراد ومذحج وزبيد، وقاتل المرتدين بعد وفاة رسول الله، توفي بالكوفة عام 30 هـ .

(5) عمرو بن معد يكرب بن ربيعة بن عبدالله الزبيدي : فارس اليمن، وفد على رسول الله في عشرة من زبيد فأسلموا جميعاً، ولما توفي رسول الله ارتد عمرو، ثم أسلم، وبعثه أبو بكر إلى الشام مجاهداً فشهد اليرموك وفقد إحدى عينيه. وسار إلى العراق فشهد القادسية، توفي عام 21 هـ.



خمس الغنائم إلى أبي بكر ومعها الأشعث بن قيس الكندي(1) أسيرا، وبقي في المدينة حتى خرج مجاهداً إلى العراق، واختار المهاجر بن أبي أمية العمل في اليمن فكان هو وفيروز، وبقي في حضرموت زياد بن لبيد البياضي وعبيدة بن سعد.

وأما البحرين فكان فيها بنو عبد القيس وبنو بكر، وكان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن ساوى(2)، وتوفي في المدة التي مات فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتدت البحرين، أما بنو عبد القيس فقد ثبتت على الإسلام بفضل (الجارود) وأما بكر فثبتت على ردتها. وأما الجارود فكان رجلا نصرانياً، وقد وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم، وبقي بالمدينة حتى فقه في الدين، ثم رجع إلى قومه فلم يلبث إلا يسيراً حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتد قومه وقالت بنو عبد القيس : لو كان محمد نبياً لما مات، وبلغ ذلك الجارود فجمعهم وقال لهم : يا معشر عبد القيس، إني سائلكم عن أمر فأخبروني به إن علمتموه ولا تجيبوني إن لم تعلموا. قالوا : سل عمّا بدا لك، قال : تعلمون أنه كان لله أنبياء فيما مضى ؟ قالوا : نعم، قال : تعملونه أو ترونه ؟ قالوا : لا بل نعلمه، قال : فما فعلوه ؟ قالوا : ماتوا، قال : فإن محمداً صلى الله عليه وسلم مات كما ماتوا، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وَأن محمداً عبده ورسوله، قالوا : ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأنك سيدنا وأفضلنا، وثبتوا على إسلامهم، وحصرت جماعته في مكانين، وقاد المرتدين الحطم بن ضبيعة، وأرسل أبو بكر رضي الله عنه العلاء بن الحضرمي إلى البحرين، وكان من قبل أميراً عليها من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اقترب من البحرين التحق به ثمامة بن أثال رضي الله عنه من مسلمة بني حنيفة وذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الجارود ومن معه من عبد القيس يقاتلون الحطم بن ضبيعة، والعلاء ومن معه يقاتلون المرتدين في جهة هجر، ونصر الله المسلمين وأيدهم وخذل الكافرين وهزمهم.

yacine414
2011-03-17, 16:44
الفتوحات :

-الجبهة الفارسية :

فتوح الشام :



لم تكن الدعوة لتقف في أرض معينة، فالأرض كلها ساحتها وميدانها، وإذا توقفت قليلاً بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك بسبب الردة، فلما انتهت الردة كان لابد من أن تعاود نشاطها، وتسير بشكل طبيعي، ويقاتل كل من يقف في وجهها وذلك هو الجهاد.

__________________

(1) الأشعث بن قيس الكندي : أمير كندة في الجاهلية والإِسلام، وفد على رسول الله وأسلم، ولما ولي أبو بكر الخلافة امتنع الأشعث وبعض كندة من تأدية الزكاة، ولكنه هزم وسيق موثوقاً إلى أبي بكر في المدينة، فأطلقه أبو بكر وزوجه أخته أم فروة، وحسن إسلامه، وحضر اليرموك وفقد عينه، وحضر فتح العراق مع سعد، وكان مع علي في صفين والنهروان، وتوفي عام 41 هـ.

(2) المنذر بن ساوى بن الأخنس العبدي : أمير في الجاهلية والإِسلام، كان صاحب البحرين، أرسل له رسول الله رسالة مع العلاء بن الحضرمي يدعوه فيها إلى الإِسلام فأسلم، واستمر في عمله، وتوفي قبل ردة أهل البحرين أي قبل وفاة رسول الله بشهر واحد.

وانتهت حروب الردة، وكان لا بدّ من الجهاد، فالفرس يقفون في وجه الدعوة، ويحاولون دعم أعدائها، ومدّ المرتدين عليها، والروم يحاربون الدعوة، وينصرون خصومها، ويحرضون القبائل المتنصرة ضدها، وكان لا بدّ من قتال الطرفين، والاستعانة بالله عليهما وبالإيمان القوي بأن النصر من الله يؤتيه من يشاء ممن استقام على منهجه، وإذن كان على المسلمين أن يقاتلوا على جبهتين لم تكونا متفقتين وهذا ما ساعدهم على القتال وحرية الحركة دون الخوف من الطرف الآخر.



أ- الجبهة الفارسية :

كان الفرس يسيطرون على مناطق واسعة تبدأ من بادية الشام في الغرب، وشمال جزيرة العرب من الجنوب، وتتوسع منطقتهم في الغرب وتتناقص حسب انتصارهم على الروم، أو هزيمتهم أمامهم، فتارة يتوسعون وقد وصلوا إلى سواحل البوسفور ثم ارتدوا حتى حدود الفرات، وكان عدد من القبائل العربية تقيم في المناطق التي يسيطر عليها الفرس سواء في منطقة السواد أم على ضفاف الفرات والجزيرة، ومن هذه القبائل تغلب وبكر وشيبان وربيعة وطيء، وبعضها كانت مُتنصرّة في أغلبها كتغلب، وكانت طيء تعلو ويقيم رئيسها في بلدة الحيرة على مقربة من الفرات، ويعمل للفرس على توطيد سلطانهم في تلك الأنحاء، وكان من بني شيبان فارس مقدام قد دخل في الإِسلام هو المثنى بن حارثة الشيباني(1)، وقد طلب من أبي بكر بعد أن انتهى من حروب المرتدين في البحرين أن يؤمره على قومه وعلى من دان بالإِسلام في تلك الجهات ليجاهد الفرس، ويقاتل أعداء الله، فأمره أبو بكر فصار يناوش الفرس، وينتصر عليهم وقعة بعد وقعة إلا أنه في عدد قليل من المجاهدين، والفرس كثير، ومعهم عدد كبير من العرب المُتنصّرة، والقوة ستتناقص مع الأيام أمام الكثرة فكان لا بدّ من إرسال المدد للمثنى.

وانتهى خالد من حرب اليمامة، فجاءه الامر من أبي بكر بالتوجه إلى العراق ليدعم المثنى بن حارثة الشيباني وليكن دخوله من الجنوب على حين يدخلها عياض بن غنم(2) من جهة الشمال، وليكن لقاؤهما في الحيرة ومن سبق إليها كانت له الامرة على صاحبه. وكان ذلك في مطلع العام الثاني عشر للهجرة. وأمد خالداً بالقعقاع بن عمرو التميمي(3)، وأنجد عياض بن غنم بعبد ابن عوف الحميري.

___________________

(1) المثنى بن حارثة الشيباني : صحابي فاتح، من كبار القادة، أسلم عام 9 هـ، غزا بلاد فارس أيام أبي بكر، أمده أبو بكر بخالد بن الوليد، وأمده عمر بابي عبيد، وجرح في معركة الجسر، ثم أمده بسعد بن أبي وقاص، ولكنه توفي قبل وصول سعد إليه.

(2) عياض بن غنم بن زهير الفهري : قائد من شجعان الصحابة، شهد المشاهد مع رسول الله، وفتح الجزيرة الفراتية، وتوفي بالشام عام 20هـ.

(3) القعقاع بن عمرو التميمي : أحد فرسان العرب المشهورين وأبطالهم في الجاهلية والإِسلام، له صحبة، قال فيه أبو بكر : صوت القعقاع في الحرب خير من ألف فارس، شهد اليرموك وفتح دمشق، والقادسية وأكثر وقائع العراق، وسكن الكوفة، وشهد صفين بجانب سيدنا علي، وتوفي عام 40 هـ.

سار خالد بن الوليد مباشرة باتجاه الحيرة، والتقى في طريقه ببعض القريات (ألّيس) وما جاورها فصالح صاحبها (بَصْبَري بن صلوبا)، ثم اتجه نحو الحيرة، وكان عليها من قبل الفرس هانئ بن قبيصة الطائي(1)، فقال له خالد : إن أدعوكم إلى الله وإلى عبادته، وإلى الإِسلام، فإن قبلتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فالجزية، وإن أبيتم فقد جئناكم بقوم يحبون الموت كما تحبون أنتم شرب الخمر. فقالوا : لا حاجة لنا في حربك، فصالحهم على تسعين ومئة ألف درهم. وكان المثنى بن حارثة الشيباني يقاتل تارة في جهات كسكر وأخرى في جهات الفرات الأسفل، يقاتل الهرمزان في تلك البقاع، فاستدعى خالد المثنى ونزلوا إلى جهات الأُبُلّة لتجميع قوات المسلمين، وكانوا في ثمانية عشر ألفاً، وقد سار المثنى قبل خالد بيومين، وسار عدي بن حاتم وعاصم بن عمر التميمي(2) بعد المثنى بيوم، وأعطاهم خالد موعداً في الحفير. وقد التقوا بهرمز في أرض الأُبُلّة، وكانت المعركة وأراد هرمز أن يغدر بخالد إلا أن القعقاع بن عمرو قتل هرمز، والتحم مع حماته الذين أرادوا أن يغدروا بخالد، وركب المسلمون أكتاف أعدائهم حتى غشاهم الليل، وكان الفرس قد ربطوا أنفسهم بالسلاسل لذلك سميت هذه المعركة ذات السلاسل ... وأرسل خالد بن الوليد المثنى بن حارثة في أثر القوم، وبعث معقل بن مُقرّن(3) إلى الأَبلّة ليجمع المال والسبي، وسار المثنى حتى بلغ نهر المرأة، فحاصرها في الحصن الذي كانت فيه وكان على مقدمته أخوه المعنّى، فصالحت المرأة المثنى، وتزوجها المعنّى، أما المثنى فقد استنزل الرجال من الحصون، وقتل مقاتلتهم، وأقر الفلاحين الذين لم ينهضوا للقتال مع الفرس.

كان أردشير قد أمر بجيش كبير بقيادة (قارن بن قريانس) فلما وصل إلى (المذار)(4) وصل إليه خبر هزيمة هرمز ومقتله، فتجمع هناك، فسار إليه خالد، ونشبت معركة قتل فيها معقل بن الاعشى القائد الفارسي (قارن)، وقتل عاصم بن عمرو خصمه (الانوشجان) وقتل عدي بن حاتم عَوه (قُباذ) وقتل يومذاك من الفرس عدد كبير وصل إلى ثلاثين ألف مقاتل. وبعدها وزع خالد الغنائم وقسّم الفيء.

وتجمع الفرس ثانية في (الولجة) مع ما جاءهم من مدد قوامه جيشان الأول بقيادة (الأندرزعر) والثاني بإمرة (بهمن جاذويه) فسار إليهم خالد، وقد خلّف سويد بن مقرن في الحفير، وقد هزمت الفرس هزيمة منكرة أيضاً في هذه الجولة.

وتأثر نصارى العرب من هذه الانتصارات فكاتبوا الفرس وتجمّعوا في ألّيس، فأسرع إليهم .

____________________

(1) هانئ بن قبيصة الطائي : وهو أخو إياس بن قبيصة الذي تولى أمر الحيرة بأمر كسرى بعد استدعاء النعمان بن المنذر إلى فارس، وجعل ودائعه عند هانئ بن مسعود الشيباني، وجرت معركة ذي قار بين جيوش كسرى بقيادة اياس وهانئ بن مسعود الشيباني الذي يقود بني بكر.

(2) عاصم بن عمرو التميمي : أخ القعقاع، شاعر، له صحبه، أبلى في القادسية البلاء الحسن توفي عام 16 هـ.

(3) معقل بن مقرن : أحد إخوة النعمان بن مقرن.

(4) المذار : على ضفة نهر دجلة اليسرى تقع شمال القربة ب 37 كلم، بين البصرة وواسط، وهي قصبة ميسان.

خالد وانتصر عليهم انتصاراً مبيناً وقتل منهم ما يقرب من سبعين ألفاً، ثم اتجه نحو الحيرة ثانية.

ولما انتهى خالد من الحيرة ولّى عليها القعقاع بن عمرو، وخرج يريد دعم عياض بن غنم الذي كلف بشمال العراق، فنزل خالد إلى الفلّوجة ومنها إلى كربلاء فولى عليها عاصم بن عمرو، وكان على مقدمته الأقرع بن حابس(1)، أما المثنى فكان يناوش الفرس على شواطئ دجلة. وسار خالد إلى الأنبار ففتحها ثم استخلف عليها الزبرقان بن بدر، وقصد عين التمر، فهزم جموع أهلها الذين هم من العرب المُتنصّرة والعجم، ثم حصرها فنزلوا على حكمه، فقتل من قتل منهم وأسر وسبى. واستخلف على عين التمر عويم بن الكاهل، وسار باتجاه عياض بن غنم الذي علم أنه لا يزال في دومة الجندل(2) وقد كتب إليه يستنجده، فكتب إليه خالد "من خالد إلى عياض إياك أريد".

ولما علم أهل دومة الجندل مسير خالد إليهم استنجدوا بالقبائل المُتنصّرة من العرب من كلب وغسان وتنوخ والضجاعم فأمدوهم. ولما اقترب خالد من دومة الجندل اختلف رئيساها وهما : أكيدر بن عبد الملك، والجودي بن ربيعة، فاعتزل الأكيدر، وهَزم الجودي ومن معه ومن جاءه من الدعم الذين لم يتسع لهم الحصن. وأقام خالد بدومة الجندل، وأرسل الأقرع بن حابس إلى الأنبار، وبعد مدة لحق خالد بالحيرة.

وخرج خالد من الحيرة وولّى عليها عياض بن غنم، وكان على مقدمة خالد الأقرع بن حابس... ثم بعث وهو بالعين أبا ليلى بن فركي إلى الخنافس والقعقاع إلى حُصيد. فانتصر القعقاع في حصيد، وفر من بالخنافس إلى المصَيّخ إذا لم يجد أبو ليلى، بالخنافس كيدا. وسار خالد وأبو ليلى والقعقاع إلى المصيخ وكان قد اجتمع فيه من هرب من الخنافس والحصيد، وهناك انتصر المسلمون انتصاراً مبيناً. ثم ساروا إلى (الثني)(4) و (الزُّمَيْل)(5) فانتصروا على أعدائهم، ثم ساروا إلى (الرضاب)(6)، وبها هلال بن عَقَة، وقد انفض عنه أصحابه عندما سمعوا بدنو خالد وجيشه، ثم ساروا إلى (الفراض)(7) وهي على تخوم الشام والعراق والجزيرة وذلك في شهر رمضان، وتعاون الفرس والروم ضد المسلمين، والتقت الجموع على نهر الفرات فقتل من الفرس والروم والعرب المُتنصّرة أكثر من مئة ألف...

أقام خالد بن الوليد عشرة أيام بالفرائض، ثم اذن بالرجوع إلى الحيرة لخمس بقين من ذي .

____________________

(1) الأقرع بن حابس بن عقال المجاشعي الدارمي التميمي : صحابي، من سادات العرب في الجاهلية، وفد على رسول الله مع وفد قومه وأسلم وشهد فتح مكة وحنين والطائف، وكان من المؤلفة قلوبهم، استشهد بخراسان بالجوزجان عام 31 هـ أيام سيدنا عثمان.

(2) دومة الجندل : وهي في شمال جزيرة العرب، ومكانها اليوم مدينة الجوف.

(3) أكيدر بن عبد الملك الكندي : ملك دومة الجندل في الجاهلية، بعث رسول الله خالد بن الوليد إليه، فاسره وقدم إلى المدينة فأسلم وأعيد إلى بلاده، فلما توفي رسول الله نقض العهد، ومات عام 12 هـ.

(4) الثني : مكان بالجزيرة الفراتية يقع إلى الشرق من الرصافة، تجمعت فيه بنو تغلب.

(5) الزميل : موقع إلى الشرق من الرصافة.

(6) الرضاب : موقع إلى الشرق من الرصافة، أو مكانها قبل أن يعمرها هشام بن عبد الملك.

(7) الفراض : موضع بين إلى الشرق من البو كمال على بعد 40 كيلاً منها، قريبة من الحدود بين العراق وسوريا اليوم.

القعدة، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بالناس، وأظهر خالد أنه في الساقة، وسار مع عدة من أصحابه إلى مكة يؤدي الحج، ورجع من الحج، فوصل إلى الحيرة ولم تدخل الساقة البلدة بعد، ولم يدر الخليفة أبو بكر رضي الله عنه بما فعل خالد إلا بعد مدة، فعتب عليه، وصرفه عن العراق إلى الشام.

وصل كتاب أبي بكر إلى خالد وهو بالحيرة وفيه : أن سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك، فإنهم قد شجوا وأشجوا، وإياك أن تعود لمثل ما فعلت، فإنه لم يشْجِ الجموعَ من الناس بعون الله شجاك، ولم ينزع الشجى من الناس نزعك، فليهنئك أبا سليمان النية والخطوة، فأتمم يتمم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل، فإن الله له المن، وهو ولي الجزاء.

وجاء فيما كتب أبو بكر لخالد : أما بعد فدع العراق وخلّف فيه أهله الذين قدمت عليهم، وهم فيه، وامض مختفياً في أهل القوة من أصحابك الذين قدموا معك العراق من اليمامة وصحبوك في الطريق، وقدموا عليك من الحجاز، حتى تأتي الشام فتلقى أبا عبيدة ومن معه من المسلمين، فإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة والسلام.

سار خالد من الحيرة في العراق، وقد استخلف المثنى به حارثة الشيباني على جند العراق، وسار هو إلى الشام، وكتب إلى أبي عبيدة(1) : أما بعد فإني أسأل الله لنا ولك الأمن يوم الخوف والعصمة في دار الدنيا من كل سوء، وقد أتاني كتاب خليفة رسول الله يأمرني بالمسير إلى الشام وبالقيام على جندها والتولي لأمرها، والله ما طلبت ذلك قط ولا أردته إذ وليته فأنت على حالك التي كنت عليها لا نعصيك ولا نخالفك ولا نقطع دونك أمراً، فأنت سيد المسلمين، لا ننكر فضلك، ولا نستغني عن رأيك تمم الله بنا وبك من إحسان ورحمنا وإياك من صلي النار والسلام عليك ورحمة الله.

سار خالد من الحيرة إلى دومة الجندل، وخرج منها من جهة وادي السرحان إلى الشمال.



ب- فتوح الشام :

بعد أن رجع خالد بن سعيد بن العاص من اليمن أمره أبو بكر أن ينزل بتيماء وأمره ألا يبرحها، وأن يدعوا من حوله بالانضمام إليه، وألا يقبل إلا من لم يرتد، ولا يقاتل إلا من قاتله، حتى يأتيه أمره. فأقام فاجتمعت إليه جموع كثيرة، وبلغ الروم عظم ذلك العسكر، فاستنفروا العرب الذين بالشام على المسلمين، فاستنفرت كلب وتنوخ ولخم وجذام وغسان، فكتب خالد بن سعيد .

__________________

(1) أبو عبيدة الجراح : عامر بن عبدالله بن الجراح بن هلال الفهري القرشي فاتح الديار الشامية وأحد العشرة المبشرين بالجنة، أمين الأمة وهو من السابقين إلى الإِسلام شهد المشاهد كلها مع رسول الله وتوفي بطاعون عمواس سنة 18 هـ .

إلى أبي بكر بذلك، فكتب إليه أبو بكر : أن أقدم ولا تحجم واستنصر الله، فسار إليهم خالد بن سعيد، فلما دنا منهم تفرقوا، فاتخذ موقعه مكانهم، وكتب إلى أبي بكر بذلك، فكتب إليه أبو بكر : أقدم ولا تقتحمن حتى لا تؤتى من خلفك. وحدث قتال، وطلب خالد ابن سعيد من أبي بكر المدد، فأمده بالوليد بن عتبة وعكرمة بن أبي جهل، وانتصر على (ما هان) قرب القدس، وانتقل ماهان إلى دمشق فلحق به خالد بن سعيد، فلما كان بمرح الصفر جاءت جموع كبيرة من الروم لتنظم إلى قيادة (ماهان) الأمر الذي جعل خالد بن سعيد يتراجع إلى ذي المروة على حين وقف عكرمة ابن أبي جهل يحمي المتراجعين، ووصل المجاهدون من اليمن، وكانت قد دخلت السنة الثالثة عشرة، فطلب أبو بكر استبدال عمال الصدقات. ومنهم عمرو بن العاص الذي كان قد سيره في السنة الحادية عشرة إلى قضاعة، ثم استدعاه فولاه ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاه على صدقات عُمان ثانية، وكتب إليه أبو بكر رضي الله عنه : إني كنت قد رددتك على العمل الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاكه مرة، وسماه لك أخرى، ومبعثك إلى عُمان إنجازاً لمواعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وليته ثم وليته، وقد أحببت - أبا عبدالله - أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك منه، إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك. فكتب إليه عمرو : إني سهم من سهام الإِسلام، وأنت بعد الله الرامي بها، والجامع لها، فانظر أشدها وأخشاها وأفضلها فارم به شيئاً إن جاءك من ناحية من النواحي.

وصل خالد بن سعيد بن العاص إلى ذي المروة هرباً من جند (ماهان)، ووصل الخبر إلى أبي بكر فكتب إليه : أقم مكانك، فلعمري إنك مقدام محجام، نجّاء من الغمرات، لا تخوضها إلا إلى حق، ولا تصبر عليه. ولما كان بعد، وأذن له في دخول المدينة - كما سنرى - .

عبأ أبو بكر الصديق الجيوش إلى الشام في مطلع السنة الثالثة عشرة فسار :

1- يزيد بن أبي سفيان(1) في سبعة آلاف بعد عزل خالد بن سعيد، وكانت وجهته دمشق، وكان أول الأمراء الذين ساروا إلى الشام، وكان في جنده سهيل بن عمرو. ثم أمد أبو بكر يزيد بن أبي سفيان بأخيه معاوية بجند كثير، ولما مرّ معاوية بذي المروة أخذ من بقي من جند خالد بن سعيد، وسمح بعدها الصدِّيق لخالد بالعودة إلى المدينة.

2- عمرو بن العاص وكانت وجهته فلسطين.

3- شرحبيل بن حسنة وسار إلى الأردن، وقد استعمل على جند الوليد بن عقبة(2)، وأخذ عندما مر بذي المروة جمهور جند خالد بن سعيد.

________________

(1) يزيد بن أبي سفيان، أبو خالد، أسلم يوم فتح مكة، وبقي على صدقات بني فراس، وكان أحد قادة فتح الشام، ولاه عمر فلسطين، ثم دمشق، توفي في طاعون عمواس عام 18 هـ .

(2) الوليد بن عقبة بن أبي معيط، أبو وهب : من فتيان قريش وشعرائهم، أخو عثمان بن عفان لأمه، أسلم يوم فتح مكة، وبعثه رسول الله على صدقات بني المصطلق، ولاه عمر صدقات بني تغلب، ولاه عثمان الكوفة ثم عزله، توفي عام 61 هـ.

4- أبو عبيدة بن الجراح، وكانت وجهته حمص.

وبقي عكرمة في ستة آلاف من الجند ردءاً لجيوش المسلمين.

وعلم الروم بما عبأه المسلمون، فانتقل هرقل إلى حمص، وجمع جموعاً غفيرة من جنده، وأرسل أخاه (تذارق) ليواجه عمرو بن العاص، وبعث (جرجة ابن توذرا) نحو يزيد بن أبي سفيان، ووجه (الدُّراقص) نحو شرحبيل بن حسنة، وأعطى أوامره لـ (الفيقار بن نسطوس) أن يسير نحو أبي عبيدة بن الجراح، وصل عدد الروم يومذاك إلى 240 ألف مقاتل على حين كان المسلمون واحداً وعشرين ألفاً و6 آلاف مع عكرمة بن أبي جهل في المؤخرة دعماً لجموع المسلمين.

هاب المسلمون الروم لما رأوا كثرتهم فكتب قادتهم إلى عمرو بن العاص يستشيرونه، فاقترح أن يجتمع المسلمون في مكان يلتقون فيه مع الروم، ولن يهزموا من قلة حينذاك، كما كتبوا إلى الخليفة أبي بكر وطلبوا منه المدد، فكان رأيه الاجتماع كما رأى عمرو، وأضاف أن يكون مكان المعركة في موقع يسهل الاتصال فيه مع المدينة قاعدة الحكم، ووافق على اللقاء باليرموك، وكتب إلى خالد بالعراق أن يقدم إلى اليرموك لدعم المسلمين هناك وأن يكون هو الأمير.

سار خالد بن الوليد من الحيرة إلى قراقر حيث شيعه إليها المثنى بن حارثة، ومنها إلى سوى، ثم تحرك إلى دومة الجندل، وأغار خالد على مصيخ بهراء ثم تحرك نحو الشمال مع وادي السرحان إلى شرقي جبل حوران (الدروز) حتى وصل إلى (أرك)(1) ومنها إلى تدمر فالقريتين(2). ولما علمت غسان بذلك، اجتمعوا له بمرج راهط(3)، فسار إليهم، وعليهم الحارث بن الأيهم، فانتصر عليهم، ثم سار إلى بصرى الشام(4)، وكانت أول مدينة افتتحها من بلاد الشام، ثم ذهب إلى اليرموك فوصل إلى المسلمين في تسعة آلاف وغدا جند المسلمين ستة وثلاثين ألفاً. وفرح المسلمون بوصول خالد لأن الروم كانوا قد وصلتهم إمدادات بإمرة ماهان ومعه القساوسة والمطارنة والرهبان من أجل تشجيع المقاتلين. وربما يتساءل المرء لماذا هذه الطريق الطويلة التي قطعها خالد بن الوليد ؟ إنه أراد ألا يصطدم مع الروم قبل الالتقاء بالمسلمين وبخاصة أنه أصبح أمير المقاتلين في الشام فلا بد من الوصول إلى جنده ليقودهم في القتال، وإن خطة المسلمين كانت تقضي أن يكون القتال مجتمعين لا متفرقين ليتمكنوا من قتال الروم الذين يملكون أعداداً كبيرة تفوقهم بعشرة أمثال، وللروم ثغور وسط البادية حيث كانت من قبل مسرحاً للمعارك الدائرة بينهم وبين الفرس، فلو سار من الحيرة مباشرة نحو

____________________

(1) أرك : مدينة صغيرة قرب تدمر، وهي ذات نخل وزيتون، وكل أهلها كانوا من النصارى.

(2) القريتين : قرية كبيرة من أعمال حمص، وهي التي تدعى حوارين.

(3) مرج راهط : يقع إلى الشمال من دمشق، والمسافر من دمشق إلى حمص ما كان على يساره فهو مرج راهط، ومن كان على يمناه فهو مرج عذراء حتى الثنايا (ثنية العقاب).

(4) بصرى الشام : مدينة بحوران، من قواعد الغساسنة، وكانت مدينة رومانية، وفيها سوق دائمة للعرب. ولا تزال فيها آثار رومانية، منها المدرج الروماني الشهير.

الغرب لاصطدم بتلك الثغور، ولأضاع على المسلمين تجمعهم في اليرموك وقيادته لهم، ولهذا اضطر أن يسير نحو الجنوب ليتجاوز تلك الثغور عن طرق دومة الجندل ثم اتجه شمالاً، وعندما وصل إلى الشرق من بصرى الشام وجد نفسه أما جبل حوران (الدروز اليوم) البركاني الصعب الاجتياز، فأراد الالتفاف حوله فوجد نفسه بسرعته المعروفة في منطقة تدمر، لذا عاد فرجع إلى الغرب عن طريق القريتين فثنية العقاب (الثنايا) فشرقي دمشق إلى بصرى ففتحها ومنها سار إلى اليرموك. هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن لخالد بن الوليد طريقته الخاصة في القتال وهي التحرك بسرعة في عمق العدو والاغارة على مواقع خصمه المتأخرة، ثم الانسحاب للخوض في معركة حاسمة، وعندها يشعر العدو أن مجموعات من خصمه لا تزال تعمل خلف خطوطه الأمامية، وستداهمه في الوقت المناسب الأمر الذي يضعف معنوياته، ويبقى جزء من جنوده خارج المعركة لصد أي هجوم مرتقب من الخلف، وهذا ما رأيناه في قتاله في العراق إذا وصل إلى نقاط بعيدة من أرض العدو على حين لم تطهر أرض السواد بعد بل ولا منطقة الحيرة نفسها، ولم يأمن جانب المصالحين بشكل صحيح إذا سنراهم ينقضون العهد بعد ذلك. كما أن حركته كانت خلف ثغور الروم الأمر الذي يجعل الروم لا يستطيعون ترك مواقعهم خوفاً من أن يكون هناك اتفاق بين المسلمين والفرس وبخاصة أن خالداً كان في أرض فارس، كل هذا يجعل حركة خالد سهلة ويتنقل بحرية كأنه يقوم بمناورة معروفة الخطة.

وصل خالد بن الواليد إلى اليرموك، وصلى في اليوم الأول بجنده الذين قدموا معه من العراق، ورأى الروم مجتمعين فجمع المسلمين وخطب فيهم قائلاً بعد أن حمد الله وأثنى عليه : إن هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي. أخلصوا جهادكم، وأريدوا الله بعملكم ؛ فإن هذا يوم له ما بعده ؛ ولا تقاتلوا قوماً على نظام وتعبية، على تساند وانتشار، فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي. وإن من وراءكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا، فاعملوا فيما لم تؤمروا به بالذي ترون أنه الرأي من واليكم ومحبته، قالوا : فهات، فما الرأي ؟ قال : إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يرى أنا سنتياسر، ولو علم بالذي كان ويكون، لما جمعكم، إن الذي أنتم فيه أشد على المسلمين مما قد غشيهم، وأنفع للمشركين من أمدادهم، ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم، فالله الله، فقد أفرد كل رجل منكم ببلد من البلدان لا ينتقصه منه إن دان لأحد من أمراء الجند، ولا يزيده عليه إن دانوا له. إن تأمير بعضكم لا ينقصكم عند الله ولا عند خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. هلموا فإن هؤلاء تهيئوا، وهذا يوم له ما بعده، إن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم، وإن هزمونا لم نفلح بعدها. فهلموا فلنتعاور الإمارة، فليكن عليها بعضنا اليوم، والآخر غداً، والآخر بعد غد حتى يتأمر كلكم، ودعوني إليكم اليوم.

قسم خالد المسلمين إلى كراديس يتراوح عددها بين 36 ـ 40 كردوساً ويضم الكردوس الواحد ما يقرب من ألف مقاتل. وكان أبو عبيدة في القلب، وعمرو بن العاص وشر حبيل بن حسنة في الميمنة، ويزيد بن أبي سفيان في الميسرة، ومن أمراء الكراديس يومذاك القعقاع بن عمرو، ومذعور بن عدي، وعياض بن غنم، وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص(1)، وسهيل بن عمرو(2)، وعكرمة بن أبي جهل، وعبدالرحمن بن خالد بن الوليد، وحبيب بن مسلمة(3)، وصفوان بن أمية(4)، وسعيد بن خالد بن العاص، وخالد بن سعيد بن العاص(5)، وعبدالله بن قيس(6)، ومعاوية بن حديج(7)، والزبير بن العوام(8)، وضرار بن الأزور.

وكان قاضي الجيش أبو الدرداء(9)، والقاص أبو سفيان بن حرب(10)، وعلى الغنائم عبدالله بن مسعود، وعلى الطلائع قباث بن أشيم، وكان المقرئ المقداد بن عمرو(11)، وقد كان عدد الصحابة في اليرموك أكثر من ألف صحابي بينهم مائة من أهل بدر. وكان أبو سفيان يسير فيقف على الكراديس، فيقول : الله الله! إنكم ذادة العرب، وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك ! اللهم إن هذا يوم من أيامك! اللهم أنزل نصرك على عبادك!

ونشب القتال، والتحم الناس، وتطارد الفرسان، ولم يلبث الأمر قليلاً حتى جاء البريد

____________________

(1) هاشم بن عتبة بن أبي وقاص : صحابي، خطيب من الفرسان، ابن أخي سعد بن أبي وقاص، أقام بالشام بعد فتحها، فقد عينه باليرموك، وذهب مدداً لعمه سعد في القادسية، شهد صفين مع علي وكان قائد الراجلة فيها، وقتل في آخر أيامها.

(2) سهيل بن عمرو العامري القرشي : من الذين وقفوا في وجه الإِسلام، أسلم يوم فتح مكة، حسن إسلامه، خرج مجاهداً إلى الشام وهو خطيب قريش، توفي بالطاعون بالشام عام 18م.

(3) حبيب بن مسلمة بن مالك الفهري : قائد فاتح، خرج مجاهداً أيام أبي بكر، وشهد اليرموك وفتح دمشق، ولاه أبو عبيدة انطاكية، توغل في أرمينية، تولى أمر الجزيرة وأرمينيا واذربيجان توفي عام 61 هـ.

(4) صفوان بن أمية بن وهب الجمحي القرشي، أبو وهب : من السادات في الجاهلية والإِسلام، وقف ضد الدعوة، أسلم بعد الفتح، شهد اليرموك، توفي عام 41 هـ، بمكة المكرمة.

(5) خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس : صحابي، من الولاة الغزاة، من أوائل الذين أسلموا، ونال العذاب من أبيه (أبو أحيحة)، هاجر إلى الحبشة، غزا مع النبي، حضر فتح مكة، وغزوة تبوك، كتب لرسول الله وبعثه مع ملأ على اليمن، استدعاه أبو بكر، وخرج مجاهداً استشهد في مرج الصفر عام 14 هـ.

(6) عبدالله بن قيس الحارثي، حليف فزارة : أمير البحر في صدر الإِسلام، استشهد عام 53 هـ، وهو يطوف متخفياً في أحد الموانئ.

(7) معاوية بن حديج بن جفنة بن قنبر، أبو نعيم الكندي : الأمير الصحابي، شهد صفين مع معاوية، وتولى له مصر بعد أن أخذها له، وولي غزو المغرب عدة مرات، توفي عام 52 هـ.

(8) الزبير بن العوام الأسدي القرشي، ابن عمة رسول الله، أبو عبدالله : الصحابي الشجاع، أول من سل سيفه في الإِسلام، من أوائل الذين أسلموا، شهد المشاهد كلها مع رسول الله وحضر اليرموك، وهو أحد رجال الشورى، قتل غيلة عام 36 هـ. بعد معركة الجمل.

(9) أبو الدرداء : عويمر بن مالك بن قيس بن أمية الأنصاري الخزرجي : صحابي، من الحكماء الفرسان القضاة، اشتهر بالشجاعة والعبادة، وفي الحديث "عويمر حكيم أمتي" و"نعم الفارس عويمر" ولاه معاوية قضاء دمشق بأمر عمر بن الخطاب، توفي عام 32 هـ.

(10) أبو سفيان بن حرب : صخر بن حرب الأموي القرشي ، وقف في وجه الإِسلام، وقاد قريش في ذلك، أسلم يوم الفتح وهو وأولاده من الشجعان، قاتل تحت راية ابنه يزيد، فقد عينه الأولى في حنين والثانية في اليرموك، توفي عام 31 هـ .

(11) المقداد بن عمرو ويعرف بابن الأسود، ابو عمرو : صحابي، من الأبطال، من أوائل الذي أظهروا الإِسلام، كان من سكان حضرموت فر منها إلى مكة، توفي عام 33 هـ.

يحمل موت أبي بكر، وتولية عمر، وعزل خالد وتأمير أبي عبيدة رضي الله عنهم. وكان الرسول محمية بن زنيم، ولكن خالداً عندما سئل عن البريد، قال: السلامة وقرب وصول الأمداد.

yacine414
2011-03-17, 16:46
وفاة الصديق

وكانت وفاة أبي بكر رضي الله عنه يوم الإثنين 22 جمادى الآخرة في السنة الثالثة عشرة من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذا تكون خلافته، سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام.

وإذا كانت الفتوحات الإسلامية في عهد الصديق تبدو ضيقة الرقعة إلا أننا يجب أن نضع في خلدنا الملاحظات التالية :

1ـ قصر مدة خلافة الصديق.

2ـ القضاء على حروب الردة التي شملت الجزيزة كلها.

3ـ كانت المعارك التي جرت في عهد الصديق بين المسلمين من جهة والفرس والروم من جهة ثانية، قد أرهبت أعداء الإسلام، وأظهرت قوة المسلمين وإمكاناتهم القتالية.

شعر أبو بكر الصديق رضي الله عنه بشيء من الراحة النفسية بعد أن قضى على المرتدين، وانطلقت الفتوحات في كل الجهات، وتحطم كبرياء الدولتين الكبريين اللتين كانتا تقفان في وجه الدعوة، وتدعمان المرتدين، وتستنفران قواتهما ومن والاها من العرب المتنصرة، كل ذلك في سبيل القضاء على الدولة الجديدة، وفي الوقت نفسه، فقد شعر أن مهمته في الحياة قد انتهت، فقد توطد الأمر، وثبت كيان الإسلام، وسيتابع الأمر الخلفاء من بعده، كما زاد شعوره في هذا الأمر أن سنه قد اقترب من سن حبيبه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم عندما فارق الحياة الدنيا وانتقل إلى الرفيق الأعلى. كما شعر أن استخلاف رجل من بعده وهو على قيد الحياة، يجنب المسلمين الكثير من الصعاب، وقد أشفق عليهم أن يختلفوا ويزهد في هذا المنصب أهله، ويبتعد عنه من يستحقه، وقد تداعى إلى ذهنه ما حدث عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما لم يخطر على بال المسلمين وفاة نبيهم، وحين ثقل عليهم مصابهم، والأمر لا بدّ له من خليفة يطبق منهج الله في الأرض. إذن لا بدَّ من استخلاف رجل يخلفه، ولا بدّ من الاستشارة، ولاح في ذهنه أولئك الصحابة الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشيرهم، وكبرت في نفسه شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومواقفه في الإسلام، وقوته في الحق، وهيبته في النفوس، ونظرة المسلمين إليه، ولكن كان لا بدَّ من أخذ رأيهم واستشارتهم، ولو كان الأمر منهم لكان أفضل.

وشعر أبو بكر بالمرض، واشتد عليه وثقل فجمع عدداً من الصحابة المعروفين الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الأمر، وقال لهم : إنه قد نزل بي ما قد ترون ولا أظنني إلا ميتا لما بي، وقد أطلق الله إيمانكم من بيعتي، وحلّ عنكم عقدتي، وردّ عليكم أمركم، فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم في حياة مني كان أجدر ألا تختلفوا بعدي.

فقاموا في ذلك فلم يستقم لهم أمر، وكل يحاول أن يدفع الأمر عن نفسه ويطلبه لأخيه إذ يرى فيه الصلاح والأهلية، لذا رجعوا إليه، فقالوا : رأينا يا خليفة رسول الله رأيك، قال : فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده.

دعا أبو بكر عبد الرحمن بن عوف فقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب : فقال له: ما تسألني عنه أمراً إلا وأنت أعلم به مني. فقال له: وإن، فقال عبد الرحمن : هو أفضل من رأيك فيه.

ثم دعا عثمان بن عفان، فقال له مثل ذلك، فقال : علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله، فقال أبو بكر : يرحمك الله، والله لو تركته ما عدوتك.

ثم دعا أسيد بن حضير فقال له مثل ذلك، فقال أسيد : اللهم أعلمه الخيرة بعدك، يرضى للرضا، ويسخط للسخط، والذي يسرّ خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه.

وكذلك استشار سعيد بن زيد وعدداً من الأنصار والمهاجرين، وكلهم تقريباً كانوا برأي واحد في عمر إلا رجل خاف من شدته، وقد عاتبه بعضهم باستخلافه فقال أبو بكر : لا والله ولا نعمة عين، هو والله خير لكم، والله لو وليتك لجعلت أنفك في السماء ولرفعت نفسك فوق قدرك حتى يكون الله هو الذي يضعك، تريد أن تردني عن رأيي وتفتني في ديني ؟ فوالله لئن بلغني أنك عصيته أو ذكرته بسوء لأفعلن ولأفعلن... ثم دخل على أبي بكر عثمان وعلي فقال لهما مباشرة لعلكما تقولان في عمر ما قال فلان آنفاً ؟

قالا : وماذا قال يا خليفة رسول الله ؟

قال : زعم أن عمر أحدثكم إسلاماً و....

فقال عثمان رضي الله عنه : بئس لعمر الله ما قال فلان، عمر بحيث يحب من قوته مع سابقته.

وقال علي رضي الله عنه : بئس ما قال، عمر عند ظنك به، ورأيك فيه، إن وليته ـ مع أنه كان والياً معك ـ نحظى برأيه ونأخذ منه، فامض لما تريد، ودع مخاطبة الرجل فإن يكن على ما ظننت إن شاء الله فله عمدت، وإن يكن مالا تظن لم ترد إلا الخير.

ودخل عبد الرحمن بن عوف على أبي بكر الصديق يعوده في مرضه الذي مات فيه فوجده مقنعاً، فقال له عبد الرحمن : أصبحت بحمد الله بارئاً، فقال : أبرء ذاك ؟ قال : نعم، قال : أما إني على ذلك لشديد الوجع ولما لقيت منكم أيها المهاجرون أشد علي من وجعي، إني وليت أمركم خيركم في نفسي، فكلكم رغم أنفه أن يكون له الأمر دونه ورأيتم الدنيا قد أقبلت، ولما تقبل، وهي مقبلة، حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج، وحتى يألم أحدكم بالاضطجاع على الصوف الأذربي(1) كما يألم أحدكم إذا نام على حسك السعدان(2)، والذي نفسي بيده لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد، خير له من أن يخوض غمرات الدنيا، ثم أنتم غدا أول ضال بالناس يميناً وشمالاً، لا تضيعوهم عن الطريق، يا هادي الطريق جرت، إنما هو الفجر أو البجر(3). فقال له عبد الرحمن :حفظ الله عليك يرحمك الله فإن هذا يهيضك إلى ما بك، إنما الناس في أمرك رجلان : إما رجل رأى ما رأيت فهو معك، وإما رجل رأى ما لم تر فهو يشير عليك بما يعلم، وصاحبك كما تحب أو كما يحب، ولا نعلمك أردت إلا الخير، ولم تزل صالحاً مصلحاً مع أنك لا تأسى على شيء من الدنيا.

_______________

(1) الأذربي : نسبة إلى اذربيجان، وهو صوف شديد النعومة.

(2) حسك السعدان : نبات كثير الشوك.

(3) البجر : الدهماء والمعنى في الفجر تبصر الطريق، وفي الظلمة تنزل بالمكروه.

ودخل بعض الصحابة على أبي بكر وقد علموا باستشارته في عمر، فقال أحدهم : ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا، وقد ترى غلظته، وهو إذا ولى كان أفظ وأغلظ ؟ فقال أبو بكر : أجلسوني فلما جلس، قال : أباالله تخوفونني ؟ خاتزوّد من أمركم بظلم. أقول : اللهم إني قد استخلفت على أهلك خير أهلك. ثم قال للقائل أبلغ عني ما قلت لك من وراءك.

ثم اضطجع ودعا بعثمان، فقال له : اكتب، بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما دعا به أبو بكر ابن أبي قحافة، في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وأول عهده بالآخرة داخلاً فيها حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلف عليكم بعدي ... وأخذته غشية قبل أن يسمى أحداً. فكتب عثمان رضي الله عنه : إني استخلف عليكم بعدي عمر بن الخطاب ... ثم أفاق أبو بكر فقال : اقرأ علي ما كتبت فقرأ عليه ذكر عمر، فكبر أبو بكر، وقال : أراك خفت أن تذهب نفسي في غشيتي تلك فيختلف الناس، فجزاك الله عن الإسلام خيراً،والله إن كنت لها لأهلاً. ثم أمره أن يتمم فأملى عليه : فاسمعوا وأطيعوا، وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدّل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت، ولا أعلم الغيب ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ثم أمره فختم الكتاب وخرج به مختوماً، ومعه عمر بن الخطاب وأسيد بن حضير. وأشرف أبو بكر على الناس من كوته فقال: أيها الناس إني قد عهدت عهداً، أفترضونه ؟ فقال الناس : رضينا يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام علي رضي الله عنه فقال : لا نرضى إلا أن يكون عمر.

فأقروا بذلك جميعاً. ورضوا به، ثم بايعوا، فرفع أبو بكر رضي الله عنه يديه فقال: اللهم إني لم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة، فعلمت فيهم ما أنت أعلم به، واجتهدت لهم رأيي، فوليت عليهم خيرهم وأقواهم عليه، وأحرصهم على ما أرشدهم. وقد حضرني من أول ما حضر، فاخلفني فيهم، فهم عبادك ونواصيهم بيدك، فأصلح لهم أميرهم، واجعله من خلفائك الراشدين، يتبع هدى نبي الرحمة، وهدى الصالحين بعده، وأصلح له رعيته، ثم دعاه فأوصاه.

yacine414
2011-03-17, 16:47
وَصيَّة أبي بَكر رَضيَ الله عَنه

1 ـ يرد ما عنده من مال إلى بيت مال المسلمين عن طريق الخليفة عمر بن الخطاب.

2 ـ يرد بستان يملكه إلى بيت مال المسلمين عوضاً عما أخذه من بيت المال مدة خلافته.

3 ـ أن يتصدق بمقدار خمس ما يملك من أرض العالية، وما يبقى يقسم بين أولاده وهم :

عبد الرحمن ومحمد وأسماء وعائشة.

وما تضع حبيبة بنت خارجة، ويتوقع أن تكون أنثى. وقد أوصى بها أولاده خيراً. (وبالفعل فقد وضعت أنثى - وهي أم كلثوم -).

4- أن يكفن بثوبيه بعد غسلها.

5- أن تغسله زوجه أسماء بنت عميس، وأن يدفن بجانب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

yacine414
2011-03-17, 16:48
الفتوحَات في عَهْـــدِ عمَر

معركة اليرموك :

-معركة فحل :

-فتح دمشق :

· في البقاع

· معركة مرج الروم وفتح حمص :

· فتح قنسرين :

· فتح أجنادين :

· فتح بيت المقدس :

· فتح حمص ثانية :

· فتح الجزيرة :

· فتح سواحل الشام :

· فتح مصر :

الجبهة الشرقية

-معركة النمارق :

- معركة الجسر :

- معركة البويب :

· فتح المدائن :

· فتح جلولاء :

· فتح حلوان

· -فتح تكريت والموصل :

· فتح ماسبذان :

· فتح الأهواز :



الفتوحَات في عَهْـــدِ عمَر

يبدو أن القيادة الإِسلامية في المدينة المنورة بعد أن انتهت من حروب الردة وقررت مواجهة الدولتين العظميين آنذاك، كانت الخطة الموضوعة أن تفتح المعركة بكل ثقلها على جبهة، وتقوم بدور الدفاع على الجبهة الثانية، وتعتمد على سرعة الحركة بالانتقال من جبهة إلى أخرى حيث تبقى الدولتان في ذعر شديد وضعف معنوي كبير يحول دون التفاهم بينهما، إذ تستمر المعركة قائمة على الجبهتين معاً حيث تخاف كل دولة على وجودها فلا تحرص أن تتفق الواحدة مع الأخرى وإزالة ما كان بينهما من آثار الحرب.

ومع انتهاء حروب الردة كانت الدولة الفارسية هي التي تشكل الخطر الأكبر بالنسبة إلى المسلمين إذ كان الفرس يدعمون المرتدين، ويحاولون القضاء على المسلمين، ويمدون كل متنبئ كذاب أو مرتد خارج على الحكم بكل ما يمكنهم من دعم، لذا كانت الخطة البدء بالقتال على الجبهة الفارسية، لذا وافقت قيادة المدينة المنورة على طلب المثنى بن حارثة الشيباني بالتحرش بالفرس ومنازلتهم. وعندما انتهى خالد بن الوليد من حروب الردة طلبت منه القيادة التوجه إلى العراق لدعم المثنى بن حارثة، كما طلبت ذلك من عياض بن غنم، وأعطته قوة يتحرك بها نحو شمالي العراق.

استطاع خالد بن الوليد أن ينتصر على الفرس، وأن يجول بأرض العراق، وأن تجوس خيله منطقة السواد وجزءاً من أرض الجزيرة، هذا بالإضافة إلى مناطق غربي الفرات، وهذا ما جعل الفرس يشعرون بقوة الجيش الإِسلامي وإمكاناته القتالية والتعبوية - على عكس ما كانوا يظنون - الأمر الذي جعلهم يستعدون الاستعداد الكبير للمعركة الحاسمة المقبلة، وحشد الجنود لذلك. وفي هذا الوقت كانت القوة الإِسلامية على الجبهة الرومية تقوم بالدفاع فقط حيث كان خالد بن سعيد بن العاص يرابط بقواته قرب مناطق سيطرة الروم والقبائل العربية المتنصّرة المتحالفة مع الروم. ثم جهز الخليفة الصديق الجيوش وأرسلها إلى الشام - كما رأينا - إلا أن الروم كانوا يستعدون لذلك، ويتوقعون حرباً عامة شاملة، لذا فقد جمعوا أعداداً كبيرة وبعثوها باتجاه الجيوش الإِسلامية الأربعة، كما نقل هرقل مقر قيادته إلى حمص لتكون على مقربة من ساحة المعركة، ولما رأى المسلمون ذلك طلبوا المدد من المدينة والدعم، وكان على القيادة الإِسلامية أن تنقل المعركة الرئيسية من العراق إلى الشام إذ كان الفرس في حالة من الضعف بعد الهزيمة التي منوا بها، وهم بحاجةٍ إلى مدة للاستعداد والتفاهم على الحكم بعد الخلاف الواقع بينهم، لذا طلب الخليفة من خالد بن الوليد أن ينتقل بمن معه من الجند الذين كانوا معه في نجد والذين جاءوه دعماً من المدينة واليمن إلى الشام لدعم المسلمين هناك.

انتقل خالد بن الوليد إلى الشام وجرت معركة اليرموك بين الروم والمسلمين، وكانت معركة حاسمة، ولم تبدأ حتى كانت الخلافة قد آلت إلى عمر بن الخطاب، وبعد انتهاء المعركة كان استعداد الفرس قد تم، واتفاقهم قد حصل بعد اختلاف، وقرروا تصعيد القتال ضد المسلمين، الأمر الذي جعل القيادة الإِسلامية في المدينة تطلب من القيادة العسكرية في الشام إعادة قسم من جند العراق بإمرة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى العراق، هذا بالإضافة إلى إعلان النفير في جزيرة العرب للسير إلى العراق ودعم قوة المسلمين هناك وبدأت الامدادات تصل، قوة إثر أخرى إلى العراق. أما في الشام فقد تمّ طرد الروم وإنهاء الوجود البيزنطي فيها بعد عددٍ من المعارك، وهذا ما نلاحظه في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وبدأت المعارك في العراق ثم انتقلت إلى فارس حتى قضي على الدولة الفارسية نهائياً، ولم ينته عهد الفاروق بعد. وبانتهاء المقاومة على الجبهة الشرقية عاد القتال إلى الجبهة الغربية، إذا انتقل القتال إلى مصر وشمالي إفريقية وجزر البحر المتوسط، واستمر ذلك في عهد الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه.



معركة اليرموك :

تولى عمر بن الخطاب الخلافة في بداية القتال العنيف على الجبهة الغربية، إذ كان المسلمون قد تجمعوا في اليرموك أمام تحشدات الروم الهائلة.

كان تجمع المسلمين في المنطقة الغربية من درعا اليوم، وقد أخطأ كثير من المؤرخين، فجعلوا نهر اليرموك المنطقة الفاصلة بين المسلمين والروم، ومن يجول في تلك البقعة يدرك مباشرة أنه لا يمكن لهذا الوادي السحيق أن يكون ميداناً لمعركة أو تكون جنباته ساحة لها، هذا بالإضافة إلى أن الخليفة الصديق كان قد طلب من القيادة العسكرية في بلاد الشام أن يكون تجمع جندها في مكان يسهل معه الاتصال مع المدينة لإمكانية وصول الإِمدادات وسهولة الاتصال، ولو قطع المسلمون الوادي قبل احتدام المعركة وانتقلوا منه إلى الجهة الثانية وبصعوبة كبيرة لما أمكن وصول الامدادات إليهم، ولما أمكن الاتصال مع المدينة بعد نشوب الحرب، فكيف بالانتقال والحركة السريعة أثناء القتال كما يحلوا لبعض المؤرخين أن يخططوا ذلك، لهذا كله فقد جعل المسلمون مؤخرة جندهم إلى الشمال الغربي من درعا، لتكون درعا طريقاً لوصول الدعم إليها والاتصال مع المدينة، حيث يمكن في هذا المكان قطع الوادي بسهولة. هذا مع العلم أن خالد بن الوليد قد انتقل إلى اليرموك من بصرى فيكون طريقه عن درعا أو إلى الشمال قليلاً منها. وتكون معركة اليرموك قد وقعت على جانبي أحد روافد اليرموك وهي إما (الرقاد) أو (العلق)، ويكون عمر بن العاص الذي كان على ميمنة المسلمين إلى الشمال، ويزيد بن أبي سفيان الذي كان على الميسرة في الجنوب، على مقربة من نهر اليرموك وأبو عبيدة بينهما.

وخرج المسلمون على راياتهم وعلى الميمنة معاذ بن جبل وعلى الميسرة نفاثة ابن أسامة الكناني، وعلى الرجالة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وعلى الخيالة خالد بن الوليد وهو المشير في الحرب الذي يصدر الناس كلهم عن رأيه، ولما أقبلت الروم في خيلائها وفخرها قد سدت أقطار تلك البقعة سهلها ووعرها كأنهم غمامة سوداء يصيحون بأصوات مرتفعة، ورهبانهم يتلون الانجيل، ويحثونهم على القتال، وكان خالد في الخيل بين يدي الجيش، فساق بفرسه إلى أبي عبيدة فقال له : إني مشير بأمر فقال : قل ما أمرك الله أسمع لك وأطيع. فقال له خالد : إن هؤلاء القوم لا بدّ لهم من حملة عظيمة لا محيد لهم عنها، وإني اخشى على الميمنة والميسرة، وقد رأيت أن افرق الخيل فرقتين وأجعلها وراء الميمنة والميسرة حتى إذا صدّوهم كانوا لهم ردءاً فنأتيهم من ورائهم. فقال له : نعم ما رأيت. فكان خالد في أحد الخيلين من وراء الميمنة، وجعل قيس بن هبيرة في الخيل الأخرى، وأمر أبا عبيدة أن يتأخر عن القلب إلى وراء الجيش كله حتى اذا رآه المنهزم استحى منه ورجع إلى القتال، فجعل أبو عبيدة مكانه في القلب سعيد بن زيد أحد العشرة رضي الله عنهم. وساق خالد إلى النساء أن يكنّ من وراء الجيش ومعهن عدد من السيوف وغيرها، فقال لهن : من رأيتموه مولياً فاقتلنه. ثم رجع إلى موقفه رضي الله عنه.

ولما تراءى الجمعان وتبارز الفريقان وعظ أبو عبيدة المسلمين فقال : عباد الله انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، يا معشر المسلمين اصبروا فإن الصبر منجاة من الكفر ومرضاة للرب ومدحضة للعار، ولا تبرحوا مصافكم، ولا تخطوا إليهم خطوة، ولا تبدؤوهم بالقتال، واشرعوا الرماح، واستتروا، والزموا الصمت إلا من ذكر الله في أنفسكم حتى آمركم إن شاء الله وخرج معاذ بن جبل(1) على الناس فجعل يذكرهم ويقول : يا أهل القرآن والكتاب وأنصار الهدى والحق، إن رحمة الله لا تنال، وجنته لا تدخل بالأماني، ولا يؤتي الله المغفرة والرحمة الواسعة إلا الصادق المصدق، ألم تسمعوا لقول الله تعالى "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ..." الآية، فاستحيوا - رحمكم الله - من ربكم أن يراكم فراراً من عدوكم، وأنتم في قبضته وليس لكم ملتحد من دونه ولا عز بغيره.

______________________

(1) معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الانصاري الخزرجي، أبو عبد الرحمن : كان عمره يوم هجرة المصطفى عشرين عاماً، أسلم وهو فتى، وآخى رسول الله بينه وبين جعفر بن أبي طالب، شهد العقبة الثانية، ثم حضر المشاهد كلها مع رسول الله، كان عالماً بالحلال والحرام، أرسله رسول الله إلى اليمن مرشداً، خرج مجاهداً إلى الشام، كان مع أبي عبيدة، واستخلفه عندما أصيب، وأقر ذلك عمر، ولكنه توفي في ذلك العام 18هـ، ولم ينجب.

وقال عمرو بن العاص : يا أيها المسلمون غضوا الأبصار، واجثوا على الركب، واشرعوا الرماح، فإذا حملوا عليكم فأمهلوهم حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فثبوا إليهم وثبة الأسد، فوالذي يرضى الصدق ويثيب عليه، ويمقت الكذب، ويجزي بالاحسان إحساناً - لقد سمعت أن المسلمين سيفتحونها كفراً كفراً(1) وقصراً وقصراً، فلا يهولنكم جموعهم ولا عددهم، فإنكم لو صدقتموهم الشد تطايروا تطاير أولاد الحجل.

_________________

(1) الكفر : المزرعة.

وقال أبو سفيان : يا معشر المسلمين أنتم العرب، وقد أحجمتم في دار العجم منقطعين عن الأهل، نائين عن أمير المؤمنين وامداد المسلمين، وقد والله أصبحتم بازاء عدو كثير عدده، شديد عليكم حنقه، وقد وترتموهم في أنفسهم وبلادهم ونسائهم، والله لا ينجيكم من هؤلاء القوم، ولا يبلغ بكم رضوان الله غداً إلا بصدق اللقاء والصبر في المواطن المكروهة، ألا وإنها سنة لازمة وأن الأرض وراءكم، بينكم وبين أمير المؤمنين وجماعة المسلمين صحارى وبراري، ليس لأحد فيها معقل ولا معدل إلا الصبر ورجاء ما وعد الله فهو خير معول، فامتنعوا بسيوفكم وتعاونوا ولتكن هي الحصون. ثم ذهب إلى النساء فوصّاهن، ثم عاد فنادى : يا معشر أهل الإِسلام حضر ما ترون، فهذا رسول والجنة أمامكم، والشيطان والنار خلفكم. ثم سار إلى موقفه رحمه الله.

وقد وعظ الناس أبو هريرة أيضاً فجعل يقول : سارعوا إلى الحور العين وجوار ربكم عز وجل في جنات النعيم. ما أنتم إلى ربكم في موطن بأحب إليه منكم في مثل هذا الموطن، ألا وإن للصابرين فضلهم.

ولما تقارب الناس تقدم أبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان ومعهما ضرار بن الأزور، والحارث بن هشام، وأبو جندل بن سهيل بن عمرو إلى معسكر الروم، ونادوا : إنما نريد أميركم لنجتمع له، فأذن لهم في الدخول، وإذا هو جالس في خيمة من حرير. فقال الصحابة : لا نستحل دخولها، فأمر لهم بفرش بسط من حرير، فقالوا : لا نجلس على هذه، فجلس معهم حيث أحبوا ... وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم لا يقبلون الاستهانة بشيء من حرمات الله مهما قل، ومع أنه ليس فيه اللباس إلا أنهم رغبوا أن يأخذوا أنفسهم بالشدة، ورفض هذه الأمور وأمثالها، الأمر الذي جعلهم يعظمون في عين أعدائهم فيسايروهم، ويرتفعون في أنفسهم. وهذا ما وضعهم حيث وضعوا هم أنفسهم، وتميزوا بشخصيتهم فكان لهم ما تمنوا.

وعرض الصحابة على الاعداء : الإِسلام، أو الجزية، أو السيف، وكان من تعنت الروم ان كان لابدّ من القتال.

وطلب ماهان خالداً ليبرز إليه فيما بين الصفين فيجتمعا في مصلحة لهم، فقال له ماهان: إنا قد علمنا أن ما أخرجكم من بلادكم الجهد والجوع، فهلموا إلى أن أعطي كل رجل منكم عشرة دنانير وكسوة وطعاماً وترجعون إلى بلادكم، فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها، فقال خالد : إنه لم يخرجنا من بلادنا ما ذكرت، غير أنا قوم نشرب الدماء، وأنه بلغنا أنه لا دم أطيب من دم الروم، فجئنا لذلك. فقال أصحاب ماهان : هذا والله ما كنا نحدث به عن العرب، وهكذا كلمة واحدة بعزة النفس تميت معنويات الخصم.

تقدم خالد إلى عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو - وهما على مجنبتي القلب -أشار لهما أن ينشبا القتال، وهكذا بدأت المعركة. وكان ذلك في أوائل شهر رجب من السنة الثالثة عشرة، وحملت ميسرة الروم على ميمنة المسلمين فمالوا إلى جهة القلب، وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول : اللهم زلزل أقدامهم، وأرعب قلوبهم، وأنزل السكينة علينا، وألزمنا حكمة التقوى، وحبب إلينا اللقاء، وأرضنا بالقضاء. وانكشفت زبيد، ثم تنادوا فتراجعوا، وحملوا على الروم وأشغلوهم عن اتباع من انكشف، وردت النساء من فرّ، فرجع الناس إلى مواقعهم.

وقال عكرمة بن أبي جهل : قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن وأفر منكم اليوم ؟ ثم نادى من يبايع على الموت ؟ فبايعه ضرار به الأزور، والحارث بن هشام عم عكرمة وعدد من المسلمين ووصل عددهم إلى أربعمائة رجل من أعيان الناس، وقاتلوا أمام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعاً جرحى، وقتل منهم عدد كبير منهم ضرار بن الأزور. ويذكر أنهم استسقوا ماء وهم جرحى فجيء إليهم بشربة ماء، فلما قربت إلى أحدهم نظر إليه الآخر، فقال : ادفعها إليه، فلما دفعت إليه نظر إليه الآخر، فقال : ادفعها إليه، فتدافعوها كلهم من واحد إلى واحد حتى ماتوا جميعاً، ولم يشربها أحد منهم.

ثم حمل خالد بن الوليد بالخيل على ميسرة الروم التي حملت على ميمنة المسلمين، فأزالوهم إلى القلب، وقتل المسلمون في حملتهم هذه ستة آلاف من الروم، ثم حمل بمائة فارس على ما يقرب من مائة ألف من الروم فانهزموا أمامهم بإذن الله، وتبعهم ... ولما عاد المسلمون من حملتهم جاء البريد - الذي ذكرنا - يحمل وفاة الصديق وبيعة عمر وتولية أبي عبيدة إمرة القتال.

وخرج من بين الروم أحد أمرائهم الكبار وهو (جرجه) واستدعى خالد ابن الوليد إلى بين الصفوف حتى اختلفت أعناق فرسيهما، فقال جرجة : يا خالد أخبرني فاصدقني ولا تكذبني، فإن الحر لا يكذب، ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع المسترسل بالله، هل أنزل الله على نبيكم سيفاً من السماء فأعطاكه فلا تسله على أحد إلا هزمتهم ؟ قال : لا ‍‍‍ قال : فبم سميت سيف الله ؟ قال : إن الله بعث فينا نبيه فدعانا فنفرنا منه ونأينا عنه جميعاً، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه، وبعضنا كذبه وباعده، فكنت فيمن كذبه وباعده، ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به وبايعناه، فقال لي : أنت سيف من سيوف الله سلّه الله على المشركين. ودعا لي النصر، فسميت سيف الله بذلك فأنا أشد المسلمين على المشركين.

فقال جرجه : يا خالد إلى ما تدعون ؟ قال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله والإِقرار بما جاء به من عند الله عز وجل : قال : فمن لم يجبكم ؟ قال : فالجزية ونمنعهم. قال : فإن لم يعطها ؟ قال : نؤذنه بالحرب ثم نقاتله. قال : فما منزلة من يجيبكم ويدخل في هذا الأمر اليوم ؟ قال : منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا، شريفنا ووضيعنا وأولنا وآخرنا. قال جرجه: فلمن دخل فيكم اليوم من الأجر مثل ما لكم من الأجر والذخر قال : نعم وأفضل. قال : وكيف يساويكم وقد سبقتموه ؟ فقال خالد : إنا قبلنا هذا الأمر عنه وبايعنا نبينا وهو حي بين أظهرنا تأتيه أخبار السماء، ويخبرنا بالكتاب ويرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج، فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقةٍ ونيةٍ كان أفضل منا، فقال جرجه : بالله لقد صدقتني ولم تخادعني ؟ قال : تالله لقد صدقتك وأن الله ولي ما سألت عنه. فعند ذلك قلب جرجه الترس ومال مع خالد وقال : علمني الإِسلام، فمال به خالد إلى فسطاطه فسن عليه قربة من ماء ثم صلى به ركعتين ... فحملت الروم عند ذلك على المسلمين حملة أزالوا بها المسلمين عن مواقعهم إلى المدافعين أمثال عكرمة بن أبي جهل وعمه الحارث بن هشام.

وحمل خالد وجرجه بالمسلمين على الروم حتى هزموهم بإذن الله ... وقتل جرجه رحمه الله ولم يصل سوى هاتين الركعتين مع خالد، وصلى المسلمون يومذاك صلاة الظهر والعصر إيماء، وأخّروا صلاة العشاءين. وفرّ الروم ليلاً إلى الواقوصة، وسقط الذين ربطوا أنفسهم بالسلاسل.

وكان ممن شهد اليرموك الزبير بن العوام رضي الله عنه، وهو أفضل من هناك من الصحابة، وكان من فرسان الناس وشجعانهم، فاجتمع إليه جماعة من الأبطال يومئذ فقالوا : ألا تحمل فنحمل معك ؟ فقال : إنكم لا تثبتون، فقالوا : بلى فحمل وحملوا، فلما واجهوا صفوف الروم أحجموا وأقدم هو فاخترق صفوف الروم حتى خرج من الجانب الآخر وعاد إلى أصحابه. ثم جاءوا إليه مرة ثانية ففعل كما فعل في الأولى، جرح يومئذ جرحين في كتفه. وقتل عكرمة بن أبي جهل وعمه الحارث بن هشام، وابنه عمرو بن عكرمة، وسلمة بن هشام، وعمرو بن سعيد، وأبان بن سعيد، وهشام بن العاص، وعمرو بن الطفيل بن عمرو الدوسي. وانهزم يومذاك عمرو بن العاص في أربعة حتى وصلوا إلى النساء فزجرنهم فعادوا. وانكشف شرحبيل بن حسنة وأصحابه فتراجعوا فوعظهم الأمير فرجعوا. وثبت يزيد بن أبي سفيان وقاتل قتالاً شديداً، وذلك أن أباه مرّ به فقال له : يا بني عليك بتقوى الله والصبر فإنه ليس رحل بهذا الوادي من المسلمين إلا محفوفاً بالقتال، فكيف بك وبأشباهك الذين ولّوا أمور المسلمين ؟ أولئك أحق الناس بالصبر والنصيحة، فاتق الله يا بني ولا يكونن أحد من أصحابك بأرغب في الأجر والصبر في الحرب ولا أجرأ على عدو الإِسلام منك. فقال : افعل إن شاء الله، فقاتل يومئذ قتالاً شديداً وكان من ناحية القلب رضي الله عنه.

وروى سعيد بن المسيب عن أبيه قال : هدأت الأصوات يوم اليرموك فسمعنا صوتاً يكاد يملأ العسكر يقول : يا نصر الله اقترب، الثبات الثبات يا معشر المسلمين، قال : فنظرنا فإذا هو أبو سفيان تحت راية ابنه يزيد.

وروي أن الأشتر قد شهد اليرموك ولم يشهد القادسية، فخرج يومئذٍ رجل من الروم، فقال: من يبارز ؟ فخرج إليه الأشتر، فاختلفا ضربتين، فقال للرومي : خذها وأنا الغلام الايادي، فقال الرومي: أكثر الله في قومك مثلك ‍‍ أما والله لو أنك من قومي لآزرت الروم، فأما الآن فلا أعينهم.

وروي أن هرقل قال وهو على إنطاكية لما قدمت منهزمة الروم : ويلكم أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشراً مثلكم ؟ قالوا : بلى. قال : فأنتم أكثر أم هم ؟ قالوا : بل نحن أكثر منهم أضعافاً في كل موطن. قال : فما بالكم تنهزمون ؟ قال شيخ من عظمائهم : من أجل أنهم يقومون الليل ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويتناصفون بينهم، ومن أجل أنا نشرب الخمر، ونزني، ونركب الحرام، وننقض العهد، ونغضب ونظلم ونأمر بالسخط وننهى عما يرضي الله ونفسد في الأرض. فقال : أنت صدقتني.

وروي أن أحد أمراء الروم وهو (القُبُقلار) بعث رجلاً عربياً من قضاعة عيناً له بين المسلمين، وقال له : ادخل في هؤلاء القوم فأقم فيهم يوماً وليلة، ثم ائتني بخبرهم. قال : فدخل في الناس رجل عربي لا ينكر، فأقام فيهم يوماً وليلة، ثم أتاه فقال له : ما وراءك ؟ قال : بالليل رهبان، وبالنهار فرسان، ولو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رجم، لإِقامة الحق فيهم. فقال له القبقلار : لئن صدقتني لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها، ولوددت أن حظي من الله أن يخلي بيني وبينهم، فلا ينصرني عليهم، ولا ينصرهم علي.

وفقد عدد من المسلمين عيونهم في يوم اليرموك منهم : أبو سفيان وكان قد فقده عينه الأولى يوم حنين والثانية في اليرموك، وعاش بعدها ضريراً، والمغيرة بن شعبة، وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص، والأشعث بن قيس، وعمرو ابن معد يكرب، وقيس بن المكشوح وغيرهم.

وبعد معركة اليرموك التي فر منها الروم، وتابعهم المسلمون صالح أهل دمشق وأهل حمص، إذ خلت أكثر هذه المناطق من الجنود الروم، كما أن هرقل قد انتقل من مقره في حمص إلى إنطاكية التي اتخذها قاعدة له يسير فيها الجند، وتصدر عنه الأوامر.

وانتقل أبو عبيدة بالجيش من اليرموك إلى مرج الصفر ببقية الجيش الذي لم يلاحق الروم، وفي المرج وصل إليه الخبر بأن الروم قد تجمعوا بفحل بغور الأردن، فتوقف لا يدري بأي الأمرين يبدأ، أبدمشق ويتركزّ المسلمون فيها أم يعود إلى فحل ؟ فكتب إلى أمير المؤمنين يصف له الموقف، ويستشيره بالأمر، وجاء الأمر من أمير المؤمنين أن ابدأ بدمشق فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم، فانهد لها، وأشغلوا عنكم أهل فحل بخيول تكون تلقاءهم، فإن فتحها الله قبل دمشق فذلك الذي نحب، وإن فتحت دمشق قبلها فسر أنت ومن معك واستخلف على دمشق، فإذا فتح الله عليكم فحل فسر أنت وخالد إلى حمص واترك عمراً و شرحبيل على الأردن وفلسطين.



معركة فحل :

بعث أبو عبيدة عمارة بن مُخِشَ إلى فحل، فوجد أن الروم يقاربون ثمانين ألفاً، وقد طوفوا المياه في المنطقة إلا أن المسلمين استطاعوا بإذن الله إحراز النصر ودخول (فحل) و (بيسان)، وذلك قبل فتح دمشق.



فتح دمشق :

أرسل أبو عبيدة أبا الأعور السلمي إلى طبريا ليفتحها وليكون ردءاً للمسلمين المتجهين إلى دمشق، وحائلاً دون وصول إمدادات رومية إلى دمشق التي نقض أهلها الصلح بعد أن رأوا أن الروم لا تزال لهم قوة في المناطق الجنوبية، وكذلك أهل حمص، ويبدو أن المناطق الداخلية من بلاد الشام كان تقدم المسلمين فيها سهلاً وذلك لقلة السكان إذا استثنينا المدن، وسهولة حركة الجند، ووجود الحياة القبلية التي يمكن أن يكون لها أثر في الصلح أو الخوف ومغادرة الديار على حين كانت المناطق الساحلية في المنطقة الجنوبية كثيرة السكان لخصوبتها ومنها مدينة القدس ذات الطابع الديني، والدفاع عنها يكون كبيراً لذلك السبب، والمناطق الشمالية من الجهات الساحلية جبلية وعرة المسالك، إضافة إلى قسوة السكان لطبيعة بلادهم الجبلية، وكان فيها المردة والجراجمة، وهم من قدامى السكان، وبعضهم من بقايا العمالقة، ولهم ارتباطات كبيرة بالروم أيضاً.

سار أبو عبيدة باتجاه دمشق، وقد جعل خالد بن الوليد في القلب، وسار هو في الميسرة، وعمرو بن العاص في الميمنة، وكان عياض بن غنم على الخيل، وشرحبيل بن حسنة على الرجالة. وفي الوقت نفسه بعث ذا الكلاع في فرقة لترابط بين دمشق وحمص لتحول دون وصول الامدادات إلى دمشق من جهة الشمال، كما جعل أبا الدرداء في فرقة أخرى لتكون في برزة على مقربة من دمشق ردءاً للجيش الإِسلامي الذي يحاصر المدينة.

وبعث أبو عبيدة طليعة تتألف من ثلاثة عناصر أحدهم وأميرهم أبو أمامة الباهلي الذي يقول : فسرت فلما كنا ببعض الطريق، أمرت أحد من معي أن يكمن، وبعد مسافة أمرت الآخر فكمن هناك وسرت أنا وحدي حتى باب البلد، وهو مغلق في الليل وليس هناك أحد، فنزلت وغرزت رمحي بالأرض ونزعت لجام فرسي، وعلقت عليه مخلاته ونمت، فلما أصبح الصباح قمت فتوضأت وصليت الفجر، فإذا باب المدينة بقعقع فلما فتح حملت على البواب فطعنته بالرمح فقتلته، ثم رجعت والطلب ورائي ، فلما انتهينا إلى الرجل الذي في الطريق من أصحابي ظنوا أنه كمين فرجعوا عني، ثم سرنا حتى أخذنا الآخر وجئت إلى أبي عبيدة فأخبرته بما رأيت، فأقام أبو عبيدة ينتظر كتاب عمر فيما يعتمده من أمر دمشق، فجاءه الكتاب يأمره بالمسير إليها، فساروا إليها حتى أحاطوا بها، واستخلف أبو عبيدة على اليرموك بشير بن كعب في خيل هناك.

ولا شك فإن الإيمان وحده هو الذي كان سبب نصر المسلمين في معاركهم التي خاضوها ضد أعدائهم على الرغم من قلتهم وقلة إمكاناتهم، وبالإِيمان نفسه استطاع هذا الصحابي الجليل أبو أمامة أن ينطلق منفرداً إلى باب المدينة دمشق، وأن يبيت ليلة ونفسه مطمئنة وفكره مرتاحاً فيما سيكون وأن يصبح فيتوضأ ويصلي الفجر، ويقتل البواب وينطلق ... وهذا ما أرعب الروم، وأخاف السكان، وأضعف المعنويات إذ شعروا أن الغارات قد بدأت تصل إليهم، وأن الفرد من المسلمين وحده يمكن أن يكون غارة، يغير ويقتل وينصرف ولا يبالي.

انطلق الجيش الإسلامي نحو دمشق، فدخل الغوطة واحتلها كي لا يأمل أهل دمشق بمساعدات وتموينات منها، ووصل إلى دمشق من ناحية الشرق، فتوزع يحاصرها حسب التشكيل الذي يسير عليه، فتوقف خالد، وهو على قلب الجيش، على الباب الشرقي وحتى باب كيسان، وسارت الميسرة على جنوب دمشق، فنزل يزيد بن أبي سفيان على الباب الصغير وإلى باب كيسان، ونزل أبو عبيدة على باب الجابية من جهة الغرب وحتى الباب الصغير. وسارت الميمنة على شمالي دمشق فنزل عمرو بن العاص على باب توما، ونزل شرحبيل ابن حسنة على باب الفراديس وباب السلام.

استمر حصار دمشق عدة أشهر، وشعر أهل دمشق أن الامدادات لا يمكن أن تصل إليهم، وجاء وقت البرد، وكان قاسياً، فصعب القتال، وفي إحدى الليالي ولد لبطريق المدينة مولود، فأقام وليمته للجند والناس، فباتوا ليلتهم تلك سكارى، وشعر خالد بن الوليد بذلك نتيجة ضعف قتال الذين فوق الأسوار وقلة حركة الناس عامة، ونتيجة المعلومات التي وصلت إليه من العيون، وهو على عين يقظة لا ينام إلا قليلاً ولا ينيم، وكانت عنده سلالم مهيأة. فلما أحس بذلك استدعى بعض صنايد القوم أمثال القعقاع بن عمرو، ومذعور بن عدي، وأحضر جنده عند الباب، وقال لهم : إذا سمعتم تكبيرنا فوق السور فارقوا إلينا. ثم إنه قطع الخندق وهو وأصحابه سباحة وقد وضعوا قرباً في أعناقهم تساعدهم على السباحة. إذ كانت الخنادق تحيط بدمشق وهي مليئة بالماء عدا الجهة الشمالية حيث كان نهر بردى هناك يعد بمثابة الخندق، وكان السور على ضفافه يتعرج حسب المجرى على حين كانت الأسوار في الجهات الأخرى تسير بشكل مستقيم، وأثبت خالد وصحبه السلالم على شرفات السور، وصعدوا عليها، فلما صاروا أعلى السور رفعوا أصواتهم بالتكبير لإرهاب العدو ونزلوا على حراس الباب فقتلوهم، وفتحوا الباب عنوة، وقد طعنوا مغاليقه، واندفع الجند من الباب إلى الداخل.

وانطلق خالد بن الوليد مع جنده داخل المدينة يعمل في من وقف في وجهه قتلاً، ويتجه نحو مركزها، وأسرع وجهاؤها نحو بقية الأبواب وخاصة نحو الغرب حيث باب الجابية خوفاً من أن ينالهم القتل، فيعلنون الاستسلام وفتح مدينتهم، وطلب الصلح، ودخل بقية قادة المسلمين وجيوشهم من الأبواب الأخرى صلحاً يتجهون نحو داخل المدينة والتقوا مع مركزها، خالد يعمل السيف، وهم في السلم، فقالوا له : يا أبا سليمان إن القوم قد استسلموا، وطلبوا الصلح، وفتحوا الباب لنا، ودخلنا سلماً، فقال لهم : وإنما دخلت أنا ومن معي المدينة عنوة، ولم يزل يعمل السيف حتى طلب منه أبو عبيدة الكف عن ذلك. والتقى الأمراء عند المقسلاط قرب سوق النحاسين اليوم (المناخلية). وكان فتح دمشق في رجب من السنة الرابعة عشر أي بعد معركة اليرموك بسنة كاملة. وقد استمر حصارها عدة أشهر.

وبعد فتح دمشق طلب أمير المؤمنين من أبي عبيدة أن يسير بعض جند العراق الذي جاءوا منها مع خالد بن الوليد إلى العراق مرة ثانية ليدعموا الفاتحين فيها، فسيرهم بإمرة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص.

وولى أبو عبيدة على دمشق يزيد بن أبي سفيان، وسيّر شرحبيل بن حسنة إلى الأردن، وعمرو بن العاص إلى فلسطين، أي سار كل من الأمراء إلى المنطقة التي كانت وجهته الأولى إليها.

بعث يزيد بن أبي سفيان أمير دمشق دحية بن خليفة إلى تدمر، كما بعث أبا الزهراء القشيري إلى حوران فصالح أهلها، إذ كان طريق المسلمين إلى دمشق عن طريق مرج الصفرّ ومن جهة الغرب من حوران لذا فقد بقيت حوران دون مصالحة.



في البقاع :

وأرسل أبو عبيدة خالد بن الوليد إلى البقاع، وعندما وصل إلى تلك الجهة جاءت حملة من الروم عن طريق ما يعرف اليوم باسم ظهر البيدر تحت إمرة سنان، واستطاع قتل عدد من المسلمين عند (عين ميسون) وعرفت تلك العين بعد ذلك باسم عين الشهداء. ثم تابع خالد سيره في البقاع نحو الشمال فصالحه أهل بعلبك.



معركة مرج الروم وفتح حمص :

وكان أبو عبيدة قد اتجه إلى الشمال أيضاً فنزل على ذي الطلاع الذي كان في آخر ثنية العقاب وشرف على (القطيفة) اليوم، وإذ وصل إليه خبر ارسال هرقل بطريقاً من قبله يدعى (توذرا) إلى مرج الروم (منطقة الصبورة اليوم) لينزل دمشق فسار إليه أبو عبيدة وخرج إلى( توذرا) وجاء خالد من الخلف، وبدأ القتال فلم ينج من الروم إلا من شرد، وقتل خالد (توذرا)، وكان أبو عبيدة قد التقى ببطريق آخر يدعى (شنس) نزل بجانبه فتنازلا وقتل أبو عبيدة شنس أيضاً، وفر أتباعه باتجاه حمص فلاحقهم أبو عبيدة، ولما انتهى خالد من (توذرا) تبع أبا عبيدة نحو حمص فحاصراها معاً، وطال الحصار، وجاء فصل الشتاء، وكان شديد البرد، وصبر الصحابة صبراً عظيماً، ولما انسلخ الفصل البارد اشتد الحصار، وأجبر الأهالي المسؤولين على الاستسلام، وطلبوا الصلح حسب الصلح الذي صالح عليه أهل دمشق على نصف المنازل، وضرب الخراج على الأرض، وأخذ الجزية على الرقاب حسب الغنى والفقر. وبعث أبو عبيدة بالأخماس والبشارة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مع عبد الله بن مسعود ... كما طلب منه الرأي بشأن هرقل ... فجاءه الجواب بالبقاء في حمص بالنسبة إلى أبي عبيدة.



فتح قنسرين :

وأرسل أبو عبيدة خالد بن الوليد إلى قنسرين فقاتل أهلها بعد حصار واعتذار بعد هزيمة أولى، وإثر ذلك دخل المدينة عنوة، وذلك في السنة الخامسة عشرة من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا التقدم السريع في المناطق الداخلية كان لا يوازيه تقدم آخر في المناطق الساحلية للأسباب التي سبق أن ذكرناها، الأمر الذي اقتضى أن يقوم عمرو بن العاص الذي ولي أمر فلسطين بحرب عنيفة في مناطقه الجنوبية حتى يستطيع المسلمون أن يتقدموا في الساحل والداخل بصورة متوازية، واقتضى الأمر من القيادة أن توجه حملات من الداخل إلى الساحل لتقطع المناطق الساحلية إلى وحدات، ولتقلل الضغط أمام الفاتحين المسلمين المتقدمين من الجنوب، وليضعف معنويات المتعنتين من الروم، وليقلل أملهم في إمكانية التشبث بالأرض والبقاء في تلك الجهات، لذا أمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب معاوية بن أبي سفيان بالتحرك نحو قيسارية وتولي أمورها وكتب إليه : أما بعد فقد وليتك قيسارية فسر إليها واستنصر الله عليهم، وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، الله ربنا وثقتنا ورجاؤنا فنعم المولى ونعم النصير. فسار إليها فحاصرها، وقاتل أهلها عدة مرات وفي النهاية انتصر عليهم وقتل منهم ما يقرب من ثمانين ألفاً، وبهذا الفتح انقطع رجاء الروم في النصر ... ثم كتب عمر إلى عمرو بن العاص أن يسير إلى ايلياء (بيت المقدس).



فتح أجنادين :

سار عمرو بن العاص إلى أجنادين وهي موقع قريب من الفالوجة ومكان عبور فلسطين من الجنوب، إذا رابط فيها الأرطبون، كما كانت قوة للروم في الرملة، وأخرى في بيت المقدس، وكانت إذا جاءت قوات داعمة إلى عمرو أرسل بها تارة إلى الرملة وأخرى إلى بيت المقدس ليشاغلوا الروم في تلك الجهات خوفاً من دعمهم للأرطبون في أجنادين. وطال تأخر الفتح في أجنادين، وسارت الرسل بين الطرفين، ولم يشف أحدهما غليل عمرو، فسار بنفسه باسم رسول، ودخل على الأرطبون، وجرى الحديث بينهما، استنتج الأرطبون على أن هذا الرسول إنما هو عمرو بالذات أو أنه شخص ذو قيمة وأثر بين المسلمين، وقال في نفسه : ما كنت لأصيب القوم بأمر هو أعظم من قتله. فدعا حرساً فسارّه وأمره بالفتك به فقال : اذهب فقم في مكان كذا وكذا، فإذا مرَّ بك فاقتله، ففطن عمرو بن العاص فقال للأرطبون : أيها الأمير إني قد سمعت كلامك وسمعت كلامي، وإني واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب لنكون مع هذا الوالي لنشهد أموره. وقد أحببت أن آتيك بهم ليسمعوا كلامك ويروا ما رأيت. فقال الأرطبون : نعم ‍ فاذهب فائتني بهم، ودعا رجلاً فسارّه فقال : اذهب إلى فلان فردّه. وقام عمرو ابن العاص فرجع إلى جيشه، ثم تحقق الأرطبون أنه عمرو بن العاص نفسه فقال : خدعني الرجل، هذا والله أدهى العرب. وبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال : لله در عمرو. وحدث قتال عظيم في أجنادين كقتال اليرموك .. ثم دخل المسلمون أجنادين، وتقدموا نحو بيت المقدس.

فتح بيت المقدس :

لقي المسلمون عناداً قوياً من الروم الأمر الذي جعل الجيوش الإِسلامية تجتمع مرة أخرى، وولى أبو عبيدة على دمشق سعيد بن زيد، وسارت الجيوش لتحاصر بيت المقدس وتضيق على من فيها حتى أجابوا إلى الصلح بشرط أن يقدم عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. أرسل أبو عبيدة إلى عمر يخبره الخبر، واستشار عمر الصحابة فأشار علي بن أبي طالب عليه بالمسير ورأى عثمان بن عفان غير ذلك، فأخذ عمر برأي علي وولاّه على المدينة وسار إلى الشام وعلى مقدمته العباس بن عبد المطلب، واستقبله في الجابية أمراء المسلمين أبو عبيدة وخالد ويزيد، ومن الجابية سار عمر إلى بيت المقدس، ثم صالح النصارى، واشترط عليهم إخراج الروم خلال ثلاثة أيام، ثم دخل المسجد من حيث دخل رسول الله يوم الإسراء وصلى فيه مع المسلمين، ثم سار إلى الصخرة وجعل المسجد في قبلة بيت المقدس. وبعد فتح بيت المقدس رجع كل أمير إلى مكانه.



فتح حمص ثانية :

وما أن وصل أبو عبيدة إلى مركزه في حمص حتى حاصره الروم، وقد استنفروا معهم أهل الجزيرة، وكان أبو عبيدة قد استشار المسلمين في التحصن بالمدينة أو قتال الروم خارجها، فأشاروا عليه بالتحصن إلا خالد ابن الوليد الذي كان قد استقدمه من قنسرين لمساعدته ودعمه، فقد رأى قتال الأعداء خارج البناء، إلا أن أبا عبيدة رأى ما رآه بقية المسلمين، وكتب أبو عبيدة إلى أمير المؤمنين يعلمه الخبر. وكانت بقية مدن الشام كل منها مشغول بما فيه، ولو جاءته نجدة من أية مدينة فلربما اختل النظام في بلاد الشام كافة. وبخاصة أن هناك جيوب رومية كثيرة، ويختلط السكان، وكتب عمر ابن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص في العراق يطلب منه أن يسيّر مدداً بإمرة القعقاع بن عمرو إلى حمص، وأن يبعث بعثاً بإمرة عياض بن غنم إلى بلاد الجزيرة الذين مالؤوا الروم. خرج من الكوفة جيشان أولاهما اتجه نحو حمص وقوامه أربعة آلاف مقاتل بقيادة القعقاع بن عمرو، والآخر اتجه نحو الجزيرة بقيادة عياض بن غنم، وفي الوقت نفسه خرج عمر بن الخطاب نفسه من المدينة لينصر أبا عبيدة. علم أهل الجزيرة أن الجيش الإِسلامي قد طرق بلادهم فتركوا حمص ورجعوا إلى أرضهم. وأخبر الروم أن أمير المؤمنين قد سار إلى الشام ليدعم حمص فانهارت معنوياتهم وضعف أمرهم، وأشار خالد على أبي عبيدة بأن يبرز لهم ليقاتلهم فوافق، فنصر الله عباده المؤمنين على اعدائهم ولم يصل بعد القعقاع إذ وصل إلى حمص بعد انتصار المؤمنين بثلاثة أيام، كما أن عمر بن الخطاب كان قد وصل إلى الجابية وجاءه خبر المعركة وهو فيها، وعدّ المدد بين المقاتلين ونال نصيبه من الغنائم. كما صالح أهل حلب ومنبج وإنطاكية.



فتح الجزيرة :

أما عياض بن غنم فقد وصل إلى الجزيرة وصالح أهل (حران) و (الرها) و (الرقة)، وبعث أبا موسى الأشعري إلى (نصيبين)، وعمر بن سعد بن أبي وقاص إلى (رأس العين) وسار هو إلى (دارا)(1) ففتحت هذه المدن، كما أرسل عثمان بن أبي العاص إلى أرمينيا فحدث قتال ثم صالح عثمان أهل البلاد على جزية مقدارها دينار على كل أهل بيت.

____________________

(1) دارا : مكان دير الزور اليوم، وهي قرب قرقيساء التي هي مكان البصيرة عند التقاء نهر الخابور بنهر الفرات.



فتح سواحل الشام :

وفتحت (قرقيساء) على يد عمر بن مالك، وصالح أهل (هيت)، وكان يزيد بن أبي سفيان قد أرسل أخاه معاوية على مقدمته ففتح بناء على أوامر أبي عبيدة المدن الساحلية صور وصيدا وبيروت وجبيل وعرقة(1) وطرابلس. وبهذا أصبحت بلاد الشام كلها بيد المسلمين. إلا أن خطأ قد وقع أثناء الفتح، وهو أن المسلمين لم يكونوا ليمشّطوا البلاد التي يفتحونها تمشيطاً كلياً حيث يخلونها من كل من يمكن أن يتمرد في المستقبل أو يكون عوناً للروم الذين يفكرون في استعادة بلاد الشام ويعتقدون أنه لا تزال لهم مراكز قوة فيها، إذ أن المسلمين كما رأينا قد بدؤوا بالمناطق الداخلية التي هي مجال حركتهم، وعلى صلة بالمدينة المنورة قاعدة الحكم الإِسلامي، بناءً على أوامر القيادة العامة، وحاولوا الابتعاد عن السواحل التي كانت للروم فيها قواعد بحرية، الأسطول الرومي يجوب تلك السواحل على حين لم يكن للمسلمين بعد أية قوة بحرية، فهم بالدرجة الأولى أبناء داخل وصحارى ولربما كان أكثرهم لم ير البحر بعد، ومنهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نفسه. وكذلك فقد تركوا الجزر الجبلية والتفوا حولها ظناً منهم أن أولئك السكان الذين كانوا على درجة من القلة لا تمكنهم من عمل شيء، لذا فإنهم ينزلون على حكم المسلمين راضين أو كارهين إضافة إلى فقر تلك الجهات هذا ويزيد ذلك وعورة تلك الأماكن وصعوبة مسالكها، وهذه الخطيئة نفسها تكررت في الأندلس، فكان من تلك الجزر الجبلية البلاء العظيم الذي أطاح بالمسلمين من الأندلس بعد مدة طويلة من الزمن، والذي لا نزال نذوق منه الويلات في بلاد الشام حتى الآن، إذ كان سكان الجبال عوناً للروم ودعماً لهم كلما ظهر الروم على الشواطئ الشامية، وهذا ما كان يستشعره الروم من أن لهم قوة تعتصم في المناطق الجبلية كما دعت الحاجة، كما أن قوة أخرى كانت لهم، وهي أن الروم عندما اجلوا عن تلك البلاد الشامية رحلت معهم بعض القبائل العربية المتنصِّرة الحليفة لهم والمنتصّرة من غسان وتنوخ واياد ولخم وجذام وعاملة وكندة وقيس وكنانة ظناً من هذه القبائل أن الروم لا يمكنهم أن يتركوا الفاتحين الجدد في البلاد الشامية، وكان لهذه القبائل مراكزها وأنصارها في المنطقة، كل هذا كان يشجع الروم على التفكير في محاولة استرجاع البلاد، وقد تمكن الروم فعلاً من استعادة بعض السواحل اللبنانية، ولكنهم لم يلبثوا أن طردوا منها. ولعل من الأخطاء التي وقعت آنذاك الاستعانة بالجراجمة، وهم سكان منطقة الجرجومة وهي مدينة تقع في جبل الأمانوس (اللكام) شمال إنطاكية، وقد كانت لهم دولة مركزها مرعش، ويعتقد أنهم من بقايا الحثيين. وعندما صالح أبو عبيدة بن الجراح أهل إنطاكية همّ الجراجمة بالانتقال إلى بلاد الروم خوفاً على أنفسهم، إلا أن المسلمين لم يأبهوا بهم آنذاك، ولكن إنطاكية لم تلبث أن نقضت العهد، واضطر المسلمون إلى فتحها ثانية، وعين أبو عبيدة عليها (حبيب بن مسلمة الفهري) الذي استعد لغزو جرجومة، فاضطر أهلها

______________________________

(1) عرقة : مدينة كانت تقع إلى القرب من طرابلس.

لطلب الصلح، وكانوا يساعدون المسلمين أحياناً عندما يرون فيهم القوة، ولكنهم إن وجدوا في الروم قوة كاتبوهم على أن ينقضّوا على المسلمين، وهذا ما كان يشجع الروم، ويُبقي عندهم الأمل في العودة إلى بلاد الشام، ولربما كان المسلمون بحاجة إلى الجند آنذاك، وقد وجدوا في الجراجمة عنصراً محارباً ودعماً عسكرياً فاستفادوا منهم، إلا أنه لا يؤمن لهم ولا لعهودهم ما دامو لا يدينون دين الحق، ولا ينظرون إلا إلى مصالحهم، وهذا ما كان يجعلهم يقفون بجانب الروم أحياناً وبجانب المسلمين مرة أخرى، ثم توزعوا في المناطق الجبلية الغربية عوناً للروم، وبقي لهم خطر على البلاد ولأحفادهم الذين اعتقدوا عقائد غريبة حتى الآن.



فتح مصر :

لما انتهى فتح المسلمين لبلاد الشام، وانتهى عمرو بن العاص من فتح فلسطين، استأذن عمرو بن العاص من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في السير إلى مصر للفتح، فوافق عمر وسيّره إليها، ثم أمده بالزبير بن العوام ومعه بسر ابن أرطأة وخارجة بن حذافة، وعمير بن وهب الجمحي، فالتقيا عند باب مصر، ولقيهم أبو مريم ومعه الأسقف أبو مريام وقد بعثه المقوقس من الإسكندرية، فدعاهم عمرو بن العاص إلى الإِسلام أو الجزية أو القتال، وأمهلهم ثلاثة أيام فطلبوا منه أن يزيد المدة فزادها لهم يوماً واحداً، ثم نشب القتال، فهزم أهل مصر، وقتل منهم عدد كبير، منهم الأرطبون الذي فر من بلاد الشام إلى مصر، والذي أجبر أهل مصر على المقاومة، وحاصر المسلمون عين شمس، وارتقى الزبير بن العوام السور، فلما أحس السكان بذلك انطلقوا باتجاه عمرو على الباب الآخر، إلا أن الزبير كان قد اخترق البلد عنوة ووصل إلى الباب الذي عليه عمرو، فصالحوا عمراً وأمضى الزبير الصلح، وقبل أهل مصر كلهم الصلح، إذ كان قد وجه عبد الله بن حذافة إلى عين شمس فغلب على أرضها وصالح أهل قراها على مثل صلح الفسطاط.

ثم أرسل عمرو جيشاً إلى الإسكندرية حيث يقيم المقوقس، وحاصر الجيش المدينة، واضطر المقوقس إلى أن يصالح المسلمين على أداء الجزية واستخلف عمرو بن العاص عليها عبد الله بن حذافة. وانشئت مدينة الفسطاط مكان خيمة عمرو حيث بني المسجد الذي ينسب إليه الآن. وأقيمت البيوت حوله.

وأرسل عمرو قوة إلى الصعيد بإمرة عبد الله سعد بن أبي سرح بناءً على أوامر الخليفة ففتحها، وكان الوالي عليها كما أرسل خارجة بن حذافة إلى الفيوم وما حولها ففتحها وصالح أهلها، وأرسل عمير بن وهب الجمحي إلى دمياط وتنيس وما حولهما فصالح أهل تلك الجهات.

ثم سار عمرو بن العاص إلى الغرب ففتح برقة وصالح أهلها، وأرسل عقبة ابن نافع ففتح (زويلة) واتجه نحو بلاد النوبة، ثم انطلق عمرو إلى طرابلس الغرب ففتحها بعد حصار دامشهر، كما فتح (صبراته) و (شروس) ومنعه عمر بن الخطاب أن يتقدم أكثر من ذلك إلى جهة الغرب.



2- الجبهة الشرقية :

كان الخلاف على الحكم قوياً في الدولة الفارسية الفرس كما كان الحكام على خلاف فيما بينهم، فلما غادر خالد بن الوليد العراق إلى الشام شعر الفرس بقلة من بقي من جند المسلمين هناك، فأرادوا النيل منهم وطردهم من أرض العراق، فأرسل شهريار ملك الفرس جيشاً قوامه عشرة آلاف مقاتل لمحاربة جيش المسلمين بقيادة المثنى بن حارثة الشيباني، إلا أن الفرس قد هزموا هزيمة منكرة أيضاً.

طلب المثنى بن حارثة المدد من المدينة، إلا أن أخبار الصديق قد تأخرت عليه لانشغاله بقتال الشام الأمر الذي جعل المثنى يسير بنفسه إلى المدينة وقد خلّف وراءه على المسلمين بشير بن الخصاصية، فلما وصل إلى قاعدة الحكم وجد أبا بكر في آخر عهده وقد استخلف عمر من بعده. فلما رأى أبو بكر المثنى قال لعمر : إذا أنا مت فلا تمسين حتى تندب الناس لحرب أهل العراق مع المثنى، وإذا فتح الله على أمرائنا بالشام فاردد أصحاب خالد إلى العراق فإنهم أعلم بحربه. فلما مات الصديق ندب عمر المسلمين إلى الجهاد في أرض العراق، وأمر على المجاهدين أبا عبيد بن مسعود الثقفي حيث كان أول من لبى النداء ولم يكن من الصحابة، مع العلم أن عمر لم يكن ليولي إلا من كان صحابياً، وعندما سئل في هذا الأمر أجاب : إنما أؤمر أول من استجاب، إنكم إنما سبقتم الناس بنصرة هذا الدين، وإن هذا هو الذي استجاب قبلكم، ثم دعاه فوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً. وأمره أن يستشير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسار المجاهدون إلى العراق.

وكتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في الوقت نفسه إلى أبي عبيدة في الشام أن يرسل من كان بالعراق ممن قدم مع خالد بن الوليد إلى العراق، فسيّرهم أبو عبيدة بعد فتح دمشق بإمرة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص.

وأرسل عمر أيضاً مدداً آخر بقيادة جرير بن عبد الله البجلي قوامه أربعة آلاف، فسار باتجاه الكوفة، والتقى بقائد فارس فهزمه شر هزيمة وسقط أكثر جند الفرس في النهر.





معركة النمارق :

بعث رستم جيشاً لقتال أبي عبيد فالتقى الطرفان في النمارق بين الحيرة والقادسية، وكان على خيل المسلمين المثنى بن حارثة، فهُزم الفرس، وولوا الأدبار، وساروا إلى (كسكر) فلحقهم أبو عبيد، ثم هزمهم ثانية بعد أن جاءتهم قوة داعمة لنصرتهم، وفرّ الفرس إلى المدائن.



معركة الجسر :

بعد أن هزم الفرس في النمارق وما بعدها اجتمعوا إلى رستم، فأرسل جيشاً كثيفاً ومعهم راية (كسرى) وراية (أفريدون) التي تسمى (الدرفس) وسار هذا الجيش نحو المسلمين فالتقوا، وبينهم جسر، فقال الفرس : إما أن تعبروا إلينا، أو نعبر إليكم، فقال المسلمون لأبي عبيد : أمرهم أن يعبروا إلينا، فقال أبو عبيد : ما هم أجرأ منا على الموت بل نعبر إليكم، ثم اقتحم الجسر إليهم، وجرت معركة عنيفة بين الطرفين. وكانت فيلة الفرس تؤذي المسلمين حيث تخافها خيولهم الأمر الذي جعل أبا عبيد يأمر المسلمين بقتل الفيلة فقتلوها وكان بين الفيلة فيل عظيم هجم عليه أبو عبيد، فضرب خرطومه فاستدمى الفيل وصرخ وقتل أبا عبيد وبرك فوقه، وقتل القادة الذين تولوا أمر المسلمين بعد أبي عبيد، حتى جاء دور المثنى بن حارثة في الإمارة، وكان قد ضعف أمر المسلمين، وأرادوا التراجع، وعبر بعضهم الجسر، ولتزاحمهم عليه تحطم الأمر الذي جعل ظهور المسلمين للفرس وبدأ القتل فيهم حتى عظم، فقتل منهم من قتل، وغرق من غرق. فجاء المثنى ووقف عند مدخل الجسر يحمي المسلمين ليقطعوا الطريق ببطء فأصلحوا الجسر وعبروا خلاله، حتى انتهوا والمثنى وشجعان المسلمين يحمونهم. وقد وقعت هذه المعركة بعد معركة اليرموك بأربعين يوماً أي في شهر شعبان في السنة الثالثة عشرة للهجرة واختلف الفرس ثانية على الحكم إذ خلعوا رستم، ثم عادوا فولوه، وأضافوا إليه الفيرزان، وسار الفرس إلى المدائن فلحقهم المثنى، وهزم من اعترض سبيله منهم وأسر عدداً كبيراً ضرب أعناقهم، وطلب النجدة والمدد من أمراء المسلمين، فوافوه، كما كان قد وصل إليه جرير بن عبد الله البجلي ومن معه.



معركة البويب :

لما علمت الفرس باجتماع عدد من جيوش المسلمين بعثت جيشاً كثيفاً، والتقى الطرفان في مكان يقال له (البويب) قرب الكوفة، وطلبت الفرس أن يعبر المسلمون إليها، أو تعبر إليهم، فأجاب المثنى بأن يعبر الفرس فعبر وجرت معركة عنيفة هزمت فيها المجوس، وقتل منهم عدد كبير قتلاً وغرقاً في النهر، وكانت هذه المعركة عظيمة إذ اقتص فيها المسلمون من معركة الجسر ونالوا غنائم عظيمة، وقتل فيها قائد الفرس مهران، وكان ذلك في شهر رمضان من السنة الثالثة عشرة الهجرية.

وبعد معركة البويب التي اقضت مضاجع الفرس اجتمع أمراؤهم على تمليك يزدجرد بن شهريار بن كسرى، واتفقوا على ذلك فيما بينهم، وأرسلوا بالخبر إلى إتباعهم في الأمصار كافة، الأمر الذي جعل المجوس وأنصارهم الذين صالحوا المسلمين وأظهروا الطاعة ينقضون العهد. وأخبر المسلمون بذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.

حث عمر بن الخطاب المسلمين على الجهاد وخرج بنفسه على رأس الجيش من المدينة بعد أن ولّى مكانه علي بن أبي طالب واستصحب معه عثمان بن عفان وسادات الصحابة حتى وصل إلى ماء يقال له ( الصرار ) فعقد مجلساً استشارياً في الذهاب، وقد أرسل إلى علي أن يأتي من المدينة، فكلهم وافقه على رأيه إلا عبد الرحمن بن عوف فإنه قال له : إني أخشى إن كسرت أن تضعف أمر المسلمين في سائر أقطار الأرض، وإني أرى أن تبعث رجلا وترجع إلى المدينة، فمال عمر إلى هذا الرأي، ووقع الاختيار على سعد بن أبي وقاص قائداً للجيش، فأوصاه، وكتب إلى المثنى بن حارثة وجرير بن عبد الله البجلي في إطاعة سعد، كما أصبح جميع أمراء العراق تبعاً له، ولكن المثنى قد توفي قبل وصول سعد إذ انتقض عليه جرحه الذي أصابه يوم الجسر.

اجتمع المسلمون في القادسية حسبما واعدهم سعد بن وقاص بناء على أوامر الخليفة عمر بن الخطاب، كما نصَّب الخليفة عبد الرحمن على القضاء ولما بلغ سعد ماء العذيب اعترضه جيش للفرس، فهزمه، وغنم منه غنائم كثيرة . ويبدو من هذه المعارك أن المسلمين كانوا يتوغلون في أعماق العدو دون تطهير كامل للمناطق الخلفية مما يجعل الفرس يستطيعون تحريك جيوشهم إلى قرب أماكن المعارك الأولى.

معركة القادسية : ثم سار سعد حتى نزل القادسية، فمكث فيها شهراً لم ير فيه أثر للفرس، وكان يبث سراياه في كل الجهات، فكانت تأتيه بالغنائم الأمر الذي جعل الفرس وحلفائهم يتضايقون جداً، وأخبروا ملكهم ( يزدجرد ) بأنه إن لم ينجدهم فإنهم سيضطرون إلى تسليم ما بأيديهم إلى المسلمين أو يصالحونهم، وهذا ما جعل ( يزدجرد ) يدعو رستم ويؤمره على الحرب بجيش كثيف، وقد حاول رستم أن يعفيه الملك من ذلك وأبدى الأعذار بأن إرسال جيش كثيف واحد إلى المسلمين فيه شيء من الخطأ، وإنما من الصواب أن يرسل جيشاً إثر آخر لإضعاف المسلمين، إلا أن الملك قد أصر على إرساله بهذا الجيش اللجب الذي يبلغ قوامه مائة وعشرين ألفاً، ويكون مثلها مدداً لها.

سار رستم وعسكر بساباط، وكان سعد يكتب في كل يوم إلى الخليفة حسب أوامره إليه، ولما اقترب رستم من المسلمين بعث إليه سعد جماعة من سادات المسلمين يدعونه إلى الله عز وجل وكان بينهم: النعمان بن مقرن، والمغيرة بن شعبة، والأشعث بن قيس، وفرات بن حبان، وعطارد بن حاجب، وحنظلة بن الربيع، وعمرو بن معد يكرب. فقال لهم رستم: ما أقدمكم ؟ فقالوا: جئنا لموعود الله إيانا، أخذ بلادكم وسبي نسائكم وأبنائكم وأخذ أموالكم، ونحن على يقين من ذلك. وقد تأخر رستم في الخروج من المدائن للقاء سعد في القادسية مدة أربعة أشهر عسى أن يضجر سعد ومن معه من المسلمين، كما أن رستم كان يعتقد أن النصر سكون حليف المسلمين لما يرى ويسمع عن معاركهم وأخلاقهم. وقد ضعفت معنويات رستم ومن معه بعد أن سمعوا كلام الوفد، وما فيه من ثقة بالله ويقين بالنصر.

ولما اقترب الجيشان طلب رستم من سعد أن يبعث له رجلاً عاقلاً عالماً يجيبه عن بعض أسئلته، فأرسل له سعد المغيرة بن شعبة. فقال له رستم : إنكم جيراننا وكنا نحسن إليكم ونكف الأذى عنكم، فارجعوا إلى بلادكم ولا نمنع تجارتكم من الدخول إلى بلادنا. فقال له المغيرة : إن ليس طلبنا الدنيا، وإنما همنا وطلبنا الآخرة، وقد بعث الله إلينا رسولاً قال له : إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني فأنا منتقم بهم منهم، واجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به، وهو دين الحق، لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به إلا عز. فقال له رستم : فما هو ؟ فقال : أما عموده الذي لا يصلح شيء منه إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، فقال : ما أحسن هذا ! وأي شيء أيضاً، قال : وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله.قال : وحسن أيضاً وأي شيء أيضاً ؟ قال : والناس بنو آدم، فهم إخوة لأب وأم، قال : وحسن أيضاً : ثم قال رستم : أرأيتم إن دخلنا في دينكم أترجعون عن بلادنا ؟ قال : إي والله ثم لا نقرب بلادكم إلا في تجارة أو حاجة. قال : وحسن أيضاً. وإن هذا الحديث قد زاد إلى أضعاف معنويات رستم والفرس، وزاد يقينهم في انتصار المسلمين، وزادت قناعتهم بهذا الدين الجديد حتى إن رستم قد ذاكر وجهاء قومه في الدخول في الإِسلام فأنفوا وأبوا فأخزاهم الله.

وحاول رستم والفرس أن يلجؤوا إلى طريق الإغراء فزينوا مجلس رستم بالنمارق المذهبة والحرير، وأظهروا اللآلئ والياقوت والأحجار الكريمة الثمينة، والزينات العظيمة، وجلس رستم على سرير واسع من الذهب، وعليه تاج مرصع، ثم طلب رستم ثانية من سعد إرسال رجل آخر، فأرسل إليه ربعي بن عامر، فسار إليه بثياب صفيقة وأسلحة متواضعة وفرس صغيرة، ولم يزل راكبها حتى داست على الديباج والحرير، ثم نزل عنها وربطها في قطع من الحرير مزقها مما رأى أمامه، وأقبل على رستم وعليه سلاحه الكامل، فقالوا له : ضع سلاحك. فقال : إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، فنقلوا ذلك لرستم فقال : ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق أكثرها، فقالوا له : ما جاء بكم ؟ فقال : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإِسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضي إلى موعود الله. قالوا : وما موعود الله ؟ قال : الجنة لمن مات على قتال من أبى والظفر لمن بقي. فقال رستم: قد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا ؟ قال : نعم ! كم أحب إليكم ؟ يوماً أو يومين ؟ قال : لا، بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا. فقال : ما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل، فقال : أسيدهم أنت ؟ قال : لا! ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم. فاجتمع رستم برؤساء قومه فقال : هل رأيتم قط أعز وأرجح من كلام هذا الرجل ؟ فقالوا : معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك إلى هذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه ؟ فقال : ويلكم لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة، إن العرب يستخفون بالثياب والمأكل، ويصونون الأحساب.

وبعث الفرس في اليوم الثاني يطلبون رجلا آخر يريدون أن يعرفوا نماذج من المسلمين، فهل كلهم على هذا اليقين وهذا الرأي ؟ علهم يجدون ثغرة يستطعون أن ينفذوا منها، فبعث إليهم سعد بن أبي وقاص رجلا آخر هو حذيفة بن محصن، فتكلم على النحو الذي تكلم فيه ربعي بن عامر.

وتكرر الطلب في اليوم الثالث فأرسل إليهم سعد ثالثاً هو المغيرة بن شعبة. فقال رستم للمغيرة : إنما مثلكم في دخول أرضنا مثل الذباب رأى العسل. فقال : من يوصلني إليه وله درهمان؟ فلما سقط عليه غرق فيه، فجعل يطلب الخلاص فلم يجده، وجعل يقول : من يخلصني وله أربعة دراهم ؟ ومثلكم كمثل ثعلب ضعيف دخل حجراً في كرم، فلما رآه صاحب الكرم ضعيفاً رحمه فتركه، فلما سمن أفسد شيئاً كثيراً فجاء بجيشه، واستعان عليه بغلمانه فذهب ليخرجه فلم يستطع لسمنه فضربه حتى قتله، فهكذا تخرجون من بلادنا، ثم ازداد غضباً وحمقاً وأقسم بالشمس لأقتلنكم غداً.

فقال المغيرة : ستعلم. فقال رستم للمغيرة : قد أمرت لكم بكسوة ولأميركم بألف دينار وكسوة ومركوب وتنصرفون عنا.

فقال المغيرة : أبعد أن أوهنا ملككم وضعفنا عزكم، ولنا مدة نحو بلادكم ونأخذ الجزية منكم عن يد وأنتم صاغرون وستصيرون لنا عبيداً على رغمكم ؟

كان سعد بن أبي وقاص مريضاً لا يستطيع الركوب، لذا فقد جلس في القصر متكئاً على صدره فوق وسادة ينظر إلى الجيش يدبر أمره ويصدر تعليماته، وقد أعطى القيادة إلى خالد بن عرفطة، وكان على الميمنة جرير بن عبد الله البجلي وعلى الميسرة قيس بن مكشوح.

بدأت المعركة بعد الظهيرة وبعد أن صلى سعد الظهر بالناس وخطب فيهم وحثهم على القتال، واستمر القتال حتى الليل، ثم استؤنف في اليوم الثاني ولمدة ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع اشتد أثر الفيلة الفارسية على الجيش إذ كانت الخيول تنفر منها الأمر الذي جعل الصحابة يوجهون اهتمامهم اليها حتى قتلوها مع من عليها، وقد أبلى جرير بن عبد الله البجلي، والقعقاع بن عمرو، وطليحة الأسدي، وعمرو بن معد يكرب، وخالد بن عرفطة، وضرار بن الخطاب بلاء كبيراً، إذ كانوا يقلعون عيون الفيلة فتشرد بمن عليها ثم تقتل ويقتل أصحابها، فلما كان الزوال من ذلك الذي عرف بالقادسية وهو الاثنين الرابع عشر من شهر محرم من السنة الرابعة عشرة هبت ريح شديدة على الفرس فأزالت خيامهم وما كان منهم إلا الهرب. وقد قتل القعقاع بن عمرو التميمي وهلال بن علقمة التميمي رستم قائد الفرس، وفرّت جماعة منهم ولحقهم المسلمون حتى دخلوا وراءهم مدينة المدائن مركز الحكم ومقر يزدجرد بن شهريار. وقد قتل من الفرس في اليوم الرابع عشرة آلاف ومثلهم في الأيام السابقة، فكان مجموع القتلى عشرين ألفاً، وهو ما يقرب من ثلثي الجيش الفارسي، واستشهد من المسلمين في الأيام كلها ألفاً وخمسمائة شهيد، وغنم المسلمون غنائم كبيرة جداً، وأرسلت البشارة إلى أمير المؤمنين الذي كان في غاية الاهتمام بالمعركة حتى كان يخرج وحده أحياناً إلى خارج المدينة يسأل الركبان ويتقصى الأخبار حتى جاءه النبأ. وكانت المناطق التي فيها خالد بن الوليد من قبل قد نقضت العهد، فلما كانت معركة القادسية رجع أهلها إلى عهودهم وادعوا أن الفرس قد أجبروهم على ذلك النقض.

ثم تقدم المسلمون بإمرة زهرة بن حوية أميراً إثر أمير نحو المدائن فالتقوا بجيش فارسي فهزموه، واتجه المنهزمون نحو بابل، وانطلقت جماعة أخرى نحو نهاوند، فاقام سعد في بابل عدة أيام ثم سار نحو المدائن، فالتقى بجيش آخر من الفرس فهزمه، وفي ساباط التقى بكتائب أخرى ليزدجرد أصابها كلها ما أصاب سابقتها، وقَتَل هاشم بن عتبة بن أبي وقاص أسد يزدجرد الذي وضع في الطريق لإخافة المسلمين، وكان ذلك في نهاية السنة الرابعة عشرة من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وتحصن الفرس (بهرسير) وهي قرية من المدائن لا يفصل بينها سوى نهر دجلة بعد أن هزموا أمامها، إلا أن حصارهم لم يهن من عزيمة المسلمين، وكان أن فرّ الفرس إلى المدائن، وسار المسلمون وراءهم، فلما اقتربوا منها لاح لهم القصر الأبيض قصر كسرى. وكان المسلمون قد قطعوا نهر دجلة وكان في حالة فيضان كبير الأمر الذي جعل الفرس يخافون لقاء المسلمين ويهابونهم.



فتح المدائن :

ودخل المسلمون المدائن فلم يجدوا بها أحداً بل فرّ أهلها كلهم مع الملك سوى بضعة من المقاتلة بقوا في القصر الأبيض، فدعاهم سلمان الفارسي رضي الله عنه ثلاثة أيام، نزلوا بعدها منه، وسكنه سعد، وجعل الايوان مصلى وتلا حين دخوله {كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم، ونعمة كانوا فيها فاكهين، كذلك وأورثناها قوماً آخرين، فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين} [الدخان : 25-29]، كما صلى الجمعة في الايوان وذلك في شهر صفر من السنة السادسة عشرة للهجرة. وأقامت أسر المسلمين في المدائن حتى فتح الله عليهم جلولاء وتكريت والموصل، وبعدها تحولت الأسر إلى الكوفة. وأرسل سعد السرايا تتعقب الفارين فحصلت هذه السرايا على غنائم كثيرة لم يستطع الفارون حملها فتركوها وأكثرها من ثياب كسرى ولباسه. وقد خمّس سعد الغنائم، وبعث بها إلى المدينة مع بشير بن الخصاصية، وفيها بساط كسرى وتاجه وسواريه، فلما رآها عمر رضي الله عنه قال : إن قوما أدوا هذا لأمناء، فقال له علي رضي الله عنه: إنك عففت فعفت رعيتك ولو رتعت لرتعت.



فتح جلولاء :

فر يزدجرد من المدائن، وسار باتجاه حلوان، والتف حوله أثناء سيره عدد كثير من الفرس، فأمر عليهم مهران، وأقاموا بجلولاء، وقد تحصنوا بها، وحفروا الخنادق حولها، فبعث سعد إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يخبره بذلك، فأمره أن يقيم هو بالمدائن وأن يرسل إليهم ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وأن يكون على المقدمة القعقاع بن عمرو التميمي، وعلى الميمنة سعد بن مالك، وعلى الميسرة عمر بن مالك، وعلى المؤخرة عمرو بن مرة الجهني، ففعل، فسار هاشم وحاصرهم، واشتد القتال، وكانت تصل النجدات إلى الطرفين، وأخيراً فتح الله على المسلمين جلولاء، وقد قتلوا من الفرس الكثير حتى تجلت بجثثهم الأرض، وبرز من الأبطال في هذه المعركة القعقاع بن عمرو، وعمرو بن معد يكرب، وحجر بن عدي، وقيس بن مكشوح، وطليحة الأسدي.



فتح حلوان :

وبعث هاشم في أثر الفرس المنهزمين القعقاع بن عمرو فكانوا يفرون من وجهه، وقد غنم الكثير أثناء تحركاته تلك. وقد كانت غنائم جلولاء لا تقل عن غنائم المدائن. وقد ادرك القعقاع مهران وقتله، ونجا الفيرزان فسار إلى حلوان وأخبر يزدجرد فترك المدينة بعد أن ترك عليها قائدا، وسار هو إلى الري (طهران اليوم)، وسار القعقاع إلى حلوان فانتصر على حاميتها ودخلها.



فتح تكريت والموصل :

في الوقت الذي سار فيه هاشم بن عتبة إلى جلولاء سار أيضاً إلى تكريت عبد الله بن المعتم على رأس جيش بأمر الخليفة أيضاً، فلما وصل إلى تكريت وجد فيها جماعة من الروم، ومن نصارى العرب، من إياد وتغلب، وعدد من أهل الموصل فحاصرهم أربعين يوماً نازلهم خلالها أربعاً وعشرين مرة، وانتصر فيها كلها، ثم دخل المدينة عنوة، وقد قتل جميع من فيها سوى من أسلم من الأعراب. وسار ربعي بن الافكل بعدها إلى الموصل واضطر أهلها إلى الصلح والتسليم، وفرضت عليهم الجزية.





فتح ماسبذان :

بلغ سعد أن جماعة من الفرس قد تجمعت في ماسبذان الواقعة على يمين حلوان على الطريق إلى همدان، فأخبر بذلك أمير المؤمنين فطلب منه أن يرسل لهم جيشاً بإمرة ضرار بن الخطاب الفهري، ففعل وانتصر عليهم، وهرب أهل ماسبذان إلى رؤوس الجبال، فدعاهم ضرار فاستجابوا له، ومنهم من أسلم، ومنهم من لم يسلم فوضع عليه الجزية.



فتح الأهواز :

تغلب الهرمزان على منطقة الأهواز، وهو من أحد بيوتات فارس المشهورة وكان من الذين فروا من القادسية، وأصبح يغير على المناطق التي دانت لحكم المسلمين، فسار إليه جيشان من المسلمين، انطلق أحدهما من الكوفة من قبل واليها عتبة بن غزوان، وسار الثاني من البصرة من قبل حاكمها أبي موسى الأشعري، وانتصر المسلمون عليه وهذا ما أجبره على طلب الصلح، فأعطوه ذلك. ثم نقض الهرمزان الصلح بعد أن استعان بجماعة من الكرد، فبرز إليه المسلمون فهزموه فتحصن في تستر (ششتر اليوم)، إلا أن أهل المنطقة قد صالحوا المسلمين عندما رأوا إصلاح بلادهم، ودفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، وهذا ما جعل الهرمزان يطلب الصلح ثانية، ويصالح على عدد من المدن منها (تستر) و (جنديسابور)، وكان حرقوص بن زهير قد فتح سوق الأهواز. ثم نقض الهرمزان الصلح ثانية بناء على تحريض يزدجرد، وبلغ الخبر عمر، فأمر أن يسير إليه جيش من الكوفة بإمرة النعمان بن مقرن، وكانت الكوفة مقر سعد بن أبي وقاص، كما أمر أن يسير جيش آخر من البصرة بإمرة سهيل بن عدي، وأن يكون على الجميع أبو سيرة بن أبي رهم، فالتقى النعمان بالهرمزان فهزمه، ففر إلى تستر فسار إليه سهيل بن عدي، كما لحقه النعمان، فحاصروه هناك، وكان أمير الحرب أبو سبرة بن أبي رهم ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وجد أن مع الهرمزان عدداً كبيراً من المقاتلين، فكتبوا بذلك إلى أمير المؤمنين، فطلب من أبي موسى الأشعري أن يذهب إليهم مدداً، فسار نحوهم، وحاصروا الفرس، واضطرهم إلى الاستسلام بعد فتح البلد عنوة، ولجأ الهرمزان إلى القلعة، فحاصروه وأجبروه على الاستسلام، وأرسلوه إلى عمر بن الخطاب بالمدينة مع وفد فيه الأحنف بن قيس وأنس بن مالك.

ثم سار أبو سبرة بن أبي رهم في قسم من الجيش ومعه أبو موسى الأشعري والنعمان بن مقرن واستصحبوا معهم الهرمزان، وساروا حتى نزلوا (السوس) فحاصروها، وكتب إلى أمير المؤمنين بذلك، فأجابهم بأن يرجع أبو موسى الأشعري إلى البصرة، وأن يسير زر بن عبدالله بن كليب إلى جنديسابور، فسار، وبعث أبو سبرة بالخمس وبالهرمزان إلى المدينة، ولما وصل الوفد بالهرمزان إلى المدينة اتجه إلى بيت أمير المؤمنين، فقيل لهم : إنه بالمسجد للقاء وفد الكوفة، فانطلقوا إلى المسجد، فلم يروا فيه أحداً، ولما هموا بالعودة قال لهم غلمان يلعبون أمام المسجد : إنه نائم في زاوية المسجد، فانطلقوا فوجدوه نائماً، فقال الهرمزان : أين عمر ؟ فأشاروا إليه، وقد دهش لعدم وجود الحرس والحجاب كما اعتاد أن يرى في ملوك فارس وأكاسرتها.

وفتحت السوس عنوة بعد حصار حتى طلب أهلها الصلح، وكذلك فقد فتح زر بن عبد الله جند يسابور.

وتقدم المسلمون في بلاد فارس أيام عمر بن الخطاب من جهة ثانية، فقد كان العلاء بن الحضرمي والي البحرين يسابق سعد بن أبي وقاص في الفتح، فلما كتب الله النصر لسعد في القادسية، وكان له ذلك الصدى الواسع، أحب العلاء أن يكون له النصر على فارس من جهته، فندب الناس إلى الجهاد ضد فارس، فاجتمع الجيش وعبر العلاء بن الحضرمي البحر إلى فارس من جهته وذلك دون إذن أمير المؤمنين، اتجه العلاء نحو اصطخر، إلا أن الفرس قد حالوا بين المسلمين وسفنهم، فوجد المسلمون أنفسهم بين العدو والبحر، فعلموا جهدهم وقاتلوا بقوة فنصرهم على عدوهم، ثم خرجوا يريدون البصرة، فلم يجدوا سفنهم، كما رأوا أن الفرس قد قطعوا عنهم الطرق، فاضطروا إلى البقاء محاصرين، ووصل الخبر إلى عمر بن الخطاب، فتأثر جداً، وأمر بعزل العلاء، وطلب منه الالتحاق بسعد بن أبي وقاص، وطلب من عتبة بن غزوان أن ينجد العلاء، فأرسل قوة بإمرة أبي سبرة بن أبي رهم ومعه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وعاصم بن عمرو، والأحنف بن قيس، وحذيفة بن محصن، وعرفجة ابن هرثمة، وكان عدد هذه القوة اثنا عشر ألفاً، وسارت هذه القوة حتى وصلت إلى مكان حصار المسلمين، وكاد القتال أن ينشب بين المحاصرين والفرس، فجاءت القوة في الوقت المناسب، وانتصر المسلمون انتصاراً رائعاً، ثم عاد الجميع إلى عتبة بن غزوان في البصرة.

وتجمع الفرس في مدينة نهاوند، وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لا يريد أن ينساح المسلمون في بلاد فارس الواسعة خوفاً عليهم من ضياعهم فيها، وخوفاً عليهم من الفرس، واستمر ذلك مدة حتى وصل إليه الأحنف بن قيس في الوفد الذي يسوق الهرمزان معه، فسأل عمر الأحنف بن قيس عن الأحوال، وكان عمر يخشى أن يكون المسلمون يحيفون على أهل الذمة الأمر الذي يجعلهم ينقضون العهد، فقال عمر : لعل المسلمين يفضون إلى أهل الذمة بأذى وبأمور لها ما ينتقضون بكم، فأجاب : ما نعلم إلا وفاء وحسن ملكة، قال : فكيف هذا ؟ فقال له الأحنف : يا أمير المؤمنين، أخبرك أنك نهيتنا عن الانسياح في البلاد، وأمرتنا بالاقتصار على ما في أيدينا، وإن ملك فارس حي بين أظهرهم، وإنهم لا يزالوا يساجلوننا ما دام ملكهم فيهم ولم يجتمع ملكان يتفقان حتى يخرج أحدهما صاحبه : وقد رأيت أنا لم نأخذ شيئاً بعد شيء إلا بانبعاثهم، وأن ملكهم هو الذي يبعثهم، ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا فلنسح في بلادهم حتى نزيله عن فارس ونخرجه عن مملتكه وعزّ أمته : فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس. فقال عمر : صدقتني والله وشرحت لي الأمر عن حقه.

وجاءت الأخبار إلى عمر بن الخطاب أن الفرس قد تجمعوا في نهاوند، وهذا ما جعله يأمر بالانسياح في أرض فارس، وقد رغب أن يسير هو بنفسه على رأس جيش لقتال الفرس، إلا أنه عندما استشار الصحابة رأوا غير ذلك، فعدل عن رأيه، وكان الذي أقنعه بذلك علي بن أبي طالب، فكتب إلى حذيفة ابن اليمان أن يسير بجند الكوفة، وإلى أبي موسى الأشعري أن يسير بجند البصرة، وإلى النعمان بن مقرن أن يسير بجند فإذا التقوا فكل على جنده أميرا، وعلى الجميع النعمان بن مقرن فإن قتل فقيس بن مكشوح و... حتى سمى عدة أمراء.

وسار المسلمون نحو نهاوند ولا يزيد عددهم على الثلاثين ألفاً إلا قليلاً، وكان قد تجمع فيها من الفرس ما يزيد على المائة والخمسين ألفاً، وكانت المعارك سجالا بين الطرفين مدة يومي الأربعاء والخميس، ثم انتصر المسلمون على أعدائهم الأمر الذي جعل الفرس يدخلون المدينة ويتحصنون فيها، فحاصرهم المسلمون، ولما طال الحصار استشار النعمان رجاله فأشاروا عليه بالتراجع أمامهم حتى إذا ابتعدوا من حصونهم انقضوا عليهم، فوافق النعمان على ذلك، وأمر القعقاع أن يبدأ القتال مع الفرس وأن يتراجع أولهم ففعل فلحقه الفرس. وعندما ابتعدوا من حصونهم بدأ النعمان بالقتال ونشبت معركة حامية قتل فيها من الفرس أكثر من مائة ألف رجل وتجلل وجه الثرى بالجثث، وسقط النعمان عن فرسه واستشهد، ولم يعلم بذلك سوى أخيه نعيم، فأخفى ذلك وأخذ الراية وسلمها لحذيفة بن اليمان فقاد المعركة إلى النهاية، وبانتهائها أعلم نعيم الجند عن مصرع قائدهم النعمان. أما قائد الفرس الفيرزان فقد فر، ولحقه القعقاع وقتله عند ثنية همدان، ودخل المسلمون نهاوند عنوة، ثم فتحوا أصبهان (جي). وفتح أبو موسى الأشعري (قم) وقاشان، وفتح سهيل بن عدي مدينة (كرمان). ولما وصلت أخبار نهاوند إلى عمر بن الخطاب بكى بكاء مريراً على شهدائها، وكلما ذكر له شهيد زاد بكاؤه، ولما وصلوا إلى ذكر أسماء لا يعرفها بكى وقال : وما ضرهم أن لا يعرفهم أمير المؤمنين ؟ لكن الله يعرفهم وقد أكرمهم بالشهادة، وما يصنعون بمعرفة عمر.

ولعل المرء يستطيع هنا أن يقف وقفة على اختيار عمر للأمراء وقادة الجند، وصحيح أنه كان لا يختار إلا الصحابة، إلا أنه في الوقت نفسه كان يعين الجندي أميراً ثم لا يلبث أن يضع أميراً عليه ويعيده جندياً يقاتل تحت راية من كان بالأمس يقاتل تحت رايته، وذلك حتى لا ترتفع بإنسان نفس وكي يشعر دائماً بالتواضع ويعرف مكانه الحقيقي، وأن قتاله إنما هو لله، وكذلك يشعر كل جندي في الجيش.

ولما فتحت نهاوند أمر عمر بن الخطاب المسلمين بالانسياح في أرض فارس، وأعطيت الأوامر لسبعة أمراء بالتوغل في أعماق فارس بغض النظر عن عدد الجيش المنطلق وبغض النظر عن عتاده وتجهيزاته وبغض النظر عن القوة التي يمكن أن يلاقيها وعددها إذ أن المسلمين لم يكونوا ليقاتلوا بعدد أو بقوة تجهيزات وإنما بقوة الإِيمان الذي يحملونه بين جوانحهم.

1- سار نعيم بن مقرن إلى همدان ففتحها، واستخلف عليها يزيد بن قيس، وتابع سيره إلى الري (موقع طهران اليوم) ففتحها، ثم بعث بأخيه سويد بن مقرن بناء على أوامر الخليفة إلى قومس فأخذها سلماً، وصالح أهلها، وجاء إليه أهل (جرجان) و (طبرستان) وصالحوه. وكان نعيم قد بعث وهو بهمدان (بكير بن عبد الله) إلى أذربيجان ثم أمده بسماك بن خرشة ففتح بعض بلاد أذربيجان على حين كان عتبة بن فرقد يفتح البلدان من الجهة الثانية.

2- سار سراقة بن عمرو نحو باب الأبواب على سواحل بحر الخزر الغربية، وكان على مقدمته عبد الرحمن بن ربيعة فصالح عبد الرحمن ملكها بعد أن أرسله إلى سراقة بن عمرو، ثم بعث سراقة إلى الجبال في تلك المناطق بكير ابن عبد الله، وحبيب بن مسلمة، وحذيفة بن أسيد، وسلمان بن ربيعة، ومات هناك سراقة بن عمرو واستخلف مكانه عبد الرحمن بن ربيعة، وأقر الخليفة ذلك.

3- سار الأحنف بن قيس على رأس جيش حتى دخل خراسان من الطبسين ففتح هراة عنوة، واستخلف عليها (صحار بن فلان العبدي)، وسار نحو (مرو الشاهجان) عن طريق نهر هراة، فامتلكها واستخلف عليها (حارثة بن النعمان)، ومنها سار إلى (مرو الروذ) مع وادي (مورغاب) ليلاحق يزدجرد حيث فر إليها، ووصلت الامدادات من الكوفة إلى الأحنف بن قيس، وسار المدد نحو (بلخ) حيث انتقل يزدجرد إليها، واستطاع أهل الكوفة دخول بلخ، ففر بزدجرد إلى بلاد ما وراء النهر، ولحق الأحنف بأهل الكوفة في بلخ وقد نصرهم الله على عدوهم، وأصبح الأحنف سيد خراسان إذ تتابع أهلها الذين كانوا قد شذوا أو تحصنوا إلى الصلح. وكان الأحنف وهو في طريقه إلى مرو قد بعث (مطرف بن عبد الله) إلى نيسابور، كما أرسل الحارث بن حسان إلى سرخس.

عاد الأحنف إلى مرو الروذ بعد أن استخلف على (طخارستان) (ربعي بن عامر التميمي)، وكتب الأحنف إلى الخليفة عمربن الخطاب بفتح خراسان، فكتب عمر بن الخطاب إلى الأحنف "أما بعد : فلا تجوزن النهر واقتصر على ما دونه، وقد عرفتم بأي شيء دخلتم على خراسان، فداوموا على الذي دخلتم به يدم لكم النصر، وإياكم أن تعبروا فتنفضوا".

4- واتجه عثمان بن أبي العاص على رأس جيشٍ إلى اصطخر، وقد اجتاز مياه الخليج العربي من البحرين ففتح جزيرة (بركاوان) ونزل أرض فارس، ففتح جور واصطخر وشيراز وكان قد انضم إليه أبو موسى الأشعري بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب. وكان الحكم بن أبي العاص عون أخيه في فتوحاته.

5- واتجه سارية بن زنيم الكناني نحو تحشد للفرس فحاصرهم فاستنجدوا بالأكراد فأمدوهم، فتكاثر العدو على المسلمين وأصبحوا في خطر عظيم، عندئذ التجأ سارية إلى سفح جبل واتخذ ذروته درءاً له يحمي مؤخرته، وواجه الفرس من جهة واحدة، واستطاع الانتصار عليهم. وفي هذا التحرك من قبل سارية نحو الجبل يذكر أن عمر بن الخطاب كان يخطب على المنبر يوم الجمعة، فعرض له في خطبته أن قال (يا سارية الجبل ... الجبل ... من استرعى فقد ظلم"، ويذكر أن سارية قد سمع كما سمع المسلمون الذين يسمعون خطبة عمر ذلك الكلام في ذلك اليوم وتلك السرعة، وأن الصوت الذي سمعه يشبه صوت عمر فعدل بالمسلمين إلى الجبل، ففتح الله عليهم.

6- وسار عاصم بن عمرو التميمي على رأس قوة من أهل البصرة إلى إقليم سجستان، ففتح المنطقة، ودخل عاصمتها (زرنج) بعد حصار طويل اضطر أهلها إلى طلب الصلح، وتولى عاصم ادارة المنطقة، وعمل على توطيد الأمن فيها.

7- وسار سهيل بن عدي الخزرجي بجيش إلى كرمان ففتحها.

8- وانطلق الحكم بن عمير التغلبي بقوة إلى (مكران)، وتبعه مدد، والتقى المسلمون بأعدائهم على شاطئ نهر هناك، وعبر الفرس إلى المسلمين، ولكنهم لم يصمدوا طويلاً أمامهم، فدخل المسلمون معسكر الفرس، وقتلوا منهم عدداً كبيراً، وفتحوا المنطقة كاملة.

9- واتجه عتبة بن فرقد إلى جهة شمال غربي فارس ففتحها - كما مر معنا - .

yacine414
2011-03-17, 16:49
مَقتَل الخليفَة عُمَر بن الخَطّابْ

كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعيد النظر واسع الفكر، يخشى على المجتمع الإِسلامي من التلوث، ويخاف عليه من عدم التجانس بوجود عناصر غريبة فيه، تضيع معها الرقابة، وتنتشر آراء متباينة بالاختلاط، وتكثر فيه الإِساءة والنيل من مقوماته، يخشى أن يقوم الذي يأتون من خارج المجتمع من المجوس وسبي القتال بأعمال يريدون بها تهديم الكيان الإِسلامي، لهذا فإنه منع من احتلم من هؤلاء دخول مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أن عدداً من الفرس الذين دالت دولتهم قد أظهروا الإِسلام، ودخلوا المدينة، ولا تزال عندهم من رواسب الماضي صلات مختلفة بعقيدتهم المجوسية القديمة، وارتباطات بحكومتهم السابقة، أو أنهم أظهروا الإِسلام وأبطنوا المجوسية.

طلب المغيرة بن شعبة أمير الكوفة من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن يسمح لغلامه (فيروز) الذي يدعى (أبا لؤلؤة) بدخول المدينة للعمل فيها خدمة للمسلمين حيث هو رجل ماهر يجيد عدداً من الصناعات التي تفيد المجتمع وتخدم الدولة، فهو حداد ونقاش ونجار، فأذن له عمر. وكان أبو لؤلؤة خبيثاً ماكراً، يضمر حقداً، وينوي شراً، يحن إلى المجوسية ولا يستطيع إظهارها، وتأخذه العصبية ولا يمكنه إبداءها، فكان إذا نظر إلى السبي الصغار يأتي فيسمح رؤوسهم ويبكي، ويقول : أكل عمر كبدي. وكان أبو لؤلؤة يتحين الفرص، ويراقب عمر وانتقاله وأفعاله، ويبدو أنه قد وجد أن قتل الخليفة وقت الصلاة أكثر الأوقات مناسبة له، إذ يستطيع أن يأخذه على غفلة منه، ويغدر به دون مواجهة، وكان عمر رضي الله عنه إذا مر بين صفوف المصلين قال : استووا، حتى إذا لم ير فيها خللاً تقدم فكبر ودخل في الصلاة.

فلما كانت صلاة فجر الثالث والعشرين من ذي الحجة في السنة الثالثة والعشرين من هجرة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، وفعل عمر كعادته، فما هو إلا أن كبر حتى سمُع يقول : قتلني الكلب، وقد طعنه أبو لؤلؤة ست طعنات، وهرب العلج بين الصفوف، وبيده سكين ذات طرفين لا يمر على أحد يميناً أو شمالاً إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً مات منهم ما يزيد على النصف، فلما رأى عبد الرحمن بن عوف ذلك القى عليه برنساً له، وأحس أبو لؤلؤة أنه مأخوذ لا محالة، لذا فقد أقدم على الانتحار بالسكين ذاتها. وجاء عبد الرحمن ليرى ما حل بالخليفة فوجده صريعاً، وعليه ملحفة صفراء قد وضعها على جرحه الذي في خاصرته، ويقول : (وكان أمر الله قدراً مقدوراً). وأخذ عمر بيد عبد الرحمن فقدمه للصلاة، وفقد عمر بعد ذلك وعيه، أما عبد الرحمن فقد صلى بالناس صلاة خفيفة. وقد رأى هذا من كان على مقربة من الإمام، أما الذين كانا في نواحي المسجد فإنهم لم يعرفوا ما الأمر، وإنما افتقدوا صوت عمر، فجعلوا يقولون : سبحان الله ... سبحان الله... حتى صلى عبد الرحمن فانقطع صوت التسبيح.

فلما أفاق عمر قال : أصلى الناس ؟ وهكذا لم ينقطع تفكيره بالصلاة على الرغم مما حل به.

قال عبد الله بن عباس : نعم.

قال عمر : لا إسلام لمن ترك الصلاة. ثم دعا بوضوء فتوضأ وصلى، وإن جرحه لينزف.

ثم احتمل إلى بيته، فقال لابن عباس - وكان معه - : اخرج، فسل من قتلني، فخرج فقيل له طعنه عدو الله أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، ثم طعن رهطاً معه، ثم قتل نفسه. فرجع وأخبر عمر بذلك، فقال عمر : الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط.

وخشي عمر رضي الله عنه أن يكون له ذنب إلى الناس لا يعلمه، وقد طعن من أجله، فدعا ابن عباس وقال له : أحب أن تعلم لي أمر الناس، فخرج إليه ثم رجع فقال يا أمير المؤمنين، ما أتيت على ملأ من المسلمين إلا يبكون، فكأنما فقدوا اليوم أبناءهم.

وجيء له بطبيب من الأنصار فسقاه لبناً فخرج اللبن من الجرح، فاعتقد الطبيب أنه منته، فقال : يا أمير المؤمنين اعهد. فبكى القوم لما سمعوا ذلك. فقال عمر : لا تبكوا علينا، من كان باكياً فليخرج، ألم تسمعوا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يعذب الميت ببكاء أهله عليه.

وكان عمر رضي الله عنه يخشى ما هو قادم عليه، فالمؤمن بين الخوف والرجاء، فيخاف عمر أن يكون قد قصر بحق الرعية ومسؤوليته، ويقول لمن كان حاضراً "وما أصبحت أخاف على نفسي إلا بإمارتكم هذه". وكان ابن عباس رضي الله عنهما يريد أن يطمئنه ويخفف عنه، فيذكره بمكانه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأن رسول الله قد بشره بالجنة، فكان عمر يقول "والله لوددت أني نجوت منها كفافاً لا علي ولا لي"، "والذي نفسي بيده لوددت أني خرجت منها كما دخلت فيها لا أجر ولا وزر".

وقال به ابن عباس، لقد كان إسلامك عزّاً، وإمارتك فتحاً، ولقد ملأت الارض عدلاً. فقال عمر : أتشهد لي بذلك يا ابن عباس ؟ فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لابن عباس : قل نعم وأنا معك.

وطلب عمر من ابنه عبد الله أن يفي ما عليه من الديون. ثم أرسله إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يستأذنها في أن يدفن بجانب صاحبيه، وقال له : قل لها : يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً، وقل : يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه. فمضي عبد الله فسلم واستأذن، ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي، فسلم عليها وقال : يقرأ عليك عمر السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت : كنت أريده (المكان) لنفسي ولأوثرنه به اليوم على نفسي.

وكان عمر رضي الله عنه لا يريد أن يستخلف إلا أن ابنه عبدالله قد أقنعه بذلك. فعن عبد الله بن عمر أنه قال : دخلت على حفصة ونوساتها (ضفائرها) تقطر ماء فقالت : علمت أن أباك غير مستخلف ؟ قلت : ما كان ليفعل، قالت : إنه فاعل.

فحلفت أن أكلمه في ذلك، فغدوت عليه ولم أكلمه فكنت كأنما أحمل بيميني جبلاً حتى رجعت فدخلت عليه، فسألني عن حال الناس وأنا أخبره، ثم قلت له إني سمعت الناس يقولون مقالة، فآليت أن أقولها لك، زعموا أنك غير مستخلف. أرأيت لو أنك بعثت إلى قيم أرضك ألم تحب أن يستخلف مكانه حتى يرجع إلى الأرض ؟ قال : بلى. قلت : أرأيت لو بعثت إلى راعي غنمك، ألم تكن تحب أن تستخلف رجلاً حتى يرجع ؟ فماذا تقول لله عز وجل إذا لقيته ولم تستخلف على عباده ؟ فأصابه كآبة ثم نكس رأسه طويلاً ثم رفع رأسه وقال : إن الله تعالى حافظ هذا الدين، وأي ذلك أفعل فقد سن لي، إن لم استخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف، وإن استخلف فقد استخلف أبو بكر.

فعلمت أنه لا يعدل أحداً برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه غير مستخلف.

قال عمر : قد رأيت من أصحابي حرصاً شديداً، وإني جاعل هذا الأمر إلى هؤلاء النفر الستة الذين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، ثم قال : لو أدركني أحد رجلين، فجعلت هذا الأمر إليه لوثقت به. سالم مولى أبي حذيفة وأبو عبيدة بن الجراح فإن سألني ربي عن أبي عبيدة قلت : سمعت نبيك يقول إنه أمين هذه الأمة، وإن سألني عن سالم قلت : سمعت نبيك يقول إن سالماً شديد الحب لله.

قال : المغيرة بن شعبة : أدلك عليه، عبد الله بن عمر.

قال : قاتلك الله ‍ والله ما أردت الله بهذا، لا أرب لنا في أموركم وما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي، إن كان خيراً فقد أصبنا منه، وإن كان شراً فبحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد ويسأل عن أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أما لقد جهدت نفسي، وحرمت أهلي، وإن نجوت كفافاً لا وزر ولا أجر إني لسعيد.

وجعلها شورى في ستة : عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم. وجعل عبد الله عمر معهم مشيراً وليس منهم، وأجّلهم ثلاثاً، وأمر صهيباً أن يصلي بالناس.

وكان طلحة بن عبيد الله غير موجود آنذاك بالمدينة حيث كان مشغولاً، خارجاً ببعض أعماله. فدعا عمر القوم، وقال لهم : إني قد ظهرت لكم في أمر الناس فلم أجد عند الناس شقاقاً إلا أن يكون فيكم، فإن كان شقاق فهو منكم، وقال إن قومكم إنما يؤمرون أحدكم أيها الثلاثة (لعثمان وعلي وعبد الرحمن) فاتق الله يا علي، إن وليت شيئاً من أمور المسلمين فلا تحملن بني هاشم على رقاب المسلمين، ثم نظر إلى عثمان وقال : اتق الله، إن وليت شيئاً من أمور المسلمين فلا تحملن بني أمية على رقاب المسلمين. وإن كنت على شيء من أمر الناس يا عبد الرحمن فلا تحمل ذوي قرابتك على رقاب الناس. ثم قال : قوموا فتشاورا فأمّروا أحدكم.

فلما خرجوا قال : لو ولوها الأجلح (علي) لسلك بهم الطريق، فقال ابنه عبد الله : فما يمنعك يا أمير المؤمنين أن تقدّم علياً ؟ قال : أكره أن أحملها حياً وميتاً.

وذكر عمر سعد بن أبي وقاص فقال : إن وليتم سعداً فسبيل ذاك، وإلا فليستشره الوالي فإني لم أعزله عن عجزٍ ولا خيانة.

وقال عمر : أمهلوا فإن حدث بي حدث فليصل لكم صهيب - مولى بني جدعان - ثلاث ليالٍ، ثم أجمعوا أمركم، فمن تأمرّ منكم على غير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه.

وأرسل عمر إلى أبي طلحة الأنصاري قبل أن يموت بقليل فقال له : كن في خمسين من قومك من الأنصار مع هؤلاء النفر أصحاب الشورى فإنهم فيما أحسب سيجتمعون في بيت أحدهم فقم على الباب بأصحابك، فلا تترك أحداً يدخل عليهم، ولا تتركهم يمضي اليوم الثالث حتى يؤمّروا أحدهم. وقم على رؤوسهم، فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة ورضوا رجلاً منهم وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما، فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم وثلاثة رجلاً فحكموا عبد الله بن عمر فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس، ولا يحضر اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم، اللهم أنت خليفتي فيهم.

وقد لزم أبو طلحة أصحاب الشورى بعد دفن عمر حتى بويع عثمان بن عفان.

وبقي عمر ثلاثة أيام بعد طعنه ثم توفي يوم الأربعاء لأربع بقين من شهر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وقد غسله وكفنه ابنه عبد الله، وصلى عليه صهيب.

ويبدو أن سيدنا عمر رضي الله عنه سار في جعل الأمر بين رجال الشورى على غير الطريق كان يتبعهاوهي طريقة الحسم في الأمر، إذ أن الاختيار ربما يجعل الرجل يفكر في أمر لم يكن يخطر في باله من قبل، بل ربما حدثت خلافات لم تكن لتحدث لو استخلف رجل معين فالكل يطيعون، والجميع لا يرغبون في هذا الأمر، هكذا الفطرة البشرية ترغب عند الاختيار، وتطلب حين الترشيح.

وربما ظن بعضهم أن هذه خطيئة وقع فيها سيدنا عمر، ويحاولون تخفيف ذلك الخطأ بأنه كان مصاباً ومن أجل ذلك حدث ما وقع، إلا أن التخطيط للانتخاب، ومحاولته معرفة سبب قتله، والنظرة البعيدة إلى المستقبل مع إصابته لتدل على مدى صحة تفكيره وسلامة عقله وعدم إضاعة أي شيء من النظر لمصلحة المسلمين. ولكن الخوف مما هو قادم عليه، جعله يريد أن يرفع المسؤولية عن نفسه، لقد كان يريد أن يستخلف إلا أنه خاف من تحمل التبعات وهو قادم للقاء الله عز وجل، وقد قال : لو ولوها الأجلح لسلك بهم الطريق، ويعني علياً، ولما قال ابنه عبد الله : فما يمنعك يا أمير المؤمنين أن تقدم علياً ؟ قال : أكره أن أحملها حياً وميتاً.

yacine414
2011-03-17, 16:51
خلاَفة عُثمان بن عَفّان

لما دفن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أن صلى عليه صهيب، جمع المقداد بن عمرو أصحاب الشورى في بيت المسور بن مخرمة، وكانوا خمسة وهم : عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبدالرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، ومعهم عبدالله بن عمر، وطلحة بن عبيد الله غائب، وكان أبو طلحة الأنصاري يحرسهم، ويحجبهم من أن يدخل الناس إليهم.

تداول القوم الأمر، وتكلم كل منهم بكلمة تبيّن الاشفاق على الأمة والخوف من الفرقة. ثم قال عبد الرحمن بن عوف وقد كان في البداية أول المتكلمين "أيكم يخرج منها نفسه، ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم؟" فلم يجبه أحد، فقال : فأنا انخلع منها، فقال عثمان : أنا أول من رضي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "أمين في الأرض أمين في السماء"، فقال القوم : قد رضينا - وعلي ساكت - فقال : ما تقول يا أبا الحسن ؟ قال : اعطني موثقاً لتؤثرن الحق ولا تتبع الهوى، ولا تخص ذا رحم، ولا تألوا الأمة ‍ فقال : اعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدلّ وغيّر، وأن ترضوا من اخترت لكم، عليّ ميثاق ألا أخص ذا رحمٍ لرحمه، ولا آلو المسلمين. فأخذ منهم ميثاقاً وأعطاهم مثله، فقال لعلي : إنك تقول : إني أحق من حضر بالأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين ولم تبعد، ولكن أرأيت لو صُرف هذا الأمر عنك فلم تحضر، من كنت ترى من هؤلاء الرهط أحق بالأمر ؟ قال : عثمان. وخلا بعثمان، فقال : تقول : شيخ من بني عبد مناف، وصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه، لي سابقة وفضل - لم تبعد - فلن يصرف هذا الأمر عني، ولكن لو لم تحضر فأي هؤلاء الرهط أحق به ؟ قال : علي. ثم خلا بالزبير فكلمه بمثل ما كلم به علياً وعثمان، فقال : علي. ثم خلا بسعد، فكلمه، فقال : عثمان. وهكذا حصر الأمر بين علي وعثمان، ولم يرد عبدالرحمن بن عوف أن يختار هو فيرجح الكفة، ويُنظر إليه أنه هو الذي اختار أو عيّن، فقد كانوا رضي الله عنهم يريدون أن يبتعدوا عن مثل هذه المواقف والمواطن.

ودار عبد الرحمن يلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس يشاورهم، فكان أكثرهم يشير إلى عثمان، حتى إذا كانت الليلة التي يستكمل في صبيحتها الأجل وهو ثلاثة أيام، أتى منزل المسور بن مخرمة بعد ابهيرار من الليل، فأيقظه فقال : ألا أراك نائماً ولم أذق هذه الليلة كثير غمض ‍ انطلق فادع الزبير وسعداً. ويبدو أن عبد الرحمن رغب أن ينهي القضية بين أصحاب الشورى بالذات بالمناقشة، وأن يدع رأي من استشار خارجهم، عسى أن يوفق في كسب رأي الزبير وسعد إلى جانب أحد صاحبي الأمر عثمان أو علي، وبعد اجتماعه بالزبير ثم بسعد رأى أن رأيهما لا يزال كالسابق، عندها حزم رأيه أن يأخذ البيعة لأحدهما أمام الصحابة حتى تكون أقوى وحتى لا تكون محاباة - معاذ الله - وحتى لا يستطيع أحدهما أن يعترض أو يظن شيئاً. وبعد أن صلى المسلمون الفجر في المسجد، جمع عبد الرحمن أصحاب الشورى، وبعث إلى من حضر من المهاجرين وأهل السابقة والفضل من الأنصار، وإلى أمراء الأجناد، فاجتمعوا حتى غصّ المسجد بأهله. فقام عبد الرحمن وقال : أيها الناس، إن الناس قد أجمعوا أن يلحق أهل الأمصار بأمصارهم وقد علموا من أميرهم. فأبدى بعض المسلمين رأيهم فتكلم سعيد بن زيد وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأعطى رأيه لصالح عبد الرحمن إذ قال : إن نراك لها أهلاً، فقال عبد الرحمن : أشيروا عليّ بغير هذا‍ فقام عمار بن ياسر وأيد علياً، ووافقه المقداد بن عمرو، ثم قام عبد الله بن سعد ابن أبي سرح فأيد عثمان ووافقه عبدالله بن أبي ربيعة. وكادت الأصوات تعلو، وعندها وقف سعد بن أبي وقاص وقال : يا عبد الرحمن، افرغ قبل أن يفتن الناس، فقال عبد الرحمن: إني قد نظرت وشاورت، فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلاً، ودعا علياً، فقال : عليك عهد الله وميثاقه لتعملنّ بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده ؟ قال : أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي، ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي، قال : نعم، فبايعه، وبايع الناس جميعاً.

وهكذا استطاع عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن يمنع الخلاف والفرقة، وألا يدخل رأي غير أصحاب الشورى الذين كانوا بجانب عثمان، وألا يقف بجانب واحدٍ من الرجلين وقد تساوت الآراء وتعادلت الأصوات، لقد استطاع هذا بمعرفة طبيعة الصحابيين الجليلين رضي الله عنهما.

وفي اليوم الذي بويع فيه عثمان قدم طليحة بن عبيد الله أحد رجال الشورى -وقد كان غائباً- فقيل له : بايع عثمان، فقال : أكل قريش راضٍ به ؟ قال : نعم، قال :أكل الناس بايعوك ؟ قال : نعم، قال : قد رضيت، لا أرغب عما قد أجمعوا عليه، وبايعه.

وصعد عثمان بعد بيعته المنبر وهو أكثر أهل الشورى كآبة، وتكلم كلمة قصيرة نصح فيها الناس وذكّرهم بالآخرة، وحذّرهم من فتنة الدنيا.

وكانت بيعته رضي الله عنه في الأيام الأخيرة من شهر ذي الحجة إلى غرة المحرم من السنة الرابعة والعشرين من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم : وكان الولاة على الأمصار كما يلي :

والي مكة المكرمة : نافع بن عبد الحارث الخزاعي.

والي الطائف : سفيان بن عبد الله الثقفي.

والي صنعاء : يعلى بن منبه، حليف بني نوفل بن عبد مناف.

والي جَنَد : عبدالله بن أبي ربيعة المخزومي.

والي الكوفة : المغيرة بن شعبة الثقفي.

والي البصرة : أبو موسى عبدالله بن قيس الأشعري.

والي الشام : معاوية بن أبي سفيان الأموي.

والي حمص : عمير بن سعد.

والي مصر : عمرو بن العاص السهمي.

والي البحرين : عثمان بن أبي العاص الثقفي.

yacine414
2011-03-17, 16:52
الفتوحَات في عَهدِ عثمان

الجبهة الغربية :

معركة ذات الصواري :

الجبهة الشرقية :

· لقد كان عهد عثمان رضي الله عنه مليئاً بالفتوحات، وهي تتمة لما كان أيام الخليفة السابق له وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولقد استمرت هذه الفتوحات في البر والبحر مدة عشرة أعوام إلا ان ما حدث في العامين التاليين لها من فتنة، قد جعلها تنسى فطغت الفتنة حتى حسب الناس في عهد عثمان لم يكن سوى فتنة واختلاف نشأت من بيعته ودامت بقية حياته التي انتهت باستشهاده.

كان أمير الشام معاوية بن أبي سفيان قد قام بغزو الروم ووصل إلى عمورية قريباً من انقرة اليوم، وكان معه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادة بن الصامت، وأبو أيواب الأنصاري خالد بن زيد، وأبو ذر الأنصاري، وشداد بن أوس.

لقد فتح المسلمون مناطق واسعة، وكان عدد جندهم قليلاً بالنسبة إلى تلك الأراضي الشاسعة، وبالنسبة إلى أعداد أعدائهم الكبيرة، وهذا ما جعلهم لا يتركون في المناطق التي يصالحونها إلا الجند القليل، ولا يبقون في البقاع التي يفتحونها إلا العدد الضئيل، وبخاصةٍ أنه كانت هناك جبهات مفتوحة، وثغور يجب حمايتها، ومراكز يجب الدفاع عنها والتجمع فيها للإمدادات في الأوقات اللازمة، كل هذا جعل عدد المسلمين قليلاً في البلاد المفتوحة حديثاً، وجعل أهلها يشحون في دفع الجزية، ويظنون أن بمقدورهم هزيمة المسلمين وقتالهم، وأن ما حدث معهم في المرة الأولى لم يكن سوى أخطاء ارتكبوها وقد عرفوها فيما بعد، ثم يتحسرون على عزهم الزائل وأيام مجدهم الخالية، لذا كانوا يتحينون الفرص للانقضاض على المسلمين ونقض عهودهم معهم - هكذا النفس البشرية - ومن هنا كان نقض العهد كثيراً. وقد انتهز الفرس والروم في المناطق التي دخلها المسلمون وفاة خليفتهم عمر بن الخطاب، ونقضوا العهد، وظنوا أن أمر المسلمين قد ضعف، ولكنهم فوجئوا بأن قوة المسلمين على ما هي عليه لم تختلف أيام عمر عن أيام عثمان الخليفة الجديد، وقد أدب المسلمون خصومهم مرة ثانية.







الجبهة الغربية :

نقضت الإسكندرية عهدها عام 25 هـ، فسار إليها أمير مصر عمرو بن العاص، وقاتل أهلها وأجبرهم على الخضوع، والعودة إلى عهدهم.

وكان عمر بن الخطاب قد منع عمرو بن العاص من الانسياح في إفريقية بعدما فتح طرابلس، إلا أن عثمان بن عفان قد سمح بذلك، وأرسل عبدالله ابن سعد بن أبي سرح على رأس قوة، فاجتاز طرابلس، واستولى على سفن للروم كانت راسية هناك على الشاطىء ثم واصل سيره في أفريقيه والتقى بجيوشٍ للبيزنطيين عام 27 هـ في موقع يقال له (سبيطلة) في جنوب غربي القيروان التي لم تكن قد أسست بعد، وقد قَتَل عبدالله بن الزبير، وكان مع الغزاة في تلك الموقعة القائد البيزنطي (جرجير)، وكان ذا أثر فعّال في الانتصار الذي أحرزه المسلمون على الروم، إلا أن عبدالله بن سعد بن أبي سرح قد اضطر إلى عقد معاهدة للصلح مع البيزنطيين مقابل جزية سنوية يدفعونها على أن يخلي إفريقية، وكان ذلك الاضطرار بسبب سيره إلى مصر لمواجهة النوبة الذين هددوا مصر من ناحية الجنوب.

وفي أيام عمر بن الخطاب ألح أمير الشام معاوية بن أبي سفيان على الخليفة عمر في غزو البحر وقرى الروم من حمص وقال : إن قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم، حتى كاد ذلك يأخذ بقلب عمر، فكتب عمر إلى عمرو بن العاص : صف لي البحر وراكبه، فإن نفسي تنازعني إليه، فكتب إليه عمر : إني رأيت خلقاً كبيراً يركبه خلق صغير، إن ركن خرق القلوب، وإن تحرك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلةً، والشك كثرةً، هم فيه كدودٍ على عودٍ، إن مال غرق، وإن نجا برق. فلما قرأه عمر كتب إلى معاوية : (لا والذي بعث محمداً بالحق لا أحمل فيه مسلماً أبداً). فلما ولى عثمان لم يزل به معاوية، حتى عزم على ذلك بأخرة، وقال : لا تنتخب الناس، ولا تُقرع بينهم، خيّرهم، فمن اختار الغزو طائعاً فاحمله وأعنه، ففعل، واستعمل على البحر عبدالله بن قيس الجاسي(1) حليف بني فزارة.

غزا معاوية قبرص وصالح أهلها على سبعة آلاف دينار يؤدونها إلى المسلمين كل سنة وذلك عام 28 هـ، وساعد أهل مصر في تلك الغزوة بإمرة عبدالله ابن سعد بن أبي سرح، فلما وصل إلى قبرص، كان معاوية على الناس جميعاً، وكان بين الغزاة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادة بن الصامت، والمقداد بن عمرو، وشداد بن أوس، وأبو ذر الغفاري، وكانت مع عبادة بن الصامت زوجه أم حرام. وغزا حبيب بن مسلمة بعض أرض سورية التي كانت لا تزال بيد الروم وذلك عام 28هـ.

___________________

(1) غزا عبدالله بن قيس خمسين غزاة من بين شاتية وصائفةفي البحر، ولم يغرق فيه أحد ولم ينكب، وكان يدعو الله أن يرزقه العافية في جنده، وألا يبتليه بمصاب أحد منهم، حتى إذا أراد الله أن يصيبه وحده، خرج في قارب طليعة، فانتهى إلى المرقى من أرض الروم، وكان هناك ناس يسألون فتصدق عليهم، فرجعت امرأة من الذين كانوا يسألون إلى القرية، وقالت : هل لكم في عبدالله بن قيس ؟ قالوا : وأين هو ؟ قالت : في المرقى، قالوا : ومن أين تعرفين عبدالله بن قيس ؟ قالت : كان كالتاجر، فلما سألته أعطاني كالملك، فعرفت أنه عبدالله بن قيس. فثاروا إليه، فتجمعوا عليه، وقاتلوه حتى أصيب وحده، وأفلت الملاّح حتى رجع إلى أصحابه، فتسلم الإمرة بعده سفيان بن عوف الأزدي.



معركة ذات الصواري :

وفي عام 31 هـ جرت معركة بحرية حاسمة بين المسلمين والروم بالقرب من شواطئ كيليكيا، وهي التي تعرف بذات الصواري، وعرفت بذلك لأن صواري السفن ربطت بعضها مع بعض المسلمة والرومية، وذلك بعد أن أمن بعضهم بعضاً واختار الروم قتال البحر، وكان قائد المسلمين أمير مصر عبد الله ابن أبي سرح، وقائد الروم الإمبراطور نفسه قسطنطين الثاني الذي كان يقود أكثر من خمسمائة سفينة، ومع ذلك فقد فرّ من المعركة، وهزم الروم شرّ هزيمة. وكانت صواري السفن من أشجار السرو والصنوبر وهذا ما يدل على أهمية الأشجار والغابات لكلا الطرفين، وجبال تلك الشواطئ كانت مليئة بهذه الأنواع من الأشجار.

وفي عام 33 هـ غزا أمير الشام معاوية بن أبي سفيان حصن المرأة من أرض الروم قرب ثغر ملاطية.

ونقضت إفريقية العهد عام 33 هـ فسار إليها أمير مصر عبدالله بن سعد ابن أبي سرح ففتحها ثانية، وأجبر أهلها على الخضوع والعودة إلى دفع الجزية بعدما منعوها.



الجبهة الشرقية :

غزا الوليد بن عقبة أذربيجان وأرمينيا، وكان أهلهما قد منعوا ما صالحوا عليه حذيفة بن اليمان أيام عمر بن الخطاب، وكان على مقدمة الوليد سلمان بن ربيعة الباهلي، واضطر سكان المنطقتين إلى المصالحة من جديد.

وأمد أهل الكوفة أهل الشام بثمانية آلاف رجل بإمرة سلمان بن ربيعة الباهلي، وذلك عندما كان حبيب بن مسلمة بن خالد الفهري يغزو أرمينيا من الغرب، فاجتمع له عدد كبير من جند الروم الأمر الذي أخافه وطلب المدد فأنجده الوليد بن عقبة بسلمان بن ربيعة الباهلي.

وسار أمير خراسان عمير بن عثمان بن سعد غازياً حتى وصل إلى فرغانة وذلك عام 29هـ، كما سار في العام نفسه أمير سجستان عبد الله بن عمير الليثي فوصل إلى كابل، وانطلق أمير كرمان عبيدالله بن معمر التميمي فوصل إلى نهر السند. وانتفض أهل اصطخر فسار إليهم عبدالله عامر بن كريز أمير البصرة، وعلى مقدمته عثمان بن أبي العاص.

وسار أمير الكوفة سعيد بن العاص يريد خراسان ومعه الحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزبير، إلا أن أمير البصرة عبدالله بن عامر قد سبقه نحو خراسان الأمر الذي جعل سعيداً يسير إلى قومس وهي لا تزال على الصلح الذي أعطته لحذيفة بن اليمان بعد معركة نهاوند، ومن قومس سار إلى جرجان فصالحه أهلها على مائتي ألف، وسار نحو الشمال حتى وصل إلى الصحراء، ولكن أهل جرجان لم يلبثوا أن كفروا واستمروا في قطع الطريق حتى تولى أمر خراسان قتيبة بن مسلم الباهلي.

وسار عبدالله بن عامر إلى فارس بعد أن انتفضت، فافتتحها وهرب يزدجرد إلى كرمان، فأرسل في أثره مجاشع بن مسعود السلمي ففر يزدجرد إلى خراسان، وطلب المال من مور فمنعه، ثم التجأ إلى رجل على شاطئ نهر مورغاب يعمل في نقر أحجار الرحى فقتله.

ووصل عبد الله بن عامر إلى خراسان، وكانت قد انتفضت، وكان الأحنف بن قيس على مقدمته، ففتح طوس، وأبيورد، ونسا، وبلغ سرخس، وصالح أهل مرو، وأعاد فتح خراسان.

وفي عام 32 هـ كتب عثمان إلى أمير الكوفة سعيد بن العاص أن أرسل سلمان بن ربيعة الباهلي للغزو في منطقة الباب، فسار سلمان إليها، وكان عبدالرحمن بن ربيعة الباهلي يخوض معركة ضد خصومه، فاستشهد فيها وتفرق المسلمون هناك، فمنهم من سار إلى جيلان وجرجان ومنهم أبو هريرة وسلمان الفارسي، ومنهم من سار نحو سلمان بن ربيعة الباهلي فحماه، وكان على الحرب مع سلمان حذيفة بن اليمان، وطلب عثمان من أهل الشام في أرمينيا بإمرة حبيب ابن مسلمة أن ينجدوا سلمان بن ربيعة الباهلي في منطقة الباب ففعلوا.

وعادت خراسان فانتفضت من جديد فبعث عبدالله بن عامر الأحنف بن قيس إلى مرو الروذ فصالح أهلها، واجتمع عليه أهل (الطالقان) و (فارياب) و (الجوزجان) و (طخارستان) فانتصر عليهم بإذن الله، وصالح أهل (بلخ)، وأرسل الأقرع بن حابس إلى (الجوزجان) ففتحها. ثم عاد الأحنف إلى خراسان مرة ثالثة في عام 33 هـ . وهكذا فقد كانت الفتوحات أيام سيدنا عثمان بن عفان واسعة إذ أضافت بلاداً جديدة في أفريقية وأرمينيا وأجبرت من نقض العهد إلى الصلح من جديد في فارس وخراسان وباب الأبواب وضمت إلى ذلك فتوحات جديدة من بلاد السند وكابل وفرغانة .

yacine414
2011-03-17, 16:53
المجتَمَع الإسْلاَميّ أيَّام عُثمان

كان المجتمع الإِسلامي أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاضلاً متماسكاً، ولم يختلف يوم تولى الأمر عثمان بن عفان رضي الله عنه، إن لم نقل أن الرضا كان من عثمان أكثر من عمر للينه، وقد ملّ المجتمع الحزم، ولرفقه وقد تعب الناس من الشدة وإن حاول الكثير إظهار الخلاف الكبير بين العهدين، والرضا بعهد عمر، وإنقاص حق عهد عثمان. ولم يكن للشورى التي أوصلت عثمان إلى الخلافة أي أثر في المجتمع، إذ تمت بشكل طبيعي ودون أن يحاول أحد رجالها أن يسعى للحكم، فعبد الرحمن بن عوف - كما نعلم - سلخ نفسه منها، والزبير رشح غيره، وكذا سعد، ولم يبق إلا علي وهو رجل زاهد فيها من البداية إلى النهاية، وبايع عثمان كما بايع غيره، ولم يختلف أحد من المسلمين.

إلا أن المشكلة التي كثر البحث فيها هي قتل الهرمزان وجفينة وابنة أبي لؤلؤة على يد عبيد الله بن عمر، فالحادثة التي قتل فيها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب جريمة سياسية اشتركت فيها أطراف متعددة من مجوس ويهود ونصارى ... وبعضهم كان يظهر الإِسلام، وبعضهم من بلاد ثانية كان لهم دور في التخطيط للقتل ... والمشتركون فيها لا بدّ من قتلهم قصاصاً ووضعاً للحد من جرائم القتل وعبث أعداء الإِسلام بأهله، إلا أن القتل لا بدّ من أن يكون برأي الخليفة حتى لا يكون تعدٍ على صلاحيات صاحب الأمر، وحتى لا يفلت زمام الأمر، ويقوم بتنفيذ الأحكام كل امرئٍ حسب رأيه وهواه باسم إقامة الحدود ... ولما قام بالأمر عبيد الله بن عمر فلا بدّ من حسابه، ولكن الخليفة أيضاً هو الذي يحاسبه وينظر في أمره وليس سوى ذلك، لذا فقد حُبس عبيدالله بانتظار رأي الخليفة الجديد، فلما تولى عثمان كانت هذه أول مشكلة واجهته، ولا بدّ من إقامة الحد وهو القتل، وهذا ما أشار به علي بن أبي طالب وعدد من الصحابة، وقد صعب على عدد آخر أن يقتل عمر بن الخطاب بالأمس بأيدٍ قذرةٍ واليوم يقتل ابنه، إلا أن المسلم لا يقتل بغير المسلم، وشك الناس في إسلام الهرمزان لذا فقد عرضوا على عثمان أن يكون هو ولي أمر المقتولين بصفتهم غرباء، وأن يدفع الدية من بيت المال وتعود، إذ أن بعضهم لا أولياء لهم، وفكر بعضهم أن يقوم الخليفة بدفع الدية من ماله الخاص، وعلى كلٍ فإن الخليفة لا يمكن أن يقبل بهذا التحايل لتعطيل حدٍ من حدود الله، ولكنه دفع عبيد الله بن عمر إلى القماذبان بن الهرمزان ليقتله بابيه، إذ عدَّ الهرمزان مسلماً، فيقول القماذبان : كانت العجم بالمدينة يستروح بعضها إلى بعض، فمرّ فيروز بأبي، ومعه خنجر له رأسان، فتناوله منه، وقال : ما تصنع بهذا في هذه البلاد ؟ فقال : آنس به، فرآه رجل، فلما أصيب عمر، قال : رأيت هذا مع الهرمزان، دفعه إلى فيروز. فأقبل عبيدالله فقتله، ولما ولي عثمان دعاني فأمكنني منه، ثم قال: يا بني، هذا قاتل أبيك، وأنت أولى به منه، فاذهب فاقتله، فخرجت به وما في الأرض أحد إلا معي، إلا أنهم يطلبون إلي فيه. فقلت لهم : ألي قتله ؟ قالوا : نعم - وسبُّوا عبيد الله - فقلت : أفلكم أن تمنعوه ؟ قالوا : لا، وسبّوه فتركته لله ولهم. فاحتملوني، فوالله ما بلغت المنزل إلا على رؤوس الرجال وأكفهم. وبهذا فقد عفا صاحب الحق، وعندها قام عثمان بدفع الدية من ماله الخاص، أما الذين لا أولياء لهم فالخليفة هو وليهم، وقد دفع الدية لهم ثم ردت إلى بيت المال. وهكذا حلت هذه المشكلة بطريقة سليمة، وانقطع الحديث فيها، وعاد للمجتمع تماسكه ورجع فاضلاً كما كان، إلا أنه مع الزمن بدأ يفقد مقوماته تدريجياً، وهذا الأمر يعود لأسباب منها ما تتعلق بالخليفة بالذات، ومنها ما يتعلق بتغير الظروف، ومنها ما يتعلق بالسياسة التي سار عليها.

كان عمر بن الخطاب حازماً شديداً على أمرائه وهذا ما أخاف الناس وجعل له هيبة بينهم بحيث لا يجرؤ أحد على مخالفته، فقد روى ابن الجوزي : أن عمر قدم مكة، فأقبل أهلها يسعون، فقالوا : يا أمير المؤمنين، إن أبا سفيان ابتنى داراً فحبس مسيل الماء ليهدم منازلنا، فأقبل عمر ومعه الدرة فإذا أبو سفيان قد نصب أحجاراً، فقال عمر : ارفع هذا، فرفعه ثم قال : وهذا، وهذا، حتى رفع أحجاراً كثيرة خمسة أو ستة، ثم استقبل عمر الكعبة فقال : الحمد لله الذي يجعل عمر يأمر أبا سفيان ببطن مكة فيطيعه.

وروى الطبري : أن عمر رضي الله عنه جاءه مال، فجلس يقسمه بين الناس فازدحموا عليه، فأقبل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يزاحم الناس حتى خلص إليه، فعلاه عمر بالدرة، وقال : أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض، فأحببت أن أعلمك أن سلطان الله لا يهابك.

أما عثمان فقد كان ليناً للناس الأمر الذي أطمعهم فيه، وطالبوه بأشياء كثيرة منها عزل الولاة، فقد عزل المغيرة بن شعبة عن الكوفة وولى سعد بن أبي وقاص، ثم عزله وولى الوليد بن عقبة، ثم عزله وولى سعيد بن العاص، ثم عزله وولى أبا موسى الأشعري. وعزل أبا موسى الأشعري عن البصرة وولى عليها عبدالله بن عامر بن كريز. وعزل عمرو بن العاص عن مصر وولى عبدالله بن سعد بن أبي سرح. كما كان ليناً على الولاة فتطاول بعضهم عليه. فعثمان رضي الله عنه كان بطبعه ليناً، وعمر بطبعه حازماً.

واشتد عمر على أهله، فكان إذا نهى عن شيء جمع أهله فقال لهم : إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم، فإن وقعتم وقعوا، وإن هبتم هابوا، إني والله لا أوتى برجل منكم وقع فيما نهيت الناس عنه إلا اضعفت له العذاب لمكانه مني، فمن شاء فليتقدم ومن شاء فليتأخر، أما سيدنا عثمان فقد كان ليناً على أهله وأقربائه كما كان ليناً للناس جميعاً، بل الأولى والأحرى أن يكون ذا رفق بذي رحمه، ويوم قامت الدولة الإِسلامية كانت ينفق ما شاء الله أن ينفق على الدولة وتجهيز الجيوش، وإعداد الغزو، فلما قامت الفتوحات، وجاءت الغنائم والفيء، وأصبحت الدولة بحالة غنى وثراء التفت عثمان إلى أقربائه يعطيهم ويتقرب إليهم ويقربهم، وهذا أمر محبب ومطلوب يصل الإنسان رحمه، فهذا اللين لهم قد أطعمهم فيه أيضاً، وولى بعضهم لقدرته على العمل، وكفاءتهم في الإمارة، وقد كان بعضهم صاحب ولاية من قبل عثمان، وقد عرف رضي الله عنه أنه يحب اقرباءه لدرجة كبيرة.

عندما تولى عمر رضي الله عنه الخلافة كانت ماديات الدولة لا تزال ضعيفة وأحوال الناس المالية لا تزال قليلة، لذا كانوا أقرب إلى الحياة البسيطة الهادئة، والرضا بكل ما يأتي، والصبر على الشدائد، وقبول أوامر الولاة والأمراء، إضافة إلى انشغالهم بالجهاد والسير إلى الثغور والانطلاق من وراء الفتوحات في سبيل الدعوة ونشر الإِسلام، فلما توسعت الدولة، وجاءتها الغنائم من كل جهة، وزعت الغنائم على المقاتلين، وأعطيت الأموال إلى الناس حتى كثرت بأيديهم، وبطبيعة الحال فإن سيدنا عثمان كان يعطي ويوزع ما في بيت المال لكثرة ما يدخل، ولحاله وكرمه المعروفين، بل كان أحياناً يعطي من ماله الخاص إن لم يكن في بيت المال من فائض، وهذا ما جعل الحال تتغير تدريجياً عن أيام عمر حتى أواخر عهد عثمان حتى زادت زاوية التغير انفراجاً ووصلت إلى درجة واسعةٍ نسبياً في نهاية أيام عثمان.

كان عمر بن الخطاب قد منع كبار الصحابة من الخروج من المدينة، وأبقاهم بجانبه ليكونوا مستشارين له، وحتى يبقوا أسمى من مغريات الدنيا التي تعترض سبيلهم في البلاد المفتوحة، وخوفاً على المسلمين الذين يدخلون في الإِسلام جديداً من أهل الأمصار من أن يفتنوا بهؤلاء الصحابة فيقولون : هؤلاء صحابة سيد الخلق، وصحابة رسول الله و... وقال لهم رضي الله عنه : كفاكم ما جاهدتم به مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء عثمان بن عفان سمح لهم بالانسياح في أرض الله، والانطلاق أينما شاؤوا، وقد زاد حالهم وكثرت أملاكهم، وبنوا الدور في الأمصار، فقد بنى الزبير بن العوام داراً له بالبصرة وغيرها في الكوفة ومصر، وبنى طلحة بن عبيد الله داراً له في الكوفة، وكانت ينتقلون بين أملاكهم وضياعهم، وهذا بالإضافة إلى ما بناه عبد الرحمن بن عوف في المدينة وزيد بن ثابت وغيرهم، وارتبط أهل الأمصار بمن كان يتصل بهم ويحتك معهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهكذا تغير المجتمع في عهد عثمان بن عفان، إلا أنه رضي الله عنه لم يغيّر ولم يبدل، ولم يحدث جديداً، ولم يبتعد عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن نهج الشيخين من قبله، وإنما لينه وحبه لأقربائه وكرمه في العطاء قد أطمع فيه فكثر القول، ووجود الموالي والأرقاء في المدينة والصحابة خارجها قد شجع أصحاب الأهواء البدء في العمل بالخفاء، وكثرة الأموال في أيدي الناس واكتفاؤهم قد جعل الألسنة تتكلم وبدأ الحديث عن الخليفة نقطة انطلاق والتهديم في المجتمع بدء ارتكاز.

yacine414
2011-03-17, 16:53
عبدالله بن سبأ ودوره في ظهور الفتنة :

بدأت الفتنة عندما أشعلها عبد الله بن سبأ (ابن السوداء)، وهو من يهود صنعاء، وكانت أمه سوداء، لذا عُرف بذلك، وقد أسلم أيام عثمان ليستطيع التأثير على نفوس أولئك الأعراب والبدو والذين دانوا حديثاً بالإِسلام من سكان الأمصار، إذ تنقل في بلدان المسلمين فبدأ بالحجاز، ثم سار إلى البصرة، ومنها إلى الكوفة، ثم إلى الشام، إلا أنه لم يستطع التأثير على أحد من أهل الشام، وبعدها أخرجوه إلى مصر حيث استقر هناك، وكان في كل مكان يحلّ فيه يتصل بالأشخاص ويتحدث إليهم ويبدي تفهمه للإِسلام، ويُظهر معرفته، ويقف موقف العالم، فيقول : عجيب من يزعم أن عيسى يرجع، ويكذب بأن محمداً يرجع، والله سبحانه وتعالى يقول : {إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد}. فمحمد أحق بالعودة والرجوع من عيسى. وهكذا بدأ التشكيك في العقيدة، والناس على فطرتهم حديثو العهد بالإِسلام في الأمصار لا يعرفون الفلسفات والمناقشات، والبدو الذين يعيشون معهم أكثر جلافة وإذا اقتنعوا بشيء صعب استخلاصه من نفوسهم. ورأى هذا اليهودي أن علي بن أبي طالب على رأس الصحابة الذين بقوا من حيث الاحترام والتقدير، بل يعد الشخص الثاني بعد الخليفة، وكان له عند الشيخين مركز ووزن يستشار في كل أمر، ويدعى في كل معضلة، ويؤخذ رأيه في كل مشكلة، هذا بالإضافة إلى قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمه وفهمه، لذا رأى هذا الخبيث أن يركز على هذا الصحابي الجليل، وأن يدعو له لا حباً به وتقديراً، وإنما لبذر الفتنة في المجتمع، وحتى لا يُعرف مخططه فيظهر أنه يدعو إلى الشك والربية، فدعوته لأحد البارزين من الصحابة تخفي ما يضمر، وتقرّبه من نفوس بعض الرجال الذين يعرفون قدر علي. فكان يقول : إن علياً هو وصي محمد صلى الله عليه وسلم، فإن لكل نبي وصياً. ثم انتقل بعد بذر الفتنة وإلقاء جذور البلاء في المجتمع يطعن بالخليفة نفسه وبولاته وامرائه وأنهم دون الصحابة الأجلاء، وأنهم لم يحتلوا هذه المراكز إلا لكونهم من ذوي رحم الخليفة الذي بلغ من العمر عتياً وأنهم قد أثروا عليه، وأصبح أداة طيعة في أيديهم.

ظهرت بذور الشر أول ما ظهرت في الكوفة إذ بدأ الحديث عن الوالي سعيد بن العاص حتى وصل إلى الخليفة، وذلك على ألسنة العوام وأولئك البداة والذي دانوا بالإِسلام، ومن هؤلاء مالك بن الحارث الأشتر النخعي وثابت ابن قيس النخعي، وكميل بن زياد النخعي، وزياد بن صوحان العبدي، وجندب بن زهير الغامدي، وجندب بن كعب الأزدي، وعروة بن الجعد، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وأمثالهم من أهل الصحراء والقبائل. وكان ذلك في أواخر عهد سيدنا عثمان، وبعد مرور عشر سنوات على تسلمه الخلافة، وفي عام 34 هـ، سُيّر هؤلاء المنحرفون من الكوفة إلى الشام، إلا أنهم ردّوا مرة ثانية إلى الكوفة، فقالوا : إن الكوفة والشام ليستا لنا بدار، فاتجهوا إلى الجزيرة، فشدد عليهم واليها عبدالرحمن بن خالد بن الوليد، وسيّر الأشتر إلى المدينة، فخيّره الخليفة في المكان الذي يرغب سكناه، فاختار منطقة عبد الرحمن بن خالد، وسار إليه. وكان ابن السوداء في مصر يراسل من أثّر عليهم في كل الأمصار، ويزيد في اضرام نار الفتنة.

yacine414
2011-03-17, 16:55
جمع أمراء الأمصار في موسم الحج :

جمع الخليفة عثمان بن عفان أمراء الأمصار في موسم الحج عام 34 هـ وهم : معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح، وسعيد بن العاص، وعبدالله بن عامر، واستشارهم في أمر هؤلاء المنحرفين، وما يتكلمون به، فأشير عليه بأن ينقل هؤلاء المنحرفين إلى الثغور فينشغلوا بأنفسهم كما اقترح عليه إعطائهم الأعطيات حتى يرضخوا للأمر ويُطيعوا. ولكنه لم ير هذا الرأي ولا ذاك. ولما كثر الكلام عن سعيد ابن العاص أمير الكوفة، والمطالبة بأبي موسى الأشعري بدلاً عنه، استجاب الخليفة للطلب فعزل سعيداً وولىّ أبا موسى مكانه، وكتب لأهل الكوفة "أما بعد، فقد أمرت عليكم من اخترتم، وأعفيكم من سعيد، والله لأفرشنكم عرضي، ولأبذلن لكم صبري، ولأستصلحنكم بجهدي، فلا تدعوا شيئاً أحببتموه لا يُعصى الله فيه إلا سألتموه، ولا شيئاً لا يُعصى الله فيه إلا استعفيت منه، أنزل فيه عندما أحببتم حتى لا يكون لكم علي حجة". وفي الوقت نفسه سار حذيفة بن اليمان غازياً إلى باب الأبواب.

لم تفد المخربين أعمال الخليفة ولينه لهم بل استمروا في تصرفاتهم وكلامهم، فأرسل الخليفة بعض الصحابة إلى الأمصار يستطلعون آراء الناس، ويعرفون أخبار المسلمين وموقفهم، فقد بعث محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة بن زيد إلى البصرة، وعبد الله بن عمر إلى الشام، وعمّار بن ياسر إلى مصر، ورجالا آخرين سواهم، فرجع الجميع ولم ينكروا شيئاً، إلا عمّار بن ياسر فقد تأخر واستمع إلى ما كان يشاع.

وجاء وفد من مصر في رجب عام 35 هـ إلى الحجاز يظهرون أنهم يريدون العمرة، وفي نيتهم مناظرة الخليفة ومناقشته في المدينة لبلبة الآراء وإشعال نار الفتنة، وتمت مقابلة الخليفة، وأبدى رأيه، واقنع الوفد خارج المدينة بنفسه أو بواسطة بعض الصحابة منهم علي بن أبي طالب ومحمد بن مسلمة، ودخل بعضهم المدينة، وحضر خطبة للخليفة أثنى فيها على الوفد، واستغفر الله، وبكى وأبكى الناس، وانصرف المصريون راجعين إلى بلادهم.

إلا أن أهل مصر عندما رجعوا بدؤوا يحرّضون الأمصار على التوجه إلى المدينة وإظهار الشكوى والتأفف من العمال والأوضاع العامة لأن المدينة أحرى بالفوضى أن تؤثر فيها، إذ أنها مقر الدولة ومركز الخليفة ومكان الصحابة ومدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اتفقوا على أن يسيروا إلى المدينة في شهر شوال في ذلك العام، وأن يكون مسيرهم مع الحجاج لمغافلة الصحابة، وإمكانية نشر الفساد على نطاق أوسع. وانطلق أهل مصر وعددهم 600-1000 رجل، وفي الوقت نفسه انطلق أهل الكوفة وأهل البصرة، وقد خرجت كل جماعة على شكل فرق أربع، وعلى كل فرقة أمير، وعلى الجميع أمير، فالأمر يبدو على تخطيط وتنظيم واحد دقيق، وكان على أهل مصر الغافقي بن حرب العكي، ومعهم ابن السوداء، وهم يريدون البيعة لعلي بن أبي طالب، وعلى أهل الكوفة عمرو بن الأصم، ومعهم زيد بن صوحان العبدي، وعلى أهل البصرة حرقوص ابن زهير السعدي، ومعهم حكيم بن جبلة العبدي. وبمسيرهم مع الحجاج لم يعلم الأمراء عدد الناقمين، ولم يكونوا ليتصوروا أن هذه الشرذمة قادرة أو تفكر بقتل الخليفة أو تجرؤ على القيام بهذا العمل في دار الهجرة، لذا لم يبذلوا جهداً بإرسال قوة تحول دون خروجهم، أو تسير إلى المدينة لتمنع أمير المؤمنين، ووصل المنحرفون إلى مقربة من المدينة، فنزل المصريون بذي المروة، ونزل أهل الكوفة بالأعوص، واستقر أهل البصرة بذي الخشب.

وسمع أهل المدينة بما يحدث، وأبوا أن تقتحم عليهم المدينة، وتكلموا في الأمر، وحدّث الخليفة عليا في أن يركب ويركب معه المسلمون ليمنعوا المنحرفين من دخول المدينة عنوة ففعل وخرج معه طلحة والزبير ومحمد بن مسلمة وكبار الصحابة، ولما رأى المنحرفون استعداد الصحابة للدفاع عن دار الهجرة وقع الخوف في نفوسهم، فعندما كلمهم علي أظهروا الطاعة والخضوع، وأبدوا الرغبة في العودة إلى أمصارهم والهدوء فيها، وبالفعل فقد رجعوا أدراجهم، وظنَّ علي والمسلمون أن الخطر قد زال عن دار الهجرة فعادوا إليها، ولم يستقروا فيها حتى أروعهم التكبير داخل أزقتها، ومحاصرة دار سيدنا عثمان، وعندما سألهم سيدنا علي عن سبب رجوعهم قالوا : إن الخليفة قد أرسل كتاباً لقتلنا، وأظهر أهل مصر كتابا فيه قتل محمد بن أبي بكر، قال علي : فما بال أهل الكوفة قد عادوا ؟ فقالوا : تضامنا مع رفاقنا، وكذا أهل البصرة، لكن من الذي أخبر كل فريق بما حدث مع الآخر ؟ وهنا يبدو الاتفاق المسبق والتخطيط لدخول المدينة على حين غفلة من أهلها، وهنا يظهر تلفيق الكتاب الذي أظهره المصريون.

كان حصار دار عثمان يسيراً حيث كان يخرج الخليفة ويصلي بالناس، ويأتي الصحابة إليه، ويأتي إليهم. ثم بعث إلى العمال في الأمصار يأمرهم أن يرسلوا إليه الجند لينصروه، ويخرجوا من المدينة هؤلاء الطارئين، وعندما عرف المنحرفون هذا الخبر، وأن حبيب بن مسلمة قد سار من الشام، ومعاوية ابن حديج من مصر، والقعقاع بن عمرو من الكوفة، ومجاشع السلمي من البصرة، وكل على رأس قوة لنصرة الخليفة تغيّر حصار الدار واشتد عمل المنحرفين.

وخرج عثمان كعادته إلى الصلاة، يوم الجمعة، وخطب، وخاطب المخربين، فقام محمد بن مسلمة فشهد على قوله فاسكته حكيم بن جبلة وتكلم زيد بن ثابت فأسكته محمد بن أبي قتيرة، وثار الناس، وحصب بعضهم بعضاً، وأصيب عثمان، وأغمي عليه، ونقل إلى داره، وثار الصحابة وأبناؤهم ومنهم الحسن بن علي، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وزيد بن ثابت وغيرهم، وأرادوا قتال المنحرفين إلا أن الخليفة قد منعهم، وأراد ألا يحدث شيء بسببه، وزار بعد ذلك عثمان كلا من علي وطلحة والزبير، ثم عاد فدخل بيته، وشُدّد عليه الحصار فلم يعد يخرج أبداً حتى كان يوم استشهاده رضي الله عنه.

وأقام المنحرفون رجلا منهم يصلي بالناس وهو زعيم المصريين الغافقي بن حرب العكي، وإذا وجد علي أو طلحة صلى بالناس أحدهما. ومنع الماء عن الخليفة، فأرسل إلى علي وطلحة والزبير وعائشة وأمهات المؤمنين فأسعفه علي وأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان. وزجر علي الثائرين فلم يرعووا، وكان بين الحين والآخر يطل الخليفة بنفسه على أولئك المنحرفين المحاصرين له فيعظهم، ولكن لا يأبهون لأحد حتى أن أم حبيبة لم تستطع الوصول إليه لإسعافه بالماء، إذ ضربوا وجه بغلتها وكادت تسقط عنها، وهذا ما ألزم الناس بيوتهم لا يخرج منهم أحد إلا ومعه سيفه، إذ اختل نظام الأمن في دار الهجرة، ودخل دار عثمان بعض أبناء الصحابة فيهم : عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر وعبدالله بن الزبير والحسن والحسين أبناء علي، ومحمد بن طلحة وغيرهم، وطلب منهم عثمان ألا يقاتلوا، وعزم عليهم في ذلك أشد العزيمة.

سارت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى الحج، وطلب عثمان من ابن عباس أن يحج بالناس هذا العام، وكان على الباب مع أبناء الصحابة، فأراد أن يبقى مجاهداً إلا أن عثمان أصرّ عليه فخرج إلى الحج.

وصلت الأخبار إلى المدينة بأن الامداد قد دنت من المدينة، وأن من جاء منها من الشام قد وصل إلى وادي القرى فخاف المنحرفون، وأرادوا دخول الدار على عثمان فمنعهم من فيها : الحسن بن علي، وعبدالله بن الزبير، ومحمد بن طلحة، ومروان بن الحكم، وسعيد بن العاص وغيرهم، فتسوروا الدار من خوخة بينها وبين دار عمر بن حزم، ثم أحرقوا باب الدار، وسيدنا عثمان يقسم على أبناء الصحابة أن يلقوا سيوفهم حتى ألقاها بعضهم، وهجم المنحرفون على الخليفة فضربه الغافقي بن حرب العكي بحديدة، ثم ضرب قتيرة بن حمران زوج الخليفة نائلة التي رفعت يدها تدافع عن زوجها فقطع أصابعها ثم ضرب الخليفة أخوه سودان بن حمران السكوني، وكذلك كنانة بن بشر بن عتاب التجيبي فقتل رضي الله عنه، وقيل بل قتله عمرو بن الحمق، وقتل غلام لعثمان سودان بن حمران فقتل قتيرة الغلام، ثم قتل غلام آخر لعثمان قتيرة، ونُهبت الدار، كما نُهب بيت المال، وكان أمر الله قدراً مقدوراً. وكان قتل الخليفة الراشدي الثالث سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه في 18 ذي الحجة من عام 35 من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبذا تكونه مدة خلافته اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوماً، وكان عمره إذ ذاك اثنتين وثمانين سنة.

وعاد الحجاج فوجدوا خليفتهم مقتولا رضي الله عنه، والأمن غير مستتب.

وسيدنا عثمان هو الذي اشترى بئر أرومة وجعلها للمسلمين، وجمع القرآن الكريم، وأول من وسع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، استجابةً لرغبة رسول الله حين ضاق المسجد بأهله، وله من الفضائل الكثير رضي الله عنه.

yacine414
2011-03-17, 16:55
مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه



رواية أبي سعيد مولى أبي أسيد الساعدي التي نقلها الطبري في "تاريخه" 3/390-414

الجزء الأول: سيدنا عثمان يجتمع بالوفد القادم من مصر محتجاً عليه:

"سمع عثمان أن وفد أهل مصر قد أقبلوا عليه، فاستقبلهم وكان في قرية له خارجة عن المدينة، فلما سمعوا به أقبلوا نحوه إلى المكان الذي هو فيه، وكره أن يقدموا عليه المدينة، فآتوه فقالوا له: أدع بالمصحف: فدعا بالمصحف، فقالوا له: افتح السابعة، وكانوا يسمون سورة يونس السابعة، فقرأنها حتى أتى هذه الآية: {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل الله أذن لكم أم على الله تفترون}[يونس: 59]. فقالوا له قف: أرأيت ما حميت من الحمى؟ آلله أذن لك به أم على الله تفتري؟ فقال: أمضه نزلت في كذا وكذا، فأما الحمى فإن عمر حمى الحمى قبلي لإبل الصدقة، فلما وُلِّيتُ زادت في إبل الصدقة فزدت في الحمى لما زاد في إبل الصدقة. أمضه. فجعلوا يأخذونه بالآية فيقول: أمضه نزلت في كذا وكذا. والذي يتولى كلام عثمان… ابن ثلاثين سنة. ثم أخذوه بأشياء لم يكن عنده منها مخرج فعرفها فقال: استغفر الله وأتوب إليه، وقال لهم: ما تريدون؟ فقالوا: نأخذ ميثاقك وكتبوا عليه شرطاً، وأخذ عليهم ألا يشقوا عصا، ولا يفارقوا جماعة ما قام لهم بشرطهم أو كما أخذوا عليه. وقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: نريد ألا يأخذ أهل المدينة عطاء. قال لا! إنما هذا المال لمن قاتل عليه ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرضوا بذلك وأقبلوا معه إلى المدينة راضين. فقام فخطب فقال: إني والله ما رأيت وفداً في الأرض هم خير لحوباتي من هذا الوفد الذين قدوا علي. وقال مرة أخرى: خشية من هذا الوفد من أهل مصر، ألا من له زرع فليلحق بزرعه، ومن كان له ضرع فليحتلبه. ألا إنه لا مال لكم عندنا، إنما هذا المال لمن قاتل عليه ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب الناس، فقالوا: هذا مكر بني أمية".





هذا ما يستخلص من الجزء الأول من رواية أبي سعيد:

1- تحكيم كتاب الله بين سيدنا عثمان الوفد القادم من مصر، وهذا يظهر من نص آخر عن محمد بن سيرين، حيث يقول: "فعرض عليهم كتاب الله فقبلوه" وَبقِيَّت الشروط تظهر في رواية محمد بن سيرين حيث يقول: "واشترطوا جميعاً أن المنفي يُقلب، والمحروم يعطى، ويوفر الفي ويعدل في القسم، ويستعمل ذو القوة والأمانة".

2- لم يستطيع سيدنا عثمان أن يبرر كل أعماله لوفد مصر.

3- القضية الهامة والأساسية هي توزيع مال الفتوح.

الجزء الثاني: عثور الوفد على كتاب مهور بخاتم سيدنا عثمان يأمر بقتل بعض أفراد الوفد:

"ثم رجع الوفد المصريون راضين، فبينا هم في الطريق إذا هم براكب يتعرض لهم، ثم يفارقهم، ثم يرجع إليهم، ثم يفارقهم ويسبقهم. قالوا له:ما لك؟ إن لك لأمراً، ما شأنك؟ فقال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر. ففتشوه، فإذا هم بكتاب على لسان عثمان، عليه خاتمه، إلى عامله بمصر: أن يصلبهم أو يقتلهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. فأقبلوا حتى قدموا المدينة، فأتوا علياً، فقالوا: ألم تر إلى عدو الله؟ إنه كتب فينا بكذا وكذا وأن الله قد أحل دمه، قم معنا إليه. قال علي: والله لا أقوم معكم، فقالوا: فَلِمَ كتبت إلينا؟ فقال: وما كتبت إليكم كتاباً قط. فنظر بعضهم إلى بعض ثم قال بعضهم لبعض: ألهذا تقاتلون، أو لهذا تغضبون؟ فانطلق علي فخرج من المدينة إلى قرية، فانطلقوا حتى دخلوا على عثمان، فقالوا: كتبت فينا بكذا وكذا، فقال: إنما هما اثنتان: أن تقيموا عليّ رجلين من المسلمين، أو يميني بالله الذي لا إله إلا هو: ما كتبت ولا أمللت ولا علمت. وقد تعلموا أن الكتاب يكتب على لسان الرجل، وقد ينقش الخاتم على الخاتم، فقالوا فقد والله أحل الله دمك، ونقضت العهد والميثاق. فحاصروه".

وهذا ما يُستخلص الجزء الثاني من رواية أبي سعيد، فهو غاية الأهمية حيث إنه كشف حقائق مطموسة.

1- الرسول المرسل من قِبل عثمان -كما زعموا- أمره عجيب حين إنه تعَّرض للوفد ثم فارقهم ثم رجع إليهم، وكأنه يريد أن يقول لهم شيئاً أو يريد أن يلفت نظرهم إليه ليسألوه عما به، فهو ليس برسول عادي أرسل بمهمة سرية -كما هو شأن المرسلين- ويريد أن يبلغ هدفه دون لفت أنظار الناس إليه، بل هو يقصد أن يثير الشبهة، وكأنه يقول لهم: أسألوني ما بي وما معي؟ وهذا ما حصل فعلاً أن أوقف وسئل عما معه.

2- الكتب التي تلقاها الوفد من سيدنا على بن أبي طالب تحثهم على المجيء للمدينة المنورة ومعاداة عثمان، فسيدنا علي ينكر بعثه لهذه الكتب ويقول: "والله ما كتبت إليكم كتاباً قط". فهذا الأمر يظهر أن هناك مزورين كتبوا هذه الكتب، ولا يستبعد أنهم هم الذين أرسلوا الكتاب المزعوم بقتل بعض وفد المصريين.

3- نفي سيدنا عثمان الكتاب المزعوم، مما يدل أن الخاتم الذي مهر به الكتاب خاتم مزور يشبه خاتم سيدنا عثمان.

يظهر لنا من هذه الحقائق الثلاث أن وراء هذه الأحداث مؤامرة تحاك، ويختبىء ورائها رجال مزورون يريدون وقوع الفتنة.

الجزء الثالث: مناقشة سيدنا عثمان للوفد، ومنعهم الماء عنه:

"وأشرف عثمان ذات يوم فقال: السلام عليكم، فما سمع أحداً من الناس رد عليه إلا أن يرد رجل في نفسه، فقال: أنشدكم بالله هل علمتم أني اشتريت بئر رومه من مالي يستعذب بها، فجعلت رشائي منها كرشاء رجل من المسلمين؟ قيل: نعم. قال: فَعَلامَ تمنعونني أن أشرب منها حتى أفطر على ماء البحر؟ وقال: أنشدكم الله هل علمتم أني اشتريت كذا وكذا من الأرض فزدته في المسجد؟ قيل: نعم. فقال: فهل علمتم أن أحداً من الناس منع أن يصلي فيه قبلي؟ وقال: أنشدكم الله هل سمعتم نبي الله صلى الله عليه وسلم يذكر كذا وكذا -أشياء في شأنه- وذكر الله إياه أيضاً في كتابه المفصّل، ففشا النهي فجعل الناس يقولون: مهلاً عن أمير المؤمنين. وفشا النهي وقام الأشتر يومئذ أو في يوم آخر فقال: لعله قد مُكر به وبكم. فوطئه الناس حتى لقي كذا كذا.

ثم يقول أبو سعيد مولى أبي أسيد الذي يقص هذه القصة: فرأيته أشرف عليهم مرة أخرى فوعظهم وذكّرهم، فلم تأخذ فيهم الموعظة، وكان الناس تأخذ فيهم الموعظة في أول ما يسمعونها فإذا أعيدت عليهم لم تأخذ فيهم".

هذا الجزء الثالث من رواية أبي سعيد:

وفيه إشارة إلى المؤامرة التي دبرت لسيدنا عثمان.



الجزء الرابع سيدنا عثمان يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وانتظاره الموت

"ثم إنه فتح الباب ووضع المصحف بين يديه، وذاك أنه رأى من الليل أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أفطر عندنا الليلة".



يُستخلص من الجزء الرابع من رواية أبي سعيد التالي:

رؤية سيدنا عثمان للنبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقوله له: "أفطر عندنا الليلة" واعتقاد سيدنا عثمان بالمنام الذي رآه، وتسليمه له. وهذا يوضح أمر سيدنا عثمان الصحابة والمدافعين بالذهاب إلى بيوتهم.

الجزء الخامس: مقتل سيدنا عثمان وبيان من قتله:

ودخل على عثمان رجل، فقال: بيني وبينك كتاب الله، فخرج وتركه. ثم دخل عليه آخر فقال: بيني وبينك كتاب الله، والمصحف بين يديه، فأهوى إليه بالسيف، فاتقاه بيده فقطعها -لا أدري أبانها أم قطعها ولم يَبِنْها- فقال: أما ولله إنها لأول كف خطت المفصَّل وأخذَت ابنة الفرافصة حليلها فوضعته في حجرها، وذلك قبل أن يقتل فلما اُشعر أو قتل تجافت عنه، فقال بعضهم: قاتلها ما أعظم عجيزتها، فعلمت أن أعداء الله لم يريدوا إلا الدنيا".

رواية سهم الأزدي التي رواها ابن عساكر في تاريخ دمشق:

قال ثور بن يزيد الرحبي: " أخبرني سهم أنه كان مع عثمان بن عفان يوم حُصر في الدار، فزعم أن ركب الشقاء من أهل مصر أتوه قبل ذلك فأجازهم، وأرضاهم، فانصرفوا.

"حتى إذا كانوا ببعض الطريق انصرفوا وخرج عثمان بن عفان فصلى إمّا صلاة الغداة وإمّا صلاة الظهر، فحصبه أهل المسجد، وقذفوه بالحصا والنعال والخفاف.

"فانصرف إلى الدار ومعه طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، ومروان بن الحكم، وأبو هريرة، والمغيرة بن الأخنس، في أناس لا أحفظ من ذكر منهم إلا هؤلاء النفر، فأشرفوا على ظهر البيت، فإذا هم بركب أهل الشقاء قد دخلوا المدينة، وأقبل ناس حتى قعدوا على باب الدار، عليهم السلاح. فقال عثمان لغلام له يقال له وثاب: خذ مكتلاً من تمر.. فانطلق بها إلى هؤلاء القوم، فإن أكلوا من طعامنا فلا بأس بهم، وإن شفقت منهم فدعهم وارجع، فانطلق بالمكتل، فلما رأوه رشقوه بالنبل، فانصرف الغلام وفي منكبه سهم، فخرج عثمان ومن معه إليهم ، فأدبروا وأدركوا رجلاً يمشي القهقرى فقلت له: ما القهقرى؟ قال: ينكص على عقبيه كراهية أن يُولى، فأخذناه أخذاً فأتيناه به عثمان بن عفان فقال: يا أمير المؤمنين إنَّا والله ما نريد قتلك، ولكن نريد معاتبتك، فأعتب قومك وأرضهم، قال: يا أبا هريرة فلعلهم يردون ذلك؛ فخلوا، قال: فخلينا سبيله.

"وخرجت عائشة أم المؤمنين فقالت الله الله يا عثمان في دماء المؤمنين؛ فانصرف إلى الدار.

فلما أصبح صلى بنا الغداة، فقال: أشيروا عليّ، فلم يتكلم أحد من القوم غير عبد الله بن الزبير فقال: يا أمير المؤمنين أشير عليك بثلاث خصال فاركب أيهن أحببت: إما أن نهل بعمرة فتحرم عليهم دماؤنا. ويكون إلى ذلك قد أتانا مددنا من الشام -وقد كان عثمان كتب إلى أهل الشام عامة وإلى أهل دمشق خاصة: إني في قوم قد طال فيهم عمري واستعجلوا القدر، وقد خيروني بين أن يحملوني على شوارف إلى جبل الدخان، وبين أن أنزع لهم رداء الله الذي كساني، وبين أن أُقيدهم، ومن كان على سلطان يخطىء ويصيب، وأن يا غوثاه، ولا أمير عليك دوني- وإما أن نهرب على نجائب سراع لا يدركنا أحد حتى نلحق بمأمننا من الشام، وإما أن نخرج بأسيفنا ومن شايعنا، فنقاتل فإنا على الحق وهم على الباطل.

قال عثمان: أما قولك أن نهل بعمرة فتحرم عليهم دماؤنا؛ فوالله لم يكونوا يرونها اليوم عليهم حراماً لا يحرِّمونها إن أهللنا بعمرة. وأما قولك أن نخرج نهرب إلى الشام؛ فوالله إني لأستحي أن آتي الشام هارباً من قومي وأهل بلدي. وأما قولك نخرج بأسيافنا ومن تابعنا، فنقاتل فإنا على الحقوهم على الباطل؛ فوالله إني لأرجو أن ألقى الله ولم أهرق محجمة من دم المؤمنين.

فمكثنا أياماً صلينا الغداة، فلما فرغ أقبل علينا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن أبا بكر وعمر أتياني الليلة، فقالا لي: صم يا عثمان، فإنك مفطر عندنا، فإني أشهدكم أني قد أصبحت صائماً وأعزم على من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر إلا خرج من الدار سالماً مسلماً.

فقلنا: يا أمير المؤمنين إن خرجنا لم نأمنهم على أنفسنا، فائذن لنا فلنكن في بيت من الدار يكون فيه حماية ومنعة؛ فأذن لهم فدخلوا بيتاً، وأمر بباب الدار ففتح، ودعا بالمصحف فأكب عليه، وعنده امرأتاه ابنة الفرافصة الكلبية وابنة شيبة.

"فكان أول من دخل عليه محمد بن أبي بكر الصديق، فمشى إليه حتى أخذ بلحيته فقال: دعها يا ابن أخي فوالله إن كان أبوك ليلهف لها بأدنى من هذا، فاستحى فخرج وهو يقول: أشعرته وأخذ عثمان ما امتعط من لحيته فأعطاه إحدى امرأتيه، ثم دخل رومان بن وردان -عداده في مراد- رجل قصير أرزق مجدور هو في آل ذي أصبح، معه جرْز من حديد فاستقبله فقال: على أي ملة أنت يا نعثل؟ فقال عثمان: لست نعثل ولكني عثمان بن عفان، وأنا على ملة إبراهيم حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، فقال: كذبت، فضربه بالجرْز على صدغه الأيسر، فقتله. وأدخلته بنت الفرافصة بينها وبين ثيابها".

رواية الأحنف بن قيس التي رواها الطبري في "تاريخه" 3/510-512:

قال الأحنف: "قدمنا المدينة ونحن نريد الحج، فإنا لبمنازلنا نضع رحالنا إذا أتانا آت فقال: قد فزعوا وقد اجتمعوا في المسجد، فانطلقنا، فإذا الناس مجتمعون في نفر في وسط المسجد، وإذا علي والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص، وإنَّا كذلك إذ جاء عثمان بن عفان فقيل: هذا عثمان قد جاء وعليه مليئة له صفراء قد قنّع بها رأسه، فقال: أههنا علي؟ قالوا: نعم، قال: أههنا الزبير؟ قالوا: نعم، قال: أههنا طلحة؟ قالوا: نعم، قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من يبتع مربد بني فلان غفر الله له،

فابتعته بعشرين أو بخمسة وعشرين ألفاً، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله قد ابتعته. قال: اجعله في مسجدنا، وأجره لك، قالوا: اللهم نعم.

وذكر أشياء من هذا النوع.

قال الأحنف: فلقيت طلحة والزبير، فقلت: من تأمراني به وترضيانه لي؟ فإني لا أرى هذا الرجل إلا مقتولا. قالا: علي، قلت: أتأمراني به وترضيانه لي؟ قالا: نعم. فانطلقت حتى قدمت مكة، فبينا نحن بها إذ أتانا قتل عثمان، وبها عائشة أم المؤمنين فلقيتها، فقلت: من تأمرينني أن أتابع قالت: علي، قلت: تأمرينني به وترضينه لي؟ قالت: نعم، فمررت على علي بالمدينة فبايعته ،ثم رجعت إلى البصرة، ولا أرى الأمر إلا قد استقام، فبينا أنا كذلك إذ أتاني آت فقال: هذه عائشة وطلحة والزبير، قد نزلوا جانب الخريبة فقلت: ما جاء بهم؟ قالوا: أرسلوا إليك يدعونك يستنصرون بك على دم عثمان، فأتاني أفظع أمر أتاني قط، فقلت: إن خذلاني هؤلاء، ومعهم أم المؤمنين وحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم لشديد، وإن قتالي رجلاً ابن عم رسول الله صلى الله علي وسلم قد أمروني ببيعته لشديد، فلما أتيتهم، قالوا: جئنا لنستنصر على دم عثمان رضي الله عنه قتل مظلوماً، فقلت: يا أم المؤمنين أنشدك بالله أقلت لك: من تأمرينني به، فقلت: علي، فقلتُ: أتأمرينني به وترضينه لي؟ قلت: نعم؟ قالت: نعم، ولكنه بدل، فقلت يا زبير يا حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا طلحة أنشدكما الله أقلت لكما ما تأمراني؟ فقلتما: علي، فقلت: أتأمراني به وترضيانه لي؟ فقلتما: نعم، قالا: نعم ولكنه بدلْ، فقلت: والله لا أقاتلكم ومعكم أم المؤمنين وحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أقاتل رجلاً ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرتموني ببيعته".

ما يستخلص من الروايات الثلاث

1- رد سيدنا عثمان بن عفان كثيراً من التهم الموجهة إليه، واستغفر عن بعض أعماله التي أقر بأنها خطأ عمله، وبذلك رضي عنه الثائرون، حيث إنه وعدهم بتصحيحها.

2- لم يرسل عثمان إلى عامله في مصر أي كتاب يحرضه على قتل الثوار، وذلك لأن عثمان لم يغير وعده لهم.

3- كان باستطاعة عثمان مقاتلة الخارجين وردهم، ولكنه لم يُرد إهراق الدم في الدفاع عن نفسه، ولم يرد ترك المدينة، بل رضي أن يقتل لرؤية رأها في المنام.

4- كان بجانب عثمان الصحابة الأولين يوالونه ويشدون أرزه، وأبناؤهم أيضاً.

5- لم يكن يطمع طلحة والزبير في الاستيلاء على الخلافة بعد عثمان، لأنهما كانا يريان أن علياً هو الأصلح لها. وهذا هو رأي السيدة عائشة.

6- خروج السيدة عائشة وطلحة والزبير يطالبون بدم عثمان لاعتقادهم أنه قتل مظلوماً.

7- هناك عدد من أهل المدينة ينقمون على عثمان لأمور مادية، لأنه أراد أن يمنعهم من المشاركة في الفتوح.

8- إن بين الثائرين على عثمان من هم مدفوعون بالغيرة على الدين.

9- هناك أيدٍ خفية تحرك الأمور من وراء الستار لتوقع الفرقة بين المسلمين، فهي التي صاغت الكتب على لسان الصحابة، وهي التي زورت الكتاب المرسل إلى عامل عثمان في مصر، وهي التي كانت تستعجل الأمور.

10- كان بين هؤلاء الثوار رجال من الصحابة كمحمد بن أبي بكر، ولعل منهم: عمار بن ياسر، ولكن الأمر لم يبلغ بهم حد الاشتراك في القتل.

yacine414
2011-03-17, 16:56
بيعة علي

بعد مقتل سيدنا عثمان رضي الله عنه بقيت المدينة بلا أمير، وكان زعيم المنحرفين المصرين الغافقي بن حرب العكي هو الذي يدير شؤونها، وأتباعه هم الذين يسيطرون على أمورها، وأهلها وجلهم من الصحابة وأبنائهم لا يقدرون على فعل شيء، واستمر ذلك خمسة أيام، إلا أنه لا بد من خليفة ليعود الوضع إلى طبيعته، ويرجع الأعراب إلى بواديهم، ويؤوب المنحرفون إلى أمصارهم، والأمر يرجع في هذا للسابقين من المهاجرين والأنصار، لذا لا بد من اختيار أحدهم.

كان المنحرفون متفقين على الانتهاء من الخليفة السابق، وقد تم لهم ذلك إلا أنهم غير متفقين على الخليفة الجديد، وأهواؤهم شتى، فالمصريون يميلون إلى علي بن أبي طالب ولكنه لا يوافقهم بل ويبتعد عنهم، والبصريون هواهم مع طلحة بن عبيد الله إلا أنهم يطلبونه فلا يجدونه، والكوفيون يرغبون في الزبير بن العوام ولكنه يختفي عنهم ولا يرغب بهم. وتضايق أهل الكوفة وأهل البصرة إذ غدوا تبعاً لأهل مصر إذ لا يرغب من تميل نفوسهم إليه أن يقابلهم أو يوافقهم، وأمير المصريين هو أمير للمدينة في تلك الظروف الحرجة.

ولما لم يوافق أحد من هؤلاء الثلاثة مع المنحرفين في شيء ويرفضون الخلافة كلهم، رأوا أن يطلبوا من سعد بن أبي وقاص ذلك، وهو ممن بقي من أهل الشورى مع أولئك الثلاثة، إلا أنه ارفض منهم عندما عرضوا عليه ذلك، وكان قد اعتزل الأمر، وابتعد عن الجو العام، فاتجهوا إلى عبدالله بن عمر وكان رفضه أشد من سابقه.

واشتد الأمر على المنحرفين إذ عجزوا عن إيجاد خليفة وقد قتلوا الأمير السابق، واشتد كذلك الأمر على أهل المدينة، وقد وجدوا مدينتهم بين المنحرفين يتصرفون فيها، وهم لا يقدرون على شيء، ورأوا أنه لا بد من خليفة يخلصهم مما هم فيه، وينقذهم مما يعانون، ويسير الأمور لتعود الحالة إلى طبيعتها، ورأوا في شخص علي بن أبي طالب الخليفة المطلوب، فهو من أهل الشورى، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وله سابقة وجهاد قلما تكون لرجل آخر، وله من العلم والفقة ما يخوله ذلك، وبصورة عامة فقد كان أفضل من عليها، آنذاك، فذهبوا إليه، وطلبوا منه أن يتولى أمرهم فرفض منهم، وقال لهم : لا حاجة لي في أمركم، أن أكون وزيراً خيراً من أن أكون أميراً، وأنا معكم فمن اخترتم فقد رضيت.

ولما طال الوضع، وخاف المنحرفون من أن تصل جند الأمصار إلى المدينة، وتتسلم زمام الأمور، وتقبض على الثائرين قتلة عثمان وتعاقبهم وتقيم عليهم الحد، لذا كانت رغبتهم السرعة في مبايعة الناس لخليفة وهذا حق المهاجرين والأنصار، فإذا حدثت البيعة كان الخليفة على أقل تقدير منهم مضطراً لأن يأخذ برأيهم ما داموا في مركز قوتهم، ولا يستطيع أن يعاقبهم ما دامت المدينة في قبضتهم وتحت سيطرتهم، أو أن كثرتهم تحول دون أن يقوم بعمل ضدهم، أما إذا وصلت جنود الأمصار إلى المدينة فإنهم حينذاك لا يستطيعون قتالهم وبخاصة أن أهل المدينة ناقمين على قتلة عثمان الأمر الذي يجعلهم ينضمون لأهل الأمصار ويحاربون قتلة عثمان، وعندئذ تنالهم العقوبة، وينالهم القصاص، وتقام عليهم الحدود، ويختار أهل المدينة من يرغبون لا من يفكر به المنحرفون، ومن هذا المنطلق كانت السرعة في اختيار خليفة أهم نقطة يعمل لها المنحرفون، ولما لم يتم لهم ذلك هددوا أهل المدينة بقتل أهل الشورى وكبار الصحابة ومن يقدرون عليه من دار الهجرة إن لم يجدوا أحداً على قبول الخلافة، وقالوا لهم : دونكم يا أهل المدينة فقد أجلناكم يومين، فوالله لئن لم تفرغوا لنقتلن علياً والزبير وأناساً كثيرين.

عرض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر على علي بن أبي طالب وجاءه الناس فقالوا : نبايعك فقد ترى ما نزل بالإسلام، وما ابتلينا به من ذوي القربى، فقال علي : دعوني والتمسوا غيري فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وله ألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول. فقالوا : ننشدك الله ألا ترى ما نرى ‍ ألا ترى الإِسلام ‍ ألا ترى الفتنة‍ ألا تخاف الله ‍ فقال : أجبتكم لما أرى، واعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني فإنما أنا كأحدكم، إلا أني أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، ثم افترقوا وتواعدوا في اليوم التالي فجاؤوا ومعهم طلحة والزبير وبايعوا علياً، وكان ذلك يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين.

بايع الناس جميعاً إلا سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد وصهيب من المهاجرين، وحسان بن ثابت، وزيد بن ثابت، وكعب بن مالك، ومحمد بن مسلمة، والنعمان بن بشير، ورافع بن خديج، وسلمة بن وقش، وأبو سعيد الخدري، وقدامة بن مظعون ومسلمة بن مخلد، وعبدالله بن سلام من الأنصار ومن كان قد غادر المدينة إلى مكة وأكثرهم من بني أمية أمثال سعيد بن العاص والوليد بن عقبة ومروان بن الحكم.

كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمام موقفين اثنين لا ثالث لهما، الأول منهما : أن يصر على رفض الأمر وعدم الموافقة على البيعة، وعندها سيبقى وضع المدينة كما هو يتسلط عليه المتمردون، ويتصرف في المدينة الأعراب والمنحرفون، بل ربما ازداد الوضع سوءاً وهو المحتمل فيعيث هؤلاء العابثون في الأرض فساداً، ويزداد قتلهم للناس، وقد ارتكبوا أكبر جريمة بقتلهم الإمام ظلماً وعدواناً، ومتى أقدم الإنسان على جريمته الأولى سهلت عليه الجرائم وأسوأ الأعمال بعد ذلك، وبالفعل فقد هددوا أصحاب الشورى وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا ما حدث أن جاءت جند من الأمصار أو طلبت لإِبعاد المتمردين عن المدينة وإقامة الحدود عليهم وإعادة نظام الأمن، فإنه يقع القتال داخل دار الهجرة ويذهب ضحيته أعداد من الصحابة، هذا بالإضافة إلى انقسام المسلمين وتفرق كلمتهم، وهذا ما يخافه العقلاء، وأهل الإِيمان، هذا بالإضافة إلى أن تدخل الجند في شؤون المدنيين، وتدخلهم في أعمال الناس، وبحثهم في أمر الخلافة لموضوع يجب الابتعاد عنه تمام الابتعاد، وهذا ما كان ينظر إليه الامام على كرم الله وجهه، ويحرص ألا يحدث، وهو الأمر الذي جعله يقبل الخلافة.

أما الموقف الثاني : وهو قبول الخلافة والرضا بالأمر الواقع وذلك من أجل انقاذ المسلمين من فتنة عمياء يمكن أن تحدث فيما لو رفض، والخوف من تفرقة الكلمة، وإعادة الثقة الطمأنينة إلى نفوس سكان دار الهجرة، وإبعاد المتمردين والأعراب والمنحرفين عن المدينة، وإقرار الأمن، وإعطاء الهيبة للخلافة، وتطبيق منهج الله في الأرض، ومع هذا فكان رضي الله عنه على علم بأن السير في الموقف الثاني، وهو أخذ البيعة وتسلم أمر الناس حالة صعبة وفيه مشقة كبيرة وعناء شديد، إذ لا يستطيع الخليفة إقامة الحدود على الجناة والتحقيق معهم إلا بعد مرور مدة ريثما يستتب الوضع، ويتمكن الحكم، وتستعيد الخلافة هيبتها، وهذا ما لا يدركه فئة من الناس فيطالبون بالقصاص وهو غير قادر عليه، ويسألونه إقامة الحدود على القتلة وهو لا يستطيع إذ لا تزال المدينة بأيديهم، ولا بد من إخراجهم قبل ذلك وتوزيعهم في الأمصار، أو إرسالهم إلى الثغور، وتفريق كلمتهم، هذا بالإضافة إلى أن عدداً من الرجال سيرفضون البيعة، ولكن هذا لا يجعله يتوقف، وهو الذي لا يخشى في الله لومة لائم، ولا يعرف المداهنة في الحق... فأما البيعة فيمكن أن يترك من لا يبايع باستثناء بعض رجال الشورى الذين ينظر إليهم بعض الناس ويميلون إليهم، ولهذا فقد ترك سعد بن أبي وقاص وعبدالله بن عمر، ولكنه أصر على بيعة طلحة والزبير إذ كان يطمع بهما بعض المتمردين، وأما استمهال إقامة الحدود ريثما تتاح الفرصة فظن أن الناس يدركون هذا، بل يمكن تجاوزه إذ إن إعادة الأمن والنظام وإقامة الخلافة أمر أهم وواجب شرعي، ولهذا أقدم عليه وقبل الخلافة بعد إصرار الناس عليه وبعد أن تمنع عنه ورفضه، فهو الزاهد فيها وفي الدنيا جميعها.

رأى علي رضي الله عنه وقد تسلم الخلافة أن يعمل قبل كل شيء على إعادة الأمن ولن يكون هذا إلا بإبعاد المشاغبين عن المدينة، ولن يحدث هذا إلا باعتقادهم أنه قد تم ما يريدون وهو استقرار النظام في الدولة، وهذا ما يصار إليه بزوال الخليفة السابق وقد قتلوه قبحهم الله -ثم بالخلاص من ولاته على الأمصار، هذا بالإضافة إلى أنه هو رضي الله عنه قد كانت له بعض الملاحظات على بعض الولاة لذا قرر أن يستبدل الولاة، ولكن نصحه بعض الصحابة وبعض الرجال في أن يؤخر هذا الأمر حتى يستقر الوضع، إلا أنه رفض ذلك حيث رأى أن هيبة الدولة لا تكون إذا لم يستطع الخليفة أن يعزل والياً وأن يعين غيره، وإلا فما معنى أن الوالي يتبع الخليفة، وإذا لم يستطع الإمام عزل وال، فمعنى ذلك أن الوالي بمثابة خليفة أو أنه يرفض الأوامر ويرفض البيعة أو يأخذها لنفسه، ويتعدد عندها الخلفاء، وهذا أمر غير جائز ولا يكون في الإسلام، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن العصاة والمنحرفين يرون أن الوضع غير مستقر، وبذا يبقون في المدينة وعندها لا يستطيع الخليفة أن يفعل شيئاً ولا أن يقيم حدود الله، وهو لا يخاف في الله لومة لائم، إذن فلا بد من عزل الولاة واستبدالهم.

أرسل علي الولاة إلى الأمصار فبعث إلى البصرة عثمان بن حنيف وهو من أعلام الأنصار، فدخلها وارتحل عنها واليها السابق عبدالله بن عامر متجهاً إلى مكة. وأبقى على الكوفة أبا موسى الأشعري الذي أرسل بيعته وبيعة أهل مصره إلى أمير المؤمنين. وبعث سهل بن حنيف إلى الشام، ولكنه رد من حدودها، ردته خيل معاوية بأمر أو باجتهاد منهم. وبعث إلى مصر قيس بن سعد بن عبادة، وكان قد قتل من تسلمها وهو محمد بن أبي حذيفة، فدخل مصر وأخذ البيعة لأمير المؤمنين من أهلها، إلا فريقاً قليلا منهم اعتزلوا الناس وأووا إلى (خربتا) لا يشقون عصا الطاعة، ولا يقاتلون أحداً، وبهذا فقد اختار ثلاثة ولاة من الأنصار إلى أهم الأمصار وأكثرها ثغوراً وجهاداً. أما مكة فقد بعث إليها خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي، ولكنه وجد فيها كل من اعتزل الفتنة ومن اجتمع فيها من بني أمية، ومن ترك ولايته من الولاة السابقين، لذا فقد رفضت ولايته وبقيت مكة دون وال، ولكل مجموعة رجل يرجعون إليه. وبعث علي بن أبي طالب إلى اليمن ابن عمه عبيد اللهبن عباس عاملا له عليها، فلما وصل إليها رحل عنها عاملها السابق يعلى ابن أمية واتجه إلى مكة، وهكذا خضعت دار الهجرة مركز الدولة والأمصار كلها إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب باستثناء الشام التي كان يسير أمورها معاوية بن أبي سفيان إذ لم يرسل البيعة، وبهذا عقدت بيعة علي بن أبي طالب، وقام بالأمر، وأرسل إلى معاوية يطلب منه البيعة لكنه تأخر بالجواب، ينتظر ما تؤول إليه الأمور، ووضع العصاة في المدينة.

yacine414
2011-03-17, 16:58
المجتَمَع الإسْلاَمي أيَّام عَليّ

لم يختلف وضع المجتمع الإسلامي أيام علي عما كان عليه سابقاً، فالشرع هو المطبق وأحكام الله هي النافذة والمعمول بها، وإنما الشيء الوحيد الذي اختلف هو متابعة الناس لما يجري في الداخل بعد أن كان الاهتمام متجهاً إلى ما يحدث في الفتوح وأحوال الثغور، هذا بالنسبة إلى عامة الناس، أما فيما يتعلق بالعمال والولاة فكان اهتمامهم أكبر إذ يتعلق الأمر بهم وبأمصارهم لذا فقد اختلف الوضع بين مصر وآخر، وهناك أمر آخر يجب ألا نغفل عنه وهو أن المسلمين استقبلوا خلافة علي بغير ما استقبلوا خلافة عثمان، فقد جاء عثمان بعد عمر القوي الشديد الذي منع الصحابة من الخروج من المدينة، وأخذهم بالحزم والشدة، فأعطاهم عثمان اللين والرفق، وأغدق عليهم في الأعطيات حسب ما اعتاد عليه من البذل والعطاء، فلانوا له وأحبوه وخاصة في أيامه الأولى، وفضله بعضهم على عمر. وجاء علي بعد عثمان فسار بالناس سيرة عمر فلم يوسع لهم الأعطيات، ولم يعطهم النوافل من المال، واشتد على قريش وحال بينهم وبين الخروج بأية حال، وهيجه افتراق القوم إذ أن عدداً من بني أمية قد اتجهوا إلى مكة، وتفرق بعض الناس في الأمصار، واستأنف فيهم حزم عمر، وشدته، والنفس البشرية يصعب عليها الشدة بعد اللين على حين ترتاح وتطمئن للين بعد الشدة، لذا كانت نفوسهم يشوبها كثير من الوجوم والقلق بتسلم علي الأمر، هذا بالإضافة إلى تسلط المشاغبين الذين قتلوا عثمان على المدينة ولم تَطَلْهم بعدُ الحدود، ولننظر إلى حالة كل مصر وحده.

فاليمن سار إليها عبيدالله بن عباس والياً عليها من قبل علي فاستقبله، وخرج منها يعلى بن أمية، واستقر الأمر فيها، تقام الحدود، ويطبق الشرع بصورة تامة.

وأما مكة المكرمة فقد عاد إليها راجعاً عدد من أهل المدينة الذين وصل إليهم خبر مقتل سيدنا عثمان وهم في طريقهم إلى بلدهم بعد أن شهدوا موسم الحج، ورغبوا اعتزال الفتنة، فمكة حرم آمن لا يغار عليه ولا يذعر من أوى إليه، ومنهم من خرج إليها من المدينة غاضباً أو معتزلا مثل بني أمية، عبدالله ابن عمر : وردت مكة عامل علي عليها وهو خالد بن العاص بن المغيرة المخزومي، وعاشت دون وال، وبعد مدة استأذن طلحة والزبير عليا في الخروج إلى مكة لأداء العمرة فأذن لهما فخرجا، وبقيا فيها إذ وجدا الجو فيها أكثر مناسبة لهم من جو المدينة المليء بالخارجين على عثمان رضي الله عنه، وبعد مدة جاء قثم بن العباس واليا على مكة واستقر فيها، واستتب له الأمر.

ورأى الذين اعتزلوا الفتنة واستقروا في مكة أن جوها غير مناسب، وأن طلب الرزق غير متوفر، والتجارة التي اعتادوا عليها قد انقضت أيامها وقطع بينهم وبينها الزمن، ووجدوا أن البصرة أكثر ملاءمة، لهذا فقد قرروا السير إليها، وأقنعوا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالخروج معهم، وكادت أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها تسير لولا أن منعها أخوها عبدالله بن عمر، وسار الموكب باتجاه البصرة، وكان يصلي فيهم عبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد، وقد كان أبوه والي مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر. وكان عدد المغادرين مكة /700/ إنسان جلهم من أهل مكة والمدينة ومنهم طلحة، وعبدالله بن عامر، ويعلى بن أمية، وعبدالرحمن بن عتاب، وأم المؤمنين عائشة، ورجع من الطريق سعيد بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وعبدالله بن خالد بن أسيد، وفي الطريق تبعهم الناس من الأعراب حتى كانوا ثلاثة آلاف. وهدأ الوضع في مكة بعد خروجهم. وعندما وصل الركب المكي إلى ماء الحوأب نبحتهم كلابه، فأناخت عائشة رضي الله عنها وقالت : أنا والله صاحبة كلاب الحوأب طَرُوقاً ردوني فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وعنده نساؤه "ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب" فقالوا لها : ما هو بالحوأب، فسارت.

أما في المدينة فإن أهلها ينظرون إلى علي نظرة احترام وإكبار كما ينظر له كل المسلمين، إذ كان يومذاك أفضل من عليها، وقد ارتحل من الدنيا من سبقه، وقد أسرعوا إلى بيعته أو الاصرار على مبايعته لتقديرهم له قبل كل شيء، ثم للخلاص مما لحق المدينة من وجود الفئة الخارجة على النظام من قتلة عثمان، وقد استجاب بعد رفض إذ أن الأمر يستوجب وجود الأمير لإِعادة النظام، وما أن استلم حتى طلب منه عدد من الصحابة إقامة الحدود على هؤلاء المنحرفين، ولم يكن ذلك ليغيب عنه، وإنما ينتظر استتباب الوضع وقوة الخليفة بأخذ البيعة العامة والقبض على ناصية الأمر، إذ أن الحَلَّ السريع لا يستطيع أن يمارسه ما دام المنحرفون هم الذين يسيطرون على المدينة، وبيدهم القوة، والبيعة لم تأت من بعض الجهات ومنها الشام وبعض الصحابة، والمشكلة أنه في ساعة الفوضى لا يرى المرء الحل السليم إلا من خلال ما استقر ذهنه.

واشتد الصحابة في الطلب، وعلي لا يستطيع أن يفعل شيئاً. وأرسل علي الولاة إلى الأمصار، وإذ بوالي الشام سهل بن حنيف يعود إليه، وعلي الذي عرف بالشدة لم يقبل باللين، ولم يعرف التساهل بالحق، فقرر السير إلى الشام على الرغم من نصائح بعض الناصحين بإبقاء معاوية على الشام وإعطاء طلحة البصرة والزبير الكوفة ريثما تهدأ الأحوال، ولم ير أيضاً هذا عبدالله بن عباس عندما استشاره علي، وحث الناس بالنهوض إلى الشام فرأى توانيا، فلم يرغب بإخبار أحد وإنما نهض وسار مع من نهض، ودفع باللواء إلى ابنه محمد الأكبر بن الحنفية، ووجه عبدالله بن عباس إلى الميمنة، وعمر بن أبي سلمة إلى الميسرة، وأبا ليلى بن عمر بن الجراح إلى المقدمة وهو ابن أخي أبي عبيدة بن الجراح، وولى قُثَم بن العباس على المدينة، وكتب إلى عماله على الأمصار وهم قيس بن سعد والي مصر وأبو موسى الأشعري والي الكوفة، وعثمان بن حنيف والي البصرة بالنهوض إلى قتال أهل الفرقة، ويبدو من عمله هذا أنه بَعِيد كل البعد عن المنحرفين قتلة عثمان إذ لم يُوَلِّ أحداً منهم وفيهم الأشداء وأهل المقدرة.

وبينما هو كذلك إذ سمع بخبر سير من سار من مكة إلى البصرة، فخرج علي إلى الربذة يريد أن يحول دون انطلاقهم إلى البصرة، إلا أنهم قد فاتوه، وكان قد ولّى على المدينة قبل خروجه منها سهل بن حنيف، وبعث قُثَم بن العباس إلى مكة، وكانت أم المؤمنين أم سلمة تريد أن تسير معه وقالت له "لولا أني أعصي الله عز وجل وأنك لا تقبله مني لخرجت معك، وهذا ابني عمر، والله لهو أعز علي من نفسي، يخرج معك يشهد مشاهدك، فخرج معه، وكان على الميسرة، ولم يزل معه، واستعمله على البحرين ثم عزله. ونصحه بعض الناصحين بأن لا يخرج من المدينة فإن خرج منها فلن يعود إليها، وطلب منه أن يرسل من نهض ويمكث هو في دار الهجرة، ولكنه أصر إلا أن يكون على رأس الناهضين. وبقي سهل بن حنيف في المدينة يسيِّر أمورها، ويُطَبِّق شرع الله فيها، ويحكمها لعلي بن أبي طالب. ووصل علي إلى ذي قار ينتظر وصول جند الأمصار.

وأما مصر فقد سار إليها قيس بن سعد بن عبادة، ودخلها من غير جهد وكان قد خرج منها الوالي السابق عبدالله بن سعد بن أبي سرح وتسلمها محمد بن أبي حذيفة إلا أنه قتل، وأخذ قيس البيعة لعلي من عامة أهلها، إلا فريقاً اعتزلوا الناس وأووا إلى (خربتا) يطلبون بثأر عثمان، ولكن لا يقاتلون أحداً، ولا يشقون عصا الطاعة، فأمهلهم قيس ومنهم : مسلمة بن مخلد، ومعاوية بن حديج، وبسر بن أبي أرطأة وغيرهم، إلا أن بعض أصحاب علي كانوا يصرون عليه أن يأمر قيسا بقتالهم أو إعطاء البيعة حتى ينتهوا من مصر من كل معارض، فطلب علي منه ذلك، فرأى أن رأيه هو الأصوب، فترك مصر، واتجه إلى علي مار بالمدينة، وجاء محمد بن أبي بكر والياً على مصر، وما زال يلح على من في (خربتا) حتى جرى القتال بين الطرفين ولم يُحْرِز محمد بن أبي بكر النصر فعزله علي وولى الأشتر النخعي مكانه، ولكنه مات مسموماً قبل أن يصل إليها، فاضطر علي أن يثبت محمد بن أبي بكر على مصر ريثما يرى رأيه، وانتدب أهل الكوفة لمساعدة إخوانهم في مصر، ولكنهم لم ينتدبوا، وعندما أصر عليهم سار جند قليل، ولكن ما وصلوا إلى مصر حتى كان عمرو ابن العاص قد دخلها، وقُتل، محمد بن أبي بكر، وهكذا أصبحت مصر بعيدة عن خلافة علي وذلك عام 38 هـ.

وأما الكوفة فقد كان واليها من قبل أبو موسى الأشعري، وأقره علي على ما تحت يده، رغبة من أهل الكوفة به، وقد بايع عنه وعن أهل الكوفة للخليفة الجديد. وكان أبو موسى محباً للعافية لا يرغب في القتال وخاصة عندما يكون القتال بين المسلمين بعضهم ضد بعض. وأهل الكوفة ليسوا على رأي واحد، فبعضهم يميل إلى الزبير، وبعضهم يرغب في علي ولكنه لا يحب القتال، وبعضهم متشدد في ذلك يرى أن القتال أمر لا بدّ منه. وكتب أمير المؤمنين إلى أبي موسى يستنهضه للقتال ولكنه لم يفعل شيئاً، فأرسل له محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر، فلم يفد ذلك شيئاً، ثم أرسل له عبدالله بن عباس والأشتر النخعي فما أجدت المناقشات التي دارت بين الطرفين، ثم أرسل له ابنه الحسن بن علي وعمار بن ياسر، وتكلم الحسن كلاماً جميلاً. ودعا أهل الكوفة لنجدة خليفتهم وعندما انطلق سار معه عدة آلاف سار بعضهم بالفرات واتخذ الآخر طريق البر، وكان مجموعهم تسعة آلاف رجل، وأخرج الأشتر النخعي أبا موسى من قصر الإمارة، فانطلق أبو موسى إلى مكة وأقام بها. وكان الخليفة قد وصل إلى ذي قار فجاءه أهل الكوفة وهو في ذلك الموضع.

وأما البصرة فقد أرسل إليها الخليفة والياً جديداً هو عثمان بن حنيف فسار إليها فدخلها، وخرج منها واليها السابق عبدالله بن عامر الذي سار إلى مكة، وكان في البصرة شيء من الفرقة والخلاف، ولم يلبث أن وصل إليها ركب مكة، فدخلها عبدالله بن عامر على غفلة من أهلها، ووصل الخبر إلى عثمان بن حنيف فتهيأ إلا أن الناس متخاذلون منهم الخائف، ومنهم القاعد، ومنهم المتخاذل، ومنهم من يطلب بثأر عثمان، ومنهم مع الوالي بجانب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثم دخل البصرة ركب مكة كله، والتقى في المربد، فتكلم طلحة والزبير وردّ عليهم جماعة ابن حنيف.

وكاد الناس يقتتلون، ثم تكلمت عائشة رضي الله عنها فانقسمت جماعة ابن حنيف، ومال بعضهم إلى جانب عائشة، وكان على خيل البصر حكيم به جبلة العبدي فأنشب القتال، وهو أحد الغوغائيين الذين تكلموا عن عثمان رضي الله عنه، وكاد القتال أن يتسع، إلا أن الفريقين قد اتفقا، إذ لم يكن أحد الجانبين لينظر إلى الآخر نظرة العداء أو الحقد وإنما نظرة الأخوة، والخلاف إنما هو في وجهات النظر، ولكن الغوغاء هي التي كانت تسير بالطرفين إلى التطرف أحياناً.

اتفق الجانبان على أن يبعثا رسولاً إلى المدينة لينظر هل بايع طلحة والزبير مكرهين أم لا ؟ فإن كان ذلك أخلى عثمان بن حنيف لهما البصرة، وإن كانا قد بايعا عن رضى خرجا من البصر، وأن يبقى كل فريق على ما تحت يده ريثما يعود الرسول، وينزل طلحة والزبير ومن معهما حيث شاؤوا، وأن يصلي عثمان بن حنيف بالناس، ويبقى بيت المال تحت يده، وله أمر البصرة. وذهب كعب بن ثور إلى المدينة رسولاً، فسأل أهلها عن بيعة طلحة والزبير فلم يجبه أحد، ثم أجابه أسامة بن زيد بأنهما بايعا مكرهين.

وكادت تحدث في المدينة حادثة لهذا الجواب، إذ لا يريد الناس إلا اطفاء النار وإخماد جذوتها، ورجع كعب إلى الناس بالخبر فاختلف القوم بالبصرة، وعاتب علي عامله على البصرة، وقال : إنما طلحة والزبير لم يجبرا على البيعة إلا خوفاً من الفرقة، وقلّ أنصار ابن حنيف حتى غضب عليه الغوغائيون في طرفه لهذا التصرف، انقضّ أهل السوء عليه فسجنوه، ونتفوا لحيته وحاجبيه، ثم أخرجوه حيث سار إلى علي بن أبي طالب وهو بذي قار، ولم يقتل عثمان بن حنيف لأنه لم يكن عدواً ولا مجرم حرب، وإنما كان أخاً ضعفت وجهة نظره أمام مناقشيه فقلّ أتباعه، وعدا عليه الرعاع فأخرجوه، ولو كان الخلاف كما يصوّره بعض المؤمنين لقتل أو أخذ على الأقل أسيراً فهو قائد الخصم أو رأس الجناح الآخر. وصار يصلي بالناس عبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد.

وبخروج عثمان بن حنيف من البصرة أصبحت تحت إمرة الركب المكي فقتلوا من كان فيها من الأشخاص الذين شخصوا إلى المدينة، واشتركوا في حصار عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولم ينج منهم إلا حرقوص بن زهير العبدي، وكان ممن قتل حكيم بن جبلة العبدي، ولم يكن هذا القتل ليخفف من المشكلة وإنما زاد النقمة، إذ أن بعض القبائل غضبت لمقتل بعض أبنائها ممن كان من الغوغائيين، ومنهم بنو عبد القيس الذين ثاروا لمقتل حكيم بن جبلة فخرجوا على علي، أما علي فلم يتكلم في قتل هؤلاء لأنه يرغب فيه ولا علاقة له بأحد منهم، وإن كان يجب أن يدعم رأيه بأن في العجلة الندامة فالقتل السريع دون تروي أدى إلى النقمة. وكتب الركب المكي إلى بقية الأمصار أن يفعلوا فعلتهم، وأن يقتلوا من عندهم من قتلة عثمان.

أرسل علي بن أبي طالب القعقاع بن عمرو التميمي إلى البصرة، فكلم عائشة وطلحة والزبير وبينّ لهم تفرق القوم عنهم بسبب قتل الغوغائيين، وماذا يكون لو حدث هذا في كل مصر ؟ قالوا : فما رأيك ؟ قال : إن هذا أمر دواؤه التسكين واجتماع الشمل، حتى إذا صلح الأمر وهدأت الثائرة، وأمن الناس، واطمأن بعضهم إلى بعض، نظرنا في أمر الذين أحدثوا هذه الفتنة. وإني لأقول هذا وما أراه يتُّم حتى يأخذ الله من هذه الأمة ما يشاء، فقد انتشر أمرها، وألمت بها الملمات، وتعرضت لبلاء عظيم، فاستحسن القوم رأيه، وقالوا : إن وافق علي على هذا الرأي صالحناه عليه. ورجع القعقاع إلى علي راضياً وأنبأه بما حدث، فسُرّ علي بذلك أشد السرور وأعظمه.

وأقبلت الوفود من البصرة إلى معسكر علي بذي قار والتقى المضري مع المضري والربعي مع الربعي واليمني مع اليمني، وكل يتحدث في الصلح، وظن الناس كل الناس أن الأمر قد استقام، وأن الصلح قد أصبح وشيكاً، ودعوا أهل البصرة علياً أن يأتي إليهم، وأراد علي الرحيل وقال : ألا من أعان على عثمان بن عفان فلا يرتحل معنا. وهنا شعر الغوغائيون من قتلة عثمان أن الصلح سيدور عليهم، وأنه إذا تمّ لا بدّ من أن يكون عليهم، وستطالهم العقوبة، فإذن لما نبرمه على أنفسنا ؟ وتداولوا الرأي وعبدالله بن سبأ اليهودي لا يعجبه رأي حتى توصلوا إلى انشاب القتال إذا ما اقترب الطرفان بعضهم من بعض. وأرسل علي عبدالله بن عباس إلى طلحة والزبير اللذين أرسلا بدورهما محمد بن طلحة إلى علي وتحدثوا في الصلح وباتوا في ليلة من العافية.

ورحل علي إلى البصرة وعسكر بجانب معسكر أهل البصرة فأنشب الغوغائيون القتال بأسباب بسيطة وتافهة، إذ تسابّ الصبيان ثم تراموا وتتابع العبيد، حتى إذا توترت الأجواء باشر السفهاء، ولم يدخل الغوغائيون من البداية حتى لا يُعرف الكيد، وينكشف الأمر، وتفسد الخطة، وتصافّ الفريقان، وخرج علي بين الصفين ونادى طلحة والزبير فكلمهما، وقال مما قال للزبير أتذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لك : "... ولكنك ستقاتله وأنت له ظالم" قال : تذكرت ذلك، ولو كنت أذكر ما خرجت، وأراد الاعتزال، وخرج على وجهه وعندما وصل إلى وادي السباع غدر به ابن جرموز وقتله. واستطاعت السبئية أن تنشب القتال، وطلب علي من الناس أن يكفوا إلا أن الأمر قد خرج من يده والتحم الفريقان، وكان جيش البصرة يزيد على الثلاثين ألفاً، وجيش الكوفة يزيد على العشرين ألفاً، وكان اللقاء في منتصف جمادى الآخرة من عام 36 هـ.

والتحم الطرفان، واشتدت المعركة أمام الجمل الذي عليه هودج عائشة رضي الله عنها حتى قتل أمامه سبعون رجلاً كل أخذ بِخِطَامه، قُتلوا واحداً بعد الآخر، ثم عُقِر الجمل فانفرجت المعركة وهزم أهل البصرة، وأصيب طلحة وجرح جرحاً بليغاً بدأ ينزف منه الدم، وحملت عائشة بهودجها إلى دار عبدالله بن خلف، وكانت فاجعة أليمة ذهب ضحيتها على رأي المؤرخين عشرة آلاف من جيش البصرة وخمسة آلاف من جيش علي، ومع ما في هذه المعركة من الهول الذي زاد فيه المؤرخون، علينا أن نتروى قليلاً فننظر هل كانت معركة بين أعداء ألداء كما توصف أم بين أحبة أوقع الشيطان بينهم فطاشت أحلامهم، ثم ثابت ؟ ويمكن أن نتعرف على هذا من النتائج، كانت رؤوس جيش البصرة لا شك طلحة والزبير وعائشة فلننظر ما الرأي بهم ؟ التقى القعقاع بن عمرو التميمي أحد قادة جيش علي وحكمائه أثناء المعركة مع طلحة وهو يقاتل جريحاً فقال له : يا أبا محمد إنك جريح فحبذا لو دخلت أحد البيوتات. فبطل يرى قائد خصومه جريحاً فيطلب منه الخلود إلى الراحة من أجل العافية أم يجهز عليه !.

وجاء ابن جرموز بعد المعركة يستأذن علياً وقال : قل له : قاتل الزبير، فقال علي : أئذن له بشره بالنار. فهل القائد يفرح بقتل قائد خصومه أم يتأثر ثم يقول : إن قاتله لا شك في النار ؟

وزار علي عائشة بعد المعركة، وضرب من تكلم عنها، وقال عندما شيعها في غرة رجب مع أخيها محمد بن أبي بكر : أنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، وأعطاها مبلغاً كبيراً من المال، وسَيَّر في ركبها عدداً من النساء. وعندما زارها في دار عبدالله بن خلف كان عدد من الجرحى المختبئين في تلك الدار، وهو يعرف مكانهم ومكان غيرهم، وقد تجاهل ذلك وكأن لم يعلم شيئاً، إذ لم يكونوا خصوماً كما يصور ذلك بعضهم فلو كانوا كذلك لنالوا ما نالوا.

كما كان قد طلب من جنده ألا يجهزوا على جريح، ولا يتبعوا هارباً، ولا يدخلوا داراً، ولا يحوزوا مالاً، ولا يؤذوا امرأة ولا طفلاً ولا غير مقاتل مصر معاند، وهذا كله يدل على الأخوة التامة ولكن أوقع الشيطان بينهم، ولك وجهة نظره واجتهاده الخاص، وهو عليه مأجور بإذن الله.

وبعد المعركة بثلاثة أيام ولى علي على البصرة عبدالله بن عباس، وكان أهلها قد أعطوا البيعة، وسار هو إلى الكوفة ليتهيأ إلى الشام.

أما الشام فقد كان واليها معاوية بن أبي سفيان منذ أيام عمر رضي الله عنه، وقد خَبَر أهلها وخَبَروه وأخذهم بأسلوبه الخاص فأحبوه، ولأن لهم فأطاعوه، وحزمهم فانقادوا له، ولم يريدوا غيره، فعندما حدثت الفتنة في المدينة، وتسلم الغوغائيون الأمر، وقتلوا الخليفة عثمان بن عفان مظلوماً، وخرج النعمان بن بشير إلى الشام ومعه قميص عثمان المملوء بالدماء وعليه أصابع زوجه نائلة مقطعة، وعرضه على الناس ثاروا وبكوا أولاً لقتل الخليفة مظلوماً وهو شيخ طاعن في السن، وكان قتله على يد رعاع الناس، وثانياً لأنه لم يستطع بعد ذلك أحد أن يحرك ساكناً، بل إن هؤلاء الرعاع قد سيطروا على دار الهجرة. ويجب أن نعلم أن الأخبار من المدينة إلى الشام تحتاج إلى شهر ذهاباً ومثلها إياباً وأثناء هذه المدة تَجِدّ حوادث وتحدث مشكلات جديدة إضافة إلى ما تحمل الأخبار معها من زيادات مع الزمن.

ثم جاءت الأخبار بأن البيعة قد تمت لعلي بن أبي طالب، ولكن عدداً من الصحابة لم يعطوا البيعة أمثال : سعد بن أبي وقاص وهو من رجال الشورى، وأسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، وحسان بن ثابت، وزيد بن ثابت، وكعب بن مالك وغيرهم، وفوق كل هذا فإن طلحة والزبير قد أعطيا البيعة مكرهين وهما من رجال الشورى.

وأن رجال الشورى الذين بقوا على قيد الحياة هم : علي بن أبي طالب وهو صاحب البيعة، وطلحة والزبير لما يبايعا إلا مكرهين، وسعد بن أبي وقاص لم يبايع أبداً، فالأمر بحاجة إلى نظر، ومع هذا فإن علي لم يستطع أن يقبض على زمام الأمر، ويقيم الحدود على قتلة عثمان الذين لا يزالون يتحكمون في أمر المدينة.

هكذا وصلت الأخبار إلى الشام، وهذا ما علمه معاوية والي البلاد، وإن كانت هذه الأمور صحيحة، إلا أن روايتها كانت بأسلوب يحتم على معاوية التريث بإرسال البيعة إضافة إلى ما يجد في نفسه، وما يراه في المجتمع من حزن على الخليفة المقتول. وتتوالى الأخبار على الشام بأن عدداً من رجالات الأمة قد اجتمعوا في مكة والتجؤوا إليها يعتزلون الفتنة، أو يعترضون على تصرفات الغوغائيين في المدينة. ويرسل علي بن أبي طالب الخليفة الراشدي الجديد عماله إلى الأمصار ويرسل فيمن يرسل سهل بن حنيف إلى الشام ليتولى أمرها، ويعزل معاوية، ويرد الوالي الجديد من حدود بلاد الشام، ويبقى معاوية في حاضرته ينتظر ما يؤول إليه الأمر، ثم تصل إليه أخبار جديدة بأن عدداً قد خرج من مكة إلى البصرة معارضين للخليفة في المدينة، على رأسهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وطلحة، والزبير، إذن يفهم من هذه الأخبار أن الأمر لم يستقر لعلي بعد ولا بد من الانتظار في البيعة، وانتظر، وانتظر معه مجتمع الشام. وحدثت أحداث البصرة التي ذكرنا ووقعت معركة الجمل وتأسف المسلمون لما تم، وكل هذا جعل عامل الشام معاوية بن أبي سفيان ينتظر في إعطاء البيعة للخليفة الجديد، وهذا ما رآه، ورآه معه عدد من الناس، ويعد اجتهاداً.

أما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فيرى غير ذلك، إذ ينظر إلى معاوية على أنه عامل للخليفة، إن طلب منه ترك العمل تخلى، وإن طلب منه الاستمرار تابع، فهو تبع وليس بمجتهد في هذا الأمر، والوالي ليس عليه إلا أن يبايع هو وأهل مصره إذا بايع أهل المدينة وقد بايعوا فلماذا هذا التواني ؟ فهل أصبح من أهل الشورى ليؤخذ رأيه في البيعة أم لا ؟ وقد عزله الخليفة فعليه الامتثال، هذه نظرة علي إلى معاوية، وهي صحيحة، أما بالنسبة إلى الأوصاع فيرى أنها غير مستقرة والمنحرفون لا يزالون في المدينة فيجب الانتهاء من البيعة، وطمأنينة الناس، فمتى تم هذا يصرفوا إلى أمصارهم، فيتوزع أمرهم، ويضعف شأنهم.

وعندما تقام عليهم الحدود ويقتص منهم بما اقترفت أيديهم، أما الآن فلهم قوتهم، ويتمكنون من المدينة فيصعب الاقتصاص، لأنه ربما إن فعل أمير المؤمنين ذلك اقتصوا هم منه ومن أهل المدينة، وهو اجتهاد، ويؤجر عليه إن شاء الله تعالى. ولم يقبل سيدنا علي من عامل الشام هذا التصرف، وليس أمامه إلا تنفيذ أوامره، وهو الذي لا يعرف إلا الشدة في الحق، ولا يعمل إلا بالحزم، واللين عنده من الضعف، لذا قرر التعبئة والنهوض إلى الشام، وعبأ الجند، وهو يريد السير إذ جد له أمر الركب المكي فسار وراءهم نحو العراق، وتغير خط حركته من الشام إلى البصرة، ووقعت معركة الجمل في منتصف جمادي الآخرة، ودخل إثرها البصرة، فأصلح فيها، فعفا عن المسيء، وواسى المنكوب، ووزع الأموال على الغالب والمغلوب، ثم ولّى عليها عبدالله ابن عباس، وعبد قضاء مدة فيها تحرك إلى الكوفة ليتابع سيره إلى الشام قصده الرئيسي الذي كان.

وصل إلى الكوفة في نهاية شهر رجب من عام 36 هـ، ومكث فيها مدة أربعة أشهر استعد خلالها للقتال، وعبأ الجند، ولم يكن يرفق بنفسه ولا بأصحابه، هكذا اعتاد خلال حياته، يسلك الطريق المستقيم مهما اعترضه من صعاب، ويحث السير فيها مهما وجد من عقبات، ولم يكن أصحابه يرفقون بأنفسهم يسيرون سير أميرهم.

أرسل علي بن أبي طالب جرير بن عبدالله البجلي إلى معاوية يطلب منه أن يبايع، وأن يدخل فيما دخل فيه الناس، ويبين حجة علي ورأيه فيما يطلب إليه، ولكن معاوية لم يعط جواباً، ورجع جرير دون جواب، ولكن بعض أصحاب علي كانوا يريدون الجواب السريع، لذا عدوا أن جريراً لم يقم بالمهمة المنوطة به كما يجب، فاسمعه الأشتر كلاماً تأثر منه، فغادر المعسكر، وأقام في قرقيساء عند التقاء نهر الخابور بنهر الفرات. وبالمقابل فقد أرسل معاوية رسلاً كان منهم أبو مسلم الخولاني، ولكن لم تؤد تلك الرسل إلى نتيجة، وهذا ما جعل أصحاب علي يحثونه للسير، فما دخل شهر ذي الحجة إلا وكانت طلائع علي في بلاد الشام إلا أنه أمرهم ألا يبدؤوا بقتال قبل أن يدركهم...

وعلم معاوية بحركة جيش العراق فأسرع بجند الشام، ووصل قبل علي إلى صفين، ونزل مكاناً مناسباً يمكنه وجنده من الشرب من نهر الفرات، وعندما وصل علي إلى ذلك المكان وجد جنده في ظمأ، فطلب من معاوية أن يكون الماء حراً، ولكنه لم يحصل على جواب، الأمر الذي أدى إلى احتكاك، وانتصر جند العراق وأزاحوا جند الشام عن مواقعهم، ولكن علياً أمر أن يكون الماء حراً يشرب منه الطرفان بكل وقت يريدون.

وأقام الفريقان عدة أيام يلتقون على الماء، ويسعى بعضهم إلى بعض، وربما يسمرون معاً دون قتال ولكنه جدال ومناقشات تحدث، وربما يقف المرء أمام هذا طويلاً يسترجع ما صوره المؤرخون عن الخصومة العنيفة بين الجانبين، والرغبة الملحة من كليهما لقتل الآخر، وما هي كذلك إن هي إلا خلاف في الرأي، وأخوة مضمرة غير ظاهرة بسبب ذلك التباين في الاجتهاد.

ثم وقع القتال، ولم يكن ذلك الهجوم الكاسح بكلالامكانات وبكافة الطاقات، وكل منهما يبغي استئصال الآخر، وإنما هذا ما كان يخشاه الجانبان فإن القتل من أي طرف إنما هو اضعاف للمسلمين، لأن هؤلاء الحضور من أي جانب كان إنما هم جند المسلمين وقوتهم، وعلى عاتقهم حماية الثغور، واتمام الفتوحات، لذا كانت تتقدم فرقة إلى فرقة لعل الله يصلح الأمور، وتثوب العقول إلى رشدها، واستمر ذلك مدة شهر ذي الحجة، وأهل شهر المحرم، فتوقف القتال، وتصافوا لعلهم يتصالحون، وكثرت السفراء بين الفريقين ولكن دون جدوى. ولا بد هنا من وقفة قصيرة هل يترك الحقد لهم مجالاً للتفكير بالتوقف عن القتال لو كان هناك حقد ؟ إلا أن النفوس طيبة، وبالقلوب محبة صادقة تستغل أي شيء لعل الأمر يهدأ ويتم الصلح. ومع ذلك فقد بقي كل على رأيه مصر على موقفه، علي واضح بيّن رأيه، ومعاوية لا يبدي تجاوباً، وكان لابد من القتال العام.

عادت الفرق من الجانبين يناوش بعضها بعضاً، واستمر ذلك مدة النصف الأول من شهر صفر من عام 37 هـ، فلما رأى الطرفان أن التأخير لا يفيد كان لا بد من حملة عامة، وكانت، واستمر القتال ثلاثة أيام قتل من الفريقين العدد الكثير، فقد قتل عمار بن ياسر، وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص من أصحاب علي، وقتل عبيدالله بن عمر بن الخطاب من أصحاب معاوية، وظهرت علائم الهزيمة على جيش الشام، ورفعت المصاحف، وتوقف القتال، وعلى الرغم مما قيل من أن العراق لم يكن قسم منهم يرغب في وقف القتال، ومنهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب نفسه، والاشتر النخعي أحد القادة البارزين والذي استمر في القتال على الرغم من إعطاء الأوامر له بالكف عن متابعة القتال، إلا أن الأمر قد تم، وتوقف القتال، فالمسلمون ينتظرون من كل بارقة أمل أن يكون فيها الصلح، ولو لما يكن ذلك لم توقف القتال، والنصر قد لاح لفريق وهو الطرف الشرعي، ويقاتل بعناد الطرف المعاند حسب رأي أمير المؤمنين على الأقل. ولما سأل الأشتر النخعي معاوية بن أبي سفيان عن رأيه، أجابه بفكرة الحكمين.

توقف القتال، وكتبت صحيفة التحكيم، وشهد عليها رجال من الطرفين، وجند الشام راضون وجند العراق بين راض وساخط وساكت مكرهاً. وبعد يومين من ذلك العقد أذن علي بالرحيل إلى الكوفة بعد أن دفنوا موتاهم، وسار الموكب نحو الكوفة، على حين تحرك معاوية بجيشه نحو الشام.

لم يدخل جيش علي كله الكوفة كما خرج منها، وإنما انحازت جماعة منه إلى حروراء مخالفين ما في صحيفة التحكيم، وغاضبين عما تم، وقد رتبوا أمورهم، فجعلوا أمر الحرب إلى شبث بن ربعي التميمي، وكان عبدالله بن الكواء يصلي بالقوم، فأرسل علي إليهم الرسل علهم يعودون إلى صوابهم، ويرجعون إلى إخوانهم وربما كانوا يفكرون في ذلك، لذلك كانوا يطالبون علياً بالعودة إلى القتال وترك التحكيم، وعاد بعضهم، ومنهم أمير حربهم شبث بن ربعي التميمي، ثم أرسل علي إليهم عبدالله بن عباس فناقشهم وأطال معهم الجدال، ثم ذهب إليهم علي بنفسه وحاجهم، وعادوا جميعاً فدخلوا الكوفة، وظن أن الأمر قد انتهى، إلا أنهم بقوا على الدوام يعلنون عن آرائهم، ويصيحون صحيتهم لا حكم إلا لله التي يقول عنها أمير المؤمنين : كلمة حق أريد بها باطل، ويناقشون، ويظنون أن علياً سيعود إلى القتال، وإنما ينتظر الناس حتى تستريح، وبعدها ينهض للحرب.

اجتمع الحكماء في دومة الجندل، ولم يتفقا على شيء بل رجعا من غير تفاهم، ولكن ليس ما ذكره المؤرخون بالصحيح، فلم يكن أبو موسى الأشعري ذلك الرجل المغفل البسيط الذي يلعب به، وهو الصحابي الجليل، والوالي لعمر بن الخطاب على الأمصار، وعمر لا يمكن أن يولي عاملاً من النوع الذي ينعت به المؤرخون أبا موسى، كما أن عمرو بن العاص لم يكن ذلك الرجل من الغدر، وقلة الدين، وعدم الوفاء والمروءة، وإنما افترقا من غير اتفاق.

أراد علي بعد فشل التحكيم أن يستعد للنهوض إلى الشام، وطلب من واليه على البصرة عبدالله بن عباس أن يستعد بأهل مصره، فأرسل ابن عباس المقاتلين، إلا أن علياً قد لاحظ أولئك الذين خرجوا من عسكره بالأمس ثم عادوا، ثم بدؤوا يتسللون رتلاً إثر رتل، ويكتبون إلى إخوانهم في البصرة ليوافوهم في النهروان، فسكت عنهم، وأراد أن يتركهم وما خرجوا له، وقال : إن سكتوا تركناهم، وإن تكلموا جادلناهم، وإن أفسدوا قاتلناهم، ورغب أن يسير إلى الشام ويتركهم وشأنهم، إلا أن فسادهم قد بدأ، فقد قتلوا عبدالله بن خباب بن الأرت وذبحوه ذبح النعاج، وقتلوا نسوة معه، فأرسل إليهم رسولاً فقتلوه، عندها اضطر إلى العودة إليهم، والتخلص منهم بصورة من الصور قبل أن يسير ويتركهم وراءه يعيثون في الأرض الفساد.

فسار إليهم، وجادلهم، وطلب منهم تسليم قتلة عبدالله بن خباب بن الارت فقالوا : كلنا قتلة، وتمادوا في الرد، ثم هجموا على جيشه، وبدؤوا بالقتال، فاضطر إلى حربهم وإبادتهم في مكانهم في النهروان، وكان أكثرهم من أهل الكوفة، وجيشه من أهل الكوفة، فقد قتل زيد بن عدي بن حاتم معهم، وأبوه عدي بن حاتم في جيش علي، وأكثر القتلى كانوا بهذه الصورة أو قريبة منها، فغدا جيشه حزيناً كئيباً على قتلى خصومه أو قتلى أهله فتغيرت النفوس، وتبدلت الطباع، وعلى هذه الصورة كانت تلك المعارك التي دارت في ذلك الوقت بين المسلمين : اختلاف في وجهات النظر وفي الرأي فينحاز كل فرد إلى جانب، ويقاتل فمن قتل فقد انتهى، ومن قتل فقد أصيب بمن فقد.

رأى علي بن أبي طالب أن ينتظر قليلاً ليستريح الناس من تعب القتال، ولينسى الذي أصيب مصيبته، وكان معاوية بن أبي سفيان بالشام قد سمع استعداد علي للسير إلى الشام فأسرع إلى صفين ولكن لم يجد للعراق جيشاً، وانتظر، وجاءت أخبار الخوارج، وما حدث بينهم وبين علي، فعرف الأمر، وقفل راجعاً إلى الشام وقد أراح واستراح.

رأى علي أن جنده قد استراحوا وحصلوا على ما أحبوا فدعاهم للقتال فلم ينفروا، وحثهم فلم يستجيبوا، وحرضهم فلم يسمعوا، وكان يخطبهم، ويقسو عليهم، فيسمعون ثم يخرجون ولكنهم كأنهم لم يسمعوا كلاماً حتى ضاق بهم علي رضي الله عنه ذرعاً وتمنى لو لم يعرفهم، وكانت حياته معهم محنة شاقة، وعيشاً مليئاً بالمشاق والصعاب والمنغصات يأمر فلا يطاع،ويدعو فلا يستجاب له، ولربما حدث هذا مع أهل الكوفة بسبب ما خاضوا من حروب من إمامهم، إلا أنهم رأوها عندما فكروا أنها بين المسلمين بعضهم مع بعض، وبسبب الحزن الذي أصابهم بعدما فقدوا إخوانهم في النهروان، وربما بسبب ما لاحظوه من توقف الفتوحات، وعدم امتداد سلطان الدولة كما كان، بل أخذ في الاضطراب، إذ طمع الروم بثغور الشام فأسكتهم معاوية بدفع جزء من المال ريثما تنتهي أوضاع المسلمين، واضطربت ثغور المشرق على عمال علي وكان يكلفه العناء الكبير حتى يهدأ الوضع وتستقر الحال.

وربما كان بسبب أوضاعهم المادية الحسنة إذ كان علي رضي الله عنه يقسم لهم المال باستمرار، ويعطيهم أعطياتهم، ويحب بين المدة والمدة أن يكنس بيت المال ويصلي فيه ركعتين، فلربما وجدوا في ذلك راحة مغرية، ودعة مطمعة فأخلدتهم إلى الأرض، ورغبتهم في الاستقرار. وكل هذا يجعل أمر علي صعباً وحياته قاسية وفي الوقت نفسه يبعد التفكير عند معاوية عن البيعة والدخول فيما دخل فيه الناس، حيث يرى أن وضع الخليفة غير مستقر، وكلمته غير مسموعة، وعدداً من الصحابة لم يبايعوا ...

وظهر علي أنه قد انتهى من الخوارج في النهروان، إلا أنه قد تبين له بعد حين أنه ما انتهى إلا من عدد قليل منهم أو جزء منهم، وأن في معسكره في الكوفة عدداً منهم، وكانوا يجاهرون برأيهم، ويناقشونهم، وهذا ما زاده إلا غماً على غم، ولما رأى ما رأى، ونظر إلى أنه يدعو فلا يستجاب له، لذا كان هادئ الطبع يناقشهم ويستمع إليهم، ولا يمنع عنهم أعطياتهم، وكانوا يعايشونه ويعايشون عامله على البصرة، ويخرجون تحت جنح الظلام ليلتقي بعضهم مع بعض، وقد يعيشون الفساد، ويقتلون إن رأوا مسلماً، فكان علي لذلك يتمنى الموت، ويقول : ما يؤخر أشقاها؟ أي ما يمنع أشقى الناس أن يقتله، ويريحه مما يجد من أصحابه، وكان يعلم أنه سيموت شهيداً حسبما أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه سيقتله أشقى الأمة.

وأصبح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في الكوفة، وواليه عبدالله بن عباس في البصرة يأمران فلا يجابان، الأمر الذي جعل عبدالله بن عباس يفكر في الخلاص مما هو فيه كما يفكر الخليفة بالذات، ويقال إن ابن عباس قد ترك الولاية لزياد بن أبيه، وارتحل إلى مكة، ليعيش فيها بعد أن أعياه أصحابه، والحقيقة أنه لم يترك، بل بقي فيها حتى قتل الخليفة، بل وحتى بايع الحسن بن علي معاوية بن أبي سفيان، ثم سافر بعد ذلك إلى مكة، ولربما لو كان علي وزيراً لفعل ذلك لشدة ما وجد من رعاياه، ولكن الأمير لا يمكن أن يفعل ذلك.

ووجد جند الشام أن الخليفة لا يطاع، ولم يعد له إلا الرمز في السياسة الشامية، ولكنه يقوم بادارة البلاد بكل حزم، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فأمعنوا في المعارضة. فاستطاع عمرو بن العاص أن يدخل مصر، وأن يحكمها بعد مقتل محمد بن أبي بكر والي علي عليها، ولم يستطع الاشتر النخعي أن يصل إليها، إذ مات بالطريق وهو إليها وذلك عام 38 هـ، إذا أن الأشتر كان مع علي في صفين فلما عاد منها أعاده إلى عمله بالجزيرة أميراً على مدينة (نصيبين) ثم وجهه إلى مصر فمات مسموماً. أما قيس بن سعد بن عبادة فكان على شرطة علي.

أرسل معاوية بن أبي سفيان إلى البصرة عبدالله بن عامر الحضرمي حيث يوجد في هذا المصر من يطالب بثأر سيدنا عثمان، ومن نكب في معركة الجمل، فحدثت اضطرابات، ولكن لم يصل إلى نتائج مرضية له.

وفي عام 39 هـ، فرق معاوية جيشه على أطراف أملاك علي، فأرسل النعمان بن بشير في ألفي رجل إلى عين التمر، وأرسل سفيان بن عوف في ستة آلاف إلى هيت، فلم يجد بها أحداً، فسار إلى الأنبار فأغار عليها ثم عاد. وأرسل الضحاك بن قيس إلى جهات تدمر، ولكنه هزم أمام حجر بن عدي الكندي قائد علي. وأرسل عبدالله بن مسعدة الفزاري في ألف وسبعمائة رجل إلى تيماء، وكانت غارات أهل الشام هذه أن زادت أهل العراق خوفاً، ورغبة في السلم، وعدم نهوض إلى القتال.

وأرسل معاوية يزيد بن شجرة الرهاويأميراً علىالموسم ليقيم للناس حجهم، فلما دنا من مكة خافه قثم بن العباس عامل علي عليها فاعتزله، وتوسط الناس في الأمر، واختاروا عثمان بن أبي طلحة أميراً للحج في ذلك العام 39 هـ، وعرف علي مسير يزيد بن شجرة فندب الناس لرده فتثاقلوا، ثم أرسل معقل بن قيس في جند فوصلوا عندما كان الموسم قد انتهى، ولكنهم أدركوا مؤخرة يزيد، فأسروا نفراً منهم، وعادوا بهم إلى الكوفة.

ولما اختلف الناس على علي، طمع أهل فارس وأهل كرمان فحجبوا الخراج، وطردوا سهل بن حنيف عامل علي هناك، فبعث إليهم علي زياد بن أبيه فأعاد الأمن وضبط المنطقة.

وفي عام 40 هـ أرسل معاوية بن أبي سفيان بسر بن أبي أرطأة إلى الحجاز في ثلاثة آلاف رجل، فدخل المدينة، وخرج منها عامل علي أبو أيوب الانصاري خالد بن زيد، واتجه إلى الكوفة، وبايع أهل المدينة بسراً ومنهم بعض الصحابة أمثال جابر بن عبدالله، وعبدالله بن زمعة، وعمر بن أبي سلمة، وذلك برأي أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها إذ خافت عليهم، وخافوا على أنفسهم.

ثم انطلق بسر بن أبي أرطأة إلى مكة المكرمة فخافه أبو موسى الأشعري، إلا أنه عفى عنه، ومن مكة سار بسر إلى اليمن التي عليها عبيدالله بن عباس من قبل علي، وكان قد لقي من أهلها فظاظة فكتب إلى أمير المؤمنين بذلك، فأرسل إليهم يستصلحهم، ولكن لم تصلح معهم الرأفة والرحمة، فههدهم فخافوه، فكتبوا إلى معاوية يستنصرونه فسار إليهم من مكة بسر، وهو يريد الايقاع بهم، وهمّ أن يقسو على أهل الطائف إلا أن المغيرة بن أبي شعبة نصحه فعدل عن رأيه، ولما وصل إلى اليمن كان عبيد الله بن عباس قد غادرها إلى الكوفة بعد أن استخلف عبدالله بن عبدالله المدان إلا أن بسراً قد دخلها، وأرسل علي إلى جزيرة العرب جارية بن قدامة، ومعه ألفان، ووهب بن مسعود ومعه ألفان، وسار جارية حتى أتى نجران، ففرّ بسر إلى مكة، فتبعه جارية فدخلها، وطلب من أهلها البيعة، فقالوا له : هلك أمير المؤمنين، فقال : بايعونا لمن بايع له أصحاب علي فبايعوه، ثم سار جارية إلى المدينة فدخلها وكان يصلي بالناس أبو هريرة رضي الله عنه، ثم بايع أهل المدينة الحسن بن علي.

كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه خلال هذه المدة كلها لا تشغله الأمور السياسية، ولا تحرفه عن طريق تصرفات أصحابه وتخاذلهم، ولا يمنعه ما لقي من بعض الولاة أن يتبع الصراط المستقيم وأن ينطلق من خلال فقهه وعلمه، فقد كان عمر بن الخطاب يقول : علي أقضانا، وقد سار علي في الناس سيرة عمر التي عرفت بالحزم، فقد منع الصحابة من مغادرة المدينة، وكان يحمل الدرة ويؤدب الناس بها، ثم الخيزرانة عندما لم تجد الدرة، ويمر بالأسواق، وينظر في الأسعار ويراقبها، ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، ويجلس للناس في المسجد يحل مشكلاتهم، ويقضي لهم، ويعظ الناس، ويخطبهم.

yacine414
2011-03-17, 16:59
مقتل علي :

اجتمع عدد من الخوارج فتذاكروا فيما آل إليه أمر المسلمين، وتذكروا قتلاهم يوم النهروان، فثارت بهم الحمية، ورأوا أن علياً ومعاوية وعمراً من أسباب بلاء الأمة -حسب رأيهم وما توصلوا اليه- لذا قرروا التخلص منهم. فتعهد عبدالرحمن بن ملجم المرادي علياً، وأخذ البرك بن عبدالله على عاتقه قتل معاوية، ووعد عمرو بن بكر التميمي بالتخلص من عمرو بن العاص، وتواعدوا كتم أمرهم، وأن يسير كل حسب جهته الموكل بها، وأن يكون موعدهم لتنفيذ الخطة صلاة الفجر من يوم 17 رمضان سنة 40 هـ.

ومرّ عبدالرحمن بن ملجم على تيم الرباب فوجد بينهم فتاة رائعة الجمال تدعى قطام ابنة الشجنة وكانت ممن أصابها وأصاب قومها النكبات يوم النهروان : فخطبها ابن ملجم، فاشترطت عليه مهراً كبيراً مقداره ثلاث آلاف دينار وعبد وقينة ثم رأس علي، فوافقها وأسرّ لها مهمته بعد أن قال لها : هذا طلب من لا تريد العيش مع زوجها، فأجابته : إن نجوت عشنا خير حياة، وإلا فزت بالجنة -حسب زعمها- وهو في الواقع أشقى من عليها. وجاء اليوم الذي اتفقوا عليه، فضرب ابن ملجم علي بسيفه المسموم فقتله، وأما معاوية فأصابه يومها البرك بن عبدالله في إليته، فنجا بعد مداواة، فاتخذ بعدها المقصورة، وأما عمرو بن العاص فلم يخرج يومها للصلاة لمرض أصابه، وكلّف مكانه صاحب شرطته خارجة بن حذافة فقتل.

ودخل جندب بن عبدالله على علي بعد إصابته فقال له : يا أمير المؤمنين إن فقدناك ولا نفقدك فنبايع الحسن، فقال : ما آمركم ولا أنهاكم أنتم أبصر. ونهى علي عن المثلة بقاتله وقال : إن مت فاقتلوه بي، وإن عشت رأيت رأيي فيه. ثم لم يلبث أن توفي، وغسله الحسن والحسين وعبدالله بن جعفر، وكفن، وكثرت الروايات حول دفنه، الأمر الذي جعل قبره مجهول المكان.

واتجه الناس إلى الحسن فبايعوه وكان أول من بايعه قيس بن سعد، وبقي الحسن في الخلافة ستة أشهر رأى خلالها تخاذل أصحابه، وضرورة اتفاق الأمة، فآثر الصلح، ودعا معاوية إليه فوافق، وتنازل الحسن له في 25 ربيع الأول عام 41 هـ، ودخل معاوية الكوفة، وانتقل الحسن والحسين إلى المدينة. ويبدو أن الحسين لم يكن برأي أخيه وكذا قيس بن سعد.

وهكذا انتهت مدة الخلافة الراشدة التي سارت على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدأت بعدها زاوية الانحراف تنفرج تدريجياً.

yacine414
2011-03-17, 17:00
الدولة الأموية

معاوية بن أبي سفيان

ترجمته:

هو معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف« ولد بمكة قبل الهجرة بخمس عشرة سنة وفي يوم الفتح كان سنه 23سنة وفي ذلك اليوم دخل في الإسلام مع من أسلم من مسلمة الفتح وكان بعد إسلامه يكتب بين يدي رسول اللَّه r ، وفي خلافة أبي بكر ولاه قيادة جيش مدداً لأخيه يزيد بن أبي سفيان وأمره أن يلحق به فكان غازياً تحت إمرة أخيه وكان على مقدمته في فتح مدن صيدا وعرقه وجبيل وبيروت وهي سواحل دمشق ثم ولاه عمر ولاية الأردن« ولما توفي يزيد في طاعون عمواس ولاه عمر بن الخطاب عمل يزيد على دمشق وما معها« وفي عهد عثمان جمع لمعاوية الشام كلها فكان ولاة أمصارها تحت إمره، وما زال والياً حتى استشهد عثمان بن عفان وبويع علي بالمدينة فرأى أن لا يبايعه لأنه اتهمه بالهوادة في أمر عثمان وإيواء قتلته في جيشه وبايعه أهل الشام على المطالبة بدم عثمان وكان وراء ذلك أن حاربه علي بن أبي طالب في صفين وانتهت الموقعة بينهم بالتحكيم فلما اجتمع الحكمان واتفقا على خلع علي ومعاوية من الخلافة وأن يكون أمر المسلمين شوري ينتخبون لهم من يصلح لإمامتهم بايع أهل الشام معاوية بالخلافة فصار معاوية إمام أهل الشام وعلي إمام أهل العراق وما زال الخلاف محتدماً بينهما حتى قتل علي بن أبي طالب وسلم ابنه الحسن بن علي الخلافة إلى معاوية، وحينئذ اجتمع على بيعة معاوية أهل العراق والشام وسمي ذلك العام الحادي والأربعون من الهجرة عام الجماعة لاتفاق كلمة المسلمين بعد الفرقة وبذلك يكون ابتداء خلافة معاوية الخلافة العامة في ربيع الأول سنة 41.

yacine414
2011-03-17, 17:01
طريقة انتخاب معاوية:

لم ينتخب معاوية للخلافة انتخاباً عاماً يعني من جميع أهل الحل والعقد من المسلمين وإنما انتخبه أهل الشام للخلافة بعد صدور حكم الحكمين، ولا يعتبره التاريخ بذلك خليفة، فلما قتل علي بن أبي طالب وبايع جند العراق ابنه الحسن رأى من مصلحة المسلمين أن يبايع معاوية ويسلم الأمر إليه، فبايعه في ربيع الأول سنة 41 فبيعته اختيار من أهل الشام وبطريق الغلبة والقهر من أهل العراق، إلا أنها انتهت في الآخر بالرضا عن معاوية والتسليم له في جميع الأمة ما عدا الخوارج.

yacine414
2011-03-17, 17:02
حالة الأمة عند استلام معاوية الأمر:

تولى معاوية أمر الأمة، وهي أقسام ثلاثة:

القسم الأول: شيعة بني أمية من أهل الشام ومن غيرهم في سائر الأمصار الإسلامية.

القسم الثاني: شيعة علي بن أبي طالب وهم الذين كانوا يحبونه ويرون أنه أحق بالأمر من معاوية وغيره وأن أعاقبه أحق بولاية أمر المسلمين من غيرهم ومعظمهم هؤلاء كان ببلاد العراق وقليل منهم بمصر.

القسم الثالث: الخوارج وهم أعداء الفريقين يستحلون دماء مخالفتهم ويرونهم مارقين من الدين، وهم أشداء الشكيمة متفانون فيما يعتقدون، يرون أن أول واجب عليهم قتال معاوية ومن تبعه وقتال شيعة علي لأن كلا قد ألحد على زعمهم في الدين ومع ما بينهم من هذا التباين كانت أمة متمتعة بصفة الشجاعة والإقدام، ومثل هذه الأمة تحتاج لسياسة حكيمة في إدارة شؤونها وإفاضة ثوب من الأمن عليها، أما معاوية نفسه فلم يكن أحد أوفر منه يداً في السياسة، صانع رؤس العرب وقروم ومضر بالأعضاء والاحتمال والصبر على الأذى والمكروه، وكانت غايته في الحلم لا تدرك وعصابته فيه لا تنزع ومرقاته فيه نزل عنها الأقدام.

كان الذي يهم معاوية ويقلقه أمر الخوارج لأنهم قوم قلما ينفع معهم حسن السياسة لأنهم قوم غلو في الدين غلواً عظيماً وفهموا كثيراً منه على غير وجهه، ففرقوا كلمة الأمة ورأوا من واجبهم استعراض الأنفس وأخذ الأموال. ولنبدأ بذكر أخبارهم لبيان تفاصيل أحوالهم.

yacine414
2011-03-17, 17:03
الخوارج:

لما بويع معاوية بالكوفة كان فروة بن نوفل الأشجعي معتزلاً في 500 من الخوارج فرأوا أن الوقت قد حان لتجريد السيف فأقبلوا حتى نزلوا النخيلة فأرسل إليهم معاوية جمعاً من أهل الشام فانهزم أهل الشام أمامهم، فقال معاوية لأهل الكوفة واللَّه لا أمان لكم عندي حتى تكفونهم، فخرج إليهم أهل الكوفة فقال لهم الخوارج أليس معاوية عدونا وعدوكم دعونا حتى نقاتله فإن أصبناه كنا قد كفيناكم عدوكم، وإن أصابنا كنتم قد كفيتمونا فقالوا لا بد لنا من قتالكم فأخذت أشجع صاحبهم فروة قهراً وأدخلوه الكوفة، فولى الخوارج عليهم عبد اللَّه بن أبي الحوساء الطائي فقاتلهم أهل الكوفة فقتلوهم، وكان ابن أبي الحوساء قد خوف بالصلب فقال:

ماذا فعلتم بأوصال وأبشار

ما إن أبالي إذا أرواحنا قبضت

والشمس والقمر الساري بمقدار

تجري المجرة والنسران عن قدر

أن السعيد الذي ينجو من النار

وقد علمت وخير القول أنفعه


فلما قتل ابن الحوساء ولي الخوارج أمرهم حوثرة الأسدي فسار حتى قدم النخيلة في 150 وانضم إليه فل ابن الحوساء وهم قليل فقال معاوية لأبي حوثرة اكفني أمر ابنك فسار إليه أبوه فدعاه إلى الرجوع فأبى فأداره.

yacine414
2011-03-17, 17:05
تولية زياد بن سمية والمغيرة بن شعبة بلاد العراق:

ثم توالت الخوارج حتى أخافوا بلاد العراق فرأى معاوية أنه لا بد من تولية العراق رجالاً ذوي قدرة وحكمة يأخذون على أيدي السفهاء ويشتدون في طلب المريب فاختار رجلين كلاهما قد عرف بالسياسة وحسن الرأي وهما زياد بن سمية والمغيرة بن شعبة.

فأما زياد فقد كان من شيعة علي وكان والياً على فارس وقُتل علي وهو بها فذكر معاوية اعتصامه بفارس وأمهم ذلك فجعل المغيرة وسيطاً استقدامه فأتى المغيرة زياداً وقال له إن معاوية استخفه الوجل حتى بعثني إليك ولم يكن أحد يمد يده إلى هذا الأمر غير الحسن وقد بايع فخذ لنفسك قبل التوطين فيستغين عنك معاوية فقال زياد أشر علي وأرم الغرض الأقصى فإن المستشار مؤتمن فقال له المغيرة أرى أن تصل حبلك بحبله وتشخص إليه.

وكتب إليه معاوية بأمانة بعد عودة المغيرة فخرج زياد من فارس حتى أتى معاوية فسأله عن أموال فارس فأخبره بما أنفق منها وبما حمل إلى علي وبما بقي عنده، فصدقه معاوية وقبض منه ما بقي عنده.

yacine414
2011-03-17, 17:06
توليته البصرة وخراسان وسجستان:

وفي السنة الخامسة والأربعين ولاه معاوية البصرة وخراسان وسجستان فقدم البصرة آخر شهر ربيع الأول سنة 45 والفسق ظاهر فاش فيها فخطبهم خطبته الشهيرة بالبتراء، وإنما قيل لها ذلك لأنه لم يحمد اللَّه فيها. ولما في هذه الخطبة من روائع الكلم وبديع الحكم، وبيان سياسته في حكم البلاد، أحببنا إيرادها أولها قال:

أما بعد فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والغي الموفى بأهله على النار ما فيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور والعظام ينبت فيها الصغير ولا يتحاشى عنها الكبير كأنكم لم تقرءوا كتاب اللَّه ولم تسمعوا ما أعده من الثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول. أتكونون كم طرفت عينيه في الدنيا وسدت مسامعه الشهوات واختار الفانية على الباقية ولا تظنون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه من ترككم الضعيف يقهر ويؤخذ ماله؛ ما هذه المواخير المنصوبة الضعيفة المسلوبة في النهار المبصر والعدد غير قليل؟

وكان زياد أول من شدد أمر السلطان وأكد الملك لمعاوية وجرد سيفه وأخذ بالظنة وعاقب على الشبهة وخافه الناس خوفاً شديداً حتى أمن بعضهم بعضاً وحتى كان الشيء يسقط من يد الرجل أو المرأة فلا يعرض له أحد حتى يأتيه صاحبه فيأخذه. ولا يغلق عن أحد بابه وأدر العطاء وبني مدينة الرزق وجعل الشرط أربعة آلاف.

yacine414
2011-03-17, 17:10
معاملة زياد مع الخوارج:

قال أبو العباس المبرد في صفة زياد ومعاملته للخوارج كان يقتل المعلن ويستصلح المسر ولا يجرد السيف حتى تزول التهمة.

وبلغ زياداً عن رجل يكنى أبا الخير من أهل البأس والنجدة أنه يرى رأي الخوارج فدعاه فولاه جند نيسابور وما يليها ورزقه أربعة آلاف درهم كل شهر وجعل عمالته في كل سنة مائة ألف، فكان أبو الخير يقول ما رأيت شيئاً خيراً من لزوم الطاعة والتقلب بين أظهر الجماعة لم يزل والياً حتى أنكر منه زياد شيئاً فتنمر لزياد فحبسه فلم يخرج من حبسه حتى مات.
تولية زياد الكوفة:

وفي سنة 50 أضاف معاوية إلى زياد ولاية الكوفة بعد موت المغيرة بن شعبة فصار والي المصرين وهو أول من جمعا له فسار إلى الكوفة فلما وصلها خطب أهلها.
وفاة زياد:

توفي زياد في سنة 53 بالطاعون.

والمطلع على الطريقة التي حكم بها زياد بلاد العراق يراها بمثابة إعلان حكم عرفي فإن أخذ الولي بالمولي والمقيم بالظاعن والمقبل بالمدبر والمطيع بالعاصي والصحيح في جسمه بالسقيم أمر ليس جارياً على القانون الشرعي الذي يقصر المسئولية على المجرم وإنما ذلك شيء يلجأ إليه الإداريون لتخفيف آلاف الجرائم وإرهاب الناس حتى يأمن الناس شرهم وفائدة ذلك في الغالب وقتيبة. ومن ذلك وضعه العقوبات التي شرعها للجرائم المحدثة كما قال من نقب عن بيت نقيب عن قلبه ومن نبش قبراً دفنته فيه حياً.

والتاريخ إنما يعطي الإنسان صفة السياسة والحكمة إذا تمكن من إصلاح الفاسد بقليل من العسف لا نقول ذلك هضماً لحق زياد لأنه يعتبر أقل ولاة العراق إسرافاً في الدماء، ولقد بذل من وعده ما يقول بوعيده فقال إنه لا يحتجب عن طالب حاجة وإن أتاه طارقاً بليل ولا يحبس عطاء ولا رزقاً عن إبانه ولا يجمر لهم بعثاً، وهذه الأشياء الثلاثة متى وفرها الوالي وصدقها لا تجد سبباً للثورات ولا الفتن، ولذلك يقول بعض المؤرخين إن زياداً لم يحتج لتنفيذ ما أوعد به من العقوبات إلا قليلاً لأن علمهم بصدقه في الإيعاد أخافهم وأرهبهم وصيرهم يقفون عند الحد المشروع لهم.

وعلى الجملة، فإن عهد زياد بالعراق على ما فيه من قسوة كان عهد رفاهة وأمن، وهذا مما يسطره التاريخ لعرب العراق آسفاً، وذلك أنهم قوم لا يصلحهم إلا الشدة، وإذا وليهم وال فيه لين ورحمة فسدوا وارتكبوا المصاعب وأجرموا إلى الأمراء أو الخلفاء من غير بينة واضحة.
حال المغيرة بن شعبة مع الخوارج :

أما المغيرة بن شعبة فكانت سياسته أرفق وألين. أحب العافية وأحسن في الناس السيرة ولم يفش أهل الأهواء عن أهوائهم وكان يؤتي فيقال إن فلاناً يرى رأي الشيعة وإن فلاناً يرى رأي الخوارج، فكان يقول قضى اللَّه أن لا يزالوا مختلفين وسيحكم اللَّه بين عبادهفيما كانوا فيه يختلفون فأمنه الناس وكانت الخوارج يلقي بعضهم بعضاً، ويتذاكرون مكان إخوانهم بالنهروان، ويرون أن في الإقامة الغبن والوكف وأن في الجهاد أهل القبلة الفضل والأجر.

وقد فزع الخوارج في عهده إلى ثلاثة نفر، منهم المستورد بن علفة التميمي، من تيم الرباب، وحيان بن ظبيان السلمي، ومعاد بن جوين بن حصين الطائي فولوا أمرهم بعد الشورى المستورد بن علفة لأنه كان أسن القوم واتعدوا أن يتجهزوا ويتيسروا ثم يخرجوا في غرة الهلال هلال شعبان سنة 43 فكانوا في جهازهم وعدتهم فجاء رئيس شرطة المغيرة إليه وأخبره أن القوم مجتمعون في منزل حيان بن ظبيان وأنهم اتعدوا الخروج في هلال شعبان فأمره المغيرة أن يسير بالشرطة ويحيط بدار حيان ويأتيه بهم فسار رئيس الشرطة وأحاط بدار حيان وقبض على المجتمعين هناك.

فقال لهم المغيرة ما حملكم على ما أردتم من شق عصا المسلمين فقالوا ما أردنا من ذلك شيئاً ومن الغريب أنهم يكذبون مع أن الخوارج تبورأ من الكاذب. قال المغيرة بلى قد بلغني ذلك عنكم قد صدق ذلك عندي جماعتكم.

قالوا له أما اجتماعنا في هذا المنزل فإن حيان بن ظبيان أقرؤنا للقرآن فنحن نجتمع عنده في منزله فنقرأ القرآن عليه فأمر بهم إلى السجن فلم يزالوا فيه نحواً من سنة وسمع إخوانهم بأخذهم فحذروا وخرج المستورد وأصحابه فبلغ الخبر المغيرة أن الخوارج خارجة عليه في أيامه تلك وأنهم قد اجتمعوا على رجل فقام في أهل الكوفة خطيباً فقال:

أما بعد فقد علمتم أيها الناس أني لم أزل أحب لجماعتكم العافية وأكف عنكم الأذى وإني واللَّه لقد خشيت أن يكون أدب سوء لسفهائكم فأما الحلماء الأتقياء فلا وايم اللَّه لقد خشي أن لا أجد بداً من أن يعصب الحليم التقي بذنب السفيه الجاهل فكفوا أيها الناس سفهاءكم قبل أن يشمل البلاء عوامكم وقد ذكر لي أن رجالاً منكم يريدون أن يظهروا في المصر بالشقاق والخلاف وايم اللَّه لا يخرجون في حي من أحياء العرب في هذا المصر إلا أبدتهم وجعلتهم نكالاً لمن بعدهم فنظر قوم لأنفسهم قبل الندم فقد قمت هذا المقام إرادة الحجة والإعذار.

فقام إليه معقل بن قيس الرياحي فقال أيها الأمير هل سمى لك أحد من هؤلاء القوم فإن كانوا سموا لك فأعلمنا من هم فإن كانوا منا كفياكهم وإن كانوا من غيرنا أمرت أهل الطاعة من أهل مصرنا فأتتك كل قبيلة بسفهائها فقال ما سمي لي أحد منهم ولكن قد قيل لي إن جماعة يريدون أن يخرجوا بالمصر، فقال معقل أصلحك اللَّه، فإني أسير في قومي وأكفيك ما هم فيه فليكفك كل امرىء من الرؤساء قومه. فنزل المغيرة وأرسل إلى الرؤساء وقال لهم لكيفيني كل امرىء من الرؤساء قومه وإلا فوالذي لا إله غيره لأتحولن عما كنت تعرفون إلى ما تنكرون وعما تحبون إلى ما تكرهون فلا يلم لائم إلا نفسه وقد أعذر من أنذر فخرجت الرؤساء إلى عشائرهم فناشدوهم اللَّه والإسلام إلا دلوهم على من يرون أنه يهيج فتنة أو يفارق جماعة.
ولاية عبيد اللَّه بن زياد البصرة:

من ولاة العراق الأشداء عبيد اللَّه بن زياد ولاه معاوية البصرة سنة 55 وقد اشتد على الخوارج شدة لم يفعلها أبوه زياد فقتل منهم سنة 58 جماعة كثيرة صبراً وفي الحرب جماعة أخرى. وممن قتل صبراً عروة بن أدية، أخو أبي بلال مرداس بن أدية.

ولم يزل عبيد اللَّه على البصرة حتى توفي معاوية.
مصر:

وفي مصر كان الوالي عمرو بن العاص فاتحها وأعرف الناس بها ولم يزل والياً عليها حتى مات سنة 43 فولي بدله ابنه، ثم عزله بعد ذلك وولي غيره.
الحجاز:

أما الحجاز فكان ولائه ولاء دائماً من بني أمية وكانت ولاية المدينة بين مروان بن الحكم وسعيد بن العاص يتداولانها وكان معاوية إذا أراد أن يولي رجلاً من بني حرب ولاه الطائف فإن رأى منه خيراً وما يعجبه ولاه مكة معها فإن أحسن الولاية وقام بما ولي قياماً حسناً جمع له معهما المدينة، فكان إذا ولي الطائف رجلاً قيل هو في أبي جاد، فإذا ولاه مكة قيل هو في القرآن، فإذا ولاه المدينة قيل هو قد حذق، وكان ولاة المدينة في الغالب هم الذين يقيمون للناس الحج فإن معاوية لم يحج بنفسه إلا مرتين سنة 44 وسنة 50 وفيما عداهما كان يقيمه هؤلاء الولاة وكلهم من بني أمية.
الفتوح في عهد معاوية:

لم يكن في الشرق على حدود بلاد الفرس إلا فتوح قليلة والذي كان إنما هو إرجاع الناكثين من أهل تلك البلاد إلى الطاعة وغزا عبد اللَّه بن سوار العبدي الذي كان أميراً على ثغر السند القيقان مرتين وفي المرة الثانية استعان القيقان بالترك فقتلوه وغزا المهلب بن أبي صفرة الأزدي ثغر السند فأتى بتة ولاهور وهما بين الملتان وكابل فلقيه العدو وقاتله ولقي المهلب ببلاد القيقان ثمانية عشر فارساً من الترك فقاتلوه فقتلوا جميعاً فقال المهلب ما جعل هؤلاء الأعاجم أولى بالتشمير منا فحذف الخيل وكان أول من حذفها من المسلمين.

وكانت همة المسلمين موجهة نحو الشمال والغرب حيث مملكة الروم. كان على عهد معاوية من ملوك الروم ملكان أحدهما قسطنطين الثاني ابن هرقل الثاني الذي ولي الملك من سنة 641 م إلى سنة 668 م، وقسطنطين الرابع بوغاناتس الذي ولي من سنة 668 م إلى سنة 685 م ودولة الروم لم تزل فيها الحياة تغير على البلاد الإسلامية لما بينهما من الجوار.

فرتب معاوية الغزو إليها براً وبحراً أما البحر فكانت الأساطيل في زمنه كثيرة لاهتمامه بأمرها وساعده على ذلك كثرة الغابات بجبال لبنان حتى بلغت أساطيله 1700 ألفاً وسبعمائة سفينة كاملة العدد والعدد وصار يسيرها في البحر فترجع غانمة وافتتح بها عدة جهات منها جزيرة قبرص وبعض جزائر اليونان وجزيرة رودس افتتحها جنادة بن أبي أمية الأزدي ونزلها المسلمون وهم على حذر من الروم وكانوا أشد شيء على الروم يعترضونهم في البحر ويأخذون سفنهم وكان معاوية يكثر لهم العطاء وكان العدو قد خافهم.

yacine414
2011-03-17, 17:13
محاولة فتح القسطنطينية:

وأما في البر فرتب الشواتي _ جمع شاتية وهي الجيش الذي يغزو في الشتاء _ والصوائف _ جمع صائفة وهي الجيش الذي يغزو في الصيف _ فكانت الغزوات متتابعة والثغور محفوظة من العدو. وفي سنة 48 جهز معاوية جيشاً عظيماً لفتح القسطنطينية براً وبحراً وكان على الجيش سفيان بن عوف وأمر ابنه يزيد أن يغزو معهم وكان في هذا الجيش ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري وغيرهم وعبد العزيز بن زرارة الكلابي فساروا حتى بلغوا القسطنطينية فاقتتل المسلمون والروم في بعض الأيام واشتدت الحرب بينهم فلم يزل عبد العزيز يتعرض للشهادة فلم يقتل.

ثم حمل على من يليه فقتل فيهم وانغمس بينهم فشجره الروم برماحهم حتى قتلوه فبلغ خبر قتله معاوية فقال لأبيه واللَّه هلك فتى العرب فقال ابني أو ابنك قال ابنك فآجرك اللَّه.

ولم يتمكن هذا الجيش من فتح القسطنطينية لمتانة أسوارها ومنعة موقعها وفتك النار الإغريقية بسفنهم، وفي أثناء الحصار توفي أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد وهو الذي نزل عليه رسول اللَّه r بالمدينة حينما هاجر وقد دفن خارج المدينة قريباً من سور القسطنطينية ولا يزال قبره بها يزار للآن وعليه مسجد مشيد يتوج فيه خلفاء آل عثمان ثم اضطر المسلمون للعودة إلى الشام بعد أن فقدوا كثيراً من جنودهم ومراكبهم.
فتوح إفريقية:

ومن الفتوح العظيمة ما كان في إفريقية ففي سنة 50 ولي معاوية عقبة بن نافع وكان مقيماً ببرقة وزويلة مذ فتحها أيام عمرو بن العاص وله في تلك البلاد جهاد وفتوح، فلما استعمله معاوية سير إليه عشرة آلاف فدخل إفريقية وانضاف من أسلم من البربر فكثر جمعه ووضع السيف في أهل البلاد لأنهم كانوا إذا دخل عليهم أمير أطاعوا وأظهر بعضهم الإسلام فإذا عاد الأمير عنهم نكثوا وارتد من أسلم ثم رأى أن يتخذ مدينة يكون بها عسكر المسلمين وأهلهم وأموالهم ليأمنوا من ثورة تكون من أهل البلاد فقصد موضع القيروان وكان دجلة مشتبكة فقطع الأشجار وأمر ببناء المدينة فبنيت وبنى المسجد الجامع وبنى الناس مساجدهم ومساكنهم وكان دورها 3600 باع وتم أمرها سنة 55 وسكنها الناس وكان في أثناء عمارة المدينة يغزو ويرسل السرايا فتغير ودخل كثير من البربر في الإسلام واتسعت خطة المسلمين وقوي جنان من هناك من الجنود بمدينة القيروان وأمنوا واطمأنوا على المقام فثبت الإسلام فيها.
البيعة ليزيد بولاية العهد:

فكر معاوية أن يأخذ على الناس البيعة ليزيد ابنه بولاية العهد وكان الواضع لهذه الفكرة المغيرة بن شعبة قبل وفاته، دخل على يزيد وقال له قد ذهب أعيان أصحاب رسول اللَّه r وكبراء قريش وذوو أسنانهم وإنما بقي أباؤهم وأفضلهم وأحسنهم رأياً وأعلمهم بالسنة والسياسة، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة. قال أو ترى ذلك يتم؟ قال نعم. فأخبر يزيد أباه بما قال المغيرة فأحضره معاوية وسأله عما قال ليزيد، فقال قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان وفي يزيد منك خلف فاعقد له فإن حدث بك حادث كان كهفاً للناس وخلفاً منك ولا تسفك دماء ولا تكون فتنة. قال ومن لي بذلك قال أكفيك أهل الكوفة، ويكفيك زياد أهل البصرة، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. قال فارجع إلى عملك وتحدث مع من تثق به في ذلك؟ وترى ونرى.

فسار المغيرة إلى الكوفة وذاكر من يثق به ومن يعلم أنه شيعة لبني أمية، أمر يزيد، فأجابوا إلى بيعته فأوفد منهم وفداً عليهم ابنه موسى فقدموا على معاوية فزينوا له بيعة يزيد فقال معاوية لا تعجلوا بإظهار هذا وكونوا على رأيكم. فرجعوا وقوي عزم معاوية على البيعة ليزيد، فأرسل إلى زياد يستشيره فأحضر زياد عبيد بن كعب النميري وقال إن لكل مستشير ثقة ولكل سر مستودعاً. وإن الناس قد أبدع بهم خصلتان إذاعة السر وإخراج النصيحة إلى غير أهلها وليس موضوع السر إلا أحد رجلين رجل آخرة يرجو ثوابها ورجل دنيا له شرف في نفسه وعقل يصون حبسه قد خبرتهما عنك وقد دعوتك لأمر اتهمت عليه بطون الصف، إن أمير المؤمنين كتب إلي يستشيرني في البيعة ليزيد، إنه يتخوف نفرة الناس ويرجو طاعتهم وعلاقة أمر الإسلام وضمانه عظيم ويزيد صاحب رسلة وتهاون مع ما قد أولع به من الصيد فالق أمير المؤمنين وأد إليه فعلات يزيد وقل له رويدك بالأمر فأحرى لك أن يتم لكولا تعجل فإن دركا في تأخير من فوت في عجلة.

وكان معاوية قد كتب إلى عماله بتقريظ يزيد ووصفه، وأن يوفدوا إليه الوفود من الأمصار. فكان فيمن أتاه محمد بن عمرو بن حزم من المدينة والأحنف بن قيس في وفد أهل البصرة، فقال محمد بن عمرو لمعاوية إن كل راع مسؤول عن رعيته فانظر من تولى أمر أمة محمد.

ثم إن معاوية قال للضحاك بن قيس الفهري لما اجتمعت الوفود عنده إني متكلم فإذا سكت فكن أنت الذي تدعو إلى بيعة يزيد وتحثني عليها، فلما جلس معاوية للناس تكلم فعظم أمر الإسلام وحرمة الخلافة وحقها وما أمر اللَّه به من طاعة ولاة الأمر ثم ذكر يزيد وفضله وعلمه بالسياسة وعرض بيعته.

فقام الضحاك فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال يا أمير المؤمنين إن لا بد للناس من وال بعدك وقد بلونا الجماعة والألفة فوجدناهما أحقن للدماء وأصح للدهماء وآمن للسبل وخيراً في العاقبة، والأيام عوج رواجع واللَّه كل يوم هو في شأن، ويزيد ابن أمير المؤمنين في حسن هديه وقصد سيرته أعلى ما علمت، وهو من أفضلنا علماً وحلماً وأبعدنا رأياً فوله عهدك واجعله لنا علماً بعدك ومفزعاً نلجأ إليه ونسكن في ظله، ثم تكلم غيره بمثل كلامه. فقال معاوية للأحنف بن قيس ما تقول يا أبا بحر؟ فقال نخافكم إن صدقنا ونخاف اللَّه إن كذبنا وأنت يا أمير المؤمنين أعلم بيزيد في ليله ونهاره وسره وعلانيته ومدخله ومخرجه فإن كنت تعلمه للَّه وللأمة رضا فلا تشاور فيه، وإن كنت تعلم فيه غير ذلك فلا تزوده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة، وإنما علينا أن نقول سمعنا وأطعنا.

ونقول إن فكر معاوية في اختيار الخليفة يعده حسن جميل وإنه ما دام لم توضع قاعدة لانتخاب الخلفاء ولم يعين أهل الحل والعقد الذين يرجع إليهم الاختيار فأحسن ما يفعل هو أن يختار الخليفة ولي عهده قبل أن يموت لأن ذلك يبعد الاختلاف الذي هو شر على الأمة من جور إمامها وقد فعل معاوية ما يظهر معه أنه لم يستبد بالأمر دون الأمة فطلب وفود الأنصار فحضروا عنده وأجابوه إلى طلبته من بيعة يزيد ابنه والذي ينقده التاريخ من أمره هو:

1.أنه استهان أولئك النفر _ هم: هم عبد اللَّه بن الزبير، وابن عمر، والحسين بن علي _ الذين لم يرضوا بيعة يزيدوهم من سادة الأمة الذين يتطلعون لولاية أمر المسلمين فلم يهم بخلافهم بل ادعى أنهم بايعوا لينال بيعته أهل مكة، وهذا غير لائق بمقام خليفة المسلمين.

2.مما انتقده الناس أنه اختار ابنه للخلافة، وبذلك سن في الإسلام سنة الملك المنحصر في أسرة معينة بعد أن كان أساسه الشورى ويختار من عامة قريش وقالوا إن هذه الطريقة التي سنها معاوية، تدعو في الغالب إلى انتخاب غير الأفضل الأليق من الأمة، وتجعل في أسرة الخلافة الترف والانغماس في الشهوات والملاذ والرفعة على سائر الناس، أما رأينا في ذلك فإن هذا الانحصار كان أمراً لا بد منه لصلاح أمر المسلمين وألفتهم ولم شعثهم فإنه كان كلما اتسعت الدائرة التي منها يختار الخليفة كثر الذين يرشحون أنفسهم لنيل الخلافة، وإذا انضم إلى ذلك اتساع المملكة الإسلامية وصعوبة المواصلات بين أطرافها وعدم وجود قوم معينين يرجع إليهم الانتخاب فإن الاختلاف لا بد واقع، إن أعظم من ينتقد معاوية في تولية ابنه هم الشيعة مع أنهم يرون انحصار ولاية الأمر في آل علي ويسوقون الخلافة في بنية يتركها الأب منهم للابن، وبنو العباس أنفسهم ساروا على هذه الخطة فجعلوا الخلافة حقاً من حقوق بيتهم لا يعدوهم إلى غيرهم. والنتيجة أن ما فعله معاوية كان أمراً لا بد منه مع الحال التي كانت عليها البلاد الإسلامية.
الإنجازات في عهد معاوية:

1ــ من المحدثات الجميلة التي حدثت في عهد معاوية البريد ومعنى ذلك أن تقسم الطرق منازل في كل منزل دواب مهيأة معدة لحمل كتب الخليفة إلى البلدان المختلفة، فتسلم الكتب بالحاضرة فيأخذها صاحب البريد ويمر مسرعاً حتى إذا وصل إلى أول منزلة سلمها لصاحب البريد فيها فيفعل بها كالأول وبذلك كانت تصل الكتب إلى الأمراء والعمال في أسرع وقت يمكن.

2ــ معاوية أول من اتخذ الحرس ولم يكن شيء من ذلك في عهد الخلفاء الراشدين وإنما اتخذه بعد أن كان من إرادة الخارجي قتله.

3ــ اتخذ معاوية ديوان الخاتم. وكان سبب ذلك أنه أمر لعمرو بن الزبير بمائة ألف درهم وكتب له بذلك إلى زياد. ففتح عمرو الكتاب وصير المائة مائتين فلما رفع زياد حسابه أنكرها معاوية وطلبها من عمرو وحبسه فقضاها عنه أخوه عبد اللَّه بن الزبير فأحدث معاوية عند ذلك ديوان الخاتم وحزم الكتب وكانت قبل لا تحزم.

4ــ كان كاتب معاوية سرجون الرومي لأن ديوان الشام كان لعهده بالرومية ويظهر أنه كاتب الخوارج، وكان سرجون صاحب أمره ومدبره ومشيره.

وكان حاجبه سعد مولاه.

وقاضيه فضالة بن عبيد الأنصاري ثم أبو إدريس الخولاني ومعنى ذلك أنه كان قاضي الشام وكان لكل ولاية قاض خاص.
وفاة معاوية:

مرض معاوية بدمشق في جمادي الثانية وكان يزيد ابنه غائباً، فأحضر معاوية الضحاك بن قيس ومسلم بن عقبة المري وأدى إليهما وصيته إلى يزيد وكان فيها: يا بني إني قد كفيتك الشد والترحال ووطأت لك الأمور وذللت لك الأعداء وأخضعت رقاب العرب وجمعت لك ما لم يجمعه أحد، فانظر أهل الحجاز فإنه أصلك وأكرم من قدم عليك منهم وتعاهد من غاب وانظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملاً فافعل فإن عزل عامل أسهل من أن يشهر عليك مائة ألف سيف، وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وغيبتك فإن رابك من عدوك شيء فانتصر بهم فإذا أصبتهم فأردد أهل الشام إلى بلادك فإنهم إن قاموا بغير بلادهم تغيرت أخلاقهم. وإني لست أخاف أن ينازعك في هذا الأمر إلا أربعة من قريش الحسين بن علي وعبد اللَّه بن عمر وعبد اللَّه بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر.

فأما ابن عمر فإنه رجل قد وقدته العبادة فإذا لم يبق أحد غيره بايعك.

وأما الحسين بن علي فهو رجل خفيف ولن يتركه أهل العراق حتى يخرجوه فإن خرج وظفرت به فأصفح عنه فإن له رحماً ماسة وحقاً عظيماً وقرابة من محمد .

وأما ابن أبي بكر فإن رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثله ليس له همة إلا في النساء واللهو.

وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد ويراوغك مراوغة الثعلب فذاك ابن الزبير فإن هو فعلها فظفرت به فقطعه إرباً أرباً، واحقن دماء قومك ما استطعت.

ثم مات بدمشق لهلال رجب سنة 60 هـ أبريل سنة 980 م. فخرج الضحاك بن قيس حتى صعد المنبر وأكفان معاوية على يديه فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال إن معاوية كان عود العرب وحد العرب وجد العرب قطع اللَّه به الفتنة وملكه على العباد وفتح البلاد إلا أنه قد مات وهذه أكفانه ونحن مدرجوه فيها ومدخلوه قبره ومخلون بينه وبين عمله ثم هو الهرج إلى يوم القيامة، فمن كان يريد أن يشهده فعنده الأولى وصلى عليه الضحاك وكان قد أرسل الخبر إلى يزيد ثم أقبل يزيد وقد دفن معاوية فأتى قبره فصلى عليه

yacine414
2011-03-17, 17:15
يزيد الأول:

ترجمته:

هو يزيد بن أبي سفيان، وأمه ميسون بنت بحدل ولد سنة 26 هـ وأبوه أمير الشام لعثمان بن عفان فتربى في حجر الإمارة ولما شب في خلافة أبيه كان يرشحه للإمارة فولاه الحج مرتين وولاه الصائفة وأرسله في الجيش الذي غزا القسطنطينية لأول مرة وكان مغرماً بالصيد وهذا مما أخذه عليه الناس إذ ذاك لأنهم لم يكونوا فارقوا البداوة العربية والجد الإسلامي بعد.
كيفية انتخابه:

عهد إليه أبوه بالخلافة من بعده بعد أن استشار في ذلك وفود الأمصار فبايعه الناس ولم يتخلف عن البيعة إلا نفر قليل من أهل المدينة وهم الحسين بن علي وعبد اللَّه بن الزبير وعبد اللَّه بن عمر.

فلما توفي معاوية لم يكن ليزيد إلا مبايعتهم له فأرسل إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان أمير المدينة يقول له أما بعد فخذ حسيناً وعبد اللَّه بن عمر وابن الزبير أخذاً ليس فيه رخصة حتى يبايعوا والسلام فلما أتاه نعى معاوية فظع به وكبر عليه فأرسل إلى هؤلاء النفر فأما حسين فجاءه فلما عرض عليه البيعة وأخبره بموت معاوية استرجع وترحم على معاوية وقال أما البيعة فإن مثلي لا يبايع سراً ولا يجتزي بها مني سراً فإذا خرجت إلى الناس ودعوتهم إلى البيعة ودعوتنا معهم كان الأمر واحداً. فقال له الوليد وكان يحب العافية انصرف. وأما ابن الزبير فترك المدينة وذهب إلى مكة وقال إني عائذ بالبيت ولم يكن يصلي بصلاتهم ولا يفيض في الحج بإفاضتهم وكان يقف هو وأصحابه ناحية وخرج من المدينة بعده الحسين بن علي وأخذ معه بنيه وإخوته وبني أخيه إلا محمد بن الحنفية فإنه أبى الخروج معه ونصحه فلم يقبل نصحه.

أما ابن عمر فإنه قال إذا بايع الناس بايعت فتركوه وكانوا لا يتخوفونه ولما بايع الناس بايع هو وابن عباس.
حادثة الحسين:

جاء الحسين مكة فكان أهلها يختلفون إليه ويأتونه ومن بها من المعتمرين وأهل الآفاق وابن الزبير قد لزم جانب الكعبة فهو قائم يصلي عندها عامة النهار ويطوف ويأتي الحسين فيمن يأتيه ولا يزال يشير عليه بالرأي وهو أثقل خلق اللَّه على ابن الزبير لأن أهل الحجاز لا يبايعوه ما دام الحسين بالبلد. لما بلغ أهل الكوفة موت معاوية وبيعة يزيد أرجفوا بيزيد واجتمعت الشيعة إلى منزل كبيرهم سليمان بن صرد الخزاعي واتفقوا أن يكتبوا إلى الحسين يستقدمونه ليبايعوه، فكتبوا إلى نحواً من 150 صحيفة. ولما اجتمعت الكتب عنده كتب إليهم أما بعد فقد فهمت كل الذي اقتصصتم وقد بعثت إليكم بأخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم فإن كتب إلي أنه قد اجتمع رأى ملئكم وذوي الحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم أقدم إليكم وشيكاً إن شاء اللَّه فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب والقائم والدائن بدين الحق والسلام. ثم دعا الحسين مسلم بن عقيل فسيره نحو الكوفة. وأمره بتقوى اللَّه وكتمان أمره واللطف، فإن رأى الناس مجتمعين عجل إليه بذلك فسار مسلم نحو الكوفة وأميرها النعمان بن بشير الأنصاري فأقبلت إليه الشيعة تختلف إليه.
خروج الحسين إلى الكوفة:

أما أمر الحسين فإنه لما عزم على المسير إلى الكوفة جاءه عمرو بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال له بلغني أنك تريد العراق وإني مشفق عليك أن تأتي بلداً فيه عماله وأمراؤه ومعهم بيوت الأموال، وإنما الناس عبيد الدرهم والدينار فلا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره ومن أنت أحب إليه ممن يقاتلك معه فجزاه الحسين خيراً.

وجاءه ابن عباس فقال له قد أرجف الناس أنك تريد العراق فخبرني ما أنت صانع؟ فقال قد أجمعت المسير في أحد يومي هذين فقال له ابن عباس أعيذك باللَّه من ذلك خبرني رحمك اللَّه أتسير إلى قوم قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوهم فإن كانوا فعلوا ذلك فسر إليهم وإن كانوا إنما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم وعماله تجبي بلادهم فإنما دعوك إلى الحرب ولا آمن عليك أن يغروك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك ويستنفروا إليك فيكونوا أشد الناس عليك، فقال الحسين فإني أستخير اللَّه وأنظر ما يكون.

ثم جاءه ابن عباس ثاني يوم فقال يا ابن عم إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال. فإن أهل العراق قوم غدر فلا تقربنهم أقم بهذا البلد فإنك سيد أهل الحجاز فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عاملهم وعدوهم، ثم اقدم عليهم فإن أبيت إلا أن تخرج فسر إلى اليمن فإن بها حصوناً وشعاباً وهي أرض عريضة طويلة ولأبيك بها شيعة وأنت عن الناس في عزلة فتكتب إلى الناس وترسل وتبث دعاتك فإني أرجوك أن يأتيك عند ذلك الذي تحب في عافية.

فلم يسمع منه الحسين فقال له ابن عباس فإن كنت سائراً فلا تسر بنسائك وصبيتك فإني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه فلم يفد كلامه شيئاً.
وقعة الحرة:

لم تقف مصائب المسلمين عند قتل الحسين ومن معه بل حدثت حادثة هي في نظرنا أدهى وأشنع وهي انتهاك حرمة مدينة الرسول r ومهبط الوحي الإلهي وهي التي حرمها عليه السلام كما حرم إبراهيم مكة فصارت هاتان المدينتان مقدستين لا يحل فيهما القتال فانتهاك حرمة إحداهما من الشرور العظيمة والمصائب الكبرى فكيف انتهاك حرمتهما معاً في سنة واحدة؟

أما حادثة المدينة فإنه في عهد إمارة عثمان بن أبي سفيان عليها أوفد إلى يزيد بدمشق وفداً من أشراف أهل المدينة فيهم عبد اللَّه بن حنظلة الأنصاري وعبد اللَّه بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي والمنذر بن الزبير وغيرهم ولما قدموا على يزيد أكرمهم وأحسن إليهم وأعظم جوائزهم فأعطى عبد اللَّه بن حنظلة وكان شريفاً فاضلاً عابداً سيداً مائة ألف درهم وكان معه ثمانية بنين فأعطى كل ولد عشرة آلاف وأعطى المنذر بن الزبير مائة ألف فلما قدموا إلى المدينة أقاموا أهلها فأظهروا شتم يزيد وعيبه وأعلنوا أنهم خلعوه فتابعهم الناس وولوا أمرهم عبد اللَّه قومه فجاءهم وأمرهم بلزومهم الطاعة وخوفهم الفتنة وقال لهم إنكم لا طاقة لكم بأهل الشام فلم تجد نصيحته نفعاً فعاد عنهم وحينذاك قام هؤلاء الثائرون وحصروا من في المدينة من بني أمية في دار مروان فكتبوا إلى يزيد يتسغيثون به فلما جاءه كتابهم قال متمثلاً:

لقد بدلوا الحكم الذي في سجيتي

فبدلت قومي غلظة بليان

وحينذاك جهز جيشاً أمر عليه مسلم بن عقبة المري وكان عدة من تجهز معاً اثنا عشر ألفاً وقال له يزيد ادع القوم ثلاثاً فإن أجابوك وإلا فقاتلهم فإن ظهرت عليهم فأبحها ثلاثاً فكل ما فيها من مال أو دابة أو سلاح أو طعام فهو للجند فإذا مضت الثلاث فأكفف عن الناس وانظر علي بن الحسين فأكفف عنه واستوصي به خيراً فإنه لم يدخل مع الناس وإنه قد أتاني كتابه.

ثم سار مسلم حسب وصية عبد الملك فلما ورد المدينة دعا أهلها وقال إن أمير المؤمنين يزعم أنكم الأصل وإني أكره إراقة دمائكم وإني أؤجلكم ثلاثاً فمن ارعوى وراجع الحق قبلنا منه وانصرفت عنكم وسرت إلى هذا المحل الذي بمكة وإن أبيتم كنا قد أعذرنا إليكم فلم يبالوا وحاربوا وكان القتال بين الفريقين شديداً جداً ولكن انتهى بهزيمة أهل المدينة بعد أن قتلت ساداتهم وأباح مسلم المدينة ثلاثاً يقتلون الناس ويأخذون المتاع والأموال وبعد ذلك دعا مسلم الناس للبيعة ليزيد على أنهم خول له يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم، فمن امتنع عن ذلك قتله. ثم أتى بعلي بن الحسين فأكرمه لوصية يزيد ولم يلزمه بالبيعة وكانت هذه الواقعة لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة 63.


حصار مكة:

وثالثة الحوادث التي يقع معظم تبعتها على عبد اللَّه بن الزبير حصار مكة فإن مسلماً لما انتهى من أمر المدينة سار قاصداً مكة لحرب ابن الزبير واستخلف على مكة روح بن زنباع الجذامي، وقد أدركت المنية مسلماً بالشلل فاستخلف على الجند الحصين بن نهير كما أمر يزيد فسار بالجند إلى مكة فقدمها لأربع بقين من المحرم سنة 64 وقد بايع أهلها وأهل الحجاز لعبد اللَّه بن الزبير وقدم عليه نجدة بن عامر الحنفي الخارجي لمنع البيت، فخرج ابن الزبير للقاء أهل الشام فحاربهم حرباً انكشف فيها أصحابه فسار راجعاً إلى مكة فأقاموا عليه يقتلونه بقية المحرم وصفر كله حتى إذا مضت ثلاثة أيام من ربيع الأول رموا البلد بالمنجنيق ولم يزل الحصار حتى بلغهم نعي يزيد بن معاوية فوقف القتال.

هذه ثلاث فتن كبرى داخلية حصلت في أيام يزيد جعلت اسمه عند عامة المسلمين مكروهاً حتى استحل بعضهم لعنه ونحن بعد أن بسطنا أمامكم هذه الحوادث وآثارها لا نرى من العدل أن يتحمل يزيد كل تبعتها بل إن الذي يتحمله جزء صغير منها لأنه بايعه معظم المسلمين وخالف عليه قليل منهم من المعقول أن يتركهم وما يشتهون لتفرق الكلمة وليس من السهل أن ينزل لهم عما تقلده فيما ترى على فعل ما فعل وإنما الذي عليه تلك الشدة التي أجرتها جنوده بعد أن تم لها النصر.
الفتوح في عهد يزيد:

استعمل يزيد عقبة بن نافع على إفريقية كما وعده معاوية بذلك، فسار إليها ولما وصل إلى القيروان قبض على أبي المهاجر وأوثقه في الحديد وترك بالقيروان جنداً مع الذراري والأموال ثم سار في عسكر حتى دخل مدينة باغاية وقد اجتمع بها كثير من الروم فقاتلوه قتالاً شديداً وانهزموا عنه ودخل المنهزمون المدينة.

فحاصرهم عقبة ثم كره المقام عليهم فسار إلى بلاد الزاب وهي بلاد واسعة فيها عدة مدن وقرى كثيرة فقصد مدينتها العظمى واسمهاأربعة فامتنع من بها من الروم فقاتلتهم الجنود الإسلامية حتى هزمتهم ثم رحل إلى تاهرت، فلما بلغ الروم خبره استعانوا بالبربر فأجابوهم ونصروهم فاجتمعوا في جمع كثير واشتد الأمر على المسلمين لكثرة العدو ولكن العاقبة كانت لهم فانهزمت الروم والبربر وغنم المسلمون أموالهم وسلاحهم.

ثم سار حتى نزل على طنجة فلقيه بطريق رومي اسمه يليان فأهدى له هدية حسنة ونزل على حكمه ثم سار نحو السوس الأدنى وهو مغرب طنجة فلقيته البربر في جموع كثيرة فقاتلهم وهزمهم هزيمة منكرة.

ثم سار نحو السوس الأقصى وقد اجتمع له جمع عظيم من البربر فقاتلهم وهزمهم.

وسار بعد ذلك حتى بلغ بحر الظلمات، فقال يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك ثم عاد فنفر الروم من طريقة خوفاً منه.

yacine414
2011-03-17, 17:16
معاوية الثاني:

بعد موت يزيد كانت هناك بيعتان إحداهما بالشام لمعاوية بن يزيد، والثانية بمكة والحجاز لعبد اللَّه بن الزبير.

فأما معاوية فكانت سنه إحدى وعشرين سنة اختاره أهل الشام للخلافة بعد موت أبيه إلا أنه بعد قليل من خلافته نادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإني قد ضعفت عن أمركم فابتغيت لكم مثل عمر بن الخطاب حين استخلفه أبو بكر فلم أجده فابتغيت ستة مثل ستة الشورى فلم أجدهم فأنتم أولى بأمركم فاختاروا له من أحببتم ثم دخل منزله وتغيب حتى مات بعد ثلاثة أشهر من خلافته.

هكذا فعل الشاب الضعيف حينما رأى عصا المسلمين منشقة ولم ير من نفسه القدرة على لَم شعثها وإصلاح أمرها.
عبد اللَّه بن الزبير:

أما ابن الزبير فإن يزيد مات وحصين بن نمير محاصر له وقد اشتد الحصار عليه فجاءه الخبر قبل أن يصل لرئيس الجند المحاصر فناداه علام تقاتلون وقد هلك طاغيتكم فلم يصدقوه لما وصل الخبر الحصين بعث إلى ابن الزبير يريد محادثته فجاءه فكان فيما قال له أنت أحق بهذا الأمر هلم فلنبايعك ثم أخرج معنا إلى الشام فإن هذا الجند الذين معي هم وجوه الشام وفرسانه فواللَّه لا يختلف عليك اثنان وتؤمن الناس وتهدر هذه الدماء التي كانت بيننا وبينك وبين أهل الحرم فقال له أنا لا أهدر الدماء واللَّه لا أرضى أن أقتل بكل رجل منهم عشرة منكم وأخذ الحصين يكلمه سراً وهو يجهر ويقول واللَّه لا أفعل فقال له الحصين قد كنت أظن لك رأياً وأنا أكلمك سراً وتكلمني جهراً وأدعوك إلى الخلافة، وأنت لا تريد إلا القتل والهلكة. ثم فارقه ورحل إلى المدينة فالشام فوصلوها وقد بويع لمعاوية بن يزيد.

هذا حال الشام لا إمام فيه والحجاز فيه ابن الزبير. أما العراق فإن عبيد اللَّه بن زياد لم بلغه نعي يزيد نادى الصلاة جامعة فلما اجتمع الناس قال يا أهل البصرة إن مهاجرنا إليكم ودارنا فيكم ومولدي فيكم وليتكم... الخ ثم دعا لنفسه بالبيعة. فقالوا له قد سمعنا مقالتك وما نعلم أحداً أقوى عليها منك فهلم فلنبايعك فأبى عليهم ذلك ثلاثاً ثم بسط يده فبايعوه ثم انصرفوا عنه يمسحون أيديهم بالحيطان ويقولون أيظن ابن مرجانة أنا ننقاد له في الجماعة والفرقة ثم أرسل إلى أهل الكوفة من يطلب بيعتهم له فأبوا عليه. ولما علم أهل البصرة بآبائهم أظهروا النفرة منه وخلعوه ودعا بعضهم إلى بيعة ابن الزبير فأجابه إلى ذلك أكثرهم وضعف أمر ابن زياد وخاف أهل البصرة على نفسه فاستجار بالحارث بن قيس الأزدي ثم بمسعود بن عمر سيد الأزد فأجاره حتى هرب إلى الشام. واختار أهل البصرة والياً عليهم عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل الملقب ببية فبايعوه وأقبلوا به إلى دار الإمارة وذلك أول جمادى الآخرة سنة 64 وكذلك اختار أهل الكوفة لهم أميراً وكتب أهل المصرين إلى ابن الزبير بالبيعة فأرسل لهم العمال من عنده. وكذلك دخل في بيعة ابن الزبير أهل مصر ولم يبق إلا الشام.
حال الشام:

كان رأس بني أمية بالشام مروان بن الحكم، وكان أمير دمشق الضحاك بن قيس وكان هواه في ابن الزبير يدعو له وأمير حمص النعمان بن بشير وأمير قنسرين زفر بن الحارث الكلابي وهواهم كلهم في ابن الزبير يدعون له وكان أمير فلسطين حسان بن مالك الكلبي وهواه في بني أمية وقد بايعه على الدعوة لهم أهل الأردن على شرط أن يجنبهم هذين الغلامين عبد اللَّه وخالداً ابني يزيد لأنهم قالوا إنا نكره أن يأتينا الناس بشيخ نأتيهم بغلام فكتب حسان إلى الضحاك بن قيس كتاباً يعظم فيه حق بني أمية وحسن بلائهم عنده ويذم ابن الزبير وأنه خلع خليفتين وأمره أن يقرأ كتابه على الناس وكتب كتاباً آخر سلمه لرسوله وقال له إن قرأ الضحاك كتابي على الناس وإلا ففم واقرأه عليهم فلما ورد كتابه على الضحاك لم يقرأه على الناس فقام رسول حسان وقرأ عليهم الكتاب فقال الوليد بن عتبة بن أبي سفيان صدق حسان وقام غيره فقالوا مثل مقاله فأمر بهم الضحاك فحبسوا ولكن عشائرهم أخرجوهم من الحبس وكان الذين في دمشق فريقين فقيس تدعوا إلى ابن الزبير وكلب تدعو إلى بني أمية.

yacine414
2011-03-17, 17:17
مروان بن الحكم:

خرج الضحاك بمجموعة فنزل مرج راهط بيده واجتمع بنو أمية بالجابية فتشاورا فيمن يلي أمر المسلمين واتفق رأيهم أخيراً على تولية مروان ابن الحكم فبايعوه لثلاث خلون من ذي القعدة سنة 64 هـ.

ولما تمت بيعته بالناس من الجابية إلى مرج راهط وبه الضحاك بن قيس ومن على رأيه واجتمع على مروان كلب وغسان والسكاسك والكون وكانت بين الفريقين مواقع هائلة عشرين ليلة في مرج راهط وكانت الغلبة أخيراً لمروان.

ولما تم الأمر لمروان بالشام سار إلى مصر فافتتحها وبايعه أهلها ثم عاد إلى دمشق فأقام بها.

لم تطل مدة مروان في سلطانه فإنه توفي في رمضان سنة 65 هـ وكان قد عهد بالخلافة لأبنيه عبد الملك ثم عبد العزيز.
ترجمة مروان:

هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية وأمه آمنة بنت علقمة بن صفوان الكناني ولد في السنة الثانية من الهجرة وأسلم أبوه الحكم يوم الفتح فنشأ مروان مسلماً وكان في عهد عثمان بن عفان كاتباً له ومدبراً وولي لمعاوية المدينة جملة مرات ولما مات يزيد أوشك أن يذهب إلى ابن الزبير فبايعه لولا عبد اللَّه بن زياد فإنه أشار عليه أن يطلب الخلافة لنفسه لأنه شيخ بني أمية فاستشرف لها ووجد من ينصره على ذلك وتم له الأمر بعد وقعة مرج راهط وكان أمره في الشام ومصر لم يتجاوزهما حتى مات وولي أمر الأمة من بعده ابنه

yacine414
2011-03-17, 17:19
عبد الملك بن مروان:

ترجمته:

هو عبد الملك بن مروان بن الحكم ولد سنة 26 هـ بالمدينة وأمه عائشة بنت معاوية بن الوليد بن المغيرة بن العاص بن أمية. ولما شب كان عاقلاً حازماً أديباً لبيباً وكان معدوداً من فقهاء المدينة يقرن بسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وقال الشعبي ما ذاكرت أحداً إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك فإني ما ذاكرته حديثاً إلا زادني فيه، ولا شعراً إلا زادني فيه.
توليه الحكم:

ولي الخلافة بعد أبيه بعهد منه. وكانت الحال في البلاد الإسلامية على غاية الاضطراب. فإن الحجاز به عبد اللَّه بن الزبير. وقد بايعه أهله وبلاد العراق أهلها ثلاث فرق زبيرية قد بايعوا ابن الزبير ودخلوا في طاعته، وشيعة تدعوا إلى آل البيت، وخوارج وهم من عرفتم حديثهم قبل. فتلقى الأمر بقلب ثابت وعزيمة صادقة حتى دان الناس واجتمعت الكلمة عليه.


المعركة مع التوابين:

كان مروان قبل وفاته قد جهز جيشاً يقوده عبد اللَّه بن زياد إلى الجزيرة ومحاربة زفر بن الحارث بقرقيسيا واستعمله على كل ما يفتحه فإذا فرغ من الجزيرة توجه إلى العراق وأخذه من ابن الزبير فلما كان بالجزيرة بلغه موت مروان وأتاه كتاب عبد الملك يستعمله على ما استعمله عليه أبوه ويحثه على المسير إلى العراق فسار حتى إذا كان بعين الوردة قابلته جنود مقبلة من العراق لم يبعثهم أمير ولكنهم خرجوا للمطالبة بدم الحسين وسموا أنفسهم التوابين وهم جماعة الشيعة ندموا على خذلانهم الحسين بن علي ولم يروا أنهم يخرجون من هذا الذنب إلا إذا قاموا للمطالبة بثأره وقتلوا قتلته وكان رئيسهم كبير الشيعة بالكوفة سليمان بن صرد الخزاعي فما زالوا يجمعون آلة الحرب ويدعون الناس سراً إلى ما عزموا عليه حتى تم لهم ما أرادوا سنة 65 فخرجوا حتى إذا كانوا بعين الوردة قابلتهم جنود الشام فكان بين الفريقين موقعة عظيمة قتل فيها سليمان بن صرد رئيس الشيعة ومعظم من معه ونجا قليل منهم وكانوا نحواً من ستة آلاف ولما بلغ عبد الملك قتل سليمان قام خطيباً في أهل الشام فقال إن اللَّه قد أهلك من رؤوس أهل العراق ملقح فتنه ورأس ضلالة سليمان بن صرد ألا وإن السيوف قد تركت رأس المسيب خذاريف وقد قتل اللَّه منهم رأسين عظيمين ضالين مضلين عبد اللَّه بن سعد الأزدي وعبد اللَّه بن وال البكري. ولم يبق بعدهم من عنده امتناع.

بعد مقتل هؤلاء ثار بالكوفة رجل الفتنة الكبير المختار بن أبي عبيد الثقفي وكان وثوبه بها رابع عشر ربيع الأول سنة 66 فأخرج منها عامل ابن الزبير وهو عبد اللَّه بن مطيع وكان وثوبه باسم محمد بن الحنفية. زاعماً أنه هو الذي أرسله للأخذ بثأر الحسين ولقبه بالإمام المهدي.

ثم إن المختار تخير الجند لمحاربة ابن زياد وجعل قائدهم إبراهيم بن الأشتر فسار حتى التقى بجنود الشام على نهر الخارز فكان بين الفريقين موقعة هائلة انتصر فيها ابن الأشتر وقتل عبيد اللَّه بن زياد بعد أن ذهب من جند الشام عدد وافر قتلاً وغرقاً في نهر الخازر ولما انتهت الموقعة أرسل ابن الأشتر العمال إلى البلاد الجزرية.

وبذلك عاد أمر العراق لابن الزبير وكان الأمر بالشام ومصر لعبد الملكبن مروان أن يجمع كلمة الناس عليه فتجهز لقصد العراق.

ثم سار عبد الملك إلى العراق فبلغ خبره مصعباً فتجهز له وجعل على مقدمته إبراهيم بن الأشتر فتقابل الجيشان بمسكن، وكان كثير من أهل العراق كاتبوا عبد الملك وكاتبهم فكانت نياتهم فاسدة فلما حصلت الموقعة انهزم أهل العراق وبقي مصعب مع قليل من المخلصين له.

بذلك لم يبق خارجاً عن سلطان عبد الملك إلا الحجاز فوجه وهو بالكوفة جنداً إلى مكة بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي لقتال عبد اللَّه بن الزبير فسار إليه في جمادي الأولى سنة 72 هـ فلما وصل مكة حصر ابن الزبير بها ورماها بالمجانيق ولم يزل الأمر على ذلك حتى اشتدت الحال على أهل مكة من الحصار فتفرقوا عن ابن الزبير وخرجوا بالأمان إلى الحجاج وكان ممن فارقه ابناه حمزة وحبيب ولما رأى ابن الزبير أنه لم يبق معه إلا قليل لا يغنون عنه شيئاً.

فقاتل ابن الزبير حتى قتل وكانت سنه ثلاثاً وسبعين سنة وبعد قتله صلبت جثته ثم أنزلت بأمر من عبد الملك.

مكث ابن الزبير خليفة بالحجاز تسع سنين لأنه بويع له سنة 64 وبقتل ابن الزبير صفا الأمر لعبد الملك في جميع الأمصار الإسلامية، واجتمعت عليه الكلمة وبقي الحجاج والياً على مكة والمدينة حتى سنة 75 وفيها عزله عبد الملك عنهما وولاه العراقين فسار إلى الكوفة في اثني عشر راكباً على النجائب حتى دخلها فبدأ بالمسجد فصعد المنبر وهو متلثم بعمامة خز حمراء فاجتمع إليه الناس. وهو ساكت قد أطال السكوت حتى أراد بعضهم أن يحصبه ثم كشف اللثام عن وجهه.

وفي سنة 89 ولى الحجاج عبيد اللَّه بن أبي بكرة سجستان فغزا رتبيل وقد كان يفعل مصالحاً وقد كانت العرب قبل ذلك تأخذ منه خراجاً وربما امتنع فلم يفعل فبعث الحجاج إلى ابن أبي بكرة يأمره بغزوه فتوغلوا في بلاده فأصيبوا وهلك معظمهم ونجا أقلهم فرأى الحجاج أن يجهز إليهم جنداً فجهز عشرين ألفاً من البصرة ومثلهم من الكوفة.

وجد في ذلك وشمر وأعطى الناس أعطياتهم كملاً وأخذهم بالخيول الروائع والسلاح الكامل واستعرض ولا يرى رجلاً تذكر منه شجاعة إلا أحسن معوفته ولما استتب أمر ذينك الجندين ولى عليهم عبد الرحمن بن الأشعث فسار حتى قدم سجستان فصعد منبرها وقال أيها الناس إن الأمير الحجاج ولاني ثغركم وأمرني بجهاد عدوكم الذي استباح بلادكم وأباد أخياركم فإياكم أن يتخلف منكم رجل فيحل بنفسه العقوبة اخرجوا إلى معسكركم فعسكروا به مع الناس.

ولما دخل الناس فارس قال بعضهم لبعض إذا خلعنا الحجاج فقد خلعنا عبد الملك فخلعوه وبايعوا عبد الرحمن على كتاب اللَّه وسنه ورسوله وخلع أئمة الضلالة وجهاد المحلين، ولما بلغ الحجاج خبره بعث إلى عبد الملك يخبره ويسأله أن يوجه الجنود إليه فهاله الأمر وبادر بإرسال الجنود الشامية إليه والحجاج مقيم بالبصرة فلما اجتمعت الجنود إليه سار بها حتى نزل تستر وقدم بين يديه مقدمته فقابلتها جنود ابن الأشعث فهزمت مقدمة الحجاج يوم الأضحى سنة 81 وأتت الحجاج الهزيمة فانصرف راجعاً حتى نزل الزاوية وجاءت جنود ابن الأشعث حتى نزلت البصرة فبايعه أهلها وكان دخوله إليها في آخر ذي الحجة ثم تقابل الجندان بالزاوية فهزمت جنود الحجاج.

أما ابن الأشعث، فقد تقلبت به الأحوال؛ وانتهى أمره إلى أن توجه إلى رتبيل مستغيثاً به، فكتب الحجاج إلى رتبيل يأمره أن يرسل إليه ابن الأشعث ويتوعده إن لم يفعل، فأراد رتبيل أن يرسله، فقتل ابن الأشعث نفسه بأن ألقى نفسه من فوق قصر فمات ثم ضرب رتبيل عنق بضعة عشر رجلاً من أقاربه، وأرسل بالرؤوس إلى الحجاج.
وفاة عبد الملك:

في يوم الخميس منتصف شوال سنة 86 هـ (أكتوبر سنة 705 م) توفي عبد الملك بدمشق فكانت مدة خلافته منذ بويع بالشام إحدى وعشرين سنة وشهراً ونصفاً من مستهل رمضان سنة 65 هـ إلى منتصف شوال سنة 86 هـ وكانت خلافته منذ قتل ابن الزبير واجتمعت عليه الكلمة ثلاث عشرة سنة وخمسة أشهر بناء على أن ابن الزبير قتل في 17 جمادي الأولى سنة 73 وكان عمر عبد الملك ستين سنة لأنه ولد سنة 26 هـ.


بيت عبد الملك:

تزوج عبد الملك:

1ــ ولادة بنت العباس بن جزء العبسي فولدت له الوليد وسليمان ومروان الأكبر.

2ــ عاتكة بنت يزيد بن معاوية فولدت له يزيد ومروان ومعاوية وأم كلثوم.

3ــ أم هشام بنت هشام بن إسماعيل المخزومي« فولدت له هشاماً.

4ــ عائشة بنت موسى بن طلحة التيمي فولدت له أبا بكر واسمه بكار.

5ــ أم أيوب بنت عمرو بن عثمان بن عفان فولدت له الحكم.

6ــ أم المغيرة بنت المغيرة بن خالد المخزومي فولدت له فاطمة.

7ــ شقراء بنت سلمة بن حليس الطائي.

8ــ ابنة لعلي بن أبي طالب.

9ــ أم أبيها بنت عبد اللَّه بن جعفر.

وله من الأولاد عبد اللَّه ومسلمة والمنذر وعنبسة ومحمد وسعيد الخير والحجاج لأمهات الأولاد.
صفة عبد الملك:

كان عبد الملك قوي العزيمة ثابت النفس لا تعزعزه الشدائد، ولي أمر الأمة في غاية الاضطراب والاختلاف فما زال حتى جمعها وصيرها واحدة تدين لخليفة واحد وسلمها لابنه الوليد وهي على غاية من الهدوء والطمأنينة.

yacine414
2011-03-17, 17:21
الوليد بن عبد الملك (الأول):

ترجمته:

هو الوليد بن عبد الملك بن مروان وأمه ولادة بنت العباس بن جزء العبسي. ولد سنة 50 من الهجرة ولم تكن له ولاية العهد إلا بعد وفاة عمه عبد العزيز بن مروان ولما توفي أبوه عبد الملك بويع بالخلافة في اليوم الذي مات فيه. لما رجع من دفنه بدمشق لم يدخل منزله حتى صعد على منبر دمشق، فحمد اللَّه وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أيها الناس إنه لا مقدم لما أخر اللَّه، ولا مؤخر لما قدم اللَّه، وقد كان من قضايا اللَّه وسابق علمه، وما كتب على أنبيائه وحملة عرشه الموت وقد صار إلى منازل الأبرار ولي هذه الأمة بالذي يحق عليه للَّه من الشدة على المريب واللين لأهل الحق والفضل وإقامة ما أقام اللَّه من منار الإسلام وأعلامه من حج البيت وغزو هذه الثغور وشن هذه الغارة على أعداء اللَّه فلم يكن عاجزاً ولا مفرطاً. أيها الناس عليكم بالطاعة ولزوج الجماعة فإن الشيطان مع الفرد. أيها الناس من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه ومن سكت مات بدائه. ثم قام إليه الناس فبايعوه.
الحال في عهد الوليد:

كانت مدة الوليد غرّة في جبين الدولة الأموية ففيها قام بإصلاح داخلي عظيم، واشتهر في الأمة قواد عظام فتحوا الفتوح العظيمة وأضافوا إلى المملكة الإسلامية بلاداً واسعة واستردوا هيبتها في أنفس الأمم المجاورة لها. وسبب ذلك أن الوليد تولى بعد أن وطأ عبد الملك الأمور ومهدها فاستلمها الوليد والأمة هادئة مطمئنة مجتمعة الكلمة وخبت نار الأهواء فإن الخوارج ذهبت حدتهم وشوكتهم وقلت جموعهم وشيعة آل البيت نالهم ما جعلهم يهتمون بأنفسهم، فلم يحركوا ساكناً، ولم يوقظوا فتنة.


الإصلاح الداخلي:

كان الوليد ميالاً إلى العمارة فاهتم في زمنه بإصلاح الطرق وتسهيل السبل في الحجاز وغيره في سنة 88 إلى عامله بالمدينة عمر بن عبد العزيز في تسهيل الثنايا وحفر الآبار في البلدان وكتب إلى سائر البلاد بذلك فعمل عمر بالمدينة الفوارة التي يستقي منها أهل المدينة وأجرى إليها الماء وأمر لها بقوام يقومون عليها.

وإصلاح الطرق من أهم ما يذكر لولاة الأمر في إصلاح البلاد.

ومن أعماله العظيمة بناء ذينك المسجدين العظيمين مسجد المدينة وجامع دمشق ففي السنة المتقدمة أمر عمر بن عبد العزيز بهدم المسجد النبوي وهدم بيوت أزواج الرسول وإدخالها في المسجد وأن يشتري دوراً في مؤخره ونواحيه ليتسع حتى يكون مئتي ذراع في مثلها ومن أبى فليقوم داره قيمة عدل وتهدم ويدفع إليهم ثمنها فإن لك في ذلك سلف وصدق عمر وعثمان.

وأرسل إليه الوليد بالفعلة والبنائين من الشام فعمل في ذلك عمر مع فقهاء المدينة وبعث الوليد إلى ملك الروم يعلمه أنه أمر بهدم مسجد رسول اللَّه r ويطلب منه أن يعينه فيه فبعث إليه بمائة ألف مثقال ذهب وبعث إليه بمائة عامل وبعث إليه من الفسيفساء بأربعين جملاً فابتدىء بعمارته وأدخلت جمع الحجر التي لأزواج رسول اللَّه r ولم يبق إلا حجرة عائشة التي فيها القبور الثلاثة وكان من رأي بعض أهل المدينة أن لا تكون في المسجد حذر أن يستقبلها بعض المسلمين في صلاتهم يشبهونها بالكعبة ففكر في ذلك عمر وقد هداه الفكر أن يثلث جهتها الشمالية حتى تنتهي بزاوية لا يمكن استقبالها فصار شكل الحجرة مخمساً.

أما جامع دمشق وهو المعروف بالجامع الأموي فإن الوليد احتفل له احتفالاً عظيماً حتى خرج مناسباً لعظمة المملكة الإسلامية ولا يزال شيء من آثاره شاهداً بتلك العظمة وكان الناس في حايته قد شغفوا بالعمارة تبعاً له حتى كانت مسألتهم عنها إذا تقابلوا. وبنى الوليد المصانع في الشام لتسهيل الاستقاء.

ومن الإصلاح العظيم حجره على المجذومين أن يسألوا الناس وجعل لهم من العطاء ما يقوم بحياتهم وأعطى كل مقعد خادماً وكل ضرير قائداً.

ومن حسنات الوليد استعانته في عمله بعمر بن عبد العزيز الذي أعاد سيرة سلف هذه الأمة الصالح فقد ولاه المدينة سنة 77 فقدمها وسنه 25 سنة فنزل دار مروان ولما صلى الظهر دعا عشرة من فقهاء المدينة عروة بن الزبير وعبد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة وأبا بكر بن عبد الرحمن وأبا بكر بن سليمان بن أبي خيثمة وسليمان بن يسار والقاسم بن محمد بن أبي بكر وسالم بن عبد اللَّه بن عمرو وعبد اللَّه بن عمر وعبد اللَّه بن عامر بن ربيعة وخارجة بن زيد وهم إذ ذاك سادة فقهاء الدنيا فلما دخلوا عليه أجلسهم ثم حمد اللَّه وأثنى عليه إني إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه وتكونون فيه أعواناً على الحق ما أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم فإن رأيتم أحداً يتعدى أو بلغكم عن عامل لي ظلامة فأحرج اللَّه على من بلغه ذلك إلا بلغني. فخرجوا يجزونه خيراً وافترقوا وبهذا العمل جدد فيهم سيرة عمر بن الخطاب وهو جده من قبل أمه.

قد عزله الوليد عن المدينة سنة بسبب شكوى من الحجاج.


الفتوح في عهد الوليد:

اشتهر في زمن الوليدأربعة قواد عظام كان لهم أجمل الأثر في الفتح الإسلامي وهم:

1ــ محمد بن القاسم بن محمد الثقفي.

2ــ قتيبة بن مسلم الباهلي.

3ــموسى بن نصير.

4ــ مسلمة بن عبد الملك بن مروان.

فأما القاسم بن محمد: فإنه كان أميراً على ثغر السند من قبل الحجاج بن يوسف وكان الحجاج قد ضم إليه ستة آلاف من جند أهل الشام وجهزه بكل مااحتاج إليه فسار القاسم إلى بلاد السند حتى أتى الديبل فنزل عليه وكان به بد عظيم والبد منارة عظيمة تتخذ في بناء لهم فيه صنم أو أصنام لهم وكان كل شيء أعظموه من طريق العبادة فهو عندهم بد وكانت كتب الحجاج ترد على محمد وكتب محمد ترد على الحجاج بصفة ما قبله واستطلاع رأيه فيما يعمل به كل ثلاثة. ولم يزل القاسم حاصراً للديبل حتى خرج العدو إليه مرة فهزمهم ثم أمر بالسلاليم فوضعت وصعد عليها الرجال ففتحت عنوة وقتل عامل داهر عليها ثم بنى مسجداً وأنزلها أربعة آلاف، ثم أتى البيرون فأقام أهله العلوفة للقاسم وأدخلوه مدينتهم وكانوا قد بعثوا سمينين إلى الحجاج فصالحوه فوفى لهم محمد بن القاسم بالصلح ثم جعل لا يمر بمدينة إلا فتحها حتى عبر نهر دون مهران فأتاه سمين سريبدس فصالحوه على من خلفهم ووظف عليهم الخراج وسار إلى سهبان ففتحها ثم إلى مهران فبلغ ذلك داهر ملك السند فاستعد لمحاربته ثم إن محمد عبر مهران وهو نهر السند على جسر عقد فالتقى بداهر في جنوده الكثيرة؛ وهو على فيل وحوله الفيلة فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يسمع وترجل داهر وقاتل فقتل عند المساء وانهزم المشركون.

ولما قتل داهر غلب محمد على بلاد السند، ثم فتحوا راور عنوة ثم أتى برهمناباذ العتيقة فقاتله بها فل داهر ولكنهم انهزموا فخلف بها عاملاً، ثم سار فتلقاه أهل ساوندرى وسألوه الأمان فأعطاهم الأمان فأعطاهم إياه واشترط عليهم ضيافة المسلمين، ودولتهم ثم تقدم إلى يسمد فصالح أهلها على مثل صلح مثل صلح ساوندرى.

ثم انتهى إلى الرور وهي من مدائن السند فحصر أهلها ثم فتحها صلحاً على أن يقتلهم ولا يعرض لبدهم؛ وقال ما البد إلا ككنائس النصارى، واليهود، وبيوت نيران المجوس، ووضع عليهم الخراج وبنى بالرور مسجداً، ثم سار حتى قطع نهر بباس إلى الملتان فقاتله أهل الملتان فهزمهم حتى أدخلهم المدينة وحصرهم ثم نزلوا على حكمه فقتل كثيراً منهم وأصاب فيها مغانم كثيرة وافرة وكان بد الملتان تهدي إليه الأموال وتنذر له لنذور ويحج ويحلقون رؤوسهم ولحاهم عنده فحاز محمد ذلك كله.

وفي ذلك الوقت بلغته وفاة الحجاج فرجع عن الملتان إلى الرور وبغرور وكان قد فتحها فأعطى الناس ووجه إلى البيلمان جيشاً فلم يقاتلوه وأعطوا الطاعة وسالمه أهل سرست ثم أتى الكرج فخرج إليه دوهر فقاتله فانهزم العدو وهرب دوهر. بعد هذه الفتوح العظيمة التي نشرت ظل الإسلام على جميع بلاد السند مات الوليد بن عبد الملك فوقف أمر محمد وسنتكلم بعد على خاتمة حياته.

وأما قتيبة بن مسلم: فكان أميراً على خراسان للحجاج بن يوسف ولاه عليها بعد المفضل بن المهلب سنة 86.

ثم عرض الجند في السلاح والكراع وسار واستخلف على مرو. فلما كان بالطالقان تلقاه دهاقين بلخ وعظماؤهم فساروا معه ولما قطع النهر تلقاه ملك الصغانيان بهدايا ومفتاح من ذهب فدعاه إلى بلاد فأتاه وأتى ملك مفتان بهدايا وأموال، ودعاه إلى بلاده فمضى مع الصغانيان فسلم إليه بلاده وكان ملك آخرون وشومان قد أساءه جواره وضيق عليه فسار قتيبة إلى آخرون وشومان وهما من طخستان فجاءه الملك فصالحه على فدية أداها فقبلها قتيبة ورضي ثم عاد إلى مرو واستخلف على الجند ولما علم بذلك الحجاج كتب إليه يلومه ويعجز رأيه في تخليفه الجند وكتب إليه إذا غزوت فكن في مقدم الناس وإذا قفلت فكن في أخرياتهم وساقتهم.

وفي سنة 87 قدم على قتيبة نيزك وصالحه وكان سبب ذلك أنه كان في يد نيزك أسرى من المسلمين، فكتب إليه قتيبة يأمره بإطلاقهم ويتهدده، فخالفه نيزك فأطلق الأسرى فوجه إليه قتيبة يطلب منه القدوم عليه وحلف باللَّه لئن لم يفعل ليغزونه وليطلبنه حيث كان لا يقلع عنه حتى يظفر به أو يموت قبل ذلك. فقدم عليه نيزك وصالحه على أهل بادغيس على أن لا يدخلها.

وبعد ذلك غزا قتيبة بيكند وهي أدنى مدائن بخارى إلى النهر فلما نزل بهم استنصر الصغد واستمدوا من حولهم فأتوهم في جمع كثير وأخذوا بالطريق فلم ينفذ لقتيبة رسول ولم يصل إليه رسول ولم يجز له خبر شهرين وأبطأ خبره على الحجاج فأشفق على الجند والقتال دائر بين قتيبة وعدوه وذات يوم لقي المسلمون عدوهم بجد أنزل اللَّه عليهم نصرهم فانهزم العدو عنهم يريدون دخول المدينة فحال المسلمون بينهم وبينها فتفرقوا وركب المسلمون أكنافهم واعتصم بالمدينة عدد قليل دخلها ولما رأوا قتيبة ابتدأ بهدمها سألوه الصلح فصالحهم وولى عليهم أميراً وسار عنهم فلما كان على خمسة فراسخ بلغه أن أهل بيكند غدروا بالعامل فقتلوه وأصحابه فرجع إليهم وفتح المدينة عنوة فقتل مقاتلها وأصاب فيها مغانم كثيرة ثم عاد إلى مرو.

ولما كان الربيع سار عن مرو في عدة حسنة من الدواب السلاح وعبر النهر حتى أتى نومشكث وهي من بخارى فصالحه أهلها ثم سار إلى رامثينة فصالحه أهلها فانصرف عنهم وزحف إليه الترك معهم الصغد وأهل فرغانة فاعترضوا المسلمين في طريقهم فقاتلهم المسلمون قتالاً شديداً أبلى فيه نيزك بلاء حسناً وهو مع قتيبة حتى انهزم الترك وفض جمعهم ثم رجع إلى مرو فقطع النهر من ترمذ يريد بلخ ثم أتى مرو.

ثم أراد أن يفتح بخارى فعبر النهر ومضى إلى بخارى فنزل خرقانة السفلى فلقيته جموع كثيرة فقاتلهم وهزمهم ولما وصل بخارى استعد له ملكها فلم يظفر من البلد بشيء فرجع إلى مرو وكتب إلى الحجاج فكتب إليه الحجاج أن صورها لي فبعث إليه بصورتها فكتب إليه الحجاج أن ارجع إلى مراغتك فتب إلى اللَّه مما كان منك وائتها من مكان كذا فخرج قتيبة من مرور سنة 90 فانتصر ملك بخارى بالصغد والترك من حولهم، ولكن قتيبة سبقهم إلى بخارى فحصروها وفي أثناء الحصار جاء أهل بخارى المدد فخرجوا لقتال المسلمين فصبروا لهم ثم جال المسلمون وركبهم المشركون فحطموهم حتى دخلوا عسكر قتيبة في القلب وجاوزه حتى ضرب النساء وجوه الخيل وبكين فكر الناس راجعين وانطوت مجنبتا المسلمين على الترك فقاتلوهم حتى ردهم إلى مواقفهم فوقف الترك على نشر فقال قتيبة من يزيلهم لنا من هذا الموضع فلم يجبه أحد فمشى إلى بني تميم وقال لهم يوم كأيامكم أبي لكم الفداء فأخذ وكيع وهو رأسهم اللواء بيده وقال يا بني تميم أتسلمونني اليوم قالوا لا يا أبا مطرف وكان هزيم بن أبي طلحة المجاشعي على خيل بني تميم فقال وكيع اقدم يا هزيم ودفع إليه الراية وقال قدم خيلك فتقدم هزيم ودب وكيع في الرجال فانتهى هزيم إلى نهر بينه وبين العدو فقال له وكيع أقحم يا هزيم فنظر إليه هزيم نظر الجمل الصؤول وقال أنا أقحم خيلي هذا النهر فإن انكشفت كان هلاكها واللَّه إنك لأحمق فقال وكيع مغضباً أتخالفني وحذفه بعمود كان معه فضرب هزيم فأقحمه قال ما بعد أشد منه وعبر هزيم في الخيل وانتهى وكيع إلى النهر فدعا بخشب فقنطر النهر وقال لأصحابه من وطن منكم نفسه على الموت فليعبر ومن لا فليثبت مكانه فعبر معه 800 راجل فدب فيهم حتى إذا أعيوا أقعدهم فأراحوا ثم دنا العدو فجعل الخيل مجنبتيه وقال هزيم إني مطاعن القوم فأشغلهم عنا بالخيل وقال للناس شدوا فحملوا فما تثنوا حتى خالطوهم وحمل هزيم خيله عليهم فطاعنونهم بالرماح فما كفوا عنهم حتى حدروهم عن موقفهم وهزموهم وجرح في هذا اليوم خاقان ملك الترك وابنه. ولما تم الفتح كتب به قتيبة إلى الحجاج ولما تم لقتيبة ما أراد من بخارى هابه أهل الصغد فطلبوا صلحه فصالحهم على فدية يؤدونها.

وفي سنة 93 فتح قتيبة مدائن خوارزم صلحاً وكانت مدينة الفيل أحصنهم ثم غزا سمرقند وهي مدينة الصغد ففتحها بعد قتال شديد وبنى بها مسجداً وصلى فيه وكان معه في هذه الغزوة أهل بخارى وخوارزم ولما فتحها دعا نهار بن توسعة فقال يا نهار أين قولك:





ومات الندى والجود بعد المهلب
وقد غيبا عن كل شرق ومغرب

ألا ذهب الغزو المقرب للغني
أقام بمرو الروذ رهن ضريحه



أفغزوا هذا يا نهار قال هذا أحسن وأنا الذي أقول:

ولا هو فيما بعدنا كابن مسلم
وأكثر فينا مقسماً بعد مقسم

وما كان مذ كنا ولا كان قبلنا
أعم لأهل الترك قتلا بسيفه


ثم ارتحل قتيبة راجعاً إلى مرو واستخلف على سمرقند عبد اللَّه بن مسلم وخلف عنده جنداً كثيفاً وآله من آلات الحرب كثيرة. ثم انصرف إلى مرو فأقام بها.

وفي سنة 94 غزا قتيبة شاش وفرعانة حتى بلغ خجندة وكاشان مدينتي فرغانة وقاتله أهل خجندة قتالاً شديداً فهزمهم ثم أتى كاشان فافتتحها وفي سنة 96 افتتح مدينة كاشغر وهي أدنى مدائن الصين سار إليها من مرو فمر بفرغاته وجاءه وهو بها موت الوليد بن عبد الملك فلم يقعده ذلك عن الغزو وسار إلى كاشغر فافتتحها وكان بينه وبين ملك الصين هناك مراسلات وأرسل إليه قتيبة وفداً عليهم هبيرة بن المشمرخ الكلابي فلما كلمهم ملك الصين قال لهم قولوا لقتيبة ينصرف فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه وإلا بعثت إليكم من يهلككم ويهلكه، فقال له هبيرة كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون وكيف يكون حريصاً من خلف الدنيا قادراً عليها وغزاك وأما تخويفك إيانا بالقتل فإنا لنا آجالاً إذا حضرت فأكرمها القتل فلسنا نكرهه ولا نخافه. قال فما الذي يرضي صاحبك، قال إنه قد حلف أن لا ينصرف حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم ويعطي الجزية. قال فأنا نخرجه من يمينه نبعث إليه بتراب من تراب أرضنا فيطؤه ونبعث ببعض أبنائنا فيختمهم ونبعث إليه بجزية يرضاها ثم دعا بصحاف من ذهب فيها تراب وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من ملوكهم ثم أجاز الوفد فساروا حتى قدموا على قتيبة فقبل الجزية وختم الغلمة وردهم ووطىء التراب ثم عاد إلى مرو.

هكذا فتح هذا القائد العظيم تلك البلاد الواسعة وضمها إلى المملكة الإسلامية فانتشر فيها الإسلام حتى أخرجت العظماء من كتاب المسلمين وفقائهم ومحدثيهم وعلمائهم. كانت لقتيبة همة لم تعرف عن الكثير من قواد الجنود وكان له في سياسة جنده الغاية فأحبهم وأحبوه وساقهم إلى الموت فلم يبالوا وسنتكلم بعد على خاتمة حياته.

وأما موسى بن نصير: فإنه ذلك القائد العظيم الذي فتح الأندلس وأدخل الإسلام في قارة أوروبا.

وأما مسلمة بن عبد الملك فإن عزيمته ظهرت في حروب الروم فكان كل سنة يسير الجنود فيفتتح ما أمامه من الحصون العظيمة التي أقامها الروم لحفظ بلادهم وربما كان يغزو معه العباس بن الوليد بن عبد الملك. ومن الحصون التي افتتحوها حصن طوانة وحصن عمورية وإذاورلية وهرقلة وقمونية وسيسطية والمرزبانين وطرسوس وكثير وغيرها حتى هابهم الروم.
ولاية العهد:

كان عبد الملك قد ولي عهده ابنيه الوليد ثم سليمان ولم يعتبر بما كان منه في حق أخيه عبد العزيز وقد أعاد الوليد عمل أبيه فأراد عزل سليمان وتولية عبد العزيز بن الوليد ودعا الناس إلى ذلك فلم يجبه إلا الحجاج بن يوسف وقتيبة بن مسلم وخواص من الناس فأشار على الوليد بعض خاصته أن يستقدم سليمان ويريده على خلع نفسه وبيعة عبد العزيز فكتب إليه فاعتل فأراد الوليد أن يسير إليه فأمر الناس بالتأهب ولكن منيته حالت دون ذلك. ومن هذا كان الجفاء الشديد بين سليمان والحجاج ومن على رأيه.
وفاة الوليد بن عبد الملك:

في منتصف جمادى الآخرة سنة 96 هـ توفي بدير مران الوليد بن عبد الملك (25 فبراير سنة 715 م) بعد أن مكث في الخلافة تسع سنين وثمانية أشهر من منتصف شوال سنة 86 إلى منتصف جمادى الثانية سنة 96.وكانت سنه إذ توفي ستاً وأربعين سنة وكان له من الأولاد تسعة عشر ابناً.

yacine414
2011-03-17, 17:23
سليمان بن عبد الملك:

هو سليمان بن عبد الملك بن مروان ولد سنة 54 من الهجرة.

بويع بالخلافة بعد موت أخيه وكان بالرملة من أرض فلسطين، وكانت لأول عهده أحداث خير وشر.

كان سليمان يبغض الحجاج وأهله وولاته وكان الحجاج يخشى أن يموت الوليد قبله فيقع في يد سليمان فعجل اللَّه به وكان على العكس من ذلك يميل إلى يزيد بن المهلب عدو الحجاج الألد، فلما ولي سليمان كان أول عمل بدأ به أن ولي يزيد بن أبي كبشة السكسي السند فأخذ محمد بن القاسم وقيده وحمله إلى العراق فقال محمد ممثلاً:

ليوم كريهة وسداد ثغر

أضاعوني وأي فتى أضاعوا


فبكى أهل السند على محمد، فلما وصل إلى العراق حبس بواسط.

ثم عذبه صالح بن عبد الرحمن في رجال من آل أبي عقيل حتى قتلهم وبذلك انتهت حياة هذا القائد إرضاء لأهواء الخليفة حتى تقر نفسه بالانتقام وتناسى ما فعله ذلك القائد من عظيم الأعمال، ولا ندري كيف تنبغ القواد وتخلص قلوبهم إذا رأوا أن نتيجة أعمالهم تكون على مثل ذلك.

أما القائد الثاني قتيبة بن مسلم فإنه كان ممن وافق الوليد على غرضه في عزل سليمان وتولية ابنه عبد العزيز فاضطغنها عليه سليمان وهو يعد من صنائع الحجاج فلما ولي سليمان أشفق منه قتيبة وخاف أن يولي خراسان يزيد بن المهلب، فكتب إليه كتاباً يهنئه ويعزيه عن الوليد وبعلمه بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد وأنه لو على مثل ما كان لهما عليه من الطاعة والنصيحة إن لم يعزله عن خراسان وكتب كتاباً ثانياً يعلمه فيه فتوحه ونكايته وعظم قدره عند ملوك العجم وهيبته في صدورهم وعظم صوته. ويذم المهلب وآل المهلب ويحلف لئن استعمل يزيد على خراسان ليخلعنه.

وكتب كتاباً ثالثاً فيه خلعه وأرسل الكتب الثلاثة مع رجل باهلي وقال له ادفع إليه الكتاب الأول. فإن كان يزيد بن المهلب حاضراً فقرأ ورماه إليه فادفع إليه الثاني، فإن قرأه ورماه إليه فادفع إليه الثالث. فإن قرأ الكتاب الأول ولم يرمه إليه، فاحتبس الكتابين الآخرين. فقدم رسول قتيبة على سليمان وعنده يزيد بن المهلب فدفع إليه الكتاب الأول فقرأه ورماه إلى يزيد فدفع إليه الثاني فقرأه ورماه إلى يزيد فأعطاه الثالث فقرأه.

فتعمر وجهه واحتبس الكتاب في يده وحول الرسول إلى دار الضيافة. ولما أمسى أجاز الرسول وأعطاه عهد قتيبة على خراسان فخرج حتى إذا كان بحلوان بلغه ما كان من أن قتيبة غير مطمئن إلى سليمان فأجمع رأيه على خلعه فدعا الناس الذين معه إلى ذلك فأبى عليه الناس وولوا أمرهم وكيعاً سيد بني تميم فثاروا على قتيبة حتى قتلوه هو وإخوته وأكثر بنيه. قال رجل من عجم خراسان يا معشر العرب قتلتم قتيبة واللَّه لو كان منا فمات فينا جعلناه في تابوت فكنا نستفتح به إذا غزونا وما صنع أحد قط بخراسان ما صنع قتيبة إلا أنه قد غدر وذلك أن الحجاج كتب إليه أن أحتلهم واقتلهم وكانوا يسمون قتيبة هناك ملك العرب فانظروا كيف كانت قوة قتيبة وسيادته في الجماعة وكيف ضاع ذلك كله بسبب هذه الفتنة التي تعجلها قتيبة وما كان ضره لو تأنى.

كانت قيس تزعم أن قتيبة لم يخلع وإنما تجنى عليه وكيع وعلى كل حال فإن الذي حصل كان موافقاً لهوى سليمان بن عبد الملك.

وأما القائد الثالث وهو موسى بن نصير فإن خاتمة حياته كانت أتعس من صاحبيه فإنه قبل أن يتوفى الوليد استقدمه إلى دمشق فقدم وقد مات الوليد وكان سليمان منحرفاً عنه فعزله عن جميع الأعمال وحبسه وأغرمه مالاً عظيماً لم يقدر على وفائه فكان يسأل العرب في معونته وعلى الجملة فإن فاتحة عهد سليمان لم تكن مما يسر لما أصاب هؤلاء القواد العظام من التعس بعد بلائهم.

أما العامة فإنهم استبشروا به لأنه أزاح عنهم عمال الجور والعسف الذين كانوا عليهم في عهد أخيه وأطلق الأسارى وخلى أهل السجون وأحسن إلى الناس.

yacine414
2011-03-17, 17:24
الفتوح في عهد يزيد:

في عهد إمارة يزيد بن المهلب خراسان فتح دهستان بعد أن حاصرها مدة طويلة ثم أتى جرجان فصالحه أهلها وخلف فيهم جنداً وسار إلى طبرستان فقاتله بها الأصبهبذ قتالاً شديداً ثم صالحه أخيراً وبينا هو محاصر طبرستان بلغه أن أهل جرجان غدروا بعامله وقتلوه هو ومن معه فعاد إليهم وفتح جرجان الفتح الأخير وقتل من أهلها مقتلة عظيمة وكان فتحه لهذه البلاد فتحاً عظيماً لأنها كانت ارتدت وقطعت الطريق على المسلمين وكتب يزيد إلى سليمان بن عبد الملك أما بعد فإن اللَّه قد فتح لأمير المؤمنين فتحاً عظيماً وصنع للمسلمين أحسن الصنع فلربنا الحمد على نعمه وإحسانه في خلافة أمير المؤمنين على جرجان وطبرستان وقد أعيا ذلك سابور ذا الأكتاف وكسرى ابن قباذ وكسرى بن هرمز وأعيا الفاروق عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ومن بعدهما من خلفاء اللَّه حتى فتح اللَّه ذلك لأمير المؤمنين كرامة من اللَّه له وزيادة في نعمه عليه وقد صار عندي من خمس ما أفاء اللَّه وأنا حامل ذلك لأمير المؤمنين إن شاء اللَّه.
في بلاد الروم:

في عهد سليمان سنة جهز أخاه مسلمة بن عبد الملك بجند عظيم لفتح القسطنطينية وأمره أن يقيم عليها حتى يفتحها أو يأتيه بها أمره فجاءها وحصرها وشتى بها وصاف ومات سليمان وهو له محاصر.
ولاية العهد:

كان سليمان بن عبد الملك قد عهد لابنه أيوب فمات وهو ولي عهده فلما مرض سليمان استشار رجاء بن حيوة في تولية عمر بن عبد العزيز فوافقه على ذلك وكتب بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا كتاب من عبد اللَّه سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز إني قد وليتك الخلافة من بعدي ومن بعدك يزيد بن عبد الملك فاسمعوا له وأطيعوا واتقوا اللَّه ولا تختلفوا فيطمع فيكم عدوكم وختم الكتاب وأمر بجمع أهل بيته فلما اجتمعوا قال لرجاء اذهب بكتابي هذا إليهم فأخبرهم أن هذا كتابي ومرهم فليبايعوا من وليت فبايعوا كلهم من غير أن يعلموا من سماه.
وفاة سليمان:

يوم الجمعة لعشر بقين من صفر سنة 99 هـ توفي سليمان بن عبد الملك بدابق من أرض قنسرين بعد أن حكم سنتين وثمانية أشهر وخمسة أيام وكانت سنه إذ توفي 45 سنة«

yacine414
2011-03-17, 17:26
عمر بن عبد العزيز:

ترجمته:

هو عمر بن عبد العزيز بن مروان ولد سنة 62 هجرية وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب. ولي الخلافة بعد سليمان بن عبد الملك باستخلافه إياه.

لما مات سليمان خرج رجاء بعهده الذي لم يكن فتح وجمع بني أمية في مسجد دابق وطلب منهم المبايعة مرة ثانية لمن سماه سليمان في كتابه فلما تمت بيعتهم أخبرهم بوفاة أمير المؤمنين وقرأ عليهم الكتاب ولما انتهى أخذ بضبعي عمر فأجلسه على المنبر وهو يسترجع لما وقع فيه وهشام بن عبد الملك يسترجع لما أخطأه.

ولما تمت البيعة بمراكب الخلافة البراذين والخيل والبغال ولكل دابة سائس فقال ما هذا قالوا مركب الخلافة قال دابتي أوفق لي وركب دابته فصرفت تلك الدواب ثم أقبل سائراً فقيل له منزل الخلافة فقال فيه عيال أبي أيوب وفي فسطاطي كفاية حتى يتحولوا فأقام في منزله حتى فرغوه بعد.

كان عمر بن عبد العزيز بعيداً عن كبرياء الملوك وجبروتهم فأعاد إلى الناس سيرة الخلفاء الراشدين الذين كانوا ينظرون إلى أمتهم نظر الأب البار ويعدلون بينهم في الحقوق ويعفون عن أموال الرعية والدنيا عندهم أهون من أن يهتم بجمعها كذلك كان عمر بن عبد العزيز.

في أول خلافته أرسل كتاباً عاماً إلى جميع العمال بالأمصار هذه نسخته أما بعد فإن سليمان بن عبد الملك كان عبداً من عبيد اللَّه أنعم اللَّه عليه ثم قبضه واستخلفني ويزيد بن عبد الملك من بعدي إن كان، وإن الذي ولاني اللَّه من ذلك وقدر لي ليس على بهين ولو كانت رغبتي في اتخاذ أزواج واعتقال أموال كان في الذي أعطاني من ذلك ما قد بلغ بي أفضل ما بلغ بأحد من خلقه وأنا أخاف فيما ابتليت به حساباً شديداً ومسألة غليظة إلا ما عافى اللَّه ورحم وقد بايع من قبلنا فبايع من قبلك. وهذا الكتاب ينبىء عن حقيقة الرجل وتواضعه وبعده عن الزهو والكبرياء وشعوره بعظيم ما ألقي عليه من أمر المسلمين.

مما يدل على حبه للعدل والوفاء أن أهل سمرقند قالوا لعاملهم سليمان بن أبي السرح إن قتيبة غدر بنا وظلمنا وأخذ بلادنا وقد أظهر اللَّه العدل والإنصاف فأذن لنا فليفد منا وفد إلى أمير المؤمنين يشكون ظلامتنا فإن كان لنا حق أعطيناه فإن بنا إلى ذلك حاجة فأذن لهم فوجهوا منهم قوماً إلى عمر فلما علم عمر ظلامتهم كتب إلى سليمان يقول له إن أهل سمرقند قد شكوا ظلماً أصابهم وتحاملاً من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم فإذا أتاك كتابي فأجلس لهم القاضي فلينظر في أمرهم فإن قضى لهم فأخرجهم إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن ظهر عليهم قتيبة فأجلس لهم سليمان جميع بن حاضر.

ومن أعماله العظيمة تركه لسب علي بن أبي طالب على المنابر وكان بنو أمية يفعلونه فتركه وكتب إلى الأمصار بتركه. وكان الذي وقر ذلك في قلبه أنه لما ولي المدينة كان من خاصته عبيد اللَّه بن عتبة بن مسعود من فقهاء المدينة فبلغه عن عمر شيء مما يقول بنو أمية فقال عبيد اللَّه متى علمت أن اللَّه غضب على أهل بدر وبيعة الرضوان بعد أن رضيعنهمفقال لم أسمع ذلك قال فما الذي بلغني عنك في علي فقال عمر معذرة إلى اللَّه وإليك وترك ما كان عليه فلما استخلف وضع مكان ذلك {إن اللَّه يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} [النحل: 9] فأي شر رفع وأي خير وضع قال في ذلك كثير عزة:

بريا ولم تتبع مقالة مجرم
تبين آيات الهدى بالتكلم
فعلت فأضحى راضياً كل مسلم
من الأود البادي ثقات المقوم

وليت فلم تشتم عليا ولم تخف
تكلمت بالحق المبين وإنما
وصدقت معروف الذي قلت بالذي
ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه


ومن إصلاحه أمره بعمل الخانات في البلدان القاصية فقد كتب إلى سليمان بن أبي السرح أن اعمل خانات فمن مر بك من المسلمين فأقروه يوماً وليلة وتعهدوا دوابهم ومن كانت به علة فأقروه يومين وليلتين وإن كان منقطعاً فأبلغه بلده.

ومما يذكر له أن أبطل مغارم كثيرة كانت قد استحدثت في عهد الحجاج بن يوسف فقد كتب إلى أمير العراق أما بعد فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام اللَّه وسنة خبيثة سنها عليهم عمال السوء وإن قوام الدين العدل والإحسان فلا يكون شيء أهم إليك من نفسك فلا تحملها إلا قليلاً من الإثم ولا تحمل خراباً على عامر وخذ منه ما طاق وأصلحه حتى يعمر ولا يؤخذن من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض ولا تأخذ أجور البيوت ولا درهم النكاح ولا خراج على من أسلم من أهل الذمة فاتبع في ذلك أمري فإني قد وليتك من ذلك ما ولاني اللَّه.

ومما فعله أنه نهى عن تنفيذ حكم أو قطع إلا بعد أن يراجع فيه بعد أن كانت الدماء قبله تراق من غير حساب بل على حسب هوى الأمير.

ومن الحكمة أن لا يتساهل في مثل هذه الحدود وضم رأي الخليفة إلى رأي القاضي الذي حكم ضمان كبير لأن يكون الحكم قد وقع موقعه.

رده المظالم لأهلها لما ولى الخلافة أحضر قريشاً ووجوه الناس فقال لهم إن فدك كانت بيد رسول اللَّه r فكان يضعها حيث أراد اللَّه ثم وليها أبو بكر وعمر كذلك ثم أقطعها مروان ثم إنها قد صارت إلي ولم تكن من مالي أعود منها علي وإني أشهدكم قد رددتها على ما كانت عليه في عهد رسول اللَّه r وقال لمولاه مزاحم أن أهلي أقطعوني ما لم يكن لي أن آخذ ولا لهم أن يعطونيه وإني قد هممت برده على أربابه.

كان عمر غير مترف فكان مصرفه كل يوم درهمين وكان يتقشف في ملبسه كجده عمر بن الخطاب ولم يتزوج كعمر غير فاطمة بنت عبد الملك بن مروان وكان أولاده يعينونه على الخير وكان أشدهم معونة له ابنه عبد الملك.

وعلى الجملة فإن عمر بن عبد العزيز من أفراد الخلفاء الذين لا يسمح بهم القدر كثيراً ويرى المسلمون أن عمر هو الذي بعث على رأس المائة الثانية ليجدد للأمة أمر دينها كما جاء في حديث »إن اللَّه يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها «.

لم يحدث في عهد عمر شيء من الحوادث الداخلية المهمة إلا ما كان من القبض على يزيد بن المهلب واحضاره إلى عمر فسأله عن الأموال التي كتب بها إلى سليمان بن عبد الملك فقال كنت من سليمان بالمكان الذي قد رأيت وإنما كتبت إلى سليمان لأسمع الناس وقد علمت أن سليمان لم يكن ليأخذني به فقال لا أحد في أمرك إلا حبسك فاتق اللَّه وأد ما قبلك فإنها حقوق المسلمين ولا يسعني تركها وحبس بحصن حلب.

ومن الحوادث الخارجية في عهده أنه كتب إلى ملوك السند يدعوهم إلى الإسلام وقد كانت سيرته بلغتهم فأسلم ملوك السند وتسموا بأسماء العرب.

واستقدم مسلمة بن عبد الملك من حصار القسطنيطينية وأمر أهل طرندة بالقفول عنها إلى ملطية وطرندة داخلة في البلاد الرومية من ملطية ثلاث مراحل وكان عبد اللَّه بن عبد اللَّه قد أسكنها المسلمين بعد أن غزاها سنة 83 وملطية يومئذ خراب وكان يأتيهم جند من الجزيرة يقيمون عندهم إلى أن ينزل الثلج ويعودون إلى بلادهم فلم يزالوا إلى أن ولي عمر فأمرهم بالعودة إلى ملطية وأخلى طرندة خوفاً على المسلمين من العدو وأخرب طرندة.
وفاة عمر بن عبد العزيز:

في 25 رجب سنة 101 توفي عمر بن عبد العزيز بدير سمعان وكانت مدته سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام.

yacine414
2011-03-17, 17:27
يزيد بن عبد الملك:

ترجمته:

هو يزيد بن عبد الملك بن مروان ولد سنة 65 وعهد إليه سليمان بن عبد الملك بالخلافة بعد عمر بن عبد العزيز فلما توفي عمر بويع بها فلما تولى عمد إلى كل صالح فعله عمر فأعاده إلى ما كان عليه وهو أول خليفة من بني أمية عرف بالشراب وقتل الوقت في معاشرة القيان. وفي أول عهده كانت فتنة يزيد بن المهلب فإنه لما هرب من محبس عمر وبلغه موته وخلافة يزيد بن عبد الملك قصد البصرة وعليها عدي بن أرطاة فاستولى عليها وعلى ما يليها من فارس والأهواز فبعث إليه يزيد بن عبد الملك جيشاً عظيماً يقوده أخوه مسلمة بن عبد الملك. خطب ابن المهلب أهل البصرة وأخبرهم أنه يدعوهم إلى كتاب اللَّه وسنته وحثهم على الجهاد وزعم أن جهاد أهل الشام أعظم ثواباً من جهاد الترك والديلم. فسمعه الحسن البصري سيد فقهاء أهل البصرة فقال واللَّه لقد رأيناك والياً وموالياً عليك فما ينبغي لك ذلك فقام إليه أناس فأسكتوه خوفاً من أن يسمعه ابن المهلب.

وروى الطبري أن الحسن مر على الناس وقد اصطفوا صفين وقد نصبوا الرايات والرماح وهم ينتظرون خروج ابن المهلب وهم يقولون يدعونا إلى سنة العمرين فقال الحسن إنما كان يزيد بالأمس يضرب أعناق هؤلاء الذين ترون ثم يسرح بها إلى بني مروان يريد بهلاك هؤلاء القوم رضاهم فلما غضب غضبة نصب نصباً ثم وضع عليها خرقاً ثم قال إني قد خالفتهم فخالفوهم قال هؤلاء القوم نعم وقال إني أدعوكم إلى سنة العمرين وإن من سنة العمرين أن يوضع قيد في رجله يرد إلى محبس عمر الذي فيه حبسه.

وولي ابن هبيرة سعيد الخرشي على خراسان وكانت له مع الصغد أهل سمرقند وقائع عظيمة من كثرة ما نقضوا كاد يستأصلهم فيها.

وفي عهده دخل جيش للمسلمين بلاد الخزر من أرمينية وعليهم ثبيت النهراني فاجتمعت الخزر في جمع كثير وأعانهم قفجاق وغيرهم من أنواع الترك فلقوا المسلمين بمكان يعرف بمرج الحجارة فاقتتلوا هناك قتالاً شديداً فقتل من المسلمين بشر كثير واحتوت الخزر على عسكرهم وغنموا جميع ما فيه وأقبل المنهزمون إلى الشام فقدموا على يزيد بن عبد الملك وفيهم ثبيت فوبخهم يزيد على الهزيمة فقال يا أمير المؤمنين ما جبنت ولا نكبت عن لقاء العدو ولقد لصقت الخيل بالخيل والرجل بالرجل ولقد طاعنت حتى انقصف رمحي وضاربت حتى انقطع سيفي، غير أن اللَّه تبارك وتعالى يفعل ما يريد.

ولما غلب الخزر هذه المرة طمعوا في بلاد المسلمين فجمعوا وحشدوا واستعمل يزيد الجراح بن عبد اللَّه الحكمي حينئذ على أرمينية وأمده بجيش كثيف وأمره بغزو الخزر وغيرهم من الأعداء فسار الجراح حتى وصل برذعة، وبعد أن استراح سار نحو الخزر فعبر نهر الكرو، ولما وصل إلى مدينة الباب والأبواب لم يجد فيها أحداً من الخزر فدخلها بغير قتال ثم أقبل إليه الخزر وعليهم ابن ملكهم فقاتلهم الجراح وظفر بهم ظفراً عظيماً ثم سار حتى نزل على حصن يعرف بالحصين أهله بالأمان على مال يحملونه فأمنهم وتسلم حصنهم ونقلهم عنه.

ثم سار إلى بلنجر، وهو حصن عظيم من حصونهم فنازله وافتتحه عنوة بعد قتال زاغت فيه الأبصار، ثم إن الجراح أخذ أولاد صاحب بلنجر وأهله وأرسل إليه فحضر ورد إليه أمواله وأهله وحصنه وجعله عيناً لهم يخبره بما يفعل العدو، ثم سار عن بلنجر فنزل على حصن الوبندر وبه نحو أربعين ألفاً من الترك فصالحوا الخراج على مال يؤدونه، وعلى الجملة فقد كان الجراح أعظم الولادة أثراً وفتحاً في تلك البلاد القاصية.
ولاية العهد:

كان يزيد يريد تولية ابنه الوليد من بعده، فقيل له إنه صغير، فولى أخاه هشاماً ومن بعده ابنه الوليد.
وفاة يزيد:

لأربع عشرة من شهر ربيع الأول سنة 64 (10 نوفمبر سنة 683 م) توفي يزيد بن معاوية بحوران من أرض الشام وسنه تسع وثلاثون سنة ومدة خلافته ثلاث سنوات وثمانية أشهر وأربعة عشر يوماً.

yacine414
2011-03-17, 17:28
هشام بن عبد الملك:

ترجمته:

هو هشام بن عبد الملك بن مروان عاشر الأمويين وسابع المروانيين ولد سنة 92 من الهجرة وكان أبوه عبد الملك إذ ذاك يحارب مصعب بن الزبير، وأمه عائشة بنت هشام بن المخزومية.

وكان حين مات أخوه يزيد مقيماً بحمص وهناك جاءه البريد بالعصا والخاتم وسلم عليه بالخلافة فأقبل حتى أتى دمشق وتمت له البيعة فأقام خليفة إلى سادس ربيع الأول سنة 125 أي تسع عشرة سنة وستة أشهر وأحد عشر يوماً وكان هشام معدوداً من خير خلفاء بني أمية ولعمري إن من كان من خلقه الحلم والعفة لجدير من ذلك.


الأحوال الداخلية في عهده:

في العراق والشرق ــ كان أمير العراق ــ حين ولي هشام عمر بن هبيرة وكان لهشام فكر حسن في أهل اليمن فعزل ابن هبيرة وولي بدله خالد بن عبد اللَّه القسري وهو قحطاني. فاختار لولاية خراسان أخاه أسد بن عبد اللَّه واستعمل الجنيد بن عبد الرحمن على السند.

ولَّى هشام خراسان أشرس بن عبد اللَّه السلمي وأمره أن يكاتب خالداً وكان أشرس فاضلاً خيراً وكانوا يسمونه الكامل لفضله، فلما قدم خراسان فرحوا به ولأول عهده أرسل إلى أهل سمرقند وما وراء النهر يدعوهم إلى الإسلام على أن توضع عنهم الجزية فسارع الناس هناك إلى الإسلام فكتب صاحب الخراج إلى أشرس إن الخراج قد انكسر فكتب أشرس سمرقند إن في الخراج قوة للمسلمين وقد بلغني أن أهل الصغد وأشباههم لم يسلموا رغبة إنما أسلموا تعوذاً من الجزية فانظر من اختتن وأقام الفرائض وقرأ سورة من القرآن فارفع خراجه.

كان رسول أشرس إلى الصغد بدعوة الإسلام أبا الصيداء صالح بن طريف فلما رأى العمال يطالبون من أسلم بالجزية منعهم من ذلك فلجوا ولج وكانت النتيجة أن عصى الصغد وأعانهم أبو الصيداء ومن كان معه فاحتال أمير جند أشرس على أبي الصيداء وبقية الرؤساء الذين ساعدوه حتى جيء بهم فحبسهم واستخف بعدذلك بعظماء العجم والدهاقين فكفر أهل الصغد واستجاشوا الترك فأعانوهم.

لما علم بذلك أشرس خرج غازياً في جنوده حتى عبر النهر من عند آهل فأقبل الصغد والترك وكانت بين الفريقين موقعة عظيمة كاد المسلمون ينهزمون فيها لولا أن رجعوا فثبتواحتى هزموا عدوهم، ثم سار أشرس حتى نزل بيكند فقطع العدو عنهم الماء وكادوا يهلكون عطشاً لولا أن انتدب شجعانهم إلى الترك فأزالوهم عن الماء واستقى الناس ثم غلبوهم على مواقعهم فأزالوا عنها وهزموهم.

وفي سنة 111 عزل هشام أشرس بن عبد اللَّه عن خراسان واستعمل بدله الجنيد بن عبد الرحمن المري فلما جاء خراسان فرق عماله ولم يستعمل إلا مضرياً.

وفي سنة 112 خرج غازياً يريد طارستان فوجه جنداً عدده ثمانية عشر ألفاً إلى طخارستان وجنداً عدده عشر آلاف إلى وجه آخر فكتب إليه أمير سمرقند أن خاقان ملك الترك جاش فخرجت إليهم فلم أطلق أن أمنع حائط سمرقند فالغوث الغوث فأمر الجنيد الجند بعبور النهر. فقال له ذوو الرأي ممن معه إن أمير خراسان لا يعبر النهر في أقل من خمسين ألفاً وأنت قد فرقت جندك، قال فكيف بسورة (أمير سمرقند) ومن المسلمين لو لم أكن إلا في بني مرة أو من طلع معي من الشام لعبرت ثم عبر فنزل كش وتأهب للمسير فبلغ الترك خبره فغوروا الآبار فسار الجند بالناس حتى صار بينه وبين سمرقند أربعة فراسخ ودخل الشعب فصبحه خاقان في جمع عظيم وزحف إليه أهل الصغد وفرغانة والشاش وطائفة من الترك وهنا ظهرت العزائم الثابتة من قواد المسلمين فأبلوا بلاء حسناً مع قلة عددهم وكثرة عدوهم ولما اشتد القتال ورأى الجنيد شدة الأمر استشار أصحابه فقال له عبد اللَّه بن حبيب اختر إما تهلك أنت أو سورة بن الحر، قال هلاك سورة أهون علي قال فاكتب إليه فليأتك في أهل سمرقند فإنه إذا بلغ الترك إقباله توجهوا إليه فقاتلوه فكتب الجنيد إلى سورة يأمره بالقدوم، فرحل سورة عن سمرقند في اثني عشر ألفاً فلما كان بينه وبين الجنود فرسخ واحد لقيهم فقاتلهم أشد قتال فانكشف الترك وثار الغبار فلم يبصروا وكان من وراء الترك لهب فسقطوا فيه وسقط العدو والمسلمون وسقط سورة فاتقدت فخذه وتفرق الناس فقتلهم الترك ولم ينج منهم إلا القليل.

وفي سنة 116 عزل الجنيد عن خراسان وولي بدله عاصم بن عبد اللَّه الهلالي وكان هشام قد غضب على الجنيد لأنه تزوج الفاصلة بنت يزيد المهلب فقال لعاصم إن أدركته وبه رمق فأزهق نفسه فجاء عاصم وقد مات الجنيد فأراحه اللَّه من هذا الشر الذي صار عادة في هذه الدولة ولم يكتف عاصم بذلك بل أخذ عمال الجنيد وعذبهم.

وفي عهده خرج عليه الحارث بن سريج لابساً السواد داعياً إلى كتاب اللَّه وسنة نبيه والبيعة للرضا وتبعه خلق كثير فاستولى على البلخ والجوزجان ثم قصد مرو بها عاصم فقابله على أبوابها فهزمه هزيمة منكرة وغرق من جنده بشر كثير في أنهار مرو وفي النهر الأعظم وهرب الحارث.

وفي سنة 119 غزا أسد الختل وغلب على قلعتهم العظمى وفرق العسكر في أودية الختل فملئوا أيديهم من الغنائم والسبي وهرب أهله إلى الصين وفي سنة 120 توفي أسد ببلخ وكان من خيرة الولاة بخراسان وأبعدهم همة وأشدهم شكيمة.

وفي سنة 111 عزل هشام مسلمة ورد الجراح فدخل بلاد الخزر من ناحية نفليس ففتح مدينتهم البيضاء وانصرف سالماً فجمعت الخزر جموعها واحتشدت وساعدتهم الترك من ناحية اللان فلقيهم الجراح فيمن معه من أهل الشام فاقتتلوا أشد قتال رآه الناس فصبر الفريقان وتكاثرت الخزر والترك على المسلمين فقتل الجراح ومن معه بمرج أردبيل، وبذلك طمع الخزر في البلاد وأوغلوا فيها حتى قاربوا الوصل وعظم الخطب. فلما علم ذلك هشام استعمل على تلك البلاد سعيداً الحرشي وأتبعه بالجنود، ولما وصل وأرزن فلول الجراح فأخبرهم معه حتى وصل إلى خلاط فافتتحها عنوة ثم سار عنها وفتح القلاع والحصون شيئاً بعد شيء إلى أن وصل برذع فنزلها.

وفي سنة 114 قدم على هشام مروان بن محمد فشكا إليه مسلمة وأنه لم يفعل شيئاً مع هذا العدو الشديد وطلب إليه أن يوليه أرمينية وأن يمده بمائة وعشرين ألف مقاتل ليوقع بالخزر والترك وقعة يؤدبهم بها فأجابه إلى ذلك هشام وعزل مسلمة وولي مروان الجزيرة وأرمينية وأذربيجان وسير الجنود إليه فدخل مروان بلاد الخزر وسار فيها حتى انتهى إلى آخرها وملك الخزر ينفض بجموعه أمامه ذليلاً فأقام مروان في تلك البلاد أياماً ودخل بلاد السرير فأوقع بأهله وفتح أقلاها ودان له الملك ولما رأى أهل تلك البلاد ما عليه مروان من القوة صالحوه فعاد عنهم وكان مروان أن يلح على أهل تلك البلاد بإظهار القوة حتى لم يكونوا يحدثون أنفسهم بحربه وخافه الترك خوفاً شديداً ودانت له جميع البلاد على شاطىء بحر الخزر.
في الشمال:

كانت الحرب لا تنقطع بين المسلمين والروم من جهة الحد الشمالي للبلاد الإسلامية ولتلك كانت حماية الثغور مما يهتم به الخلفاء جد الاهتمام ويولون أمرها كبار القواد وكانت الشواتي والصوائف دائمة الحركة، وممن اشتهر بقيادة الجيوش في تلك الأصقاع مروان بن محمد قبل أن يولي أرمينية ومسلمة بن عبد الملك ومعاوية بن هشام وسعيد بن هشام وسليمان بن هشام، وقد افتتحوا في غزواتهم بلداناً كثيرة رومية منها قونية وخرشنة وقيسارية وكثيراً من الحصون والقلاع.

وكانت مراكب البحر لا تزال تغير على الروم من البحر وكان أمير البحر في عهد هشام عبد الرحمن بن معاوية بن خديج ومن أكبر القواد عبد اللَّه بن عقبة.

ومما ينبغي ذكره في حروب الروم قتل عبد الوهاب بن بخت سنة 113، وكان يعزو مع عبد اللَّه البطال أرض الروم فانهزم الناس عن البطال فحمل عبد الوهاب وصاح أنا عبد الوهاب بن بخت، أمن الجنة تفرون ثم تقدم في نحر العدو فمر برجل يقول واعطشاه، فقال تقدم الري أمامك فخالط القوم فقتل، وفي سنة 122 قتل عبد اللَّه البطال وكان كثير الغزو إلى بلاد الروم والإغارة على بلادهم وله عندهم ذكر عظيم وكانوا يخافونه خوفاً شديداً وسيره عبد الملك بن مروان مع ابنه مسلمة إلى بلاد الروم وأمره على رؤوس أهل الجزيرة والشام وأمره أن يجعله على مقدمته وطلائعه وقال إنه ثقة شجاع مقدام فجعله مسلمة على عشرة آلاف فارس فكان بينه وبين الروم.
في الحجاز:

كان والي الحجاز محمد بن هشام المخزومي خال عبد الملك بن مروان وفي سنة 106 حج هشام بن عبد الملك.

واستمر أمير الحجاز محمد بن هشام وهو الذي يقيم الناس حجهم إلا في سنة 116 فإن الذي أقام الحج هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك ولي العهد وفي سنة 123 حج يزيد بن هشام بن عبد الملك.

ولم يحصل في الحجاز حوادث ولا ثورات في عهد هشام.
ولاية العهد:

كان ولي العهد بحسب وصية يزيد بن عبد الملك هو الوليد بن يزيد فبدا لهشام أن يعزله ويولي بدله ابنه مسلمة واحتال لذلك فلم يفلح وإن كان قد أجابه بعض القواد إلى ما أراد وقد انتهى زمن هشام والوليد مباعد له نازل بالأزرق على ماء له بالأردن.
وفاة هشام:

لست خلون من شهر ربيع الآخر سنة 125 توفي هشام بن عبد الملك وكانت خلافته تسع عشرة سنة وستة أشهر وأحد عشر يوماً من 25 شعبان سنة 105 إلى ربيع الأول سنة 125
صفة هشام:

كان هشام مشهوراً بالحلم والعفة، شتم مرة رجلاً من الأشراف فقال له الرجل أما تستحي أن تشتمني وأنت خليفة اللَّه في الأرض. فاستحيا منه هشام وقال اقتص مني قال إن أنا سفيه مثلك قال فخذ مني عوضاً من المال قال ما كنت لأفعل، قال فهبها للَّه، قال هي للَّه ثم لك. فنكث هشام رأسه واستحيا وقال واللَّه لا أعود لمثلها أبداً.

yacine414
2011-03-17, 17:30
الوليد بن يزيد الثاني:

هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف الثقفي كان والياً للعهد بعد هشام وكان مغاضباً له في حياته حتى خرج وأقام في البرية كما ذكرناه.

ولم يزل مقيماً في تلك البرية حتى مات هشام فجاءه الكتاب بموته وبيعة الناس له فكان أول ما فعله أن كتب إلى العباس بن عبد الملك بن مروان أن يأتي الرصافة فيحمي ما فيها من أموال هشام وولده وعياله وحشمه إلا مسلمة بن هشام فإنه كلم أباه في الرفق بالوليد فقدم العباس الرصافة ففعل ما كتب به الوليد.

كان مما يهم الوليد أن ينتقم من كل من أعان هشاماً عليه وهم كثير من سادة الأمة وأفراد البيت الأموي.

كان ممن أجاب هشاماً إلى خلع الوليد محمد وإبراهيم ابنا هشام بن إسماعيل المخزوميان فوجه الوليد إلى المدينة يوسف بن محمد الثقفي والياً عليها ودفع إليه محمداً وإبراهيم موثقين في عباءتين فقدم بهما المدينة فأقامهما للناس ثم حملا الشام فأحضرا عند الوليد فأمر بجلدهما فقال محمد أسألك بالقرابة. قال أي قرابة بيننا قال فقد نهى رسول اللَّه r عن ضرب بسوط إلا في حد قال ففي حد أضربك وقود أنت أول ما فعل بالعرجى وهو ابن عمي وابن أمير المؤمنين عثمان وكان محمد قد أخذه وقيده وأقامه للناس وجلده وسجنه إلى أن مات بعد تسع سنين لهجاء العرجي إياه ثم أمر به الوليد فجلد هو وأخوه إبراهيم ثم أوقفهما حديداً وأمر أن يبعث بهما إلى يوسف بن عمر وهو على العراق فلما قدم بهما عليه عذبهما حتى ماتا.


يزيد بن الوليد بن عبد الملك (الثالث):

هو يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان وأمه أم ولد اسمها شاه آفريد بنت فيروز بن جرد بن شهريار بن كسرى.

بويع بالخلافة بعد مقتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك لليلتين بقيتا من جمادي الآخرة سنة 126، وكان يسمى يزيد الناقص، قيل لأنه نقص من أعطيات الناس ما زاده الوليد بن يزيد وردها إلى ما كانت عليه زمن هشام. وكانت ولاية يزيد فاتحة اضطراب في البيت الأموي ومبدأ انحلاله وذهاب سعادته.

وأول ما كان من الاضطرابات بالشام قيام أهل حمص ليأخذوا بثأر الوليد ممن قتله وأمروا عليه معاوية بن يزيد بن حصين ونابعهم على ما أرادوا من ذلك مروان بن عبد اللَّه بن عبد الملك وكان عاملاً للوليد على حمص وهو من سادة بني مروان نبلاً وكرماً وعقلاً وجمالاً؛ فلما بلغ يزيد خبرهم أرسل إليهم رسلاً فيهم يعقوب بن هانىء وكتب إليهم أنه ليس يدعو إلى نفسه وإنما يدعو إلى الشورى فلم يرضى بذلك أهل حمص وطردوا رسل يزيد وحينئذ جهز لهم جيشاً عليه سليمان بن هشام فسار ذلك الجيش حتى نزل حوارين. كان أهل حمص يريدون الذهاب إلى دمشق فأشار عليهم مروان بن عبد اللَّه أن يبدءوا بقتال هذا الجيش فاتهموه فقتلوه هو وابنه وولوا أبا محمد السقباني وتركوا جيش سليمان ذات اليسار وساروا إلى دمشق فسار سليمان مجداً في أثرهم فلحقهم بالسليمانية وكان يزيد قد أرسل جنداً آخر يقدمه عبد العزيز بن الحجاج فاجتمع الجندان على أهل حمص فهزموهم وقتلوا منهم عدداً عظيماً ولما رأوا ذلك دانوا ليزيد وبايعوه.

وكما فعل أهل حمص فعل أهل فلسطين فإنهم طردوا عاملهم وولوا أمرهم يزيد بن سليمان بن عبد الملك وكذلك فعل أهل الأردن وولوا محمد بن عبد الملك واجتمعوا مع أهل فلسطين على قتال يزيد بن عبد الملك فسير إليهم يزيد سليمان بن هشام في أهل دمشق وأهل حمص الذين كانوا مع السقباني وكانت عدتهم أربعة وثمانين ألفاً ولم تتم لأهل فلسطين والأردن لأنهم اختلفوا فتفرق أمرهم وانتهوا بالبيعة ليزيد.

وكما كان هذا الخلاف والشقاق بالشام كان الأمر على أشد من ذلك بالعراق والمشرق فإن يزيد ولي العراق منصور بن جمهور وعزل عنه يوسف بن عمر فذهب منصور إلى الكوفة وأخذ البيعة بها ليزيد ثم أرسل العمال إلى خراسان فامتنع نصر بن سيار من تسليم عمله إلى عمال منصور وضبط البلاد وأعطى الناس بعض أعطياتهم فطالبوه ببقية العطاء فأبى ذلك عليهم، فقام في وجهه رجل من كبار اليمن هو جديع بن علي الأزدي المعني ويلقب بالكرماني لأنه ولد بكرمان وقام معه اليمانية يريدون إفساد الأمر على نصر فقامت النزارية مع نصر عصبية له وبذلك نبض عرق العصبية الجاهلية بين الحيين العظيمين من العرب وهما اليمانية والنزارية، فاستحضر نصر الكرماني وحبسه فاحتالت الأزد حتى أخرجوه من محبسه وجمع الناس لحرب وكادت تقع بينهما لولا أن سعى الناس للصلح بينهما ولكنه صلح على فساد لأن كلاً منهما كان يخاف الآخر وبهذا صارت بلاد خراسان مرعى هنيئاً لدعاة بني العباس، ولم يكن عند ولاة الأمر من بني أمية بالشام ما يمكنهم من سد هذه الثلمة التي أثاروها على أنفسهم بهذا الانشقاق المؤذن بالانحلال.

لم تطل مدة يزيد في الخلافة فإنه توفي لعشر بقين من ذي الحجة سنة 126 بعد خمسة أشهر واثنين وعشرين يوماً من استخلافه وكان قد عهد بالولاية من بعده لأخيه إبراهيم بن الوليد ثم لعبد العزيز بن عبد الملك. فلما توفي يزيد قام بالأمر من بعده أخوه إبراهيم غير أنه لم يتم له الأمر فكان تارة يسلم عليه بالخلافة وتارة بالإمارة وتارة لا يسلم عليه بواحدة منهما.

وسبب ذلك أن مروان بن محمد بن مروان والي الجزيرة وأرمينية لم يرضى ولاية إبراهيم فسار إلى الشام في جنود الجزيرة فاستولى على قنسرين وحمص ولما وصل عين الحر قابلته جنود أرسلت لحربه من قبل إبراهيم بن الوليد فانتصر عليهم مروان وخزمهم هزيمة منكرة ثم أخذ عليهم مروان البيعة له ثم سار حتى أتى دمشق فاستولى عليها وبايعه أهلها وهرب إبراهيم بن الوليد فأمنه مروان ولعدم تمام الأمر لإبراهيم لم يعده المؤرخون من الخلفاء.


مروان بن محمد بن مروان (الثاني):

ترجمته:

هو مروان بن محمد بن مروان بن الحكم وأمه أم ولد كردية كانت لإبراهيم بن الأشتر فأخذها محمد بن مروان يوم قتل إبراهيم فولدت له مروان سنة 70 من الهجرة وكان والياً على الجزيرة وأرمينيا كما كان أبوه قبل ذلك وكان الناس يلقبونه بالجعدي لأنه تعلم من الجعد بن درهم مذهبه في القول بخلق القرآن والقدرة وغير ذلك. وبويع بالخلافة في دمشق بعد انتصاره على أهلها سنة 127.

كانت مدة مروان كلها مملوءة بالفتن والاضطرابات منذ بويع إلى أن قتل.

وأول ما كان من ذلك خروج عبد اللَّه بن معاوية بن عبد اللَّه بن جعفر بن أبي طالب بالكوفة داعياً إلى نفسه وكان معه من الشيعة عدد عظيم جداً وكان والي العراق عبد اللَّه بن عمر بن عبد العزيز فجد في حربه، وكانت العامة تميل إليه لمحبتهم لأبيه فساعد ذلك على أن غلب عبد اللَّه بن معاوية ونفاه عن العراق.

ثم كان بالشم أفظع من ذلك وهو الخلاف المتوالي على مروان من أهل الأمصار الكبرى فانتفض عليه أهل حمص، وكان له معهم واقعة هائلة انتصر فيها عليهم وقتل منهم مقتلة عظيمة.

ثم خالف عليه أهل الغوطة فحاربهم وانتصر عليهم. ثم خالف عليه أهل فلسطين فكانت له معهم وقائع انتصر فيها عليهم؛ ثم ثار عليه سليمان بن هشام بن عبد الملك فإنه قد حسن له بعض دعاة الشر والفتنة خلع مروان وقالوا له أنت أوضأ عند الناس من مروان وأولى بالخلافة. فأجابهم إلى ذلك وسار بإخوته ومواليه معهم فعسكر بقنسرين وكاتب أهل الشام فأتوه من كل وجه وبلغ الخبر مروان وكان بقرقيسياد فأقبل إليه بالجنود ولاقاه بقرية خساف من أرض قنسرين وكانت النتيجة أن انهزم سليمان وجنده وأسر مروان منهم عدداً عظيماً.

ومضى سليمان في هزيمته حتى وصل حمص فاجتمعت عليه الفلول فقصده مروان، وفي الطريق قابلته جنود سليمان فانهزموا، ولما علم سليمان بهزيمتهم ترك حمص وسار إلى تدمر فأقام بها، وأما مروان فأتى حمص واستولى عليها. فأنتم ترون أن القوة التي كان يرتكز عليها ملك بني أمية وهي جنود الشام فقد انشقت انشقاقاً محزناً تبعاً لانشقاق البيت المالك وهذا أعظم ما يساعد العدو الذي يعرف كيف ينتهز الفرص.

لم تقف الاضطرابات عند هذا الحد بل وجدت بقايا الخوارج الفرصة لإظهار ما في أنفسهم فخرج الضحاك بن قيس الشيباني وأتى الكوفة واستولى عليها من يد أميرها عبد اللَّه بن عبد العزيز فهرب عبد اللَّه إلى واسط فتبعوه ولما اشتدت الحرب سلم عبد اللَّه الأمر إلى الضحاك وبايعه وصار من عداد الحرورية وكذلك دخل في هذه البيعة سليمان بن هشام بن عبد الملك ولما تم ذلك للضحاك عاد إلى الموصل فافتتحها واستولى على كورها وكان مروان إذ ذاك محاصراً حمص فلما بلغه الخبر كتب إلى ابنه عبد اللَّه وهو خليفته بالجزيرة يأمره أن يسير إلى نصيبين فيمن معه ليمنع الضحاك عن توسط الجزيرة، فسار إليها في سبعة آلاف فسار إليه الضحاك وحصره في نصيبين وكان مع الضحاك نحو من مائة ألف ولما انتهى مروان من أمر حمص سار لمقابلة الضحاك فالتقى به في نواحي كفر توتا فحصلت بين الفريقين موقعة عظيمة قتل فيها الضحاك فولى الخوارج عليهم سعيد بن بهدل الخيبري أحد قواد الضحاك وأعادوا الكرة على جند مروان فانهزم القلب وفيه مروان ووصل الخيبري إلى خيمته وثبتت الميمنة والميسرة ولما رأى أهل العسكر قلة من مع الخيبري ثار إليه العبيد بعمد الخيم فقتلوه هو ومن معه وبلغ الخبر مروان وقد جاز المعسكر بخمسة أميال منهزماً فانصرف إلى عسكره ورد خيوله إلى مواقعها وبات ليلته في عسكره.

ولما علم الخوارج بقتل الخيبري ولو بدله شيبان بن عبد العزيز اليشكري فأقام يقاتل مروان ولكنه لما رأى أن الناس يتفرقون عنه انصرف بمن معه إلى الموصل فتبعهم مروان وأقام يقاتلهم ستة أشهر.

في أثناء ذلك سير مروان يزيد بن عمر بن هبيرة إلى العراق بالجنود فأجلى الخوارج عن أمصاره وضبطها ولما تم له ذلك سير جنداً لمساعدة مروان فلما علم شيبان بذلك كره أن يكون بين عدوين فرحل عن الموصل فسير مروان في أثره جنداً وأمر القائد أن يقيم حيث يقيم شيبان وأن لا يبدأه بقتال فإن قاتله شيبان قاتله فلم يزل يتبعه حتى لاقاه بجيرفت وهزمه هزيمة منكرة فمضى شيبان إلى سجستان فهلك لها وذلك سنة 130.

ومن الذين خرجوا على مروان وشغلوه المختار بن عوف الأزدي الشهير بأبي حمزة وكان يوافي الموسم كل سنة يدعو إلى خلاف مروان بن محمد ولم يزل على ذلك حتى وافى عبد اللَّه بن يحيى في آخر سنة 128 فقال يا رجل اسمع كلاماً حسناً آراك تدعو إلى حق فانطلق معي فإني رجل مطاع في قومي فخرج حتى ورد حضرموت فبايعه أبو حمزة على الخلافة ودعا إلى خلاف مروان وآل مروان.

وبينما الناس بعرفة سنة 129 إذا طلعت عليهم أعلام وعمائم سود على رؤوس الرماح وهم سبعمائة ففزع الناس حين رأوهم وسألوهم عن حالهم فأخبرهم بخلافهم مروان وآل مروان فراسلهم عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك وهو يومئذ على مكة والمدينة وطلب منهم الهدنة فقالوا نحن بحجنا أضن وعليه أشح فصالحهن على أنهم جميعاً آمنون بعضهم من بعض حتىينفر الناس النفر الأخير.

فوقفوا بعرفة على حدة ولما كان النفر الأول نفر عبد الواحد فيه وخلى مكة فدخلها أبو حمزة بغير قتال ثم مضى عبد الواحد حتى دخل المدينة فضرب على أهلها البحث وزادهم في العطاء عشرة واستعمل عليه عبد العزيز بن عبد اللَّه بن عمر بن عثمان فمضوا حتى إذا كانوا بقديد لقيتهم جنود أبي حمزة فأوقعت بهم وقتلت منهم مقتلة عظيمة وذلك لسبع بقين من صفر سنة 130 ثم سار أبو حمزة حتى دخل المدينة من غير أن يلقى فيها حرباً.

ثم إن أبا حمزة ودع أهل المدينة وسار نحو الشام وكان مروان قد انتخب من عسكره أربعة آلاف فارس واستعمل عليهم عبد الملك بن محمد بن عطية السعدي وأمره أن يجد في السير ويقاتل الخوارج فإذا ظفر بهم سار حتى يبلغ اليمن ويقاتل عبد اللَّه بن يحيى فسار ابن عطية حتى لقي أبا حمزة بوادي القرى فقاتله حتى قتله وهزم أصحابه ثم سار إلى المدينة فأقام بها شهراً وبعد ذلك سار إلى اليمن وبلغ عبد اللَّه بن يحيى مسيره إليه وهو بصنعاء فأقبل إليه بمن معه ولما التقيا قتل عبد اللَّه وحمل رأسه إلى الشام.

كل هذه المشاغل والفتن التي كانت بالشام والحجاز شغلت مروان عن خراسان وما كان يجري فيها فكان ذلك أعظم مساعد لشيعة بني العباس ورئيسهم المقدام أبي مسلم الخراساني على أخذ خراسان ومبايعة أهلها على الرضا من بني العباس ثم مدوا سلطانهم إلى العراق فاستولوا عليه من عمال بني أمية وسنفصل حديثهم وما كان منهم حينما نشغل بتاريخ الدولة العباسية.

وفي شهر ربيه الأول سنة 132 بويع بالكوفة لأبي العباس السفاح أول الدولة العباسية. وبعد أن تم له الأمر بالعراق فكر في إرسال الجند لمروان حتى يقضي عليه القضاء الأخير، فاختار عمه عبد اللَّه بن علي قائداً لذلك الجند حتى التقى بمروان وجنده على نهر الزاب لليلتين خلتا من جمادي الآخرة سنة 132 وهناك كانت الموقعة العظمى بين الجندين وانتهت بهزيمة مروان بن محمد بعد أن قتل ممن معه مقتلة عظيمة وكانت الهزيمة لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادي الآخرة وصار مروان ينتقل من بلد إلى آخر وعبد اللَّه بن علي يتبعه ولما جاز مروان أرض الشام قاصداً مصر أرسل عبد اللَّه في أثره أخاه صالح بن علي فلم يزل وراءه حتى عثر به نازلاً في كنيسة بقرية بوصير وبعد قتال خفيف قتل مروان لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة 132 وبقتله انتهت أيام الدولة الأموية وابتدأ عصر الخلافة العباسي {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير} [آل عمران: 26].
أسباب سقوط الدولة الأموية:

1- تولية العهد اثنين، أورثت شقاقاً ومنافسة بين أفراد البيت الأموي.

2- ظهور روح العصبية : مضرية يمنية.

3- انغماس بعض الخلفاء في التَّرف.

4- تعصب الأمويين للعرب.

سقطت الدولة الأموية سنة (132 هـ = 750 م) لتقوم في الأندلس على يد عبد الرحمن الداخل (عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان - صقر قريش) سنة 138 هـ.


وأخذ سليمان بن عبد الملك فضربه مائة سوط وحلق رأسه ولحيته وغربه إلى عمان من أرض الشام وحبس يزيد بن هشام وفرق بين زوج بن الوليد وبين امرأته وحبس عدة من ولد الوليد وهؤلاء الثلاثة من أفراد البيت المالك.

وكان خالد بن عبد اللَّه القسري سيداً من سادات اليمن فطلب إليه الوليد أن يبايع لابنيه الحكم وعثمان بولاية العهد من بعده فأبى فغضب عليه الوليد وكان ذلك سبباً في أن أرسله إلى يوسف بن عمر الثقفي والي العراق فنزع ثيابه وألبسه عباءة وحمل في محمل بغير وطاء وعذبه عذاباً شديداً وهو لا يكلمه كلمة ثم حمله إلى الكوفة فعذبه عذاباً شديداً حتى مات فأفسد ذلك على الوليد قلوب اليمانية وفسدت عليه قضاعة وهم أكبر جند الشام.

وصار بنو أمية يشيعون عن الوليد بين الناس القبائح ورموه بالكفر وكان أكثرهم فيه يزيد بن عبد الملك وكان الناس إلى قوله أميل لأنه كان يظهر النسك.

بذلك كله نفرت من الوليد قلوب الخاصة والعامة وما سبب ذلك كله إلا شهوة الانتقام التي لا يستقيم بها ملك ولا يكون معهاصلاح وإذا كان الانتقام يقبح بالناس فهو من الملوك أقبح وبذهاب ملكهم أسرع.

أتت اليمانية يزيد بن الوليد فأرادوه على البيعة فاستشار في ذلك أخاه العباس بن الوليد فنهاه عن ذلك ولكنه لم ينته وبايعه الناس سراً وبعث دعاته فدعوا إليه الناس وبلغ الخبر مروان بن محمد بن مروان وهو بآرمينية فكتب إلى سعيد بن عبد الملك يأمره أن ينهى الناس ويكفهم ويحذرهم الفتنة ويخوفهم خروج الأمر عنهم فأعظم سعيد ذلك وبعث بكتاب مروان بن العباس بن الوليد فاستدعى العباس يزيد وتهدده فكتمه يزيد الخبر فصدقه ولما اجتمع ليزيد أمره أقبل إلى دمشق وقد بايع له أكثر أهلها سراً وكان واليها عبد الملك بن محمد بن الحجاج فاستولى يزيد على دمشق وجهز جيشاً لمقاتلة الوليد عليه عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك فذهب إليه وهو بالأغدف من أرض عمان فقاتله ولما أحس الوليد بالغلبة دخل قصره وأغلق عليه بابه وجلس وأخذ مصحفاً فنشره يقرأ فيه وقال يوم كيوم عثمان فصعدوا على الحائط ودخلوا عليه فقتلوه وحزوا رأسه وذهبوا به إلى يزيد فنصبه على رمح وطيف به في دمشق.

وكان قتله لليلتين بقيتا من جمادي الآخرة سنة 126 وكانت مدة خلافته سنة وثلاثة أشهر« وبقتله افتتح باب الشؤم على بني أمية.

yacine414
2011-03-17, 17:32
الدولة العباسية

البيت العباسي:

عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بقي عقبه من كثير من أولاده، ولكن العدد الأكبر والجمهور العظيم كان من ولديه العباس وأبي طالب.
العباس بن عبد المطلب:

أمه نتيلة بنت جناب بن كليب من النمر بن قاسط إحدى قبائل ربيعة بن نزار، ولد قبل حادث الفيل بثلاث سنين، فهو أسن من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بثلاث سنين.

وأعقب من الولد الفضل وهو أكبر أولاده وكان يكنى، وعبد اللَّه وعبيد اللَّه وعبد الرحمن وقثم ومعبد وأم حبيبة، وأمهم جميعاً لبابة بنت الحارث بن حزن من بني هلال بن عامر من قيس عيلان.

وليس للفضل وعبد الرحمن وقثم وكثير وتمام عقب. وعقب العباس من سواهم، ولا سيما من عبد اللَّه فإنه هو الذي انتشر منه عقب العباس، وهو جد الخلفاء العباسيين.
عبد اللَّه بن العباس:

هو ثاني ولد العباس بن عبد المطلب. ولد قبل الهجرة بسنتين، فكانت سنة حين توفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ثلاث عشرة سنة.

وعبد اللَّه هو الذي نما من نسله البيت العباسي لأن إخوته لم يكن لهم نسل باق. وعقب عبد اللَّه الذي نما إنما هو ولده علي بن عبد اللَّه بن العباس.
علي بن عبد اللَّه بن العباس:

ولد ليلة قتل علي بن أبي طالب سنة 40 من الهجرة، فسمي باسمه وكني بكنيته أبي الحسن. وقد أقطعه بنو أمية قرية اسمها الحميمة بالشراة وهي صقع بالشام في طريق المدينة من دمشق بالقرب من الشويك وهو من إقليم البلقاء فأقام بها وفيها ولد أكثر أولاده، وكانت وفاته سنة117.

وأعقب على اثنين وعشرين ولداً ذكراً وإحدى عشرة أنثى. وذكور أولاده هم محمد وداود وعيسى وسليمان وصالح أحمد وبشر ومبشر وإسماعيل وعبد الصمد وعبد اللَّه الأكبر وعبيد اللَّه وعبد الملك وعثمان وعبد الرحمن وعبد اللَّه الأصغر ويحيى وإسحاق ويعقوب وعبد العزيز وإسماعيل الأصغر وعبد اللَّه الأوسط. ستة منهم لا عقب لهم والباقون أعقبوا كثيراً. ومنهم انتشر البيت العباسي وكثر جداً وبيت الخلافة في محمد أكبر أولاده.
محمد بن علي:

هو والد إبراهيم الإمام وأبي العباس السفاح وأبي جعفر المنصور الذين هم مبدأ الخلافة العباسية. وهو الذي ابتدأت الدعوة على يديه، وكان ذلك في حياة أبيه علي، ولكن لم يكن لأبيه ذكر في هذه الدعوة.


كيف نشأت فكرة الخلافة في بني العباس:

توفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وليس يؤثر عنه خبر مكشوف فيمن يتولى خلافة المسلمين بعده، وكان العباس بن عبد المطلب قد أشار على علي بن أبي طالب أن يدخل على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وهو مريض فيسأله عن الخلافة بعده فإن كانت فيهم وإلا أوصى بهم من سيكون خليفة. فامتنع من ذلك علي قائلاً: إنه إن منعنا إياها لا ننالها أبداً.

عاش علي والعباس في عهد أبي بكر، ثم بايعا عمر لما عهد إليه أبو بكر بالخلافة وظلا مدة حياته محترمين مطيعين. إلى أن استخلف ثالث الخلفاء عثمان بن عفان بعد مناظرات طويلة بين رجال الشورى الذين عهد إليهم عمر اختيار الخليفة من بعده.

وفي أواخر خلافة عثمان توفي العباس بن عبد المطلب تاركاً عقباً كثيراً أشهرهم عبد اللَّه بن عباس وهو ثاني أولاده.

بعد مضي ست سنوات من خلافة عثمان، وجدت حركة في بعض النفوس تتجه إلى نقل الخلافة من عثمان بن عفان إلى علي بن أبي طالب.

ألفت وفود غوغاء من الأمصار الثلاثة، ممن تأثر بهذه الفتن فذهبت إلى المدينة، فأشكاهم عثمان من جميع ما شكوا منه، ولانَ لهم جداً حتى لا يوجد لهم سبيلاً إلى الفتنة، فأظهروا الاقتناع وأزمعوا الرحيل إلى أوطانهم، وبعد أيام عادت هذه الغوغاء متمسكة بكتاب مزور زعموه صادراً من عثمان إلى عامله بمصر يأمره فيه بقتل رجال الوفد من المصريين عقاباً لهم وتنكيلاً، والكتاب مختوم بخاتم عثمان. فلما أروه إياه حلف لهم أنه ما كتبه ولا أمر بكتابته، وهو صادق في يمينه، فاتهموا بذلك كاتبه مروان بن الحكم وطلبوا منه أن يسلمهم إياه فأبى فأعلنوا العداء وصرحوا بما في أنفسهم من الشر، وحصروا عثمان في دراه مدة ثم اقتحموا عليه داره وقتلوه ظلماً وعدواناً ففتحوا على المسلمين باب فتنة وانقسام لا يغلقه مرور الزمان ولا كر الأيام.

بعد أن تم لهم ما أرادوا عرضوا الخلافة على علي بن أبي طالب فقبلها بعد تردد. أمضى رحمه اللَّه حياته في حرب مخالفيه في البصرة والنهروان وصفين، ولم تصف له الخلافة يوماً واحداً إلى أن اغتاله أحد الخوارج في رمضان سنة40 من الهجرة في حاضرة خلافته وهي الكوفة.

لما قتل رحمه اللَّه رأت الشيعة أن يقوم في الخلافة مقامه ابنه الحسن، وقد رأى رضي اللَّه عنه بثاقب فكره أن يتنازل عن الخلافة مفضلاً جمع كلمة المسلمين والسكنى بطيبة مدينة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وأقام على ذلك حتى توفي بها سنة 50 من الهجرة.

وظل معاوية يسوس الناس بما عرف عنه من لين العريكة وسخاوة اليد، فاجتمعت الأمة على طاعته والرضا به.

أدلى معاوية بالخلافة لابنه يزيد، فلما تولاها هبت أعاصير الفتنة في المدينة ومكة والكوفة. فأما المدينة فثارت تطلب عزل يزيد وتولى زمام الثورة بعض أبناء الأنصار ولكن هذه الثورة قمعت بشدة مسلم بن عقبة المري الذي أوقع بأهلها وقعة الحرة المشهورة، وأما مكة فلاذ بها عبد اللَّه بن الزبير طالباً الخلافة لنفسه.

وأما الكوفة فإن من بها من الشيعة أرسلوا يطلبون إليهم الحسين بن علي شقيق الحسن ليبايعوه بالخلافة وينزعوا من أعناقهم بيعة يزيد، فلم يكن من الحسين إلا أن لبى دعوتهم مع علمه بتاريخهم مع أخيه وأبيه، وسار إليهم من غير جند يركن إليه ولا مال يستعين به. فقابلته ببعض الطريق جنود عبد اللَّه بن زياد عامل يزيد بالعراق وكلها جنود عراقية ليس بها أحد من أهل الشام، فلم يكن له قبل بمدافعتهم وقتل رحمة اللَّه بكربلاء.

انتهت هذه الحوادث ومات يزيد، وعظم أمر ابن الزبير ودخل في دعوته أهل الحجاز ومصر والعراق.

أما محمد بن علي فإنه بايع عبد الملك بن مروان بعد أن استقر الأمر له وقضى على فتنة ابن الزبير ودانت له الأقاليم الإسلامية كلها، ومع قيامه بهذه البيعة لم تزل له شيعة تراه أحق بالخلافة إلا أنه مغلوب على أمره، حتى إنه لما مات غلا فيه بعضهم فأنكر موته.

1- اضطربت أفكار الشيعة بعد موت محمد بن علي فمنهم من استمر على ولائه وقال بغيبته ورجعته كما قلنا. ومنهم من تولى بعده ابنه أبا هاشم، ويقال لهذا الفريق والذي قبله الكيسانية؛ ينسبون إلى كيسان وهو لقب للمختار بن أبي عبيد.

2- ومنهم من تولى بعد الحسين ابنه علياً المعروف بزين العابدين وهو ممن بايع يزيد بن معاوية وعبد الملك بن مروان ولم يعرف عنه أنه طلب الخلافة لنفسه _ قال هؤلاء إن الخلافة محصورة في أولاد علي من فاطمة رضي اللَّه عنها.

كان أكبر ولد العباس في ذلك الوقت علي بن عبد اللَّه بن عباس وهو الذي انتشر منه العباسيون. وكان قد فارق الحجاز وأقام بالحميمة التي أقامه بها بنو أمية والتي أنزله بها الوليد بن عبد الملك. وقد ظهرت فكرة انتقال الخلافة إلى ولد العباس منذ علي هذا، ويقال إن السبب في ذلك أن أبا هاشم بن محمد بن علي بن أبي طالب لما حانت منيته كان مقيماً بالحميمة عند بني عمه فأدلى بنصيبه من الخلافة إلى علي هذا وأولاده وأوصى أولياءه به فصارت الشيعة الكيسانية في جانب علي بن عبد اللَّه بن عباس.

أما بقية الشيعة فإنهم بعد وفاة علي زين العابدين افترقت بهم الطرق فمنهم من تولى بعده ابنه محمداً الباقر زاعمين أنه الإمام بعد أبيه. ومنهم من قال إن الخلافة حق لكل فاطمي اتصف بصفات العلم والشجاعة والسخاء، ومن هؤلاء من قام بمساعدة زيد بن علي بن الحسين، وهم المعروفون بالشيعة الزيدية.

والذين حاولوا الوصول إلى الخلافة وانتزاعها من بني أمية هم الشيعة الكيسانية الذين ساعدوا علي بن عبد اللَّه، والشيعة الزيدية الذين ساعدوا زيداً وابنه يحيى.

وكانت وفاة علي بن عبد اللَّه ومحمد الباقر في زمن متقارب بالحميمة، فانتقل ولاء الكيسانية إلى محمد بن علي بن عبد اللَّه بن عباس لأن أباه أوصى إليه وانتقل ولاء الإمامية إلى جعفر الصادق بن محمد الباقر، ولم يفعل أنصار الأئمة شيئاً ليرجعوا الخلافة إلى ذوي الحق فيها حسب رأيهم.

أما الشيعة الزيدية فقد دعاهم إلى النصر زيد بن علي فقاموا بنصرته حيث خرج بالكوفة طالباً الخلافة، إلا أن بني أمية لم تكن قد ظهرت فيهم العيوب التي أودت بحياتهم بعد؛ فسرعان ما انتصروا على زيد وأطفأوا ثورته وقتلوه وصلبوه. وثار بعده ابنه يحيى فكانت خاتمته خاتمة أبيه.

أما محمد بن علي بن عبد اللَّه بن عباس فهو يعسوب القوم وذو العقل الراجح فيهم. فإنه رأى أنه نقل السلطان من بيت إلى بيت لا بد أن يسبق بإعداد أفكار الأمة إلى هذا النقل وأن كل محاولة فجائية لا بد أن تكون عاقبتها الفشل، فرأى أن يسير في المسألة بالأناة المصحوبة بالحزم فعهد إلى شيعته أن يؤلفوا منهم دعاة يدعون الناس إلى ولاية أهل البيت بدون أن يسموا أحداً خوفاً من بني أمية أن يقضوا على المدعو إليه إذا عرف، ورأوا أن أحسن منطقة يبثون فيها الدعوة هي الكوفة وبلاد خراسان.

وقد كان محمد بن علي بن عبد اللَّه قال لدعاته حين أراد توجيههم إلى الأمصار

عليكم بخراسان، فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر وهناك صدور سليمة وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء.


تأليف الجمعية السرية للدعوة العباسية

ابتدأ تأليف هذه الجمعية وعلي بن عبد اللَّه بن عباس حي لم يمت بعد لأنها ابتدأت في أول القرن الثاني وعلي لم يمت إلا سنة117 على قول وسنة114 على قول. وكان الخليفة من بني أمية إذ ذاك عمر بن عبد العزيز بن مروان، وكانت تتألف من كثير من الدعاة والرؤساء.

وجعل للدعوة مركزان أحدهما بالكوفة التي اعتبرت نقطة المواصلات وأقيم فيها ميسرة مولى علي بن عبد اللَّه. والثاني بخراسان التي هي محل الدعوة الحقيقي، ووجه إليه محمد بن خنيس وأبو عكرمة السراج، واختير من الدعاة اثنا عشر نقيباً وهم:

(1) سليمان بن كثير الخزاعي

(2) مالك بن الهيثم الخزاعي

(3) طلحة بن زريق الخزاعي

(4) عمرو بن أعين الخزاعي

(5) عيسى بن أعين الخزاعي

(6) قحطبة بن شبيب الطائي

(7) لاهز بن قريظ التميمي

(8) موسى بن كعب التميمي

(9) القاسم بن مجاشع التميمي

(10) أبو داود خالد بن إبراهيم الشيباني

(11) أبو علي الهروي شبل بن طهمان الحنفي

(12) عمران بن إسماعيل المعيطي

واختار سبعين رجلاً ليكونوا مؤتمرين بأمر هؤلاء، وكتب إليهم محمد بن علي كتاباً ليكون لهم مثالاً وسيرة يسيرون بها.

وقد ظل رجال الدعوة يشتغلون بها من مفتتح القرن الثاني إلى سنة132، وهي السنة التي تم فيها النجاح وبويع فيها لأبي العباس السفاح.

وهذه المدة تنقسم إلى قسمين متمايزين: الأول عصر الدعوة المحضة الخالية عن استعمال القوة وذلك قبل أن ينضم إلى القوة أبو مسلم الخراساني، وذلك في الوقت الذي كانت فيه الدولة الأموية فيه متماسكة القوى لم ينقسم فيها البيت المالك على نفسه ولم تحصل العصبية القومية بين جند هذه الدولة بخراسان، وذلك نحو27 سنة. والعصر الثاني عصر استعمال القوة مع الدعوة حينما تهيأت الأسباب الداعية إلى ذلك.

yacine414
2011-03-17, 17:34
العصر الأول:

(100 - 127هـ)

كان الدعاة فيه يجوبون البلاد الخراسانية، ظاهر أمرهم التجارة وباطنه الدعوة، ينتهزون الفرص، ثم يبلغون أمرهم إلى القائم بالكوفة وهو يوصله إلى الحميمة أو إلى مكة حيث يجتمع المسلمون لأداء فريضة الحج. وكان ذلك المجتمع أعظم ساتر لأمر الدعاة لأنهم كانوا إذا قفلوا من خراسان سافروا حجاجاً. وكانت إقامة محمد بن علي بالحميمة سبباً آخر في انتظام المواصلات وكتم سرها.

وكان أول ما ظهر من أمرهم بخراسان سنة102 حيث جاء رجل من تميم إلى أمير خراسان سعيد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص الذي يقال له سعيد خذينة وقال له: إن ههنا قوماً قد ظهر منهم كلام قبيح، فبعث إليهم سعيد فأتى بهم فسألهم: من أنتم؟ قالوا: أناس من التجار؟ قال: فما هذا الذي يحكى عنكم؟ قالوا: لا ندري؟ قال: جئتم دعاة؟ فقالوا: إن لنا في أنفسنا وتجارتنا شغلاً عن هذا. فسأل من يعرف هؤلاء. فجاء أناس من أهل خراسان جلهم من ربيعة واليمن، فقالوا نحن نعرفهم وهم علينا إن أتاك منهم شيء تكرهه. فخلى سبيلهم.

وفي سنة105 انضم إلى هذه الجمعية بكير بن ماهان وهو شيخ عظيم من شيوخ هذه الدولة وكبار دعاتها وكان موسراً فساعد القوم بماله، وصادف أن توفي في ذلك الوقت ميسرة القائم بالكوفة، فأقامه محمد بن علي مقامه فكان هو ربان هذه الدعوة يأتمر الدعاة بأمره ويسيرون في الطريق التي يشرعها لهم.

كان من أول النكبات الي لحقت بهم أنه وشي بجمع من دعاتهم إلى أسد بن عبد اللَّه القسري أمير خراسان وهو والٍ شديد قاس فأتى بهم وفيهم أبو عكرمة وأبو محمد الصادق ومحمد بن خنيس وعمار العبادي فقطع أيدي من ظفر به منهم وأرجلهم وصلبهم، وأفلت عمار العبادي حتى أتى الكوفة فأخبر بكير بن ماهان بذلك الخبر المشؤوم، فكتب به إلى محمد بن علي فأجابه: الحمد للَّه الذي صدق مقالتكم ودعوتكم وقد بقيت منكم قتلى ستقتل وقد وقع بعد ذلك عمار العبادي في يد أسد فألحقه بإخوانه.

وكان أسد بن عبد اللَّه أشد ولاة خراسان على الشيعة فكان لا يرحم أحداً منهم وقع في يده بل شرد بهم ونكل ونفي من نفي وقتل من قتل ولذلك لم يكن للدعوة في أيامه كبير أثر حتى عزل عن خراسان سنة109 وتلك ولايته الأولى ثم ولي خراسان مرة ثانية فأعاد معهم سيرته الأولى ففي سنة117 أخذ جماعة منهم فقتل بعضهم ومثل ببعضهم وحبس بعضهم.

حصل بعد ذلك في العالم الإسلامي ما كان له أعظم الفضل في نجاح الشيعة وقصور أعدائهم عن فل حدهم وذلك:

أولاً: انشقاق البيت الأموي حتى تزعزع بنيانه وتصدعت أركانه وأول ذلك كان بخروج يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان على ابن عمه الوليد بن يزيد بن عبد الملك واستعان على ذلك بالقدح في الوليد ونسبته إلى العظائم من الفسوق والكفر وإحلال ما حرم اللَّه.

ولما تم ليزيد أمره ولم يعبأ بقول ناصح انتهز بعض أهل بيته هذه الفرصة لينال الخلافة وهو مروان بن محمد بن مروان فإنه كتب إلى الغمر بن يزيد أخي الوليد يهيجه للمطالبة بدم أخيه.

وكان مروان في ذلك الوقت أميراً للجزيرة وأرمينية ومعه جيش كبير يأتمر بأمره ولم يزل حتى أقدم على طلب الخلافة مستمسكاً بهذا الحبل حتى نالها ولم يكن نيله لها بمزيل أسباب الخلاف والانشقاق في هذا البيت ولا شبهة أن انشقاق البيت المالك يحدث بطبيعة الحال انشقاقاً في قوة الدولة فلا تقوى على مصادمة عدوها.

ثانياً: ظهور العصبية القومية في خراسان وانشقاق القبائل العربية وذلك أن العرب يرجعون إلى شعبين عظيمين قحطان ونزار، وملك العرب القديم كان في اليمن فلما جاء الإسلام تحول إلى نزار لمكان رسول اللهَّ صلى اللَّه عليه وسلم منهم وكان أمر النبوة والوحي قد باعد بين الناس وحمية الجاهلية فتآخى اليمانيون والنزاريون ووجهوا قوتهم المتحدة إلى أعدائهم فنالوا في زمن قليل ما لم تنله أمة قبلهم في مثل الزمن الذي ارتفع فيه قدرهم.

وظهر الانشقاق في عهد نصر بن سيار هذا بين النزارية واليمانية وكان رئيس النزوارية وكبيرهم نصر بن سيار الأمير وكبير اليمانية جديع بن شبيب المعني المعروف بالكرماني.

في أثناء وقوع هذه الحوادث توفي محمد بن علي إمام الشيعة الذي يدعون إليه وأدلى بالأمر من بعده إلى ابنه إبراهيم وأعلم الشيعة بذلك فقاموا بالدعوة إليه مكان أبيه. ثم توفي بكير بن ماهان شيخ الشيعة بالكوفة فأقام إبراهيم بن محمد مكانه حفص بن سليمان المعروف بأبي سلمة الخلال.

واتصل بإبراهيم في تلك الأوقات شاب من نوابغ الشبان وذوي المقدرة والعزيمة وهو أبو مسلم الخراساني، وكانت الشيعة بخراسان في حاجة إلى مثله ليشرعوا في العمل بعد أن أمكنتهم الفرصة بما وقعت فيه الدولة الأموية من الخلاف وما يقع فيه عرب خراسان من الانشقاق فاختار إبراهيم أبا مسلم لتلك المهمة وكتب إلى أصحابه إني قد أمرته بأمري فاسمعوا منه واقبلوا قوله فإني قد أمرته على خراسان.

وإنما أمره بتقريب أهل اليمن لأنهم أعداء الدولة الحاضرة للعصبية التي كانت نارها مشتدة بين أهل خراسان إذ ذاك ولهذا السبب أوصاه بالشدة على مضر فإنهم كانوا أصحاب الدولة. سار أبو مسلم يدبر الأمور. وبعد سنة تهيأ لزيارة الإمام ومعه عدد كبير من الدعاة ولما بلغ قومس أتاه كتاب من الإمام يقول فيه وإني قد بعثت إليك براية النصر فارجع من حيث ألقاك كتابي ووجه إلى قحطبة بما معك يوافني به في الموسم فعاد أبو مسلم إلى مرو مستعداً للعمل.


دور العمل:

نزل أبو مسلم بقرية من قرى مرو يقال لها سفيذنج وهناك بث دعاته في الناس ليجتمعوا إليه فانثال إليه الناس وكان ذلك في رمضان سنة129 ولخمس بقين منه عقد اللواء الذي بعث به الإمام ويدعى الظل على رمح طوله أربعة عشر ذراعاً وعقد الراية التي تدعى السحاب على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعاً وهو يتلو قوله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن اللَّه على نصرهم لقدير} ولبسوا السواد الذي جعل شعاراً للدولة العباسية وقدم على أبي مسلم الدعاة من أهل مرو بمن أجاب الدعوة.

كان أول ما فعله أبو مسلم أن أمر برم حصن سفيذنج وأقام به هو ومن معه ولما حضر عيد الفطر سنة129 أمر سليمان بن كثير أن يصلي به وبالشيعة ونصب له منبراً في العسكر.

كتب أبو مسلم إلى نصر بن سيار يقول له: أما بعد، فإن اللَّه تباركت أسماؤه وتعالى ذكره غير أقواماً في القرآن فقال: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفوراً. استكباراً في الأرض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة اللَّه تبديلاً ولن تجد لسنة اللَّه تحويلا } فتعاظم نصر الكتاب ولا سيما أنه رأى أبا مسلم بدأ فيه بنفسه.

وكان جوابه أن وجه إلى أبي مسلم مولى له اسمه يزيد في خيل عظيمة فوجه إليه أبو مسلم مالك بن الهيثم الخزاعي فالتقوا بقرية تدعى آلين وكانت بين الفريقين موقعة انتهت بانتصار الشيعة وأسر يزيد رئيس جند نصر.

وفي أثناء ذلك كان أبو مسلم يرسل قواده فيستولون على البلاد من عمال نصر ولا يجدون مقاومة تذكر. ولما رأت ذلك ربيعة وعلمت شدة أمر أبي مسلم أرسلت إلى نصر تطلب منه الموادعة فأجاب إلى ذلك وتوادعوا سنة. بلغ ذلك أبا مسلم فأرسل إلى ابن الكرمان يهيجه بأخذ الثأر فقال: إني ما صالحت نصراً وإنما صالحت شيبان وأنا لذلك كاره وأنا موتور ولا أدع قتاله فعاود القتال وأبى شيبان أن يعينه وقال لا يحل الغدر فأرسل ابن الكرماني إلى أبي مسلم يستنصره. وهذا كل ما يريده فأرسل إليه إني معك على نصر فاشتد ذلك على نصر وكتب إلى أبي مسلم يلتمس منه أن يدخل مع نصر وبعثت إليه ربيعة بمثل ذلك.

بذلك ظفر أبو مسلم ظفراً عظيماً فإنه فرق كلمة العرب بعد أن كادت تجتمع عليه فقام من الماخوان في جمادى الأولى سنة130 يريد مرو وأرسل إليه ابن الكرماني أن أدخل حائط مرو من قبلك وأدخل أنا وعشيرتي من قبلي فأرسل إليه أبو مسلم أن لست آمن أن تجتمع يدك ويد نصر على حربي ولكن أدخل أنت فأنشب الحرب، فدخل ابن الكرماني وأنشب الحرب وأمر أبو مسلم أحد قواده بدخول مرو فدخلها وأعقبها أبو مسلم. دخل والقتال دائر بين الكرماني ونصر فأمر الفريقين أن يكفا وهو يتلو: {ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه} . ومضى أبو مسلم حتى دخل دار الإمارة وهرب نصر مستخفياً.

صفت مرو لأبي مسلم وأمر أحد النقباء بأخذ البيعة على أهلها ونص البيعة: أبايعكم على كتاب اللَّه وسنة نبيه صلى اللَّه عليه وآله وسلم عليكم بذلك عهد اللَّه وميثاقه والطلاق والعتاق والمشي إلى بيت اللَّه الحرام وعلى ألا تسألوا رزقاً ولا طعماً حتى يبدأكم به ولاتكم وإن كان عدو تحت قدمه فلا تهيجوه إلا بأمر ولاتكم وأخذ أبو مسلم ثقات أصحاب نصر وصناديدهم فكتفهم وحبسهم ثم قتلهم.

أرسل بعد ذلك إلى شيبان الحروري يدعوه إلى بيعته فأبى وسار عن مرو إلى سرخس فوجه إليه أبو مسلم جنداً، فكانت هناك موقعة قتل فيها شيبان وعدد عظيم ممن معه. وبعد نيل هذاالانتصار عمد إلى ابني الكرماني علي وعثمان اللذين ائتمناه على حياتهما فقتلهما وأكثر أصحابهما.

صفت خراسان كلها لأبي مسلم فبعث العمال إلى جميع الولايات وأمر أحد قواد قحطبة بن شبيب أن يتبع نصر ومعه لواء عقده له إبراهيم الإمام فسار وراءه من بلد إلى بلد حتى مرض نصر بالري ومات بساوة فأقبل قحطبة بجنوده واستولى على الري فتم للشيعة خراسان وبلاد الجبل ثم سير قحطبة ابنه الحسن فاستولى على همذان ومنها سار إلى نهاوند فحصرها ولحقه بها أبوه فاجتمعا عليها ثلاثة أشهر ثم فتحت وتلاها شهر زور الموصل. سار قحطبة بعد ذلك واغلاً في بلاد العراق فقصده ابن هبيرة أمير العراق من قبل مروان بن محمد وكان اجتماعهما غربي الفرات على نحو23 فرسخاً من الكوفة وقبل أن تقع بينهما الموقعة الكبرى مات قحطبة فولي إمرة الجيش ابنه الحسن وكان قحطبة قبل موته قد قال: إذا قدمتم الكوفة فوزير آل محمد أبو سلمة الخلال فسلموا الأمر إليه.

جرت أثناء ذلك وقائع انهزم فيها ابن هبيرة فسار منها حتى أتى واسطاً. وقبل أن يدخل الحسن بن قحطبة الكوفة خرج منها محمد بن خالد القسري مسوداً فاستولى على قصرها ولم يكن قد علم بهلاك قحطبة فكتب إليه يعلمه فوصل الكتاب إلى ابنه الحسن فارتحل إلى الكوفة فدخلها في المحرم سنة132 وسلم الأمر لأبي سلمة الخلال فوجه الحسن إلى قتال ابن هبيرة بواسط وضم إليه قواداً. ووجه حميد بن قحطبة إلى المدائن. ووجه المسين بن زهير وخالد بن برمك إلى دير قنى. وبعث المهلبي وشراحيل إلى عين التمر. وبسام بن إبراهيم إلى الأهواز وخرج هو من الكوفة فعسكر عند حمام أعين على نحو ثلاثة فراسخ من الكوفة.
افتضاح الأمر:

مضت هذه المدة كلها وليس عند بني أمية علم بمن تدعو إليه الشيعة فإنهم كانوا يدعون إلى الرضا من آل محمد اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ولا يعلم السر إلا النقباء والدعاة أما العامة فمبلغ علمها أنها تدعى لرجل من آل البيت حتى وقع في يد مروان بن محمد كتاب لإبراهيم إلى أبي مسلم جواب كتاب لأبي مسلم يأمره فيه بقتل كل من يتكلم بالعربية بخراسان فأرسل مروان في الحال إلى عامله بدمشق يأمره بالكتاب إلى صاحبه بالبلقاء أن يسير الحميمة ويأخذ إبراهيم بن محمد يوجه به إليه ففعل العامل ما أمر به وقبض على إبراهيم ولما أحس إبراهيم بما يراد به نعى نفسه إلى أهل بيته وأوصى إلى أخيه أبي العباس وأمر أهله بالسير إلى الكوفة والسمع والطاعة لأبي العباس. أما إبراهيم فحبس في سجن حران مع جماعة من أعداء مروان من بني أمية ولم يزل في سجنه حتى مات.

وأما أهل بيته فتجهزوا يريدون الكوفة حتى قدموها في صفر سنة132 ورئيس القوم وقائدهم أبو سلمة الخلال الذي كان يعرف في ذلك الوقت بوزير آل محمد فأنزلوهم في إحدى دور الكوفة وكتم أمرهم عن سائر القواد أربعين ليلة وكان لا يزال في معسكره بحمام أعين خارج الكوفة.

خرج أبو العباس يوم الجمعة13 ربيع الأول فصلى بالناس وكان في خطبته بعد حمد اللَّه والثناء عليه أن افتخر بقرابته من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ثم ذكر الخلفاء الراشدين وأثنى عليهم ونعى على بني حرب وبني مروان أثرتهم وظلمهم ثم قال: وإني لأرجو ألا يأتيكم الجور من حيث أتاكم الخير ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح وما توفيقنا أهل البيت إلا باللَّه. يا أهل الكوفة أنتم محل محبتنا ومنزل مودتنا أنتم الذين لم تتغيروا عن علي ذلك ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور عليكم حتى أدركتم زمننا وأتاكم اللَّه بدولتنا فأنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم فاستعدوا فأنا السفاح المبيح والثائر المتيح وبهذه الجملة الأخيرة لقب السفاح.

بعد أن بلغوا هذا المبلغ بقي عليهم أن يقضوا على مروان بن محمد والقوة العظمى التي بالجزيرة وعلى ابن هبيرة والقوة التي معه بواسط.

كان مروان بحران معه قوة عظيمة ومنها سار حتى أتى الموصل فاختار أبو العباس من أهل بيته عمه عبد اللَّه بن علي ليكون قائداً للجنود التي اختيرت لحرب مروان. وكان ملتقى هذين الجيشين على نهر الزاب الأعلى وهو أحد روافد نهر دجلة يأتيها من الشرق وكانت الواقعة شديدة جداً انتهت بانتصار عبد اللَّه وجنده فهرب مروان واحتوى عبد اللَّه معسكره كله وذلك لإحدى عشرة خلون من جمادى الآخرة سنة132 وكان مع مروان من الجنود120 ألفاً من نخبة أهل الشام وخيرة جنودها. انهزم مروان حتى أتى حران وعاملها ابن أخيه أبان بن يزيد بن محمد فأقام بها نيفاً وعشرين يوماً ولما دنا منه عبد اللَّه رحل عنها بأهله وولده وقدم عبد اللَّه فلقيه أبان مسوداً مبايعاً له ودخل في طاعته فأمنه ومن كان بحران والجزيرة.

مضى مروان حتى أتى قنسرين وعبد اللَّه يتبعه ثم مضى منها إلى حمص ثم أتى دمشق وعليها الوليد بن معاوية بن مروان فلما أحس باقتراب عبد اللَّه رحل عنها فجاءها عبد اللَّه ودخلها عنوة معترضاً أهلها وقتل الوليد بن معاوية أميرها فيمن قتل.

مر مروان بالأردن وفلسطين ومضى حتى أتى الفسطاط ومنها خرج إلى بوصير وهي قرية من مركز الواسطي ببني سويف.

أما عبد اللَّه بن علي فجاءه كتاب من أبي العباس يأمره أن يوجه صالح بن علي في ملاحقة مروان فسار صالح في ذي القعدة سنة132 وكان يسير على ساحل البحر والسفن حذاءه حتى وصل إلى مصر ومن هناك سار حتى أتى بوصير وهناك قتل مروان بن محمد لثلاث بقين من ذي الحجة سنة132 وبقتله انتهت دولة بني أمية من المشرق وتوطدت دعائم الدولة.

وأما يزيد بن عمير بن هبيرة فإنه لما انهزم من جيش خراسان أتى واسطاً وتحصن بها وكان مشيروه قد أشاروا عليه بأن يذهب إلى الكوفة فيقاتل حتى يقتل أو يظفر وحذروه واسطاً كيلا يصير في حصار وليس بعد الحصار إلا القتل فخالف تلك الشورى فسير أبو سلمة الجيوش تحت قيادة الحسن بن قحطبة فكانت بينهم وقائع ثم احتمى ابن هبيرة ومن معه بحصونهم. ولما طال الأمر أرسل أبو العباس أخاه أبا جعفر على الجيش فاحتدم القتال بين الفريقين وظلوا هكذا أحد عشر شهراً. ولما أتى ابن هبيرة قتل مروان بن محمد طلب بمن معه الصلح وجرت السفراء بينه وبين أبي جعفر حتى جعل له أماناً وكتب به كتاباً مكث يشاور العلماء فيه أربعين ليلة حتى رضيه ابن هبيرة ثم أنفذه إلى أبي جعفر فأنفذه أبو جعفر إلى السفاح فأمر بإمضائه وكان رأي أبي جعفر الوفاء له بما أعطاه وكان السفاح لا يقطع أمراً دون أبي مسلم فكتب أبو مسلم إلى السفاح يقول له إن الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارة فسد لا واللَّه لا يصلح طريق فيه ابن هبيرة.

ولما تم الكتاب خرج ابن هبيرة إلى أبي جعفر فدخل عليه وحادثه ساعة وبعد أيام أمر أبو جعفر بقتل ابن هبيرة ومداد الأمان لم يجف وقتل معه عدة من وجوه أصحابه.

yacine414
2011-03-17, 17:37
قيام الدولة العباسية

قامت الدولة العباسية ودخل في حوزتها هذا الملك الطويل العريض الذي وضع أساسه خارج جزيرة العرب أبو بكر خليفة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وشاد بنيانه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ومكن قواعده وزان جوانبه بنو أمية بن عبد شمس.

وصف المملكة الإسلامية حين استيلاء بني العباس:

كانت المملكة الإسلامية تمتد من أقصى المشرق عند كاشغر إلى السوس الأقصى على شاطىء بحر الظلمات وطولها على ما ذكره أبو عبد اللَّه محمد بن أحمد المقدسي المعروف بالبشاري في كتابه الموسوم بأحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم2600 فرسخ وتمتد عرضاً من شاطىء بحر قزوين إلى أواخر بلاد النوبة وهي منقسمة إلى أقسام كبرى وكل قسم يشتمل على ولايات وها نحن أولاء نذكر هذه الأقسام وما فيها من الولايات:
(1) جزيرة العرب وتشتمل على أربع كور جليلة:

الأولى: الحجاز وقصبته مكة ومن مدنه: طيبة، وينبع، والجار، وجدة، والطائف وغيرها.

الثانية: اليمن وما كان نحو البحر فهو غور واسمه تِهامة وقصبته زبيد وما كان من ناحية الجبل فهو نجد وقصبته صنعاء.

الثالثة: عمان وقصبتها صحار على شاطىء بحر الهند.

الرابعة: هجر وقصبتها الأحساء.
(2) إقليم العراق وبه ست كور:

الأولى: الكوفة وقصبتها الكوفة وهي من المدن الإسلامية وبها من المدن: القادسية وعين التمر.

الثانية: البصرة وقصبتها البصرة وهي من المدن الإسلامية وبها من المدن: الأبلة وعبادان.

الثالثة: واسط وقصبتها واسط وهي من المدن الإسلامية وبها من المدن: فم الصلح.

الرابعة: المدائن وقصبتها المدائن وهي مدينة كسروية وبها النهروان، والدسكرة، وجلولاء.

الخامسة: حلوان وقصبتها حلوان وبها من المدن: خانقين والسيروان.

السادسة: سامراء وقصبتها سامراء وبها من المدن: الكرخ، وعكبرا، والأنبار، وهيت، وتكريت.

(3) إقليم الجزيرة جزيرة أقور أو أثور أو أشور وهي ما بين دجلة والفرات وبها ثلاث كور:

الأولى: ديار ربيعة وقصبتها الموصل ومن مدنها: الحديثة، وسنجار، ونصيبين، ودارا، ورأس العين وثمانين وبها ناحية جزيرة ابن عمر.

الثانية: ديار مضر وقصبتها الرقة وبها من المدن: باجروان، وحصن مسلمة، وحران، والرها.

الثالثة: ديار بكر وقصبتها آمد وبها من المدن:ميافارقين، وحصن كيفا.


(4) إقليم الشام وبه ست كور:

الأولى: قنسرين وقصبتها حلب ومن مدنها إنطاكية، وبالس، وسميساط، ومنبج، وقنسرين ومرعش، واسكندرونة، ومعرة النعمان.

الثانية: حمص وقصبتها حمص ومن مدنها سلمية، وتدمر، واللاذقية، وانطرسوس.

الثالثة: دمشق وقصبتها دمشق ومن مدنها بانياس، وصيدا، وبيروت، وطرابلس.

الرابعة: الأردن وقصبتها طبرية ومن مدنها صور، وعكا، وبيسان، وأذرعات.

الخامسة: فلسطين وقصبتها الرملة وبها بيت المقدس، وعسقلان، ويافا، وأرسوف، وقيسارية، وأريحا، وعمان.

السادسة: الشراة وقصبتها صفد ومن مدنها مآب، وعمان، وتبوك، وأذرح وهذا الإقليم دخله العرب قبل الإسلام وملكوا به وزاحموا من كان به من الأمم القديمة.
(5) إقليم مصر وبه سبع كور على حسب التقويم القديم:

الأولى: الجفار وقصبتها الفرما وبها من المدن البقارة، والواردة، والعريش.

الثانية: الحوف وقصبتها بلبيس وبها من المدن مشتول، وفاقوس، وغيرهما.

الثالثة: الريف وقصبتها العباسية وبها من المدن دمنهور، وسنهور، وبنها العسل، وشطنوف، ومليج، والمحلة الكبيرة، ودقهلة.

الرابعة: اسكندرية وقصبتها اسكندرية وبها من المدن رشيد، ومريوط، والبرلس، وذات الحمام.

الخامسة: مقدونيا وقصبتها الفسطاط ومن مدنها العزيزية، والجيزة، وعين شمس.

السادسة: الصعيد وقصبتها أسوان وبه من المدن قوص، وإخميم، والبلينا والفيوم وغيرها.

السابعة: الواحات.


(6) إقليم المغرب وهو ثماني كور:

الأولى: برقة وقصبتها برقة وبها من المدن رمادة، وطرابلس.

الثانية: إفريقية وقصبتها القيروان وبها من المدن سفاقس، وسوسة، وتونس، وبونة وجزيرة بني زغناية_ ومنستير.

الثالثة: تاهرت وقصبتها تاهرت وبها من المدن مطماطة، ووهران، وغيرهما.

الرابعة: سجلماسة وقصبتها سجلماسة وبها من المدن درعة، وامصلي، وتازروت.

الخامسة: فاس وقصبتها فاس وتسمى هذه الكورة السوس الأدنى. وأما فاس فمحدثه بعد عهد العباسيين. ومن مدنها البصرة، وورغة، وصتهاجة، وهواره، وسلا.

السادسة: السوس الأقصى وقصبتها طرفانة ومن مدنها إغمات، وماسة وغيرهما.

السابعة: الأندلس وقصبتها قرطبة وكانت لعهد بني أمية تتبع أمير إفريقية وعليها والٍ من قبله.

(7) إقليم المشرق وهو إقليم ذو جانبين الأول في المشرق وهو ما كان شرقي جيحون أو أموداريا ويسمى بما وراء النهر أو هيطل والثاني في المغرب وهو ما كان غربي جيحون ويسمى خراسان.

أما وراء النهر، قال البشاري: هذا الجانب أخصب بلاد الله تعالى وأكثرها خيراً وفقهاً وعمارة ورغبة في العلم واستقامة في الدين وأشد بأساً وأغلظ رقاباً وأدوم جهاداً وأسلم صدوراً وأرغب في الجماعات مع يسار وعفة ومعروف وضيافة وتعظيم لمن يفهم.

وبهذا القسم ست كور:

الأولى: فرغانة وقصبتها اخسيكت ومن مدنها نصر أباذ، وأوزكند، ومرغينان وغيرها.

الثانية: اسبيجاب وقصبتها اسبيجاب ومن مدنها فاراب، وترار، وطراز، وبلاسكون وغيرها.

الثالثة: الشاش وقصبتها بنكث ومن مدنها نكث وغيرها.

الرابعة: أشر وسنة وقصبتها بنجكث.

الخامسة: الصغد وقصبتها سمرقند وهي مصر الإقليم.

السادسة: بخارى وقصبتها بخارى ومن مدنها بيكند.

وهذا الإقليم يمر به نهر جيحون العظيم ويتشعب منه أنهار كثيرة ويقلب فيه أنهار ستة وعليه كور ومدن. فالكور هي الختل وقصبتها هلبك. ثم قواديان ومدينتها نير. ثم خوارزم وهي على حافتي جيحون قصبتها العظمى شرقي النهر وهي كاث ولها قصبة أخرى غربية وهي الجرجانية وعلى النهر من المدن ترمذ وكالف ونويدة زم وفربر وآمل.
(ب) خراسان وبها تسع كور:

الأولى: بلخ قصبتها بلخ وبها ناحية طخارستان ومن مدنها ولوالج والطالقان.

الثانية: غزنين وقصبتها غزنين وبها من المدن كابل.

الثالثة: بست وقصبتها بست. وبعض الناس يجمع غزنين إلى بست ويجعلهما كورة واحدة يسميها كابلستان.

الرابعة: سجستان وقصبتها زرتج.

الخامسة: هراة وقصبتها هراة ومن مدنها باذغيس.

السادسة: جوزجانان وقصبتها اليهودية.

السابعة: مرو الشاهجان وهي القصبة وبها ناحية مرو الروز.

الثامنة: نيسابور والقصبة إيرانشهر وبها من المدن بيهق وطوس ونسا وأبيورد.

التاسعة: قهستان وقصبتها قابن
(8) إقليم الديلم به خمس كور:

الأولى: قومس وقصبتها الدامغان ومن مدنها سمنان وبسطام.

الثانية: جرجان وقصبتها شهرستان ومن مدنها استر اباذ وآبسكون.

الثالثة: طبريستان وقصبتها آمل ومن مدنها سالوس وسارية.

الرابعة: الديلمان وقصبتها بروان.

الخامسة: الخزر وقصبتها إتل ومن مدنها بلغار وسمندر وبهذه الكورة نهر إتل وهذا الإقليم لم يفش الإسلام به إلا في عهد الدولة العباسية ولم يتأثر كثيراً باللغة العربية.
(9) إقليم الرحاب وهو ثلاث كور:

الأول: أران وقصبتها برذعة ومن مدنها تفليس وشروان وباب الأبواب وملازكرد.

الثاني: أرمينية وقصبتها أردبيل ومن مدنها مدليس وخلاط وخوي وسلماس وأرمية ومراغة ومرتد وقاليقلا.

الثالث: أذربيجان وقصبتها أردبيل ومن مدنها تبريز.
(10) إقليم الجبال وبه ثلاث كور:

الأولى: الري وقصبتها الري وبها من المدن آوة وساوة وقزوين وأبهر.

الثانية: همذان وهي القصبة ومصر الإقليم.

الثالثة: أصفهان وقصبتها اليهودية
(11) إقليم خوزستان ويعرف بالأهواز وبه سبع كور وهي

الأولى: السوس وهي تتاخم العراق والجبال.

الثانية: جنديسابور وهي القصبة وكانت مصر الاقليم.

الثالثة: تستر وهي القصبة وليس بالإقليم أجل منها.

الرابعة: عسكر مكرم وهي القصبة وبها من المدن جوبك وزيدان وسوق الثلاثاء.

الخامسة: الأهواز وبها من المدن تيري ومناذر الكبرى ومناذر الصغرى.

السادسة: الدورق كورة تتاخم العراق ومن مدنها آزر وأجم وغيرهما، وقصبتها الدورق.

السابعة: رامهرمز كورة تتاخم فارس وهي القصبة.
(12) إقليم فارس وبه ست كور:

الأولى: أرجان وهي القصبة.

الثانية: أدرشير خرة وقصبتها سيراف وهي ممتدة على البحر.

الثالثة: درايجرد وهي القصبة وكانت في القديم مصر الإقليم.

الرابعة: شيراز قصبتها على اسمها وهي مصر الإقليم وبها من المدن البيضاء وفسا.

الخامسة: سابور وقصبتها شهرستان ومن مدنها كازرون، والنوبندجان، وتوز.

السادسة: اصطخر وهي أوسع الكور وقصبتها على اسمها.

وبهذا الإقليم عدد عظيم من الأكراد وباسمه سميت البلاد الفارسية كلها.
(14) إقليم كرمان وبه خمس كور:

الأولى: بردسير وقصبتها على اسمها ومن مدنها ماهان، وكوغون، وزرند.

الثانية: نرماسير وهي القصبة.

الثالثة: السيرجان وقصبتها على اسمها. وهي مصر الإقليم.

الرابعة: بم وهي تتاخم فارس.

الخامسة: جيرفت وهي على البحر.


(13) إقليم السند وبه خمس كور:

الأولى: مكران وقصبتها بنجبور.

الثانية: طوران وقصبتها قصدار.

الثالثة: السند وقصبتها المنصورة ومن مدنها ديبل.

الرابعة: ويهند والقصبة باسمها.

الخامسة: قنوج وهي القصبة.

فهذه أربعة عشر إقليماً منها ستة عربية وثمانية أعجمية والمراد بكونها عربية تغلب اللسان العربي على أهلها.

yacine414
2011-03-17, 17:39
السفاح

(132 - 136هـ)

هو أبو العباس عبد اللَّه بن علي بن عبد اللَّه بن عباس. وأمه ريطة بنت عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن المدان الحارثي. ولد سنة104 بالحميمة. بويع بالخلافة يوم الخميس لثلاث عشرة خلت من ربيع الأول سنة132 (30 أكتوبر سنة749 . ومن هذا اليوم يبتدىء التاريخ خلافة أبي العباس ولم يزل خليفة إلى أن توفي بمدينة الأنبار يوم الأحد لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة سنة136 (9 يونيو سنة754 .
الأحوال الداخلية:

لم تكن هزيمة مروان وقتله منتهى متاعب العباسيين فإنه كان لا يزال في الأمة العربية قواد ضلعهم مع بني أمية ولا يزال عندهم شيء من القوة فكانوا يثورون إما خوفاً على أنفسهم من بني العباس الذين أظهروا قسوة شديدة في معاملة مغلوبيهم وإما طمعاً في إعادة تلك الدولة العربية التي كان لهم منها نصيب وافر. فقضى أبو العباس أكثر حياته في إخماد تلك الثورات التي كانت كثيرة ولا سيما بالشام والجزيرة والتغلب على يزيد بن هبيرة الذي كان أمير العراق لمروان بن محمد وتحصن بمدينة واسط بعد غلبة العباسيين على الكوفة وما معها.
ولاية العهد:

في سنة136 عقد السفاح لأخيه أبي جعفر الخلافة من بعده وجعله ولي عهد المسلمين ومن بعد أبي جعفر عيسى بن موسى بن محمد بن علي وكتب العهد بذلك وصيره في ثوب وختم عليه بخاتمه وخواتيم أهل بيته ودفعه إلى عيسى بن موسى وقد ابتدأ السفاح بفعله هذا الغلطة الشنيعة التي سبق بها في عهد بني أمية وهو تولية اثنين العهد وكانت من أسباب ما أصاب بني أمية من الخلاف والفرقة.
وفاة السفاح:

أصيب السفاح بالجدري وهو بالأنبار وتوفي بها في13 ذي الحجة136 ودفن بالأنبار في قصره وبلغت وفاته أبا جعفر وهو عائد من حجته.

yacine414
2011-03-17, 17:40
المنصور

(137 - 158هـ)

هو أبو جعفر عبد اللَّه بن محمد بن علي وأمه أم ولد اسمها سلامة ولد بالحميمة سنة101 ولما انتقل أبو العباس من الحميمة إلى الكوفة كان فيمن معه. ولما أفضت الخلافة إلى أبي العباس كان عضده الأقوى وساعده الأشد في تدبير الخلافة وفي السنة التي توفي فيها أبو العباس136 عقد العهد لأخيه أبي جعفر وكان إذا ذاك أميراً على الحج ثم توفي السفاح وأبو جعفر بالحجاز فأخذ البيعة له بالأنبار ابن أخيه عيسى بن موسى وكتب إليه يعلمه وفاة السفاح والبيعة له فلقيه الرسول بأحد المنازل عائداً بعد انتهاء الحج. وقد تمت البيعة له في اليوم الذي توفي فيه أخوه (8 يونيه سنة754) واستمر خليفة إلى أن توفي يوم الأحد سابع ذي الحجة سنة158 (8 أكتوبر سنة775 فكانت خلافته 22 سنة هلالية إلا ستة أيام
وكان يعاصره في الأندلس عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك (138-172) الأحوال لعهد المنصور:

تولى المنصور الخلافة ولم تكن قد توطدت دعائمها ولم يكن يخاف عليها من الدولة البائدة دولة الأمويين لأنه لم تبق لهم بقية يخاف منها وإنما كان الخوف ينتاب المنصور من ثلاث جهات

الأولى: منافسة عمه عبد اللَّه بن علي في الأمر لما كان له من نباهة الذكر في بني العباس ولأنه كان يدبر أمر جيوش الدولة من أهل خراسان وأهل الشام والجزيرة والموصل الذي أمره عليهم السفاح قبل وفاته ليغزوا بهم الروم وقد أظهر المنصور خوفه هذا لأبي مسلم حينما جاءه الخبر بوفاة أخيه والبيعة له.

الثانية: من عظمة أبي مسلم الخراساني مؤسس الدولة فإنه كان يرى له من الصولة وشدة التمكن في حياة أخيه ما لم يكن يرى معه أمراً ولا حكماً ومثل المنصور في علو نفسه لا يرضيه أن يكون له في الأمر شريك ذو سطوة وسلطان مثل أبي مسلم على أن هناك أمراً آخر ربما كان يدور بخاطره وهو أن يستقل أبو مسلم بأمر خراسان ويخلع المنصور ثم يختار للخلافة رجلاً آخر يكون تحت تصرفه وسلطانه فيعود الأمر لأهل فارس.

الثالثة: وهي أقوى هذه الجهات الثلاث خوفه من بني عمه آل علي بن أبي طالب الذين لا يزال لهم في قلوب الناس مكان مكين وأخصهم محمد بن عبد اللَّه بن حسن بن زيد بن حسن بن علي بن أبي طالب لما سيأتي بيانه فكان المنصور يتخوف أن يخرج عليه طالباً بالخلافة والذي كان يزيد هواجسه أنه عام حج في حياة أخيه لم يحضره محمد ولا أخوه إبراهيم ابنا عبد اللَّه مع من شهده من سائر بني هاشم.

صار المنصور يحتال بأنواع الحيل ليعرف الأخبار عن محمد واستخراج ما عند أبيه عبد اللَّه بن حسن من أخباره ولما علم أن عبد اللَّه يعرف نية ابنة حج سنة وسأل عبد اللَّه عن ابنيه أن عنده بهما فتيقن المنصور كذبه وحبسه وصادر أمواله.

لم يزل بنو حسن محبوسين عند رياح بالمدينة حتى حج أبو جعفر سنة فلما لم يجد عندهم ما يبرد غلته من جهة محمد وأخيه إبراهيم أمر بحملهم إلى العراق وأشخص معهم محمد بن عبد اللَّه بن عمرو بن عثمان بن عفان وهو أخو بني حسن بن زيد بن حسن لأمهم وأمهم جميعاً فاطمة بنت حسين بن علي وكان إبراهيم بن عبد اللَّه صهره على ابنته فحملوا مقيدين بالأغلال والأثقال وسير بهم على شر ما يكون حتى أتى بهم العراق فحبسوا بقصر ابن هبيرة وهو بلد شرقي الكوفة مما يلي بغداد على نهر الفرات. وقد استعمل معهم المنصور من الفظائع ما لا طاقة للإنسان على تسطيره وكان أعظم فظائعه مع محمد بن عبد اللَّه بن عمرو بن عثمان، وكانت نتيجة هذا الحبس الشديد أن مات أكثرهم في الحبس مع أن بني العباس ملأوا الدنيا تهويلاً ورياء بأنهم خرجوا انتقاماً من قتلة الحسين بن علين وزيد بن حسن ويحيى بن زيد وهؤلاء إنما قتلوا في ميادين القتال وهم خارجون ولم يقتل بنو أمية أحداً من آل علي بالشكل الفظيع الذي ذهب به بنو حسن في عهد بني عمهم من آل العباس.

على أنه فضلاً عن ذلك كله جعل نفسه محصوراً بالمدينة وهي ليست بمركز حربي يمكن القائد أن يبقى فيه على الدفاع طويلاً وحياتها من خارجها فلا تحتمل الحصار إلا قليلاً.
نظام الحكم في العهد العباسي:

أولاً الوزير: والوزارة لم تكن معروفة بهذا الاسم في عهد الدولة الأموية وأول من سمي بها لعهد أبي العباس السفاح أبو سلمة الخلال شيخ الدعوة بالكوفة فقد كان يعرف بوزير آل محمد وأصله مولى لبني الحارث بن كعب وكان سمحاً كريماً مطعاماً كثير البذل مشغوفاً بالتنوف في السلاح والدواب فصيحاً عالماً بالأخبار والأشعار والسير والجدل والتفسير حاضر الحجة ذا يسار ومروءة ظاهرة.

ثانياً الحاجب: وهو موظف كبير لا يَمْثُل أحد بين يدي الخليفة إلا بإذنه وقد وجد الحاجب في عهد بني أمية وقد أحدثوه لما خشوا على أنفسهم من الفتاكين بعد حادثة الخوارج مع علي وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان.

ثالثاً الكاتب: وهو الذي يتولى مخاطبة من بعد عن الحضرة من الملوك والأمراء وغيرهم وكثيراً ما كان يتولى الخليفة نفسه تلك الكتابة.

رابعاً صاحب الشرط: وهو المحافظ على الأمن وكان المنصور يختار صاحب الشرط آمن الرجال وأشدهم وكان له سلطان عظيم على المريبين والجناة.

خامساً القاضي: وكان ينظر في قضايا مدينة المنصور وحدها ولم يكن له سلطان على قضاة الأقاليم لأن منصب قاضي القضاة لم يكن أنشىء بعد.

الجيش:

أهم ما تظهر به الدولة جيشها الذي يذود عن حياضها ويحمي بيضتها وقد كان الجيش لعهد الدولة الأموية عربياً محضاً جنوده وقواده فلما جاءت الدولة العباسية كان ظهور نجمها على يد أهل خراسان الذين يرجع إليهم أكبر الفضل في ثل عرش الدولة الأموية وبالضرورة يكون لهم حظ وافر من الدولة وحمايتها لذلك كان جيش الديوان في أول عهد العباسيين مؤلفاً من فريقين.

الأول: الجيوش الخراسانية

الثاني: الجيوش العربية. وقوادهم من الفريقين بعضهم من العرب وبعضهم من الموالي.

وكان أكبر القواد المعروفين في أول عهد الدولة أبو مسلم الخراساني لجيوش المشرق الخراسانية.

وعبد اللَّه بن علي لجيوش المغرب وأعظمها عربي من الجزيرة والشام.

ومن مشهوري قواده العرب معن بن زائدة الشيباني وهو قائد شجاع كان في أيام بني أمية متنقلاً في الولايات.

حاضرة الخلافة: (مدينة السلام- بغداد)

وللمدينة أربعة أبواب كل اثنين منها متقابلان ولكل منها باب دون باب بينهم دهليز ورحبة تدخل إلى الفصيل الدائر بين السورين فالأول باب الفصيل والثاني باب المدينة فإذا دخل من باب خراسان عطف على يساره في دهليز معقود بالآجر والجص عرضه عشرون ذراعاً وطوله ثلاثون المدخل إليه في عرضه والمخرج منه وطوله يخرج إلى رحبة مادة إلى الباب الثاني طولها60 ذراعاً وعرضها40 ولها في جنبتيها حائطان من الباب الأول إلى الباب الثاني في صدر هذه الرحبة في طولها الباب الثاني وهو باب المدينة وعن يمينه وشماله في جنبتي بابان إلى الفصيلين.

والأبواب الأربعة على صورة واحدة في الأبواب والفصيلان والرحاب والطاقات. ثم الباب الثاني وهو باب المدينة وعليه السور الكبير فيدخل من الباب الكبير إلى دهليز أزج معقود بالآجر والجص طوله20 ذراعاً وعرضه12 وعلى كل أزج من آراج هذه الأبواب مجلس له درجة على السور يرتقى إليه منها، على هذا المجلس قبة عظيمة ذاهبة في السماء سمكها50 ذراعاً مزخرفة وعلى رأس كل قبة منها تمثال تديره الريح لا يشبه نظائره.

وعلى كل باب من أبواب المدينة الأوائل والثواني باب حديد عظيم جليل المقدار كل باب منها فردان.
الأحوال الخارجية:

في عهد المنصور هرب عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان إلى بلاد الأندلس وأسس بها الدولة الأموية الثانية وكان المنصور يعجب به وبقدرته وعزيمته التي جعلته وهو شريد طريد يؤسس ملكاً في هذه البلدان القاصية ولم يكن بين الرجلين بالضرورة علاقة حسنة ولم يتسم عبد الرحمن بأمير المؤمنين بل تسمى بالأمير فقط. وهذه أول بلاد اقتطعت من الخلافة الإسلامية الكبرى بالمشرق أما مملكة الروم التي كانت تحاد الخلافة الإسلامية من الشمال فكان يعاصر المنصور فيها قسطنطين الخامس كما قدمنا وكانت العلاقة بين الأمتين منقطعة لا تترك إحداهما قتال الأخرى متى عنت الفرصة وكان من النظام المتبع في الخلافة إرسال الجيوش تغزو الروم في الصيف وتسمى بالصوائف ولم يكن ذلك ينقطع إلا لمانع.

أول ما حصل في عهد المنصور أن الروم بقيادة ملكهم أرغاروا سنة138 على ملطية وكانت إذ ذاك من الثغور الإسلامية فدخلوها عنوة وقهروا أهلها وهدموا سورها ولكن الملك عفا عمن فيها من المقاتلة والذرية.

ولما علم بذلك المنصور أغزى الطائفة عمه صالح بن علي ومعه أخوه العباس بن محمد بن علي فبنى ما كان صاحب الروم هدمه من ملطية وقد أقام في استتمام ذلك إلى سنة139. ثم غزوا الصائفة من درب الحدث فوغلا في أرض الروم وغزا مع صالح أختاه أم عيسى ولبابة ابنتا علي وكانتا نذرتا إن زال ملك بني أمية أن تجاهدا في سبيل اللَّه- وغزا من درب ملطية جعفر بن حنظلة البهراني. وفي هذه السنة استقر الأمر بين المنصور وملك الروم على المفاداة فاستنقذ المنصور من الروم أسراء المسلمين.

وفي سنة140 غزا الصائفة الحسن بن قحطبة مع عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام وأقبل قسطنطين صاحب الروم في جيش كثيف فنزل جيحان فبلغه كثرة المسلمين فأحجم عنهم ثم لم تكن صائفة بعد ذلك إلى سنة146 لاشتغال أبي جعفر بأمر محمد وإبراهيم ابني عبد اللَّه. ولم تزل الصوائف بعد ذلك تتوالى إلى سنة155 وفيها طلب صاحب الروم الصلح على أن يؤدي للمسلمين الجزية.

وكانت هذه الحروب بين الطرفين إغارات لم يقصد بها فتح بل كل واحد من الطرفين ينتهز الفرصة فيجتاز الحدود التي لصاحبه ثم يعود إلى مقره ثانية ولم تكن المصالحات يطول زمنها بل سرعان ما يعودون إلى ما كانوا عليه.

أما حدود المملكة من الجهات الأخرى فكانت في الغالب محلاً للاضطرابات ولكنها كانت تسكن حالاً بما يبذله المنصور من الهمة في إرسال الجنود إليها ليقظته ومعرفته بالأمور على وجهها، وكان في كل ثغر جنود مرابطون من المرتزقة وهم المفروض لهم عطاء في الديوان ومن المتطوعة وهم الذين ينتدبون للجهاد في سبيل اللَّه لا يطلبون على ذلك أجراً إلا من اللَّه وكان الخليفة هو الذي يعين قائدهم وكان عددهم في ذلك الوقت كثيراً.
صفات المنصور وأخلاقه:

كان المنصور أعظم رجل قام من آل العباس شدة وبأساً ويقظة وثباتاً ونحن نسوق هنا جملة من أخلاقه لترتسم صورة هذا الرجل العظيم في الأذهان.
وفاة المنصور

في سنة158 حج المنصور. شخص من مدينة السلام متوجهاً إلى مكة في شوال فلما صار من منازل الكوفة عرض له وجعه الذي توفي به ولم يزل يزداد حتى وصل بستان ابن عامر فاشتد به وجعه ثم صار إلى بئر ميمون وهو يسأل عن دخول الحرم ويوصي الربيع بما يريد وتوفي في سحر ليلة السبت6 ذي الحجة سنة158 ولم يحضره عند وفاته إلا الربيع الحاجب فكتم موته ومنع النساء وغيرهن من البكاء عليه ثم أصبح فحضر أهل بيت الخلافة وجلسوا مجالسهم فأخذ الربيع بيعتهم لأمير المؤمنين المهدي ولعيسى بن موسى من بعده ثم دعا بالقواد فبايعوا وتوجه العباس بن محمد بن علي ومحمد بن سليمان بن علي إلى مكة ليبايعا الناس فبايعوا للمهدي بين الركن والمقام.

ثم أخذ في جهاز المنصور وغسله وكفنه ففرغ من ذلك مع صلاة العصر وجعل رأسه مكشوفاً من أجل أنه مات محرماً وصلى عليه عيسى بن موسى ودفن بثنية المعلاة بعد خلافة مدتها22 سنة إلا ستة أيام رحمه اللَّه.

وكان له من الولد ثمان ذكور وبنت. فالذكور محمد المهدي وجعفر الأكبر وأمهما أروى بنت منصور الحميرية وسليمان وعيسى ويعقوب وأمهم فاطمة بنت محمد من ولد طلحة بن عبيد اللَّه وجعفر الأصغر وأمه أم ولد كردية. وصالح المسكين وأمه أم ولد رومية. والقاسم وأمه أم ولد وقد مات منهم جعفر الأكبر والقاسم قبل وفاة المنصور والبنت اسمها العالية وأمها امرأة من بني أمية وقد تزوج العالية إسحق بن سليمان بن علي.

yacine414
2011-03-17, 17:44
المهدي

(158-169هـ)

هو محمد المهدي بن منصور وأمه أروى بنت منصور الحميرية وكانت تكنى أم موسى ولد سنة126 بالحميمة من أرض الشراة وكانت سنه إذ جاءتهم الخلافة ست سنوات.
بيعة المهدي:

بعد أن أخذ الربيع بيعة المهدي علي بن هاشم والقواد الذين كانوا يرافقون المنصور في حجه ووجه رسولاً إلى مدينة السلام بخبر الوفاة وبعث معه بقضيب النبي صلى اللَّه عليه وسلم وبردته التي يتوارثها الخلفاء وبخاتم الخلافة فقدمت الرسل يوم الثلاثاء للنصف من ذي الحجة وفي ذلك اليوم بايعه أهل مدينة السلام ومكث في خلافته إلى أن توفي ليلة الخميس لثمان بقين من المحرم سنة169 (4 أغسطس سنة785 بما سبذان فتكون مدته عشر سنين وشهراً ونصفاً.
الحال في عهد المهدي:

كانت خلافة المهدي مرفهة عن الناس ما كانوا يلقونه من بعض الشدة أيام المنصور فقد كان المنصور يؤسس ملكاً له خصوم فكان يكتفي بالريبة والظنة فيعاقب بهما وفي مثل ذلك كثيراً ما يؤخذ البريء بالمذنب والمطيع بالعاصي فلما جاء المهدي كانت الخلافة العباسية قد توطدت وأنياب العلويين قد كسرت وإن كانت قد بقيت لهم بقايا يتطلعون للخلافة فهم لا يحتاجون في الاحتراس منهم إلى مثل ما كان المنصور يحتاج إليه من الشدة فإن كبارهم قد وضعوا تحت نظر الخليفة ببغداد والذين كانوا بالمدينة اكتفى بمراقبة الأمير لهم فكانوا يعرضون عليه كل يوم ولذلك كانت حياة المهدي حياة سعيدة لنفسه ولأمته وهو بعد أبيه يشبه في كثير من الوجوه الوليد بن عبد الملك بعد أبيه.

في أول ولايته أمر بإطلاق من كان في سجن المنصور إلا من كان قبله تباعة من دم أو قتل ومن كان معروفاً بالسعي في الأرض بالفساد أو كان لأحد قبله مظلمة أو حق.

ومما أجراه من الإصلاح أمره ببناء القصور في طريق مكة أوسع من القصور التي كان السفاح بناها من القادسية إلى زبالة وأمر بالزيادة في قصور السفاح وترك منازل المنصور التي بناها على حالها. ومن آثاره زيارته في المسجد الحرام فأدخل فيه دوراً كثيرة.

الوزارة:

كان مظهر الوزارة في عهد المهدي أوضح منه في عهد أبيه المنصور لما كان من ركون المهدي إلى وزرائه واعتماده عليهم أكثر مما كان يعتمد أبوه وكان أول وزرائه كبير الكفاءة فإنه جمع له حاصل المملكة ورتب الديوان وقرر القواعد وكان كاتب الديوان وأوحد الناس حذقاً وعلماً وخبرة وهو أبو عبيد اللَّه معاوية بن يسار مولى الأشعريين كان كاتب المهدي ونائبه قبل الخلافة ضمه المنصور إليه وكان قد عزم على أن يستوزره لكنه آثر به ابنه المهدي فكان غالباً على أموره لا يعصي له قولاً وكان المنصور لا يزال يوصيه به ويأمره بامتثال مشورته فلما مات المنصور وولي المهدي فوض إليه تدبير المملكة وسلم إليه الدواوين وكان مقدماً في صناعته وله ترتيبات في الدولة.
الأحوال الخارجية:

كان منظر الخلافة في داخل المملكة باهراً وكان كذلك مظهرها في نظر الأمم الأخرى إلا أنه مما يؤسف سوء العلاقة بين الخلافة المشرقية ببغداد وبين أمير الأندلس عبد الرحمن الداخل فقد كان المنصور والمهدي يهتمان بأمره ويودان إزالة دولته ولكن الشقة بين الرجلين بعيدة فلم يمكن واحد منهما أن يجرد له جيشاً يخترق صحارى أفريقية ويغزوه في بلاد الأندلس فاكتفى كل من الفريقين بمعاداة الآخر.

أما العلاقات بين المهدي وبين ملك الروم فكانت سيئة فلم تكن الإغارات من الطرفين تبطل بل كانت الصوائف من طرف المسلمين كما كانت الإغارات من ملك الروم وكانت الحرب براً وبحراً.

وفي سنة163 احتفل المهدي بأمر الصائفة وولى أمرها ابنه هارون وفرض البعوث على جميع الأجناس من أهل خراسان وغيرهم وخرج المهدي مع الجيش حتى أتى البردان فأقام به نحواً من شهرين يتعبأ ويتهيأ ويعطي الجنود. وكانت هذه الغزوة من أهم الغزوات في عهد المهدي فتح اللَّه عليهم فيها فتحاً كثيراً.

وفي سنة165 غزا الصائفة هارون مرة أخرى فوغل في بلاد الروم وكان عدد جيشه95793 رجلاً حمل لهم من العين ديناراً ومن الورق1414800 درهم ولم يزل الجيش سائراً حتى بلغ خليج البحر الذي على القسطنطينية وكان الذي يقوم بأمر الروم إيربني أم الملك نيابة عن ابنها فجرت بينها وبين هارون مكاتبات في طلب الصلح والموادعة وإعطاء الفدية فقبل منها ذلك هارون واشترط عليها أن تقيم الأدلاء والأسواق في طريقه لأنه قد دخل مدخلاً صعباً مخوفاً على المسلمين فأجابته إلى ما سأل.

وفي رمضان سنة168 أي قبل انقضاء مدة الهدنة نقض الروم الصلح وغدروا فوجه إليهم علي بن سليمان بن علي وهو والي الجزيرة وقنسرين يزيد بن بدر البطال في سرية فردوا الروم وغنموا وظفروا.

والنتيجة أن مدة المهدي كان أكثرها حرباً مع المسلمين والروم وكان الفريقان في موقف الدفاع أحياناً والهجوم أحياناً إلا أن الظفر كان في الغلب للمسلمين.
غزو الهند:

كان المسلمون يملكون إلى نهر مهران الفاصل بين السند والهند فأراد المهدي أن يغزي جنوده بلاد الهند ففي سنة159 وجه عبد الملك بن شهاب المسمعي في البحر إلى بلاد الهند وفرض معه لألفين من أهل البصرة من جميع الأجناد وأشخص معه من المطوعة الذين كانوا يلزمون المرابطات ووجه معه قائداً من أبناء الشام في 700 من أهل الشام وخرج معه من متطوعة أهل البصرة 1000 رجل ومن الأسواريين والسبابحة 4000 فكان تمام عدتهم 9200 رجل مضوا حتى أتوا مدينة باربد من بلاد الهند سنة160 فناهضوها بعد قدومهم بيوم وأقاموا عليها يومين فنصبوا المنجنيق وناهضوها بجميع الآلة وتحاشد الناس وحصن بعضهم بعضاً حتى فتحوها عنوة ودخلت خيلهم من كل ناحية حتى ألجأوهم إلى بلدهم فأشعلوا فيها النيران والنفط وغلبوا أهلها على أمرهم بعد أن قتل من المسلمين بضعة وعشرون رجلاً ثم أقاموا بالمدينة حتى يطيب لهم الريح فأصابتهم أمراض مات بسببها نحو ألف منهم ثم انصرفوا حين أمكنهم الانصراف حتى بلغوا ساحلاً من فارس يقال له بحر حمران فعصفت عليهم فيه الريح فكسرت عامة مراكبهم فغرق منهم بعض ونجا بعض ويظهر أن هذه الغزوة ليست إلا إغارة لا عملاً يقصد به توسيع المملكة.
صفات المهدي:

كان المهدي لا يشرب النبيذ وإن كان سماره يشربونه في مجلسه وكان من خلقه الحياء والعفو فكان إذا وقع أحد من خصومه في يده عفا عنه وكان يتأثر بالقرآن كان في حبسه موسى بن جعفر العلوي فقرأ مرة في صلاته: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} فأتم صلاته والتفت إلى الربيع وأمره بإحضار موسى فلما جيء به قال له: يا موسى إني قرأت هذه الآية فخفت أن أكون قطعت رحمك فوثق لي أنك لا تخرج عليّ، فقال: نعم فوثق له فخلاه.

وكان خليفة عادلاً يجلس للمظالم بنفسه وبين يديه القضاة فيزيل عن الناس مظالمهم ولو كانت قبله وكان إذا جلس للمظالم قال أدخلوا عليّ القضاة فلو لم يكن ردي للمظالم إلا للحياء منهم لكفى.

وكان المهدي ميالاً إلى السنة يحب ألا يخالف سنة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فمن ذلك أنه أمر بنزع المقاصير من مساجد الجماعات وتصير منابرها إلى المقدار الذي عليه منبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وكتب بذلك إلى الآفاق فعمل به.
ولاية العهد:

قدمنا أن المهدي نزع من ولاية العهد عيسى بن موسى بن علي وجعل محله ابنه موسى الهادي ثم جعل بعده ابنه هارون الرشيد.

وفاة المهدي:

في سنة169 أراد المهدي الخروج إلى جرجان فلما وصل إلى ماسبذان أدركته هناك منيته ليلة الخميس لثمان بقين من المحرم في قرية يقال لها الروذ وصلى عليه ابنه هارون لأنه كان في صحبته.

yacine414
2011-03-17, 17:49
الهادي

( 169- 170هـ)

هو موسى الهادي بن محمد المهدي بن جعفر المنصور وأمه أم ولد اسمها الخيزران كانت ملكاً للمهدي وفي سنة159 أعتقها وتزوجها أي بعد أن ولدت له الهادي والرشيد. ولد الهادي سنة 144 وولاه أبوه العهد وسنه16 سنة.
الحال في عهده:

كان الهادي على سنن أبيه في كراهة الزنادقة فالتفت إليهم ونكل بهم تنكيلاً والزندقة على ما يظن كانت عندهم عنواناً على ترك التدين والمجازفة في التعبير عن الدين.

ثورة الحسين بن علي:

وفي عهد الهادي خرج بالمدينة الحسين بن علي بن الحسن المثلث سنة169 وكان والي المدينة لوقته عمر بن عبد العزيز بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب وسبب خروجه أن عمر بن عبد العزيز أخذ الحسن بن محمد النفس الزكية وجماعة كانوا على شراب لهم فأمر بهم فضربوا جميعاً ثم أمر بهم فجعل في أعناقهم حبال وطيف بهم في المدينة فصار إليه الحسين بن علي فكلمه فيهم وقال له ليس هذا عليهم وقد ضربتهم ولم يكن لك أن تضربهم لأن أهل العراق لا يرون به بأساً فلم تطوف بهم فبعث إليهم وقد بلغوا البلاط فردهم وأمر بهم إلى الحبس فحبسوا يوماً وليلة ثم كلم فيهم فأطلقهم جميعاً وكانوا يعرضون كما قدمنا يراقبون ففقد الحسن بن محمد وكان الحسين بن علي ويحيى بن عبد اللَّه بن الحسن كفلاه لأن العمري كان كفل بعضهم من بعض فغاب عن العرض ثلاثة أيام فأخذ الكفيلين وسألهما عنه فحلفا أنهما لا يدريان موضعه فكلمهما بكلام أغلظ لهما فيه فحلف يحيى بن عبد اللَّه ألا ينام حتى يأتيه به أو يضرب عليه باب داره حتى يعلم أنه قد جاءه فلما خرجا قال الحسين: سبحان اللَّه ما دعاك إلى هذا وأين تجد حسناً حلفت له بشيء لا تقدر عليه قال والله لا نمت حتى أضرب عليه باب داره بالسيف فقال حسين: تكسر بهذا ما كان بيننا وبين أصحابنا من الصلة قال: قد كان الذي كان، فلا بد منه، وكانوا قد تواعدوا على أن يخرجوا بمنى أو بمكة أيام الموسم، وكان بالمدينة جماعة من أهل الكوفة من شيعتهم وممن كان بايع الحسين بن علي، ففي آخر الليل خرجوا وجاء يحيى بن عبد اللَّه حتى ضرب باب دار مروان على العمري فلم يجده فيها وتوارى منهم فجاءوا حتى اقتحموا المسجد. ولما أذن الصبح جلس الحسين على المنبر وعليه عمامة بيضاء وجعل الناس يأتون المسجد فإذا رأوهم رجعوا ولا يصلون فلما صلى الغداة جعل الناس يأتونه ويبايعونه على كتاب اللَّه وسنة نبيه صلى اللَّه عليه وسلم للمرتضى من آل محمد وقاومهم جماعة من نصراء الدولة فلم يفلحوا ولما تم للحسين بن علي ما أراد انتهبت جماعته ما في بيت المال.

أقام الحسين بالمدينة بعد إعلان الخروج أحد عشر يوماًثم فارقها لست بقين من ذي القعدة قاصداً مكة.

انتهى خبر الحسين إلى الهادي وقد كان حج في تلك السنة رجال من أهل بيته منهم محمد بن سليمان بن علي والعباس بن محمد وموسى بن عيسى سوى من حج من الأحداث وكان على الموسم سليمان بن أبي جعفر المنصور فأمر الهادي بالكتاب بتولية محمد بن سليمان على الحرب فلقيهم الكتاب وقد انصرفوا عن الحج. وكان محمد بن سليمان قد خرج في عدة من السلاح فشمر للحرب وسار نحو الحسين بن علي فلقيه بفخ وكانت عاقبة الوقعة أن قتل الحسين بن علي الثائر وجماعة ممن معه وأفلت من الموقعة رجلان لهما تاريخ جليل وهما إدريس بن عبد اللَّه بن الحسن بن علي أخو محمد النفس الزكية وهو مؤسس دولة الأدارسية بالمغرب الأقصى والثاني أخوه يحيى بن عبد اللَّه الذي ذهب إلى بلاد الديلم.
صفات الهادي:

كان الهادي شديد الغيرة على حرمه ويشبه في ذلك سليمان بن عبد الملك في بني أمية وقد نهى أمه الخيزران أن يدخل عليها أحد من القواد أو رؤساء حكومته بعد أن كان لها من نفوذ الأمر في عهد المهدي ما لم يكن لامرأة غيرها.

وكان شجاعاً قوياً روي عنه أنه كان يثب على الدابة وعليه درعان.

وكان يرى الناس لا يصلحون إذا حجب خليفتهم عنهم حتى أنه قال للفضل بن الربيع الذي أقامه في حجابته بعد أبيه: لا تحجب عني الناس فإن ذلك يزيل عني البركة ولا تلق إليّ أمراً إذا كشفته أصبته باطلاً فإن ذلك يوقع الملك ويضر بالرعية، وقال مرة لعلي بن صالح: ائذن للناس عليّ بالجفلى لا النقرى ففتحت الأبواب فدخل الناس على بكرة أبيهم فلم يزل ينظر في المظالم إلى الليل.

وكان كريماً يشبه أباه في أعطياته. ولم تطل مدته في الخلافة حتى يكون له في أحوال الأمة أثر ظاهر.
- هارون الرشيد

ترجمته:

هو هارون الرشيد بن محمد المهدي وأمه أم الهادي ولد بالري سنة145 ولما شب كان أبوه يرشحه للخلافة فولاه مهام الأمور. جعله أمير الصائفة سنة163 وسنة165 وفي سنة164 ولاه المغرب كله من الأنبار إلى أطراف أفريقية فكانت الولاة ترسل من قبله وفي سنة166 جعله أبوه ولي عهد بعد الهادي وفي سنة169 وهي السنة التي توفي فيها المهدي أراد أن يقدمه على الهادي لما ظهر من شجاعته وعلو شأنه فحالت منية المهدي دون ذلك المهدي.

بويع الرشيد بالخلافة يوم أن مات أخوه الهادي في14 ربيع الأول سنة170 (14 سبتمبر سنة786 وسنه25 سنة ولم يزل خليفة إلى أن توفي في ثالث جمادى الآخرة سنة194 (24 مارس سنة808 فكانت مدته23 سنة وشهرين و18 يوماً وكان سنه إذ توفي48 سنة.
نكبة البرامكة:

أولع المؤرخون بذكر نكبة البرامكة وأجهدوا قرائحهم في تعرف أسباب إيقاع الرشيد بهم. لم يكن هذا العمل بدعاً في الدولة العباسية فإن للمنصور والمهدي سلفاً في ذلك فقد أوقع المنصور بوزيره أبي أيوب المورياني قتله وأقاربه واستصفى أموالهم لخيانة مالية اطلع عليها منهم وأوقع المهدي بوزيريه أبي عبد اللَّه معاوية بن يسار ويعقوب بن داود لوشاية كانت بهما مع نزاهة الأول وحسن سيرته ومع ما كان للمهدي من الولوع بالثاني حتى كتب للجمهور أنه اتخذه أخاه في اللَّه. كل هذا قد سبق به الرشيد.

كان يحيى بن خالد هو القائم بأمر الرشيد أيام المهدي وكان الرشيد يدعوه يا أبي وكانت أم الفضل بن يحي ى ظئراً للرشيد وأرضعت الخيزران أم الرشيد الفضل بن يحيى فكان يحيى هو الذي يكفله ويقوم بتربيته من لدن ولد إلى أن شب. وهو الذي كانت له اليد الطولى في إخفاق المساعي التي بذلت لخلع الرشيد من ولاية العهد أيام الهادي فلما تولى الرشيد قلده وزارته وزارة تفويض ثم ضم إليه وزارة الخاتم بعد وفاة الفضل بن سليمان الطوسي فاجتمعت له الوزارتان وأعانه في العمل أبناؤه إلا أن الشهرة ونباهة الذكر كانت للفضل وجعفر مع ما كان لهم جميعاً من الكفاية.

رآهم الناس بعد هذا العز المتين والشرف الباذخ منكوبين على يد الرشيد، ابن يحيى وأخي الفضل وحبيب جعفر، فجعفر مقتول بالعمر من ناحية الأنبار في آخر ليلة من محرم سنة197 بعد أوبة الرشيد من حجه وكتابته عهدي ولديه الأمين والمأمون ثم جسمه مصلوب ببغداد على ثلاثة جسور ثم أحرق. ويحيى بن خالد وأبناؤه الباقون محبوسون. ورأوا مصادرة لكل ما يملكون من عقار ومنقول ورقيق ورأوا كتباً أرسلت إلى جميع العمال في نواحي البلدان والأعمال بقبض أموالهم وأخذ وكلائهم وأمراً بالنداء في جميع البرامكة أن لا أمان لمن أواهم إلا محمد بن خالد بن برمك وولده وأهله وحشمه فإن الرشيد استثناهم لما ظهر له من نصيحة محمد له وعرف براءته مما دخل فيه غيره من البرامكة. رأوا ذلك كله فعرتهم الدهشة وظنوا الظنون وسادت عليهم الخيالات والأوهام ناسبين ذلك لحادث فجائي حدث فغير قلب الرشيد هذا التغيير وأداه إلى هذا العمل شأن الناس في الأعصار كافة إذا عصفت بهم عاصفة من حادث شديد الوقع.

من كل هذا يتبين أن النفور والريبة وقعت في قلب كل من الطرفين للآخر وتبع ذلك معاملات من الرشيد لم يكن يبعثه عليها إلا ما ركز في نفسه وأثبته عنده وشاة السوء وأعداء البرامكة وكان الرشيد يتحين الفرصة للإيقاع بهم ولا سيما جعفر لما كان منه من تخليص يحي ى بن عبد اللَّه وهذا دليل عدم الإخلاص للرشيد وللبيت العباسي وقد قام الفضل بن الربيع بما انتدب إليه خير قيام وشايعه في ذلك كثيرون وكانت زوجة الرشيد زبيدة منحرفة عن جعفر لقيامه في أمر المأمون فإنه هو الذي قام في ولايته العهد وجعله مناظراً لابنها الأمين وكانوا يتخوفون من جعفر أن يكون سبباً في الإيقاع بين الأخوين إذا حانت منية الرشيد لذلك كانت زبيدة توغر قلب الرشيد على جعفر كلما حانت الفرصة.

في سنة186 حج الرشيد ولما انصرف من حجه أتى الأنبار ومعه يحيى والفضل وجعفر ومحمد بن خالد ودعا موسى بن يحيى فرضي عنه بعد غضبه عليه وفي غاية المحرم أمر فيهم أمره فقتل جعفراً وحبس يحيى وابنيه وصادر أموالهم كلها وقد حبس يحيى مع الفضل، ومحمد في دير القائم وجعل عليهم حفظة ولم يفرق بينهم وبين عدة من خدمهم ولا ما يحتاجون إليه وصير معهم زبيدة بنت منير أم الفضل وعدة من خدمهم وجواريهم ولم تزل حالهم سهلة إلى أن سخط الرشيد على عبد الملك بن صالح فعمهم بالتسقف بسخطه وجدد لهم التهمة عند الرشيد فضيق عليهم.
العلاقات الخارجية:

كانت دول هذا العصر الكبيرة دولة الروم الشرقية بالقسطنطينية ودولة شرلمان الذي كان يميل إلى تجديد دولة الرومان الغربية ودولة الأمويين بالأندلس وحدثت في عهده دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى.
مع الروم:

من أعمال الرشيد أنه عزل الثغور كلها عن الجزيرة وقنسرين وجعلها حيزاً واحداً وسميت العواصم وجعل قاعدتها منبجاً وأسكنها عبد الملك بن صالح سنة173 وسميت العواصم لأن المسلمين كانوا يعتصمون بها فتعصمهم وتمنعهم من العدو إذا انصرفوا من غزوهم وخرجوا من الثغر وكان من هذه العواصم دلوك ورعبان وقورس وانطاكية وتيزين وما بين ذلك من الحصون ومن تلك المدن الشهيرة طرسوس وقد عمرت في زمن الرشيد على يد أبي سليم فرج الخادم التركي ونزلها الناس وكان يغزو الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح ووصل سنة175 إلى أقريطية. وفي سنة181 غزا الرشيد الصائفة بنفسه ففتح عنوة حصن الصفصاف وغزا عبد الملك بن صالح فبلغ أنقرة.

ولم يزل عبد الملك يرى الثغور وحربها وهو قائم بذلك خير قيام حتى عزله الرشيد وحبسه بعد نكبة البرامكة سنة 187 فولى بعده القاسم بن الرشيد وسكن منبجاً فغزا الروم وأناخ على حصن قرة وحاصرها ووجه العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث فأناخ على حصن سنان حتى جهدوا فبعثت الروم تبذل320 رجلاً من أسارى المسلمين على أن يرحل عنهم فأجابهم إلى ذلك ورحل عن حصني قرة وسنان.

كان يملك الروم في ذلك الوقت إربني وكانت في أوائل أمرها تنوب عن ابنها قسطنطين السادس منذ سنة780 ثم استبدلت بالملك سنة790 فاتفقت مع الرشيد على الصلح والمهادنة مقابل جزية تقوم بدفعها له وذلك لما رأته من إلحاح المسلمين عليها بالحرب وعدم قدرتها على الدفاع لوقوعها بين المسلمين من جهة وبين شارلمان من جهة أخرى وكلتا الدولتين تناوئها العداوة لأن شارلمان كان يريد توسيع سلطانه وإعادة دولة الرومان إلى بهجتها التي كانت لها في القدم وفي سنة802 نهضت عليها عصابة رومية فخلعتها عن الملك وملكت مكانها نقفور فعقد معاهدة مع شارلمان عينت فيها تخوم المملكتين ثم كتب إلى الرشيد من نفقور ملك الروم إلى هارون ملك العرب أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مكان البيدق فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أمثاله إليها لكن ذلك ضعف النساء وحمقهن فإذا قرأت كتابي فأردد ما حصل قبلك من أموالها وافتد نفسك بما يقع به المصادرة لك وإلا فالسيف بيننا وبينك. فلما قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب حتى لم يمكن أحد أن ينظر إليه دون أن يخاطبه وتفرق جلساؤه خوفاً من زيادة قول أو فعل يكون منهم واستعجم الرأي على الوزير من أن يشير عليه أو يستبد برأيه دونه فدعا بدواة وكتب على ظهر الكتاب:

( بسم اللَّه الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم قد قرأت كتابك والجواب ما تراه دون أن تسمعه والسلام) ثم شخص من يومه وسار حتى أناخ بباب هرقلة ففتح وغنم واصطفى وأقاد وخرب وحرق واصطلم فطلب نقفور الموادعة على خراج يؤديه كل سنة فأجابه إلى ذلك فلما رجع من غزوته وصار بالرقة نقض نقفور العهد وخان الميثاق وكان البرد شديداً فيئس نقفور من رجعته إليه وجاء الخبر بارتداده عما أخذ عليه فما تهيأ لأحد إخبار الرشيد بذلك إشفاقاً عليه وعلى أنفسهم من الكرة.

ولم تقف الحروب بين الطرفين بعد ذلك وفي سنة189 حصل فداء بين المسلمين والروم فلم يبق بأرض الروم مسلم إلا فودي به وهذا أول فداء كان بين المسلمين والروم.

وفي سنة190 غزا الرشيد الصائفة بنفسه ففتح هرقلة وبث الجيوش والسرايا بأرض الروم وكان دخلها في135 ألف مرتزق سوى الاتباع وسوى المطوعة وسوى من لا ديوان له وكان فتح الرشيد هرقلة في شوال فأضر بها وسبى أهلها بعد مقام ثلاثين يوماً عليها وولى حميد بن معيوف سواحل الشام إلى مصر فبلغ حميد قبرص فانتصر على أهلها.

وفي سنة191 غزا الصائفة هرثمة بن أعين أحد كبار القواد وضم إليه ثلاثين ألفاً من أهل خراسان ومعه مسرور الخادم واليه في النفقات وجميع الأمور ما خلا الرياسة ومضى الرشيد إلى درب الحدث فرتب هنالك عبد اللَّه بن مالك ورتب سعيد بن سلم بن قتيبة بمرعش فأغارت الروم عليها وأصابوا من المسلمين وانصرفوا وسعيد مقيم بها. وبعث محمد بن يزيد بن مزيد إلى طرسوس، فأقام الرشيد بدرب الحدث ثلاثة أيام من شهر رمضان ثم انصرف إلى الرقة.

وعلى الجملة فإن قوة المسلمين كانت في عهد الرشيد ظاهرة ظهوراً بيناً على الروم لما كان يقوم به الرشيد بنفسه من الغزو المتوالي ومعه عظماء القواد وكبار رجال الدولة من عرب وموال وخراسانية.
العلاقة مع أوروبا:

كان في عهد الرشيد شارلمان بن بابن وكان ملكاً على فرنسا واستولى على لمبارديا وقاد طوائف السكسون التي كانت في جرمانيا إلى الدين العيسوي بعد أن كانت وثنية واستولى على المانيا وإيطاليا وكان يرغب أن يكون له اسم كبير في الديار الشرقية لتكون درجته فوق درجة نقفور ملك القسطنطينية وكان يرغب أن يكون حامياً للعيسويين في البلاد الإسلامية وخصوصاً زائري القدس فأرسل إلى بغداد سفراء يستجلبون رضا هارون الرشيد وكان لشارلمان غرض من مصافاة الرشيد فوق ما تقدم وهو إضعاف الدولة الأموية بالأندلس ففاز سفير شارلمان برضا الرشيد فسر بذلك لأنه عده فوزاً على نقفور ولهذا لما قدم سفير الرشيد على شارلمان قابله بمزيد الإكرام واستفاد شارلمان من ذلك التودد فائدتين الأولى تمكنه من حرب الدولة الأموية بالأندلس وتداخله في مساعدة الخارجين عليها والثانية نيله رضا الرشيد.

وقد أراد أيضاً أن يغتنم غنيمة علمية فإن أوروبا في ذلك الوقت كانت مهد جهالة لأنه بانقراض الرومانيين وغلبة الأمم المتبربرة على أوروبا انطفأ مصباح العلم أما الحال في البلاد الإسلامية فكانت على العكس من ذلك علماً وعملاً سواء في ذلك بغداد وقرطبة فسعى شارلمان في إصلاح قوانين دولته مقلداً هارون الرشيد وذهب إلى أوروبا أطباء تعلموا في البلاد الإسلامية وكانوا من اليهود فانتخب منهم شارلمان رجلاً يقال له إسحاق وأرسله إلى الرشيد مصحوباً ببعض الهدايا وبعد أربع سنين عاد إسحاق مع ثلاثة من رجال الرشيد ومعهم هدايا وهي ساعة وراغنون وفيل وبعض أقمشة نفيسة، فلما نظرها رجال شارلمان ظنوها من الأمور السحرية وأوقعتهم في حيرة وهموا بكسر الساعة فمنعهم الامبراطور، وفي ذلك التاريخ اتفقوا على أمور تتعلق بحماية المسيحيين الذين يتوجهون لزيارة القدس.

أما علاقة بغداد بقرطبة فكانت شر علاقة إذ أن الرشيد كان ينظر إلى بني أمية نظر الخارجين على دولته فكان يود محوهم ولكن القوم كانوا أكبر من ذلك وأقوى فقاوموا شارلمان مقاومة عظيمة ولم يتمكن أن يفعل بهم شراً.
أخلاق الرشيد:

كان الرشيد خليفة ديناً محافظاً على التكاليف الشرعية أتم محافظة فأما صلاته فكان يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا إلا أن تعرض له علة. وكان له سمير فكه هو ابن أبي مريم المدني كان الرشيد لا يصبر عنه ولا يمل محادثته.

وأما صدقته فقد كان كل يوم يتصدق من صلب ماله بألف درهم سوى العطايا التي كانت تهطل على الناس منه ولم ير خليفة قبله كان أعطى منه للمال ثم المأمون بعده.

وأما حجه فإنه كان لا يتخلف عنه إلا إذا كان مشغولاً بالغزو فهو في كل عام بين غاز وحاج وقد أقام للناس حجهم تسع مرات في سني حكمه وهي السنوات70و73 و74 و75 و77 و80 و81 و86 و88 بعد المائة وكان إذا حج حج معه من الفقهاء وأبنائهم وإذا لم يحج يحج عنه ثلثمائة رجل بالنفقة السابغة والكسوة الباهرة.

وكان يسمع وعظ الواعظين وهو عند ذلك رقيق القلب سريع الدمعة. دخل عليه ابن السماك الواعظ فقال له: الرشيد عظني، فقال: يا أمير المؤمنين اتق اللَّه وحده لا شريك له واعلم أنك غداً بين يدي اللَّه ربك ثم مصروف إلى إحدى منزلتين لا ثالث لهما جنة أو نار فبكى هارون حتى اخضلت لحيته.

وأما جهاد الرشيد فإنه كان لا يترك الخروج مع جنده بل كان غالباً في مقدمتهم حتى لا يعتاد الراحة ولا يقعده الترف عن القيام بهذا الواجب حتى كان من ضمن مآثره أنه كان يغزو سنة ويحج أخرى.
وفاة الرشيد:

خرج الرشيد من بغداد في خامس شعبان سنة192 قاصداً خراسان عندما بلغه استفحال أمر رافع بن الليث بما وراء النهر واستخلف ابنه محمداً الأمين بمدينة السلام وخرج معه ابنه عبد اللَّه المأمون ولم يزل الرشيد في مسيره حتى وافى مدينة طوس في صفر سنة193 وهناك اشتدت به علته ولحق بربه ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة سنة193 وصلى عليه ابنه صالح لأن المأمون كان قد سبقه إلى مرو حاضرة خراسان ودفن الرشيد بهذه المدينة.

وكان للرشيد اثنا عشر ولداً ذكراً وأربع بنات فذكور أولاده محمد الأمين من زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر وعلي من زوجته أمة العزيز أم ولد موسى الهادي وعبد اللَّه المأمون والقاسم والمؤتمن ومحمد المعتصم وصالح ومحمد أبو عيسى ومحمد أبو يعقوب ومحمد أبو العباس ومحمد أبو سليمان ومحمد أبو علي ومحمد أبو أحمد وهم لأمهات أولاد شتى.

وتزوج الرشيد بست زوجات مات عن أربع منهن وهن زبيدة وأم محمد بنت صالح المسكين والعباسة بنت سليمان بن المنصور والجرشية بنت عبد اللَّه العثمانية.

yacine414
2011-03-17, 17:50
إنتظروا بقية سلسلة التاريخ الإسلامي في الأيام القادمة غن شاء الله.

yacine414
2011-03-18, 14:39
الأمين

ترجمته:

هو محمد الأمين بن هارون الرشيد وأمه زبيدة بنت جعفر بن المنصور فهو هاشمي أباً وأماً ولم يتفق ذلك لغيره من الخلفاء إلا لعلي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه ولابنه الحسن.

ولد سنة170 من الهجرة وولاه أبوه العهد سنة185 وكان قائماً مقام أبيه ببغداد حينما سافر إلى خراسان ولما مات الرشيد بطوس بويع له في عسكر الرشيد بالخلافة ووصل الخبر إلى بغداد فبايعه الخاصة والعامة واستمر في الخلافة إلى أن قتل في25 محرم سنة198 (5 سبتمبر سنة813 فكانت مدته أربع سنوات إلا أربعة أشهر تقريباً.
الحال الداخلية لذلك العهد:

كانت هذه المدة التي وليها الأمين مملوءة بالمشاكل والاضطرابات بين الأخوين الأمين والمأمون وكادت الأمة تذهب بينهما ضياعاً وسبب ذلك ما فعله الرشيد من ولاية العهد لأولاده الثلاثة أحدهم بعد الآخر وقسمته البلاد بينهم ونحن نبين كيف ابتدأت المشاكل وكيف انتهت ونبين آثارها في الأمة:

لما كان الرشيد بطوس جدد البيعة لابنه المأمون على القواد الذين معه وأشهد من معه من القواد وسائر الناس أن جميع من معه من الجند مضمومون إلى المأمون وأن جميع ما معه من مال وسلاح وآلة وغير ذلك للمأمون. ولما علم الأمين وهو ببغداد مرض أبيه وأنه لمآبه أرسل من يفيده الأخبار كل يوم وأرسل كتباً تسلم إلى من أرسلت إليه بعد وفاة الرشيد فلما توفي كان من تلك الكتب كتاب للمأمون يعزيه فيه عن أبيه ويأمره أن يأخذ البيعة على من قبله للأمين بالخلافة وللمأمون بولاية العهد وللقاسم المؤتمن بعده. ومنها كتاب لصالح بن الرشيد وقد كان أكبر ولد الرشيد الذين معه وهو الذي صلى عليه حين مات وقد أمره فيه بالاجتهاد والتشمير وأن يأخذ البيعة على من معه للأمين ثم المأمون ثم المؤتمن على الشريطة التي اشترطها الرشيد وأمره بالمسير إليه مع جميع الجنود والذخائر والسلاح وقال له في الكتاب وإياك أن تنفذ رأياً أو تبرم أمراً إلا برأي شيخك وبقية آبائك الفضل بن الربيع وفيه وإن أمرت لأهل العسكر بعطاء أو أرزاق فليكن الفضل بن الربيع المتولي لإعطائهم على دواوين يتخذها لنفسه بمحضر من أصحاب الدواوين فإن الفضل بن الربيع لم يزل مثل ذلك لمهمات الأمور.

لما قرأ الذين وردت عليهم كتب محمد الأمين بطوس من القواد والجند وأولاد هارون تشاوروا في اللحاق بمحمد فقال الفضل بن الربيع: لا أدع ملكاً حاضراً لآخر لا يدري ما يكون من أمره، وأمر الناس بالرحيل ففعلوا ذلك محبة منهم للحوق بأهلهم ومنازلهم ببغداد وتركوا العهود التي كانت أخذت عليهم للمأمون.

انتهى خبر ذلك إلى المأمون وهو بمرو فجمع من معه من قواد أبيه واستشارهم فأشاروا عليه أن يلحقهم في ألفي فارس تجريدة فيردهم فدخل عليه الفضل بن سهل وهو عنده من أعظم الناس قدراً وأخصهم به فقال له إن فعلت ما أشاروا به عليك جعلت هؤلاء هدية إلى محمد ولكن الرأي أن تكتب إليهم كتاباً وتوجه إليهم رسولاً فتذكرهم البيعة وتسألهم الوفاء وتحذرهم الحنث وما يلزمهم في ذلك في الدين والدنيا فعل ذلك المأمون ووصل الكتاب والقوم بنيسابور قد رحلوا ثلاث مراحل فلم يفد هذا الجواب فائدة وتم الفضل بن الربيع على سيره.

ولما جاء المأمون خبر ذلك كان الفضل بن سهل حاضراً فأزال عنه الانزعاج أمله في الخلافة فجعل أمره إليه وأمره أن يقوم به بعد أن رفضه كبار القواد الذين معه فكان من أول تدبيره أن يبعث إلى من بالحضرة من الفقهاء فيدعوهم إلى الحق والعمل به وإحياء السنة وأن يقعد على اللبود ويرد المظالم ليكون بذلك قريباً من نفوس الجمهور ففعل.

ولم يبدأ المأمون أخاه بشيء يريبه بل تواترت كتبه إليه بالتعظيم والهدايا إليه من طرف خراسان من المتاع والآنية والمسك والدواب والسلاح.

أما الأمر في بغداد فقد كان يدل على شر مستطير فإن الفضل بن الربيع بعد مقدمه العراق ناكثاً للعهود التي كان الرشيد أخذها عليه للمأمون رأى أن الخلافة إن أفضت إلى المأمون يوماً وهو حي لم يبق عليه فحث محمداً على خلفه وأن يولي العهد من بعده ابنه موسى ولم يكن ذلك من رأي محمد ولا عزمه بل كان عزمه الوفاء لأخويه بما أخذ عليه الرشيد لهما من العهود فلم يزل به الفضل حتى أزاله عن رأيه فأول ما بدأ به أن كتب إلى جميع العمال في الأمصار كلها بالدعاء لابنه موسى بالأمرة بعد الدعاء له وللمأمون والقاسم. فلما بلغ ذلك المأمون وبلغه أن الأمين عزل أخاه القاسم عما كان الرشيد ولاه من الأعمال وأقدمه بغداد علم أنه يدبر في خلعه فقطع البريد عنه وأسقط اسمه من الطرار.

كرر الأمين تجربته فكتب إلى العباس بن عبد اللَّه بن مالك وهو عامل المأمون على الري وأمره أن يبعث إليه بغرائب غروس الري مريداً بذلك امتحانه فبعث إليه بما طلب فبلغ ذلك المأمون فعزل العباس عن ولايته.

ثم بعث الأمين إلى المأمون ثلاثة نفر أحدهم العباس بن موسى بن عيسى والغرض من هذا الوفد أن يطلبوا من المأمون رضاه بتقديم موسى بن الأمين على نفسه في ولاية العهد فلما اطلع المأمون على مرادهم رد ذلك وأباه، وعرض الفضل بن سهل على العباس بن موسى أن يكون عوناً لهم ومنوه الأماني إن هو أجاب إلى ذلك فرضي وكان بعد ذلك يكتب إليهم بالأخبار ويشير عليهم بالرأي عاد الوفد إلى الأمين وأخبروه بامتناع المأمون.

لم يخفض ذلك من غلواء الفضل بن الربيع بل ما زال يلح على الأمين حتى رضي أن يخلع المأمون ويبايع لابنه موسى بولاية العهد، ونهى الفضل عن ذكر المأمون والقاسم والدعاء لهما على شيء من المنابر ووجه إلى مكة كتاباً مع رسول من حجبة البيت في أخذ الكتابين اللذين كتبهما هارون وجعلهما بالكعبة فأحضرهما إلى بغداد فمزقا.

وكان الأمين قبل أن يكاشف أخاه بذات نفسه أرسل إليه يسأله أن يتجافى له عن كور من كور خراسان سماها وأن يوجه العمال إليها من قبل محمد وأن يحتمل توجيه رجل من قبله يوليه البريد عليه ليكتب إليه بخبره فكتب إليه جواب ذلك:

بلغني كتاب أمير المؤمنين يسأل التجافي عن مواضع سماها مما أثبته الرشيد في العقد وجعل أمره إليّ وما أمره رآه أمير المؤمنين أحد يجاوز أكثره غير أن الذي جعل إلى الطرف الذي أنا به لا ظنين في النظر لعامته ولا جاهل بما أسند إليّ من أمره ولو لم يكن ذلك مثبتاً بالعهود والمواثيق المأخوذة ثم كنت على الحال التي أنا عليها من إشراف عدو مخوف الشوكة وعامة لا تتألف عن هضمها وأجناد لا يستتبع طاعتها إلا بالأموال وطرف من الأفضال لكان في نظر أمير المؤمنين لعامته وما يحب من أطرافه ما يوجب عليه أن يقسم له كثيراً من عنايته وأن يستصلحه ببذل كثير من ماله فكيف بمسألة ما أوجبه الحق ووكدته مأخوذة العهد؟ وإني لأعلم أن أمير المؤمنين لو علم من الحال ما علمت لم يطلع ما كتب بمسألته إليّ ثم أنا على ثقة من القبول بعد البيان إن شاء الله.

وكان المأمون قد وجه حارسه إلى الحد فلا يجوز رسول من العراق حتى يوجهوه مع ثقات من الأمناء ولا يدعه يستعلم خبراً ولا يؤثر أثراً ولا يستتبع بالرغبة ولا بالرهبة أحداً ولا يبلغ أحداً قولاً ولا كتاباً فحصر أهل خراسان من أن يستمالوا برغبة أو أن تودع صدورهم رهبة ويحملوا على منوال خلاف أو مفارقة ثم وضع على مراصد الطرق ثقات من الحراس لا يجوز عليهم إلا من لا يدخل الظنة في أمره ممن أتى بجواز في مخرجه إلى دار مآبة أو تاجر معروف مأمون في نفسه ودينه ومنع الاشتاتات من جواز السبل والقطع بالمتاجر والوغول في البلدان في هيئة الطارئة والسابلة وفتشت الكتب. هكذا دبر الفضل بن سهل أمر صاحبه فلم يدع للفضل بن الربيع مجالاً لرسله ورواده أن يبثوا شيئاً في عامة أهل خراسان ولما أتت رسل الأمين بجواب كتب الأمين وجدوا جميع ما كانوا يؤملونه ممنوعاً عنهم موصداً بابه دونهم.

لم يكن لهذه المكاتبات بين الأخوين نتيجة لأنه كان لكل منهما سائق يسوقه فللأمين الفضل بن الربيع الذي لم يكن يحب المأمون ولا ولايته وللمأمون الفضل بن سهل الذي كان يأمل الخلافة لصاحبه وأن تكون مرو حاضرة الخلافة العظمى وتعود لخراسان عظمتها.

بلغ المأمون ما أقدم عليه أخوه من خلعه عن ولاية العهد وترك الدعاء له فكان أول ما فعله الفضل ابن سهل من التدبير أن جمع الأجناد التي كان أعدها بجنبات الري مع أجناد قد كان مكنها فيها وأجناد للقيام بأمرهم وأقامهم بالحد لا يتجاوزونه ولا يطلقون يداً بسوء في عامة ولا مجتاز ثم اختار لقيادة الجند طاهر بن عيسى الخزاعي مولاهم فسار طاهر مغذاً لا يلوي على شيء حتى ورد الري فنزلها ووكل بأطرافها ووضع مسالحه وبث عيونه وطلائعه.

أما الفضل بن الربيع فإنه اختار لجند العراق علي بن عيسى بن ماهان وولاه الأمين كور الجبل كلها نهاوند وهمذان وقم وأصبهان وأعطى جنده من الأرزاق شيئاً كثيراً وأمدهم بالسلاح والعدة فشخص من بغداد في منتصف جمادى الآخرة سنة195 وكان معه زهاء أربعين ألفاً وحمل معه قيد فضة ليقيد به المأمون كما شاءت زبيدة أم الأمين وقد خدم الأمين أخاه بهذا التعيين خدمة عظيمة فإن أهل خراسان لم ينسوا ما عاملهم به علي بن عيسى من الفظائع مدة ولايته في عهد الرشيد فكان تعيينه لحربهم مما أثار في قلوبهم الحمية لرد هذا العدو بعد أن أبدلهم اللَّه خيراً منه عدلاً ورفقاً وحسن سياسة وهو عبد اللَّه المأمون.

وبينما كان هذا القائد يسير مدلاً بنفسه وبمن معه مستخفاً بعدوه كان طاهر يدبر أمره مع قواده ويسير سير من يريد مواقعة عدو أكثر منه عدداً وعدة وقد استقر رأيه على أن يجعل مدينة الري وراء ظهره ويقاتل بعيداً عنها فعسكر على خمسة فراسخ منها وأقبل إليه علي بن الحسين وقد عبأ جنده وهم في أكمل عدة وأحسن زي فكتب طاهر كتائبه وكردس كراديسه وسوى صفوفه وجعل يمر بقائد قائد وجماعة جماعة يعظهم ويثبتهم ثم تلاحم الفريقان واقتتلوا قتالاً شديداً فعلت ميمنة علي على ميسرة طاهر ففضتها فضاً منكراً وميسرته على ميمنته فأزالتها عن موضعها فقال طاهر: اجعلوا بأسكم وجدكم على كراديس القلب فإنكم لو قد فضضتم منهم راية واحدة رجعت أوائلها على أواخرها فصبر أصحابه صبراً صادقاً ثم حملوا على أولي رايات القلب فهزموهم وأكثروا فيهم القتل.

وصل هذا الخبر بغداد على غير ما ينتظر القوم فانتخب الأمين جيشاً ثانياً جعله تحت قيادة عبد الرحمن بن خبلة الأنباري وعدة هذا الجيش عشرون ألف رجل من الأبناء وحمل معه الأموال وقواه بالسلاح والخيل وأجازه بجوائز وندب معه فرسان الأبناء وأهل البأس والنجدة والغناء منهم وأوصى قائده بالتحفظ والاحتراس وترك ما عمل به علي بن عيسى من الاغترار والتضجع فسار عبد الرحمن حتى نزل همذان فضبط طرقها وحصن سورها وأبوابها وسد ثلمها وحشر إليها الأسواق والصناع وجمع فيها الآلات والمير واستعد للقاء طاهر ومحاربته. ولما بلغ طاهراً خبره توجه إليه حتى أشرف على همذان فخرج إليه عبد الرحمن فيمن معه على تعبئة فاقتتل الفريقان قتالاً شديداً إلى أن انهزم عبد الرحمن ودخل همذان فلبث فيها حتى قوي أصحابه واندملت جراحهم ثم خرج ثانية إلى اللقاء فلقيه طاهر وفعل به ما فعل في المرة الأولى فعاد إلى همذان فحصره فيها طاهر حتى جهد من قلة المادة فطلب الأمان له ولمن معه فأمنه طاهر.

ولما تم لطاهر هذا النصر طرد عمال محمد من قزوين.

كان ذلك سبباً لارتباك الفضل بن الربيع وشعوره بزوال الدولة فدعا أسد بن يزيد بن مزيد وهو من قواد الدولة المعدودين وقال: له أنت فارس العرب وابن فارسها فزع إليك الأمين في لقاء هذا الرجل وأطمعه فيما قبلك أمران أما أحدهما فصدق طاعتك وفضل نصيحتك والثاني يمن نقيبتك وشدة بأسك وقد أمرني بإزاحة علتك وبسط يدك فيما أحببت غير أن الاقتصاد رأس النصيحة ومفتاح اليمن والبركة فانجز حوائجك وعجل المبادرة إلى عدوك فإني أرجو أن يوليك اللَّه شرف هذا الفتح ويلم بك شعث هذه الخلافة والدولة فلم يمتنع أسد وإنما طلب لجنده مطالب هي أن يؤمر لأصحابه برزق سنة ويخص من لا خاصة له منهم من أهل الغناء والبلاء وأبدل من فيهم من الزمني والضعفاء وأحمل ألف رجل ممن معي على الخيل ولا أسأل عن محاسبة ما افتتحت من المدن والكور فقال له: الفضل قد اشتططت ولا بد من مناظرة أمير المؤمنين ثم ركبا إليه فدخل عليه الفضل أولاً ثم دخل أسد فما كان بينهما إلا كلمتان حتى غضب الأمين وأمر بحبس أسد ثم قال: هل في أهل بيت هذا من يقوم مقامه فإني أكره أن أستفسدهم مع سابقتهم وما تقدم من طاعتهم ونصيحتهم فقالوا: نعم فيهم أحمد بن مزيد وهو أحسنهم طريقة وأصلحهم نية في الطاعة وله مع هذا بأس ونجدة وبصر بسياسة الجنود ولقاء الحروب فاستدعاه محمد وقال له إنه قد كثر عليّ تخليط ابن أخيك وتنكره وطال خلافه عليّ حتى أوحشني ذلك منه وولد في قلبي التهمة له وصيرني بسوء المذهب وحنث الطاعة إلى أن تناولته من الأدب والحبس بما لم أحب أن أكون أتناوله به وقد وصفت لي بخير ونسبت إلى جميل فأحببت أن أرفع قدرك وأعلي منزلتك وأقدمك على أهل بيتك وأن أوليك جهاد هذه الفئة الباغية الناكثة وأعرضك للأجر والثواب في قتالهم ولقائهم فانظر كيف تكون وصحح نيتك وأعن أمير المؤمنين على اصطناعك وسره في عدوه ينعم سرورك وتشريفك. ثم أمر الفضل أن يدفع إليه دفاتر أسد وأن يضم إليه من شهد العسكر من رجال الجزيرة والأعراب، فخرج أحمد فانتخب الرجال واعترض الدفاتر فبلغت عدة من معه عشرين ألف رجل ووجه الأمين عبد اللَّه بن حميد بن قحطبة في عشرين ألفاً أخرى وأمرهما أن ينزلا حلوان ويدفعا طاهراً عنها وتقدم إليهما في اجتماع الكلمة والتواد والتحاب على الطاعة فتوجها حتى نزلا قريباً من حلوان بخانقين.

أما طاهر فإنه أقام بموقعه وخندق عليه وعلى أصحابه ودس العيون والجواسيس إلى عسكر عدوه فكانوا يأتونهم بالأراجيف ولم يزل يحتال في وقوع الخلاف بينهم حتى اختلفوا وانتقض أمرهم وقاتل بعضهم بعضاً فأخلوا خانقين ورجعوا عنها من غير أن يلقوا طاهراً فتقدم طاهر حتى نزل حلوان. ثم لم يلبث إلا قليلاً حتى ورد عليه هرثمة بن أعين أحد قواد المأمون ومعه كتاب من المأمون والفضل بن سهل يأمره فيه بتسليم ما حوى من الكور والمدن إليه ويتوجه إلى الأهواز فسلم ذلك إليه وأقام هرثمة بحلوان فحصنها ووضع مسالحه ومراصده في طرقها وجبالها وتوجه طاهر إلى الأهواز ليكون الهجوم على بغداد من جهتين.

هذه حال الاضطراب في جند الأمين أما جند المأمون فكان على العكس من ذلك كان هادئاً منتظماً لا تزيده الأيام إلاّ قوة. انقسم إلى قوتين قوة مع هرثمة بن أعين تريد بغداد من جادة المشرق وقوة مع طاهر بن الحسين تريد بغداد من جادة الأهواز والبصرة.

ذهب طاهر إلى فارس فاستولى عليها بعد أن أوقع بعاملها محمد بن يزيد المهلبي وقعة شديدة بسوق الأهواز وقتل محمد بن يزيد وكان ترتيب جند طاهر في مسيره وحربه حائزاً الغاية من النظام والاحتراس فضلاً عما حازه من الاسم الكبير الذي يفت في الأعضاد.

أقام بفارس مدة أنفذ فيها العمال إلى الكور وولي على اليمامة والبحرين وعمان مما يلي الأهواز ومما يلي عمل البصرة ثم سار متوجهاً إلى واسط فجعلت المسالح والعمال تتقوض مسلحة مسلحةوعاملاً كلما قرب منهم طاهر تركوا أعمالهم وهربوا عنها حتى قرب من واسط فهرب عنها عاملها قائلاً إنه طاهر ولا عار في الهرب منه دخل طاهر واسطاً ومنها وجه قائداً إلى الكوفة وعليها العباس بن موسى الهادي فبادر إلى خلع الأمين ومبايعة المأمون وأرسل بذلك إلى طاهر فتم له ما بين واسط إلى الكوفة وأنفذ كتب التولية إلى العمال وكذلك بايع المأمون أمير البصرة وهو المنصور بن المهدي وكان ذلك كله في رجب سنة196.

ثم سار طاهر إلى المدائن فاستولى عليها من غير قتال.

فيتلك الأثناء حصل في الحجاز ما زاد المأمون قوة والأمين خذلاناً ذلك أن داود بن عيسى كان عاملاً للأمين على مكة والمدينة فلما بلغه ما فعل الأمين من خلع المأمون وأخذه الكتابين اللذين كانا بجوف الكعبة وتمزيقهما جمع حجبة الكعبة والقرشيين والفقهاء ومن كان شهد على ما في الكتابين من الشهود وكان داود أحدهم فذكرهم بما كان الرشيد أخذ عليهم من العهود أن يكونوا مع المظلوم من ولديه على الظالم وأخبرهم أن محمداً كان الذي قد بدأ بالظلم فخلع أخويه وبايع لابنهالصغير لذلك رأيت خلعه وأن أبايع للمأمون فأجابه إلى ذلك أهل مكة وفي 27 رجب سنة196 نادى داود في البيت الحرام بخلع الأمين وبيعة المأمون ثم كتب إلى ابنه سليمان وهو خليفة على المدينة يأمره أن يفعل بها فعل أهل مكة ففعل. ولما تم ذلك سار داود بنفسه إلى مرو وأعلم المأمون بما تم في الحجاز فسر المأمون جد السرور وتيمن ببركة مكة والمدينة وكتب إلى أهل الحجاز كتباً يعدهم فيها الخير ويبسط أملهم وأقر داود على ولاية الحجاز فعاد مغذاً ليدرك الحج ومر وهو عائد على طاهربن الحسين فوجه معه يزيد بن جرير القسري والياً على اليمن وكان يزيد هذا داعية أهل اليمن إلى بيعة المأمون فأجابوه.

اجتمعت جيوش طاهر وهرثمة حول بغداد وحوصرت من ثلاث جهات فنزل هرثمة نهر بين وأعد المجانيق والعرادات وأنزل عبيد اللَّه بن الوضاح الشماسية ونزل طاهر البستان بباب الأنبار ونزل المسيب بن زهير قصر ورقة كلواذي. وقد نصب المسيب المجانيق والعرادات واحتفر الخنادق وجعل يخرج في الأيام عند اشتغال الجند بحرب طاهر فيرمي بالعرادات من أقبل ومن أدبر ويعشر أموال التجارة ويجبي السفر وبلغ من الناس كل مبلغ.

أحسّ محمد بالضيق ومنعت عنه الأموال فأمر ببيع كل ما في الخزائن من الأمتعة وضرب آنية الذهب والفضة دنانير ودراهم وحملها لأصحابه في نفقاته.

استمرت هذه الشدائد على بغداد وما فيها حتى استنفد الأمين كل وسائل الدفاع أيقن بالعطب إن هو استمر على الممانعة فاستشار من بقي من قواده فأشار عليه بعضهم أن يطلب لنفسه الأمان من هرثمة بن أعين ويسلم له فرضي وكتب إلى هرثمة بذلك فأجابه إليه ولما علم طاهر أبى إلا أن يكون خروجه إليه إذا شاء ولما لم يكن الأمين ميالاً إلى الخروج إلى طاهر اتفق القواد أن يخرج ببدنه إلى هرثمة وأن يدفع إلى طاهر الخاتم والقضيب والبردة ثم علم طاهر أنهم يمكرون به فاستعد للأمر وكمن حول القصر كمناء بالسلاح فلما خرج الأمين كانت حراقة هرثمة تنتظره فركبها ولم تسر بهم إلا قليلاً حتى خرج أصحاب طاهر فرموا الحراقة بالسهام والحجارة فانكفأت الحراقة وغرق هرثمة ومحمد الأمين فأما هرثمة فأدركه أصحابه وأما محمد فسبح في الماء حتى أدركه أصحاب طاهر فأسروه فأمرهم طاهر بقتله فقتل ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم سنة198 وفي الصباح كتب طاهر إلى المأمون يخبره بما تم وبالأسباب التي جعلته يأمر بقتل الأمين. ثم دخل طاهر المدينة فأمن أهلها وهدأ الناس وكان دخوله إليها يوم الجمعة فصلى بالناس وخطبهم خطبة بليغة حضهم فيها على الطاعة ولزوم الجماعة ورغبهم في التمسك بحبل الطاعة وانصرف إلى معسكره.

7- المأمون

ترجمته:

هو عبد اللَّه المأمون بن هارون الرشيد بن محمد المهدي. وأمه أم ولد اسمها مراجل ولد سنة170 في اليوم الذي ولي فيه أبوه الخلافة. وولاه أبوه العهد وسنه13سنة بعد أخيه الأمين وضمه إلى جعفر بن يحيى وولاه خراسان وما يتصل بها إلى همذان ومنحه بمقتضى الشروط التي عقدها استقلالاً يكاد يكون تاماً، ولما توفي أبوه لم يف له أخوه بعهده بل أراد أن يقدم عليه في ولاية العهد ابنه موسى فأبى ذلك المأمون.
الأحوال في المدة الأولى:

لما تم الأمر للمأمون بالعراق على يد القائدين العظيمين طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين كان الذي يدير الأمر بمرو الفضل بن سهل الذي يرى لنفسه الفضل الأكبر في تأسيس دولة المأمون فأراد أن يستفيد من هذه الدولة فيستأثر بنفوذ الكلمة فيها وليس يتم له ذلك والعراق بين يدي طاهر وهرثمة فأصدر أمرين على لسان المأمون أولهما بتولية الحسن بن سهل جميع ما افتتحه طاهر من كور الجبال وفارس والأهواز والبصرة والكوفة والحجاز واليمن. وكتب إلى طاهر أن يسلمه جميع ما بيده من الأعمال وأن يشخص إلى الرقة لمحاربة نصر بن شبث وولاه الموصل والجزيرة والشام والمغرب فلم يسع طاهراً إلا أن يسمع ويطيع فسلم ذلك كله.

والأمر الثاني إلى هرثمة يأمره بالشخوص إلى خراسان فشخص وبذلك خلا العراق من أسديه وأهل العراق من قديم عبيد القوة ولا سيما أنهم خارجون من ثورة وهيجان فكان من اللازم أن تظل تلك الأيدي المرهوبة حتى يستكين الناس ويخضعوا.

ولم يبق المأمون بعد ذلك بخراسان. هل كان الفضل بن سهل يريد أن يحول الخلافة الإسلامية إلى مرو فيجعلها حاضرة البلاد الإسلامية أو رأى أن نفوذه يضعف إذا حل الخليفة بغداد وبها الألسنة التي لا تمل الوشايات فخشي من ذلك على مركزه سواء كان السبب في تخلفه هذا أو ذاك فقد نتج عن هذا التدبير مضار شديدة واضطرابات كادت ترجع ملك المأمون أثراً بعد عين؟

شاع بالعراق بعد خروج طاهر وولاية الحسن بن سهل أن الفضل بن سهل قد غلب على المأمون وأنزله قصراً حجبه فيه عن أهل بيته ووجوه قواده وأنه يبرم الأمور على هواه فغضب لذلك من كان بالعراق من بني هاشم ووجوه الناس وأنفوا من غلبة الفضل على المأمون واستخفوا بالحسن بن سهل وهاجت الفتن في الأمصار وأول فتنة كانت خروج محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي خرج بالكوفة وقام بأمر رجل كبير من رجال هرثمة بن أعين وهو أبو السرايا السري بن منصور الشيباني فاستولى على الكوفة من يد نائب عاملها سليمان بن أبي جعفر المنصور فأرسل إليه الحسن بن سهل جيشاً يقوده زهير بن المسيب عشرة آلاف فهزمه أبو السرايا واستباح عسكره وأخذ ما كان معه من مال وسلاح ودواب وفي غد ذلك اليوم مات محمد بن إبراهيم فجأة وذلك يوم الخميس أول رجب سنة199 فولى أبو السرايا بدله غلاماً أمرد حدثاً وهو محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي وكان أبو السرايا هو الذي ينفذ الأمور ويولي من رأى ويعزل من شاء وإليه الأمور كلها.

أرسل الحسن جيشاً ثانياً بقيادة عبدوس بن محمد بن أبي خالد المروروذي فتوجه إليه أبو السرايا وأوقع به وقعة في17 رجب سنة199 فقتله وأسر أخاه هارون واستباح عسكره وكانوا نحو أربعة آلاف رجل فلم يفلت منهم أحد.

انتشر بعد ذلك الطالبيون في البلاد وضرب أبو السرايا الدراهم بالكوفة ونقش عليها {إن اللَّه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}.

وكان للطالبيين في تلك الفتن أسوأ أثر بمكة والمدينة فإن أبا السرايا كان قد ولي مكة حسين بن حسن بن علي بن الحسين بن علي وكان بها داود بن عيسى بن موسى العباسي والياً فلم يرض القتال في الحرم وخرج عن مكة فدخلها الحسين قبل مغرب يوم عرفة ولما تفرق الحاج من مكة جلس خلف المقام على نمرقة مثنية فأمر بثياب الكعبة التي عليها فجردت حتى لم يبق عليها من كسوتها شيئاً ثم كساها ثوبين من خز رقيق كان أبو السرايا وجه بهما معه مكتوب عليهما أمر به الأصفر بن أبي الأصفر أبو السرايا داعية آل محمد لكسوة بيت اللَّه الحرام وأن يطرح عنه كسوة الظلمة من ولد العباس ليطهر من كسوتهم وكتب سنة199 ثم قسم الكسوة التي كانت على الكعبة بين أصحابه وعمد إلى ما في خزانة الكعبة من مال فأخذه ولم يسمع بوديعة عند أحد لبني العباس وأتباعهم إلا هجم عليه في داره فإن وجد من ذلك شيئاً أخذه وعاقب الرجل وإن لم يجد عنده شيئاً حبسه وعذبه حتى يفتدي نفسه بقدر طوله ويقر عنده الشهود أن ذلك للمسودة من بني العباس وأتباعهم حتى عم ذلك خلقاً كثيراً وكان لهم دار اسمها دار العذاب يعذب فيها الناس حتى هرب منهم خلق كثير من أهل النعم فيتبعوهم بهدم دورهم وجعلوا يحكون الذهب الرقيق الذي في رؤوس أساطين المسجد فيخرج من الأسطوانة بعد التعب الشديد قدر مثقال ذهب أو نحوه حتى عم ذلك أكثر أساطين المسجد الحرام وقلعوا الحديد الذي على شبابيك زمزم وخشب الساج فبيع بالثمن الخسيس.

انتهت هذه الفتن العلوية التي عادت بالضرر على البلاد والعباد والفضل في انتهاء أمرها لهرثمة بن أعين القائد المحنك. ولما فرغ هرثمة من أداء تلك المهمة أراد أن يتوجه إلى المأمون بمرو ليطلعه على حقيقة الحال وما ينكره الناس عليه من استبداد الفضل بن سهل على أمره ولم يكن مما يروق في عين الفضل فأفهم المأمون أن هرثمة قد أفسد البلاد وأنه هو الذي دس إلى أبي السرايا حتى صنع ما صنع ولو شاء أن لا يفعل ذلك أبو السرايا ما فعل لأنه كان من ضمن جنوده. وكان المأمون قد كتب لهرثمة كتاباً من الطريق ليرجع ويلي الشام والحجاز فأبى هرثمة أن يرجع حتى يرى أمير المؤمنين ويبين له حقيقة الحال فكان ذلك مما زاد المأمون وحشة منه. ولما بلغ هرثمة مرو خشي أن يكتم المأمون خبر قدومه فضرب الطبول كي يسمعها المأمون فلما سمعها سأل فقالوا هرثمة جاء يبرق ويرعد وظن هرثمة أن قوله المقبول فأدخل على المأمون وقد أشرب قلبه منه ما أشرب فلم يسمع منه كلمة وأمر به فوجىء عنقه وديس بطنه وسحب بين يديه وقد تقدم الفضل إلى الأعوان بالتغليظ عليه والتشديد فمكث في حبسه أياماً ثم دسوا إليه فقتلوه وقالوا إنه مات. هكذا ذهب القائد العظيم من غير جناية ضحية خبث البطانة.

ومما كان في تلك الآونة أن المأمون اختار لولاية عهده عليّ الرضا بن موسى بن جعفر الصادق وهو الثامن من أئمة الشيعة الإمامية الاثنا عشرية وسماه الرضا من آل محمد وأمر جنده بطرح السواد شعار العباسيين ولبس ثياب الخضرة الذي اختاره شعاراً للدولة الجديدة وكتب بذلك إلى الآفاق ويغلب على الظن أن هذا من عمل الفضل بن سهل لأن الفرس يعجبهم أن يكون إمام المسلمين علوياً وطالما قاتلوا في سبيل رجوع السلطان إلى بني علي وهذه فرصة يأخذون فيها الخلافة من غير حرب ولا قتال وساعد على ذلك ما كان يراه المأمون نفسه من تفضيل عليّ على غيره من الخلفاء الراشدين وأنه كان أحق بالخلافة منهم ولا نرى ذلك جاء المأمون إلا من البيئة التي تربى فيها فإنه كان في أول أمره في حجر جعفر البرمكي ثم انتقل إلى الفضل بن سهل وكلهم ممن يتشيع فاختمرت عنده هذه الفكرة على غير ما كان عليه آباؤه.

بلغ ذلك أهل بغداد فاختلفوا فقال بعضهم نبايع ونلبس الخضرة وقال بعضهم لا نبايع ولا نلبس الخضرة ولا نخرج هذا الأمر من ولد العباس وإنما هذا دسيس من الفضل بن سهل فمكثوا على ذلك أياماً وغضب ولد العباس من ذلك واجتمع بعضهم إلى بعض وتكلموا فيه وقالوا نولي بعضنا ونخلع المأمون واتفقوا أخيراً على مبايعة إبراهيم المهدي عم المأمون بالخلافة وخلعوا المأمون وكان ذلك في أول المحرم سنة202.

بلغت هذه الأحوال المأمون ويقال إن الذي أبلغه إياها عليّ الرضا ولي عهده فإنه أخبره بما فيه الناس من الفتنة والقتال منذ قتل أخوه وبما كان الفضل بن سهل يستر عنه من الأخبار وأن أهل بيته قد نقموا عليه أشياء فبايعوا لإبراهيم بن المهدي بالخلافة فقال له المأمون: إنما بايعوه ليكون أميراً لهم يقوم بأمرهم على ما أخبره به الفضل فأعلمه أن الفضل قد كذبه وغشه وأن الحرب قائمة بين إبراهيم بن المهدي والحسن بن سهل وأن الناس ينقمون عليه مكانه ومكان أخيه ومكاني ومكان بيعتك لي من بعدك وسمى له عدة من القواد يشهدون بما قال فأحضرهم المأمون وسألهم فأخبروه بالخبر على وجهه بعد أن أعطاهم أماناً من الفضل بن سهل وأخبروه بما موّه عليه الفضل في أمر هرثمة وأن هرثمة إنما جاء ناصحاً ليبين له ما يعمل وأنه إن لم يتدارك الأمر خرجت الخلافة منه ومن أهل بيتته وأن الفضل دس إلى هرثمة من قتله وأن طاهر بن الحسين قد أبلى في طاعته ما أبلى حتى إذا وطأ الأمر أخرج من ذلك كله وصير في زاوية من الأرض بالرقة قد حظرت عليه الأموال حتى ضعف أمره فشغب عليه جنده وأنه لو كان على خلافتك ببغداد لضبط الملك ولم يجترأ عليه بمثل ما اجترىء به على الحسن بن سهل وأن الدنيا قد تفتقت من أقطارها وسألوا المأمون الخروج إلى بغداد فإن بني هاشم والموالي والقواد والجنود لو رأوك سكنوا وفاءوا بالطاعة لك.

لما تحقق ذلك المأمون أمر بالرحيل إلى بغداد ولم يسلم هؤلاء القواد من شر الفضل بل عاقبهم بالحبس والطرد فراح عليّ الرضا إلى المأمون وأعلمه بما كان من ضمانه لهم فأعلمه أنه يداري ما هو فيه.

ارتحل المأمون من مرو حتى سرخس وهناك شد قوم على الفضل بن سهل وهو في الحمام فضربوه بسيوفهم حتى مات وذلك في2 شعبان سنة202 فأخذ ضاربوه وهم أربعة من خدم المأمون فلما جيء بهم إليه قالوا أنت أمرتنا بقتله فأمر بهم فضربت أعناقهم. وسوابق العلة تؤكد أن صدورها كان بتدبير المأمون لأنه أحسّ بثقل يد الفضل عليه وبما كان من غشه له وأنه ما دام معه لا يرى من أهل بغداد طاعة فاحتال بهؤلاء الخدم ثم قتلهم وبعث برؤوسهم إلى الحسن بن سهل وعزاه وأخبره أنه صيره مكانه.

رحل المأمون من سرخس يوم عيد الفطر وكان هذا الرحيل سبباً لاختلاف القواد ببغداد على إبراهيم بن المهدي لأن السبب الذي من أجله خلعوا المأمون قد زال فاضطرب أمر إبراهيم ببغداد.

لما صار المأمون بطوس حدثت حادثة أخرى وهي وفاة علي الرضا ويتهمون المأمون بأنه سمه وليس عندنا من البراهين ما يؤكد هذه التهمة لأنه بقدر ما يقربها إرادة المأمون التقرب إلى أهل بغداد والعباسيين بالتخلص منه يبعدها ما كان مغروساً في نفس المأمون من محبة آل أبي طالب وأنه صاهر علياً وأن علياً هو الذي أظهر له حقيقة ما كان يدور بالعراق من الفتن ولا يبعد عندي أنه من فعل بعض البطانة المأمونية ليخففوا عن المأمون اضطراب العباسيين ويخلصوا مما يعتقدونه شراً وهو خروج الخلافة من آل العباس. وهناك كتب المأمون إلى بني العباس والموالي وأهل بغداد يعلمهم موت علي بن موسى.

رحل المأمون من طوس إلى الري وهناك تحبب إلى أهلها بإسقاط ألفي ألف درهم من خراجها. وكان كلما قرب من بغداد زاد الاضطراب على إبراهيم بن المهدي وقام القواد في وجهه حتى كتبوا إلى قائد من قواد الحسن بن سهل يطلبون إليه الحضور ليسلموا إليه بغداد فلم يلبث أن حضر وسلم له جند بغداد المدينة وأعلن خلع إبراهيم بن المهدي والدعوة للمأمون فاختفى إبراهيم ليلة الأربعاء 17ذي الحجة سنة203 فكانت أيامه كلها ببغداد سنة واحدة وأحد عشر شهراً وأثني عشر يوماً.

ما زال المأمون ينتقل من منزلة إلى منزلة حتى وصل النهروان وهناك خرج إليه أهل بيته والقواد ووجوه الناس فسلموا عليه ووافاه طاهر بن الحسين من الرقة لأنه أمره بذلك وفي يوم السبت لأربع عشر بقيت من صفر سنة204 دخل مدينة بغداد في لباسه ولباس أهله الخضرة أقبيتهم وقلانسهم وأعلامهم فلبس ذلك أهل بغداد وبنو هاشم أجمعون. ومكثوا على ذلك ثمانية أيام فتكلم في ذلك بنو هاشم وولده العباس خاصة وقالوا يا أمير المؤمنين تركت لباس آبائك وأهل بيتك ودولتك ولبست الخضرة وكتب إليه في ذلك قواد أهل خراسان وسأله طاهر بن الحسين أن يرجع إلى لبس السواد فلما رأى المأمون طاعة الناس له في لبس الخضرة وكراهتهم لها قعد لهم وعليه ثياب خضر فلما اجتمعوا عنده دعا بسواد فلبسه ودعا بخلعة سواد فألبسها طاهراً ثم دعا بعدة من قواده فألبسهم أقبية وقلانس سوداً فلما خرجوا من عنده وعليهم السواد طرح سائر القواد والجند لبس الخضرة ولبسوا السواد وابتدأ من ذلك الوقت ملك المأمون الحقيقي.
الوزارة في عهد المأمون:

أول وزراء المأمون الفضل بن سهل وهو فارسي الأصل أسلم على يد المأمون سنة190 ويقال إن أباه سهلا أسلم على يد المهدي والذي اختار الفضل للمأمون هو الرشيد بإشارة جعفر بن يحيى فكان مدبر أمره وهو ولي عهده ولما فعل الأمين ما فعل دبر الفضل أمر إرسال الجنود وتدبير ما يلزمهم فأرسل طاهر بن الحسين لمحاربة علي بن عيسى بن ماهان. ولما انتصر طاهر لقب الفضل ذا الرياستين وجعل له علماً على سنان ذي شعبتين وكتب على سيفه من جانب رياسة الحرب ومن الجانب الآخر رياسة التدبير وولاه المأمون في هذه السنة وهي سنة196 على المشرق كله وجعل عمالته ثلاثة آلاف ألف درهم نحو ستين ألف جنيه.

استوزر المأمون بعد وفاة الفضل بن سهل أحمد بن أبي خالد وأصله شامي مولى لبني عامر بن لؤي وكان أبوه كاتباً لعبيد اللَّه كاتب المهدي أحضره المأمون بعد وفاة الفضل بن سهل وقال له إني كنت عزمت ألا أستوزر أحداً بعد ذي الرياستين وقد رأيت أن أستوزرك، فقال: يا أمير المؤمنين اجعل بيني وبين الغاية منزلة يتأملها صديقي فيرجوها لي ولا يقول عدوي قد بلغ الغاية وليس إلا الانحطاط. فاستحسن المأمون كلامه واستوزره.

وكان أحمد هذا من خيار الوزراء يحب أن تخلص قلوب الرعية لإمامه فكان دائم المشورة بما يسر أنفسهم ويسل دفين الأحقاد من صدورهم.

ومن عيوب أحمد بن أبي خالد أنه كان شرهاً يتقرب إليه الناس بالمآكل لينالوا ما عنده من المصالح وكان المأمون يعرف ذلك منه فأجرى عليه كل يوم لمائدته ألف درهم لئلا يشره إلى طعام أحد من بطانته وكان مع هذا يشره إلى طعام الناس وتمتد عينه إلى هدية تأتيه وكان مع هذا أسي اللقاء عابس الوجه يهر في وجوه الخاص والعام غير أن فعله كان أحسن من لقائه وكان من عرف أخلاقه وصبر على مداراته نفعه وأكسبه.

توفي أحمد بن أبي خالد في ذي القعدة سنة211 وصلى عليه المأمون ولما دلي في حفزته ترحم عليه.

استوزر المأمون بعده أحمد بن يوسف كان كاتباً من خيرة الكتاب وأجودهم خطاً حتى قال له المأمون يوماً: يا أحمد لوددت أني أخط مثل خطك وعلى صدقة ألف ألف درهم وكان يجيد الكتابة حتى كان المأمون إذا كان يتولى عمرو بن مسعدة ديوان الرسائل كان يكلف أحمد بن يوسف بكتابة الكتب التي يريد أن تشهر وتذكر وولاه المأمون ديوان السر وبريد خراسان وصدقات البصرة ولما مات أحمد بن أبي خالد استوزره مكانه.

استوزر المأمون بعده القاضي يحيى بن أكثم التميمي كان من جلة العلماء الفقهاء الذين لهم قدم ثابتة في الحديث والفقه والأصول تولى قضاء البصرة وسنه عشرون سنة ثم اتصل بالمأمون وصله به ثمامة بن أشرس العالم المتكلم الذي كان المأمون يثق به كثيراً فلما احتاج المأمون إلى من يوليه الوزارة عرضها على ثمامة فامتنع منها ووصف له يحيى فاستوزره وولاه مع ذلك قاضي القضاة فكان إليه تدبير المملكة والقضاء وقلما اجتمعا في شخص.

العلويون وآثارهم في الدولة:

قدمنا ما كان من المأمون من اختياره لولاية عهده علي الرضا بن موسى الكاظم وهو الثامن من أئمة الشيعة الإمامية الإثني عشرية واتخاذه الشعار الأخضر بدل الأسود وما ترتب على ذلك من الاضطراب في بغداد وقيام أبي السرايا والعلويين الذين قاموا من أجل قيامه في الأمصار الكبرى ثم ما كان من وفاة علي الرضا بطوس وانتهاء فتنة أبي السرايا وسقوط جميع العلويين الذين خرجوا في ذلك الوقت بالبصرة والحجاز واليمن.

ونزع المأمون للشعار الأخضر بعد حلوله ببغداد وعودته إلى شعار أهل بيته وهو السواد. وكان المأمون قد صاهر علياً فزوجه ابنته ثم زوج محمد بن علي المعروف بالجواد وهو الإمام التاسع من أئمة الشيعة ابنته الأخرى ولم يكن من محمد هذا ما يريب المأمون وكان المأمون يعامل الطالبيين معاملة تناسب اعتقاده في فضل أبيهم إلى أن خرج في سنة207 باليمن من آل أبي طالب عبد الرحمن بن أحمد بن عبد اللَّه بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب فوجه إليه المأمون دينار بن عبد اللَّه في جيش كثيف وكتب معه بأمانه فحضر دينار بن عبد اللَّه الموسم وحج ولما فرغ من حجه سار إلى اليمن حتى أتى عبد الرحمن فبعث إليه بأمانه من المأمون فقبل ذلك ودخل ووضع يده في يد دينار فخرج به إلى المأمون فمنع المأمون عند ذلك الطالبيين من الدخول عليه وأمر بأخذهم بلبس السواد.

وبسبب اختلال الأمن في البلاد اليمنية ورسوخ التشيع فيها أراد المأمون أن يختار لولاية تهامتها من يأخذ على أيدي المفسدين فيها فأشار عليه الحسن بن سهل برجل من ولد زياد بن أبي سفيان وهو محمد بن إبراهيم الزيادي فولاه إياها سنة203 فتوجه فحج ثم ذهب إلى اليمن ففتح تهامة واختط مدينة زبيد سنة204 وهي التي صارت حاضرة تهامة. وقد عظم أمر الزيادي بعد ذلك باليمن وصار كملك مستقل إلا أنه كان يخطب لبني العباس ويحمل إليهم الخراج والهدايا وطال ملكه إلى سنة245 ثم صار الملك في أبنائه ثم في مواليهم وموالي مواليهم إلى سنة554 وتعرف هذه الدولة بالدولة الزيادية وهي أول الدول استقلالاً باليمن.

yacine414
2011-03-18, 14:45
إبراهيم بن المهدي:

قدمنا ما كان من بيعة أهل بغداد لإبراهيم بن المهدي إذ كان المأمون بمرو فلما شخص المأمون إلى بغداد وعلم بقدومه القواد الذي كانوا مع إبراهيم تركوه فلما رأى ذلك اختفى وظل مختفياً ببغداد يتنقل من دار إلى دار سنة210 وفي تلك السنة أخذه حارس أسود وهو متنقب مع امرأتين في زي امرأة فأعلم المأمون بخبره فأمر بالاحتفاظ به ثم دخل عليه فقال له: هيه يا إبراهيم فقال: يا أمير المؤمنين ولي الثأر محكم في القصاص والعفو أقرب للتقوى ومن تناوله الاعتزاز بما مد له من أسباب الشقاء أمكن عادية الدهر من نفسه وقد جعلك اللَّه فوق كل ذنب كما جعل كل ذي ذنب دونك فإن تعاقب فبحقك وإن تعف فبفضلك. قال: بل أعفو يا إبراهيم.

فذكر أن المأمون حين أنشده إبراهيم هذه قصيدة قال: أقول ما قال يوسف لإخوته {لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللَّه لكم وهو أرحم الراحمين}.
بابك الخرمي:

بين أذربيجان وأران في شمال بلاد الفرس كورة تدعى البذ يمر بها نهر الرس العظيم بهذه الكورة خرج بابك التي امتدت فتنته زمناً طويلاً في عهد المأمون والمعتصم وكان خروجه سنة221 في عهد المأمون ومنتهاه سنة231 في عهد المعتصم.

أخذ بابك ومن معه في العيث والفساد وإخافة السبل وأول ما عرف ذلك من أمره كان سنة والمأمون بمرو لم يبرحها إلى بغداد فلما شخص المأمون إلى بغداد عين أحد قواده يحيى بن معاذ لحرب بابك فكانت بينهما وقعة لم ينتصف فيها أحدهما من الآخر فاختار المأمون قائداً آخر هو عيسى بن محمد بن أبي خالد فولاه أرمينية وأذربيجان ومحاربة بابك فنكب ثم وجه إليه صدقة بن علي المعروف بزريق وندب للقيام بأمره أحمد بن الجنيد الإسكافي فأسره بابك ثم وجه إليه محمد بن حميد الطوسي فقتله بابك سنة214 بهشتادسر وفض عسكره وقتل جمعاً كثيراً ممن كان معه هكذا كان كلما أرسل لحرب بابك قائداً لم يصنع شيئاً لمكان بابك الحصين وقوته الكبيرة وشدة تأثيره في قلوب الجمهور الذين كانوا معه وقد ذكر في حوادث سنة228 دخول جماعة كثيرة من أهل الجبال من همذان وأصبهان وماسبذان ومهرجان قذق في دين الخرمية وتجمعوا فعسكروا في عمل همذان ذلك أول ولاية المعتصم فوجه إليهم الجنود وكان آخر عسكر وجه إليهم وجهه المعتصم مع إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وعقد له على الجبال فشخص إليهم وفض جموعهم وقتل في عمل همذان ستين ألفاً منهم وهرب سائرهم إلى بلاد الروم فقبلهم ملك الروم أحسنقبول وفرض لهم وزوجهم وصيرهم مقاتلة يستعين بهم في أهم أموره.

وكان من وصية المأمون لأخيه المعتصم حين أدركته المنية والخرمية فاغزهم ذا جزامة وصرامة وجلد واكنفه بالأموال والسلاح والجنود من الفرسان والرجالة فإن طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك واعمل في ذلكعمل مقدم النية فيه راجياً ثواب اللَّه عليه لذلك بذل المعتصم جهده في كسر شوكة بابك لئلا يمتد شر بدعته في البلاد الفارسية فاختار لحربه قائداً تركياً من كبار قواده وهو حيدر بن كلوس الأشروسني المعروف بالأفشين (الأفشين لقب لملوك أشروسنة) وذلك سنة230.

توجه الأفشين حتى أتى برزندفعسكر بها ورم الحصون فيما بين برزند وأردبيل وأنزل قواداً من قواده ببعض الحصون هناك لحراسة القوافل والسابلة وأطلق الأفشين عيونه وجواسيسه لتعرف الأخبار عن بابك. وأول وقعة كانت بينه وبين عسكر بابك بأرشق أحد حصون الأفشين حيث خرج بابك ليقنص مالاً أرسله المعصتم مع أحد قواده فبلغ خبره الأفشين فخرج إليه سراً والتقيا على مقربة من الحصن فأتى جند الأفشين على جميع رجالة بابك وأفلت هو في نفر يسير ودخل موفان ومنها توجه إلى البذ وعاد الأفشين إلى عسكره ببرزند.

استمرت الحروب بين الأفشين وبابك مدة طويلة وكانوا لا يتحاربون إلا إذا انصرم الشتاء لمكان الثلوج الشديدة التي كانت تكسو رؤوس الجبال وتمنع المشاة من التقدم إلى أن كان الربيع سنة221 فسار الأفشين من مكانه يريد مهاجمة البذ وأخذه عنوة فسار محترساً وقد رتب أموره أدق ترتيب لما هو قادم عليه فاستعرت لظى الحرب بين الفريقين واستبسلا كلاهما وانتهى الأمر باقتحام المسلمين البذ واستيلائهم عليها وقد أراد بابك الهرب وشرع فيه فأفسد عليه الأفشين تدبيره وسد عليه المسالك وأوقف عليها جنداً من جيشه وأخيراً قبض عليه وعلى أخيه عبد اللَّه وعاد بهما الأفشين إلى شامرا كما أمره المعتصم ومعهما17رجلاً من أهل بيته ومن البنات والكتاب23 امرأة وكان يوم دخولهم سامرا يوماً مشهوداً ثم قتل بابك وصلب بسامرا وفعل مثل ذلك بأخيه عبد اللَّه ببغداد.

وكان جميع من قتل بابك في عشرين سنة25500 إنسان وغلب كثيراً من القواد الذين ذكرناهم وكان عنده من الأسرى الذين استنقذهم الأفشين7600.
العلم في عهد المأمون :

كان عهد المأمون من أرقى عهود العلم في العصر العباسي وذلك لأمرين الأول أن المأمون نفسه قد اشتغل بالعلم وأمعن فيه حينما كان بمرو فقد جالس كثيراً من العلماء وأخذ عنهم جملة صالحة من العلوم الدينية كالحديث والتفسير والفقه واللغة العربية فكان لذلك محباً للعلم ولازدياد نشره. الثاني ما كان من الأمة نفسها إذ ذاك حيث وجد فيها شوق إلى العلم والبحث وكثرة العلماء في كل مصر من أمصار المسلمين كما سنبينه فتوافق رأي الإمام واستعداد الأمة فكان من وراء ذلك ما نقصه من تقدم حركة العلم ورفعة بغداد.

أما العلوم الدينية فمنها ما يرجع لأصل الدين وهو علم الكلام أو التوحيد ومنها ما يرجع إلى أحكام الأعمال وهي الفقه وأصوله وأدلة تلك الأحكام من القرآن والحديث.


الأحوال الخارجية:

لم يكن بين المسلمين والروم حروب في أول عهد المأمون إلى سنة215 وفيها شخص المأمون بنفسه من مدينة السلام لغزو الروم في المحرم (مارس سنة830 ) واستخلف على المدينة إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وسلك طريق الموصل حتى صار إلى منبج ثم دابق ثم أنطاكية ثم المصيصة ومنها خرج إلى طرسوس وهي الثغر الإسلامي ومن طرسوس دخل إلى بلاد الروم في منتصف جمادى الأولى (يوليه سنة830) ففتح حصن قرة عنوة وأمر بهدمه. ولما تم فتحه اشترى السبي بستة وخمسين ألف دينار ثم خلى سبيلهم وأعطاهم ديناراً ديناراً وكان قبل ذلك الفتح حصناً اسمه ماجدة فمن على أهله ثم أرسل أشتاس إلى حصن سندس فأتاه برأسه ووجه عجيفاً وجعفر الخياط إلى صاحب حصن سنان فسمع وأطاع.

وبعد ذلك شخص إلى الشام وهناك ورد الخبر عليه بأن ملك الروم قتل قوماً من أهل طرسوس والمصيصة عدتهم فيما يقال 6600 فأعاد الكرة على بلاد الروم فنزل على أنطيفوا فخرج أهلها على صلح وصار إلى هرقلة فخرج أهلها على صلح ووجه أخاه إسحاق فافتتح ثلاثين حصناً ووجه يحيى بن أكثم من طوانة فأغار وغنم ورجع إلى العسكر ثم خرج المأمون إلى كيسوم ثم إلى دمشق ومنها خرج إلى مصر في16 الحجة سنة216 ثم عاد منها إلى دمشق سنة217 فدخل أرض الروم ثالث مرة فأناخ على لؤلؤة مائة يوم ثم رحل عنها وخلف عليها عجيفاً فاختدعه أهلها وأسروه فمكث أسيراً في أيديهم ثمانية أيام ثم أخرجوه وسار توفيل إلى لؤلؤة فأحاط بعجيف فصرف المأمون الجنود إليه فارتحل توفيل لموافاتهم وخرج أهل لؤلؤة إلى عجيف بالأمان.

وكاتب ملك الروم المأمون في سفرته هذه وأجابه المأمون على كتابه.


أخلاق المأمون:

أول ما ظهر من حلي المأمون ميله للعفو وكراهته للانتقام فإنه عفا عن جميع من ساعدوا خصومه عليه ولم يهجهم بشيء حتى الفضل بن الربيع الذي أخذ قواده وسلاحه وجنوده وجميع ما أوصى به أبوه له فذهب به إلى الأمين وتركه بمرو مجرداً عن كل ذلك ثم أفسد عليه أخاه وأغراه على خلعه وكان أشد عليه من كل شيء ومع هذا لم يؤاخذه بجرمه ولما دخل على المأمون وأعلنه المأمون بالعفو سأله الرضا فقال المأمون: أجل العفو لا يكون إلا عن رضا وسجد المأمون شكراً للَّه على أن ألهمه نعمة العفو عنه وقال: الحمد للَّه قديماً كنت أسلم عليه فأفرح برده فسبحان الذي ألهمني الصفح عنه فلذلك سجدت قال طاهر بن الحسين: فعجبت لسعة حلمه. وقال زيد بن علي بن الحسين جلس المأمون يوماً للغداء وعلى رأسه سعيد الخطيب وهو يذكر مناقبه ويصف سيرته ومجلسه إذ انهملت عين المأمون فلما سئل عن سبب بكائه قال ما ذلك من حدث ولا لمكروه هممت به لأحد ولكنه جنس من أجناس الشكر للَّه لعظمته وذكر نعمته التي أتمها عليَّ كما أتمها على أبوتي من قبلي.

وكان له في العفو لذة لا يعادلها الذة حتى أنه لما ظفر بعمه إبراهيم عفا عنه مع عظيم جرمه وهذا خلق كاد ينساه التاريخ حتى حازه للمأمون الذي أحس من نفسه بقدرة السلطان فأذهب ذلك عنه الحفيظة.

ومن مزايا المأمون أنه كان في جدله ميالاً إلى الإقناع فكان يناقش من خالفه حتى يبين له الحجة وله في ذلك مجالس مأثورة مشهورة وله في الجدل حجج قوية ناصعة مع سعة الصدر والاحتمال لما يبدر ممن حضره في المناقشة وكان أصحابه ووزراؤه يدلونه على موضع الخطأ مما يريد أن يفعل. أراد مرة أن ينتقص معاوية بن أبي سفيان ويلعنه فقال له يحيى بن أكثم إن العامة لا تحتمل مثل هذا لا سيما أهل خراسان ولا تأمن أن يكون لهم نفرة وإن كانت لم تدر ما عاقبتها والرأي أن تدع الناس على ما هم عليه ولا تظهر لهم أنك تميل إلى فرقة من الفرق فإن ذلك أصلح في السياسة وأحرى في التدبير فاتبع المأمون نصيحته وطوى الكتاب الذي كان قد أنشىء في هذا المعنى فلم يقرأ على العامة ولكنه بقي في دفاترهم مسجلاً.

كان المأمون مع حلمه يعلم ما عليه رؤساء جنده ورجال دولته فلم يكن بالمغفل الذي ينخدع برياء الناس ونفاقهم وظهورهم بما ليس من شيمهم قال يوماً وفي مجلسه جماعة: ما في عسكرنا من يطلب ما عندنا بالرياء فقال كل واحد بما عنده إما أن يقول في عدو يقدح فيه أو يقول بما يعلم أنه يسر خليفته فلما قالوا ذلك، قال: ما أرى عند أحد منكم ما يبلغ إرادتي ثم أنشأ يحدث عن أهل عسكره أهل الرياء حتى لو كان قد أقام في زحل كل واحد منهم حولاً ما زاد على معرفته.

قعد مرة للمظالم فقدم إليه أصحاب الحاجات فقضى ما شاء من حاجاتهم وكان فيهم نصراني من أهل كسكر كان قد صاح بالمأمون غير مرة وقعد له في طريقه فلما بصر به المأمون أثبته معرفة فأمر سلما صاحب الحوائج أن يبطحه ويضربه عشرين درة وقال لسلم: قل له لا يعود يصيح بي فقال له سلم ذلك وهو مبطوح فقال الرجل: أعود وأعود وأعود حتى تنظر في حاجتي فأبلغه سلم ذلك فقال: هذا مظلوم موطن نفسه على القتل أو قضاء حاجته ثم قال لأبي عياد: اقض حاجة هذا كائنة ما كانت الساعة فلا أدري مم يعجب الإنسان أمن ملاحظة المأمون وعرفان الرجل لأنه هو الذي صاح به مرة أو مرتين أم من تأميل الرجل فيه بعد أن أمر بضربه أم من رجوع المأمون عن خطأه فيما صنع وأمره بقضاء حاجة الرجل كائنة ما كانت.

وكان مع هذه الأخلاق أديباً يعرف جيد الشعر ورديئه ويثيب على ما أعجبه منه ثواباً فوق كل أمل.

أما كرمه فمما سارت به الأمثال فقد أربى على جميع خلفاء بني العباس حتى على أبيه الذي كان يعطي عطاء من لا يخاف فقراً ولا يخشى إقلالاً وحكايات المأمون في العطاء كثيرة فلا نطيل بذكرها إلا أنا نذكر حادثة تدل علىء مقدار الترف في القوم وسعة اليد وكثرة البذل.

بنى المأمون سنة120 ببوران بنت الحسن بن سهل في فم الصلح واحتفل أوبها بأمرها وعمل من الولائم والأفراح ما لم يعهد مثله في مصر من الأمصار وانتهى أمره إلى أن نثر على الهاشميين والقواد والكتاب والوجوه بنادق مسك فيها رقاع بأسماء ضياع وأسماء جوار وصفات دواب وغير ذلك فكانت البندقة إذا وقعت في يد الرجل فتحها وقرأ ما فيها ثم يمضي إلى الوكيل المرصد لذلك فيدفعها إليه ويتسلم ما فيها ثم نثر بعد ذلك على سائر الناس الدنانير والدراهم ونوافج المسك وبيض العنبر وأنفق على المأمون وقواده وجميع أصحابه وسائر من كان معه من أجناده وأتباعه حتى على الجمالين والمكارية والملاحين وكل من ضمه عسكره فلم يكن في العسكر من يشتري شيئاً لنفسه ولا لدوابه تسعة عشر يوماً وكان مبلغ النفقة عليهم خمسين ألف ألف درهم وأمر المأمون له عند انصرافه بعشرة آلاف ألف درهم وأقطعه فم الصلح وأطلق له خراج فارس، وكرر الأهواز مدة سنة. وهذا سرف عظيم سهل أمره الوارد الكثير.
وفاة المأمون:

بينما كان المأمون ببلاد الروم في آخر غزواته وهو بالبدندون شمالي طرطوس أصابته حمى لم تمهله كثيراً وفي 18 رجب سنة218 أدركته منيته فحمل إلى طرطوس ودفن بها وكانت سنه إذ توفى 48 سنة.

yacine414
2011-03-18, 14:47
عهد المأمون وهو مريض إلى أخيه أبي إسحاق بن الرشيد ولم يخطىء خطأ من قبله بالعهد إلى اثنين وأوصاه بوصية مأثوره تقدم منها أشياء ومما جاء فيها واعمل في الخلافة إذا طوقكها اللَّه عمل المريد للَّه الخائف من عقابه وعذابه ولا تغتر بالله ومهلته فكأن قد نزل بك الموت ولا تغفل أمر الرعية الرعية الرعية العوام العوام فإن الملك بهم وبتعهدك المسلمين والمنفعة لهم اللَّه اللَّه فيهم وفي غيرهم من المسلمين ولا ينهين إليك أمر فيه صلاح للمسلمين ومنفعة لهم إلا قدمته وآثرته على غيره من هواك وخذ من أقويائهم لضعفائهم ولا تحمل عليهم في شيء وأنصف بعضهم من بعض بالحق بينهم وقربهم وتأنهم وعجل الرحلة عني والقدوم إلى دار ملكك بالعراق وانظر هؤلاء القوم الذين أنت بساحتهم فلا تغفل عنهم في كل وقت .

8- المعتصم

ترجمته:

هو أبو إسحاق محمد بن الرشيد بن المهدي بن المنصور وأمه أم ولد اسمها ماردة ولد سنة179 فبينه وبين أخيه المأمون تسع سنوات وكان في عهد أخيه المأمون والياً على الشام ومصر وكان المأمون يميل إليه لشجاعته فولاه عهده وترك ابنه وفي اليوم الذي توفي فيه المأمون ببلاد الروم بويع له بالخلافة ولقب بالمعتصم باللَّه في19 رجب سنة218 (10 أغسطس سنة833 ولم يزل خليفة إلى أن توفي بمدينة سامرا في 18 ربيع الأول سنة227(4 فبراير سنة842 فكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام.
الأحوال في عهد المعتصم:

بعد أن تمت البيعة للمعتصم ببلاد الروم عاد بالعسكر قاصداً بغداد بعد أن أمر بهدم ما كان المأمون أمر ببنائه بطوانة وحمل ما كان بها من السلاح والآلة وغير ذلك مما قدر على حمله وأحرق ما لم يقدر على حمله وأمر بصرف من كان المأمون أسكنه ذلك من الناس إلى بلادهم. وكان دخول المعتصم بغداد يوم السبت مستهل رمضان سنة218.
وزراء المعتصم:

الفضل بن مروان بن ماسرخس. كان رجلاً نصرانياً من أهل البردان وكان متصلاً برجل من العمال يكتب له وكان حسن الخط ثم صار مع كاتب كان للمعتصم قبل أن يستخلف وهذا الكاتب هو يحيى الجرمقاني فلما مات يحيى صير الفضل في موضعه ولم يزل كذلك حتى بلغ المعتصم الحال التي بلغها والفضل كاتبه.

واستوزر محمد بن عبد الملك بن أبان بن حمزة المعروف بابن الزيات كان جده أبان رجلاً قروياً من الدسكرة يجلب الزيت من موضعه إلى بغداد فعرف محمد به.

وكان محمد بن عبد الملك مع علمه وأدبه ومعرفته بخدمة الملوك شاعراً ظريفاً.
العلويون في عهد المعتصم:

لأول عهده توفي محمد الجواد بن علي الرضا تاسع أئمة الشيعة الإمامية الاثنى عشرية وكانت وفاته سنة220 وسنة25 سنة وكانت تحته أم الفضل بنت المأمون فحملت إلى قصر عمها المعتصم فتولى الإمامة بعده ابنه أبو الحسن علي الهادي وكانت سنه حين مات أبوه سبع سنين.

وخرج على المعتصم من الزيدية محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي. كان مقيماً بالكوفة ثم خرج منها إلى الطالقان من خراسان يدعو الرضا من آل محمد صلى اللَّه عليه وسلم فاجتمع إليه بها ناس كثير فاهتم بأمره عبد اللَّه بن طاهر أمير خراسان وبعث له البعوث فكان بين الفريقين وقعات بناحية الطالقان وجبالها فهزم هو وأصحابه فخرج هارباً يريد بعض كور خراسان كان أهله كاتبوه فلما وصل إلى نسا دل عليه فأخذه عاملها واستوثق منه وبعث به إلى عبد اللَّه بن طاهر فأرسل به إلى المعتصم فحبس بسامرا سنة219 فأقام فيه حتى كانت ليلة الفطر واشتغل الناس بالعيد والتهنئة احتال للخروج بواسطة رجال من شيعته فهرب ولم يعرف له خبر.
العلاقات الخارجية:

قدمنا أن الذي كان يعاصر المعتصم من ملوك الروم توفيل بن ميخائيل وكان ينتهز الفرص لينتقم من المسلمين الذين دوخوه وألزموه أن يدفع الفدية قهراً فحدث أنه لما كان الأفشين يحارب بابك وقد ضيق عليه أن كتب بابك إلى ملك الروم يقول: إن ملك العرب قد وجه معظم عساكره إليّ ولم يبق على بابه أحد فإن أردت الخروج إليه فليس في وجهك أحد يمنعك وكان يطمع أن ملك الروم إذا تحرك ينكشف عنه بعض ما هو فيه فلم يلبث توفيل أن خرج في مائة ألف مقاتل حتى أتى زبطرة ومعه جمع من المحمرة الذين أجلاهم إسحاق بن إبراهيم عن الجبال كما ذكرنا ذلك في حروب البابكية فلما دخل زبطرة قتل من فيها من الرجال وسبى النساء والذرية وأحرق المدينة ومضى من فوره إلى ملطية فأغار على أهلها وعلى أهل حصن من حصون المسلمين وسبى من المسلمات فيما قيل أكثر من ألف امرأة ومثل بمن صار في يده من المسلمين وسمل أعينهم وقطع آذانهم وآنافهم. بلغت ذلك الأخبار المعتصم بسامرا فاشتد عليه وصاح في قصره النفير ثم ركب دابته وسمط خلفه شكالاً وسكة حديد وحقيبة فلم يستقم له الخروج إلا بعد التعبئة ولكنه أرسل مقدمته لتكون مدداً لأهل زبطرة فلما شارفتها وجدت ملك الروم قد رحل عنها فوقفوا قليلاً حتى تراجع الناس إلى قراهم واطمأنوا.
فتح عمورية:

فلما انتهى أمر بابك سأل المعتصم أي بلاد الروم امنع وأحصن فقيل عمورية وهي مسقط رأس توفيل كما أن زبطرة مسقط رأس المعتصم ولم تكن غزيت قبل ذلك فتجهز المعتصم جهازاً لم يتجهزه خليفة قبله من السلاح والعدد والآلة وحياض الأدم والبغال والروايا والقرب وآلة الحديد والنفط وكانت التعبئة هكذا على المقدمة أشناس ويتلوه عمد بن إبراهيم المصعبي وعلى الميمنة إيتاخ وعلى الميسرة جعفر بن دينار بن عبد اللَّه الخياط وأمر الأفشين أن يمضي فيدخل بلاد الروم من درب الحدث وسمى له يوماً أمره أن يكون وصوله فيه إلى أنقرة وقدر هذا اليوم بنفسه لأشناس الذي أمره أن يكون دخوله من درب طرسوس. ولما وصل أشناس إلى مرج الأسقف ورد عليه كتاب من المعتصم يأمره بالتوقف لأنه بلغه عن ملك الروم أنه على نهر اللامس ويريد العبور ليكبس أشناس وجنده فأقام بالمرج ثالاثة أيام ثم علم بواسطة الجواسيس أن ملك الروم ارتحل عن نهر اللامس يريد مقابلة الأفشين فأرسل بخبر ذلك إلى المعتصم فبعث الأدلاء مسرعين يخبرون الأفشين بذلك وأمره أن يقف مكانه حذراً من مواقعة ملك الروم قبل أن تجتمع الجيوش فلم تصل هذه الأدلاء إلى الأفشين فتم على مسيره حتى التقى بملك الروم فكانت بينهما موقعة هائلة كانت على الأفشين أول النهار ثم أعاد الكرة في الفرسان فغلب ملك الروم وهزمه هزيمة منكرة وتفرقت عنه الجنود. أما عسكر أشناس والمعتصم فإنهما وردوا أنقرة من غير أن يلقيا حبرباً لتفرق الجمود التي كان الملك قد جعلها لمحاربة المعتصم ثم ورد الأفشين بعد مقدمهما بيوم أنقرة.

وحينئذ قسم المعتصم الجيش ثلاثة أقسام قسم فيه أشناس في الميسرة وقسم فيه المعتصم وهو القلب وقسم فيه الأفشين وهو الميمنة وبين كل قسم فرسخان فسارت هذه الأقسام على تعبئة وسارت هذه الأقسام حتى بلغت عمورية وبينها وبين أنقرة سبع مراحل كان أول من وردها أشناس فدار حولها دورة ثم نزل على ميلين منها وجاء بعده المعتصم فدار حولها دورة ثم جاء الأفشين فكذلك تحصن أهل عمورية وتحرزوا فحصرها الجيش المعتصمي وكان لكل واحد من القواد أبراج على قدر أصحابه قلة وكثرة ونصبت المجانيق فضربه بها الأسوار لإتلافها حتى سقط منها جانب في ناحية المعتصم بعد معاناة شديدة وعمال جسام ثم حصل القتال في ناحية هذه الثلمة بعد أن ردمت الخنادق ولم يزل القتال مستمراً حتى اقتحم المسلمون عمورية عنوة وغنموا مغانم كثيرة. وانتقم المعتصم من الروم بما فعلوه في زبطرة وملطية وبعد انتهاء الواقعة عاد المعتصم إلى طرسوس وكانت إناخته على عمورية في 6رمضان سنة223 وقفل عنها بعد55 يوماً.

ومن غريب الأمور وأكبر الجرائم أن العباس بن المأمون اتفق مع بعض قواد المعتصم من الأتراك على أن يغتالوا المعتصم ويقيموه خليفة مقامه، تآمروا على ذلك وهم في وجه العدو والعهد قريب باصطناع المعتصم لهم وإغداق النعم عليهم فلم يتم لهم غرض واطلع المعتصم على سر مؤامرتهم فأخذ جميع أولئك القواد وقتلهم وحبس العباس حتى مات من شدة الأذى وكان الذي تولى كلّ ذلك عجيب بن عنبسة.

ولما ورد المعتصم سامرا كان دخوله إليها يوماً مشهوداً وامتدحه أبو تمام حبيب بن أوس بقصيدته المشهورة التي أولها

السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب


صفات المعتصم:

كانت أظهر صفات المعتصم الشجاعة والإقدام وشدة البأس وكان يحب العمارة ويقول إن فيها أموراً محمودة فأولها عمران الأرض التي يحياها العالم وعليها يزكو الخراج وتكثر الأموال ويعيش البهائم وترخص الأسعار ويكثر الكسب ويتسع المعاش وكان يقول لوزيره محمد بن عبد الملك إذا وجدت موضعاً متى أنفقت فيه عشرة دراهم جاءني بعد سنة عشر درهم فلا تؤامرني فيه. ولم يكن للمعتصم نفوذ في العلم كأخيه المأمون ولا كأبيه الرشيد وإنما كان همه الجيش وتحسينه.

ومن آثاره اختطاط مدينة سامرا.
وفاة المعتصم:

احتجم المعتصم في أول يوم من المحرم سنة227 فأصيب عقب ذلك بعلته التي قضت عليه يوم الخميس لثماني ليال مضت من شهر ربيع الأول من تلك السنة ورثاه محمد بن عبد الملك الزيات فقال:

قد قلت إذ غيبوك واصطفقت عليك أيــد بالتراب والطين

إذهب فنعم الحفيظ كنـت على الدنيا ونعم الظهير للدين

لا جبر اللَّه أمــة فقدت مثلك إلا بمثل هـــارون

yacine414
2011-03-18, 14:49
- الواثق

ترجمته:

هو أبو جعفر هارون الواثق باللَّه بن المعتصم بن الرشيد وأمه ولد رومية اسمها قراطيس ولد سنة186 بطريق مكة وبويع بالخلافة عقب وفاة والده في يوم الخميس8 ربيع الأول سنة227(5 يناير سنة 842 ولم يزل خليفة إلى أن توفي لست بقين من ذي الحجة سنة 232 (أغسطس سنة 847 فكانت مدته خمس سنين وتسعة أشهر و15يوماً وسنه36 سنة.
وزراء الواثق:

لم يستوزر الواثق غير محمد بن عبد الملك الزيات وزير أبيه وكان الواثق متغيراً عليه في حياة أبيه حتى حلف أنه لينكبه إذا صار خليفة لكنه لما استخلف غلب عقله على هواه لأنه لم يجد بين رجاله من يقوم مقام محمد بن عبد الملك فكفر عن يمينه وصار هذا الوزير في عهده صاحب الأمر والنهي أكثر مما كان في عهد أبيه.
الجيش:

كانت حال الجيش لعهد الواثق كما كانت في حياة أبيه إلا أن قدم المماليك التي اصطنعهم المعتصم قد توطدت وصار رؤساء الأتراك أصحاب نفوذ عظيم ولا سيما أشناس الذي توجه الواثق وألبسه وشاحين بالجوهر في شهر رمضان سنة228 وقد قام قواد الأتراك بأعظم الأعمال الحربية حتى في جزيرة العرب نفسها التي كانت حمى ما يستطاع أن تتعدى حدوده.
الفداء بين المسلمين والروم:

كانت الحروب دائمة الاتصال بين المسلمين والروم ولم تقدر إحدى الدولتين أن تتغلب على الأخرى وكثيراً ما يكون في يد إحدى الدولتين أسرى من الأخرى ولما كان يهم كلتا الدولتين أن تخلص أسراها حذراً من الاسترقاق كانتا تتفقان على المفاداة كل أسير بمثله وأول فداء حصل كان في عهد الرشيد على نهر اللامس قريباً من طرطوس فودي فيه بثلاثة آلاف وسبعمائة أسير من المسلمين على يد القاسم بن الرشيد وحصل فداء مثله في عهده أيضاً فودي بألفين وخمسين.

وقد كان الفداء الثالث في عهد الواثق سنة231 أرسل ملك الروم إلى الواثق رسلاً يسألونه أن يفادي بمن في يده من أسارى المسلمين فأجاب وانتدب للفداء خاقان الخادم بعد أن أعد من أسرى الروم عدداً كبيراً وقد تقابل الفريقان في يوم عاشوراء سنة231 على نهر اللامس وكان عدد من فودي به من المسلمين4600 منهم نساء وصبيان ومنهم من أهل الذمة نحو500 فوقع الفداء كل نفس عن نفس صغيراً أو كبيراً وقد عقد المسلمون جسراً على النهروعقد الروم جسراً فكان المسلمون يرسلون الرومي على جسرهم ويرسل الروم المسلم على جسرهم وقد أعطى خاقان الروم ممن كان فضل في يده نفس ليكون له عليهم الفضل استظهاراً.
صفات الواثق:

كان الواثق كثير الأكل والشرب واسع المعروف متعطفاً على أهل بيته متفقداً لرعيته وكان محباً للنظر مكرماً لأهله مبغضاً للتقليد وأهله محباً للإشراف على علوم الناس وآرائهم ممن تقدم وتأخر من الفلاسفة والمتطببين وكان له مجلس نظر عقده للنظر بين الفقهاء والمتكلمين في أنواع العلوم من العقليات والسمعيات في جميع الفروع فكانت سيرته في ذلك سيرة عمه المأمون ومن أجل ذلك أخذت مسألة خلق القرآن في عهده شكلاً حاداً أكثر مما كانت في عهد أبيه المعتصم لأن المعتصم كان يتكلف ذلك لمكان وصية أخيه.

yacine414
2011-03-18, 14:51
أصيب الواثق بعلة الاستسقاء وكانت سبب وفاته في6 ذي الحجة232 وسنه36 سنة وبموته مضى على الدولة العباسية قرن كامل. ولم يعهد الواثق لأحد من بعده بالخلافة فخلافته من بعده بدء شكل جديد لم تكن له سابقة في الدولة العباسية وقد ختم هذا القرن بانتهاء الخلفاء العسكريين الذين كانوا يقودون الجيوش بأنفسهم ويخوضون غمرات الموت ولا يستسلمون لداعي الترف المضني.

10- المتوكل

ترجمته:

هو جعفر المتوكل على اللَّه بن المعتصم بن الرشيد وأمه أم ولد خوارزمية يقال لها شجاع. ولد في شوال سنة206 بفم الصلح ولم يكن بالمرضي عنه في حياة أخيه حتى كان الواثق قد وكل به رجلين هما عمر بن فرج الرخجي ومحمد بن العلاء الخادم فكانا يحفظانه ويكتبان بأخباره في كل وقت وقد جر عليه ذلك انحراف الوزير محمد بن عبد الملك الزيات.
وزراء الدولة:

كان الوزير الأول لأول عهد المتوكل هو محمد بن عبد الملك الزيات الذي كان وزيراً لأخيه وأبيه إلا أن المتوكل كان منحرفاً عنه لما كان يفعله معه في حياة أخيه من قبح المقابلة وعدم الرعاية وزاد على ذلك أنه أشار بتولية محمد بن الواثق فكانت شهوة الانتقام متمكنة منه ففي سابع صفر سنة أمر فقبض عليه وصادر جميع ماله من عقار ومنقول وكذلك ضياع أهل بيته حيث كانت. أم ما ناله من المكروه في نفسه فهو أعظم من أن يسطر ولم يزل ذلك حتى مات تحت العذاب.

ولم يمض على ذلك خمسة أشهر حتى أمر المتوكل بالقبض على عمر بن فرج الرخجي وهو الكاتب الذي رمى بصك المتوكل في صحن المسجد أيام خلافة الواثق فقبض عليه وصودرت أملاكه وكان مقدار ما أخذ منه ومن أخيه محمد بن فرج274000 دينار،15000 درهم سوى القصر والأمتعة والضياع وقد حمل متاعه وفرشه على خمسين جملاً كرت مراراً ثم صالحوه بعد ذلك على أن يدفع 10000000 درهم على أن ترد عليه ضياعه بالأهواز فقط فردت عليه وأطلق من عقاله.

استكتب المتوكل بعد ابن عبد الملك أبا الوزير أحمد بن خالد الذي كان في حياة الواثق زماماً على عمر بن فرج الرخجي في ديوان النفقات ولما استكتبه لم يسمه باسم الوزير واستمر كاتباً له زمناً قليلاً فإنه في ذي الحجة من سنة233 غضب عليه وأمر بمحاسبته.

وبعد أبي الوزير استوزر محمد الفضل الجرجرائي منسوب إلى جرجرايا وهي بلد من أعمال النهروان الأسفل بين واسط وبغداد من الجانب الشرقي وكان الجرجرائي من أهل الفضل والأدب والشعر.

اختار بعده لوزارته عبد اللَّه بن يحيى خاقان وبقي وزيراً للمتوكل إلى أن مات وكان حسن الحظ له معرفة بالحساب والاستيفاء.
العلويون:

امتاز المتوكل عن سائر أهل بيته بكراهة علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه وأهل بيته وهذا ما يعرف في العقائد بالنصب وهو ضد التشيع وكان يقصد من يبلغه عنه أنه يتولى علياً وأهله بأخذ بالمال والدم وكان فيما يقال يبغض ممن تقدمه من الخلفاء المأمون والمعتصم والواثق لمحبة علي وأهل بيته وكان ينادمه ويجالسه جماعة اشتهروا بالنصب وبغض علي فكانوا يخوفونه من العلويين ويشيرون عليه بإبعادهم والإعراض عنهم والإساءة إليهم ثم حسنوا الوقيعة في أسلافهم الذين يعتقد الناس علو منزلتهم في الدين. ومن آثار تلك الكراهة أنه أمر في سنة237 بهدم قبر الحسين بن علي بكربلاء وهدم ما حوله من المنازل والدور وأن يحرث ويبذر ويسقى موضع قبره وأن يمنع الناس من إتيانه فذكر أن عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثنا به إلى المطبق فهرب الناس وامتنعوا من المصير إليه وحرث ذلك الموضع وزرع ما حواليه.
الجيش:

كان الجيش على العهد الذي كان عليه في مدة الواثق والمعتصم وكلما قدم العهد زاد الأتراك نفوذاً وقوة وقد أحس المتوكل بتوغل الأتراك في الدولة واستبدادهم بأمور الخلافة وإدارتها وجيشها فأحب أن يضعف شوكتهم ويقلل من نفوذهم فبدأ بإيتاخ الذي كان على الجيش والمغاربة والأتراك والموالي والبريد والحجابة ودار الخلافة وأراد المتوكل الإيقاع به ليتخلص من هذا السلطان الواسع فرأى أن ذلك لا يمكنه معه وهو بسامرا بين قومه وجنده فدس إليه من أشار عليه بالاستئذان في الحج ففعل فأذن له المتوكل وصيره أمير كل بلد يدخله وخلع عليه وركب معه جميع القواد وخرج معه من الشاكرية والقواد والغلمان سوى غلمانه وحشمه بشر كثير فلما حج وانصرف إلى العراق وجه إليه المتوكل بكسوة وألطاف وأمر الرسول أن يلقاه بالكوفة أو ببعض الطريق وتقدم إلى عامله على شرطة بغداد وهو إسحاق بن إبراهيم المصعبي يأمره فيه. فلما وصل بغداد قال له إسحاق بن إبراهيم: إن أمير المؤمنين أراد أن تدخل بغداد وأن يلقاك بنو هاشم ووجوه الناس وأن تقعد لهم في دار خزيمة بن خازم فتأمر لهم بجوائز. فلما صار إيتاخ بالقرب من دار خزيمة حجز عنه غلمانه ودخل الدار وحده فكان فيها سجنه ثم نقل إلى منزل إسحاق فأدخل ناحيةمنه وقيد وأثقل بالحديد في عنقه ورجليه ثم قدم بإبنيه منصور ومظفر وبكاتبيه سليمان بن وهب وقدامة بن زياد فحبسوا وكانت الشدة التي عومل بها إيتاخ سبباً لوفاته فمات سنة235 وأما ابناه فبقيا في الحبس حياة المتوكل ثم أطلقهما المستعين بعده.
الدولة اليعفرية:

في آخر عهد المتوكل ابتدأت الدولة اليعفرية بصنعاء وكان جدهم عبد الرحيم بن إبراهيم الحوالي نائباً عن جعفر بن سليمان بن علي الهاشمي الذي كان والياً للمعتصم على نجد اليمن وصنعاء وما إليها ولما توفي عبد الرحيم قام في الولاية مقامه ابنه يعفر بن عبد الرحيم وهو رأس الدولة ومبدأ استقلالها إلا أنه كان يهاب آلزياد ويدفع لهم خراجاً يحمل إلى زبيد كأنه عامل لهم ونائب عنهم وكان ابتداء استقلال يعفر بن عبد الرحيم سنة247 واستمر ملك صنعاء في أعقابه إلى سنة387 وهذه أسماء ملوكهم

(1) يعفر بن عبد الرحيم (247- 259)

(2) محمد بن يعفر (259- 279)

(3) عبد القادر أحمد بن يعفر (279- 279)

(4) إبراهيم بن محمد (279-285)

(5) أسعد بن إبراهيم (285- 288)

فترة لأئمة صنعاء والقرامطة(288-303)

(6) أسعد بن إبراهيم مرة ثانية (303-332)

(7) محمد بن إبراهيم (332-3352)

(8) عبد اللَّه بن قحطان 352-387)
العلاقات الخارجية:

كانت الحروب بين المسلمين وبين الروم لا تزال دائمة الاتصاب براً وبحراً لا تنقطع إلا لهدنة وقتية.

ففي سنة238 أغارالروم على مصر من جهة دمياط وكان أمير مصر قد أمر حاميتها أن يحضروا إليه بالفسطاط ليتجمل بهم فلما جاءها الروم بمراكبهم لم يجدوا بها حامية وكانوا في نحو300 مركب فدخلوا البلد وعاثوا فيه وأحرقوا دوره والمسجد الجامع وسبوا كثيراً من نساء المسلمين وأهل الذمة وأخذوا ما وصلت إليه أيديهم من المغانم ثم عادوا إلى بلادهم لم يكلم أحد منهم كلما. وكان المسلمون يفعلون مثل ذلك في صوائفهم من جهة الدروب التي تلاصق المملكة الإسلامية من الجهة الشمالية وفي بحر الروم.

وفي سنة241 كان الفداء الرابع بين المسلمين والروم على نهر اللامس في12 شوال وكان القائم به شنيف خادم المتوكل وحضر معه جعفر بن عبد الواحد الهاشمي القاضي وعلي بن يحيى الأرمني أمير الثغور الشامية وكانت عدة من فودي به من المسلمين في سبعة أيام2100 رجل وامرأة على رواية المقريزي في الخطط وروى الطبري أن عدة أسرى المسلمين كانت 785 إنساناً ومن النساء125 امرأة قال المقريزي وكان مع الروم من النصارى المأسورين من أرض الإسلام مائة رجل ونيف فعوضوا مكانهم عدة أعلاج.

وفي سنة242 خرجت الروم من ناحية شمشاط بعد خروج علي بن يحيى الأرمني من الصائفة حتى قاربوا آمد ثم خرجوا من الثغور الجزرية فانتهبوا عدة قرى وأسروا عدداً عظيماً من الأهلين ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم فخرج في أثرهم قريباس وعمر بن عبد اللَّه الأقطع وقوم من المتطوعة فلم يلحقوا منهم أحداً فكتب إلى علي بن يحيى أن يسير إلى بلادهم شاتيا.

وفي سنة244 وجه المتوكل بغا من دمشق لغزو الروم في شهر ربيع الآخرة فغزوا الصائفة فافتتح صملة.

وفي سنة245 أغارت الروم على سميساط فقتلوا وسبوا نحواً من 500 وغزا علي بن يحيى الأرمني الصائفة.

وفي سنة 246 كان الفداء السادس بين المسلمين والروم في صفر على يد علي بن يحيى الأرمني ففودي بألفين وثلثمائة وسبعة وستين نفساً.
صفات المتوكل وأخلاقه:

ولم يكن المتوكل كمن قبله في حب النظر والجدل بل كان ميالاً إلى التقليد فأمر لأول ولايته بترك النظر والمباحثة والجدل والترك لما كان عليه الناس في أيام المعتصم والواثق وأمر الناس بالتسليم والتقليد وأمر الشيوخ والمحدثين بالتحديث وإظهار السنة.

وكان ينفر من استعمال أهل الذمة في الدواوين ويكره أن يظهروا في الطريق بمظهر المسلمين ولذلك أصدر أمره في سنة235 أن يلبسوا زياً خاصاً بهم وهو الطيالسة العسلية والزنانير وأن تكون لهم سروج خاصة بهم لركوبهم ونهى أن يستعان بهم في الدواوين وأعمال السلطان التي يجري فيها أحكامهم على المسلمين ونهى أن يتعلم أولادهم في كتاتيب المسلمين ولا يعلمهم مسلم وكتب منشوراً إلى عماله في الآفاق بذلك كتبه إبراهيم بن العباس الصولي في شوال سنة235.


ولاية العهد:

تشبة المتوكل في كثير من أعماله بجده الرشيد ومن ذلك توليته العهد؛ فقد عقد الولاية لأولاده الثلاثة وهم محمد المنتصر ومحمد المعتز وإبراهيم المؤيد وذلك في 27 ذي الحجة سنة235 وقسم البلاد بينهم.

فجعل لأكبرهم المنتصر إفريقية والمغرب كله من عريش مصر إلى حيث بلغ سلطانه من المغرب وجند قنسرين والعواصم والثغور الشامية والجزرية وديار مصر وديار ربيعة والموصل وهيت وعانات والخابور وقرقيسيا وكوريا جرمي وتكريت وطساسيج السواد وكور دجلة والحرمين واليمن وعك وحضرموت واليمامة والبحرين والسند ومكران وقندابيل وفرج بيت الذهب وكور الأهواز والمستغلات السامرا وماه الكوفة وماه البصرة وماه سبذان ومهرجان قذق وشهرزور وواراباذ ويصامغان وأصبهان وقم وقاشان وقزوين وأمور الجبل والضياع المنسوبة إلى الجبال وصدقات العرب بالبصرة.

وجعل لابنه المعتز كور خراسان وما يضاف إليه وطبرستان والري وأرمينية وأذربيجان وكور فارس وضم إليه في سنة240 خزن بيوت الأموال في جميع الآفاق ودور الضرب، وأمر بضرب اسمه على الدراهم.

وجعل لابنه المؤيد جند دمشق وجند حمص وجند الأردن وجند فلسطين.

وكتب بينهم كتاباً يشبه الكتاب الذي كتبه الرشيد بين الأمين والمأمون والقاسم. وقد جعل المتوكل لابنيه المعتز والمؤيد تمام الاستقلال في أعمالهما إذا آلت الخلافة للمنتصر بحيث لا يجوز أن يشرك في شيء من أعمال أحدهما أحداً ولا يوجه عليه أميناً ولا كاتباً ولا بريداً ولا يضرب على يده في قليل ولا كثير جعل وكذلك على المعتز للمؤيد إذا آلت الخلافة للمعتز. وكتب من هذا الكتاب أربع نسخ نسخة بخزانة أمير المؤمنين وعند كل من أولياء العهد نسخة.
مقتل المتوكل:

لم تكن قلوب كبار الأتراك مطمئنة إلى المتوكل، فقد وقع في أنفسهم أنه يريد تدبير المكايد لهم حتى يتخلص منهم واحداً بعد واحد، فأخذتهم من ذلك وحشة وكان وزير المتوكل عبيد اللَّه بن خاقان ونديمه الفتح بن خاقان منحرفين عن المنتصر ولي العهد مائلين إلى المعتز. فأوغرا قلب أبيه عليه حتى هم أن يعزله من ولاية العهد فاجتمع لذلك الخصمان قواد الأتراك وولي العهد. مال الأتراك إلى المنتصر ليستعينوا به في تنفيذ غرضهم ومال إليهم ليحفظ لنفسه الخلافة عاجلاً أو آجلاً. ومما زاد في إغراء المنتصر أن المتوكل اشتكى فأمره أن يصلي بالناس يوم الجمعة فقال عبيد اللَّه والفتح للمتوكل: مر أبا عبد اللَّه المعتز باللَّه بالصلاة لتشرفه بذلك في هذا اليوم الشريف فقد اجتمع أهل بيته والناس جميعاً فقد بلغ اللَّه به فأمره المتوكل بالصلاة فركب وصلى بالناس وأقام المنتصر في منزله وفي الجمعة الثانية أراد المتوكل أن يصلي المنتصر بالناس فحسنا له أن يركب هو لئلا يرجف الناس بعلته ففعل. وكل ذلك زاد المنتصر حقداً وخوفاً على الخلافة أن تفوته. ويقال إن المتوكل اتفق مع الفتح بن خاقان على الفتك بالمنتصر وقتل صيف وبغا وغيرهما من قواد الأتراك ولم يكن هذا السر ليستتر مع النبيذ والاستهتار بشربه فاتفق القوم على أن يفتكوا بالمتوكل.

yacine414
2011-03-18, 14:53
وقد تولى كبر ذلك بغا الصغير المعروف بالشرابي فإنه أعد لذلك قوماً في مقدمتهم باغر التركي الذي كان يقوم بحراسة المتوكل وأعد معه عشرة من الأجناد فدخلوا القصر وسيوفهم مسلولة والمتوكل قد أخذ منه الشراب فابتدره أحدهم بضربة وثنى عليه بأخرى أتت على نفسه، وكان معه الفتح بن خاقان فقتل معه، وكان قتله ليلة الأربعاء لأربع خلون من شوال سنة248.

11-المنتصر

ترجمته:

هو محمد المنتصر المتوكل بن المعتصم بن الرشيد وأمه أم ولد روميه أسمها حبشية ولد سنة 222 وعقد له أبوه ولاية العهد سنة 253 وسنه ثلاث عشرة سنة. ولما قتل أبوه بايعه قواد الأتراك عقيب مقتله في4شوال سنة 247 (11 ديسمبر سنة 861) واستمر خليفة إلى أن توفي يوم الأحد لخمس خلون من شهر ربيع الآخر سنة 248 (7 يونية سنة 862) فكانت مدته التي تعجلها بقتل أبيه ستة أشهر
وزراء الدولة:

استوزر المنتصر أحمد بن الخصيب وكان كاتبه قبل أن يستخلف وكان مقصراً في صناعته مطعوناً عليه في عقله وكانت فيه مروءة وحدة وطيش فمن احتمله بلغ منه ما أراد وقد وصفه المسعودي بأنه كان قليل الخير كثير الشر وقد ندم المنتصر على ما فعل من تقليده الوزارة ونفيه عبيد اللَّه بن خاقان وزير أبيه بسبب ما شاع من حدة ابن الخطيب وطيشه
الجيش:

بقتل المتوكل واستيلاء المنتصر الشاب زادت الأتراك قوة في الدولة على قوتهم لأن أيديهم امتدت إلى حياة الخلفاء فقتلوا الخليفة وساقوا الخلافة إلى خليفة فأنشبوا أظفارهم بذلك في جسم الدولة ولم يكن هناك من حيلة للتخلص منهم لما دب إلى قلوب الخلفاء من الهيبة ورعاية جانبهم ومما يدل على ذلك أن الأتراك لم يكونوا يحبون أن تكون ولاية العهد للمعتز والمؤيد ابني المتوكل فأشاروا على المنتصر بخلعهما فأحضرا دار الخلافة وطلب منهما أن يكتبا طالبين أن يخلعا من ولاية العهد لضعفهما عن ذلك فرضي المؤيد وأبي المعتز فقال له المؤيد: يا جاهل تراهم قد نالوا من أبيك وهو هو ما نالوا ثم تمتنع عليهم، اخلع ويلك ولا تراجعهم. وما زال به حتى أجاب وكتبا ما أملي عليهما في ذلك.

فانظروا كيف كان عجز الخليفة عن أن يرد مشورة لهم تخالف ما عقده المتوكل وأكده بالإيمان والمواثيق والعهود. وقد كتب المنتصر بذلك إلى الآفاق وظهر في كتابه براءة المنشئين في ذلك الوقت وإن لم تظهر فيه براعة الأخلاق الفاضلة وحفظ العهود والمواثيق وكان الكاتب له أحمد بن الخصيب.
صفات المنتصر:

لئن كان الغضب قد حمل المنتصر على تذليل السبيل لإهراق دم أبيه فإنه كان لا يزال ذا نفس تحس فتتأثر فلم يزل يلاقي أهوال التوبيخ في يقظته ومنامه حتى أسقم ذلك بدنه وأذل نفسه. دخل عليه عبد اللَّه بن عمر البازيار ذات يوم وهو يبكي وينتحب فسأله عن سبب بكائه فقال: كنت نائماً فرأيت كأن المتوكل قد جاءني فقد لي ويلك يا محمد قتلتني وظلمتني وغبنتي خلافتي واللَّه لا تمتعت بعدي إلا أياماً يسيرة ثم مصيرك إلى النار فانتبهت وما أملك عيني ولا جزعي. فهون عليه عبد اللَّه الآمر.

yacine414
2011-03-18, 14:57
قال الطبري: لم أزل أسمع الناس حين أفضت إليه الخلافة من لدن ولي إلى أن مات يقولون إنما مدة حياته ستة أشهر مدة شيرويه بن كسرى قاتل أبيه مستفيضاً ذلك على ألسن العامة والخاصة وكذلك كان فقد أصابته العلة التي قضت عليه يوم الخميس لخمس بقين من شهر ربيع الأول سنة248 ومات مع العصر من يوم الأحد لخمس ليال خلون من شهر ربيع الآخر.

12- المستعين

ترجمته:

هو أحمد بن محمد بن المعتصم بن الرشيد وأمه أم ولد صقلية اسمها مخارق ولد سنة220 وبويع بالخلافة في اليوم الذي توفي فيه المنتصر وهو خامس ربيع الآخر سنة 248 (7 يونيه سنة862) ولم يزل خليفة إلى أن خلع يوم الجمعة4 محرم سنة252 (15 يناير866) فكانت مدته ثلاث سنوات وثمانية أشهر و28 يوماً.
كيف انتخب:

اجتمع الموالي وفيهم بغا الصغير وبغا الكبير وأتامش ومن معهم فاستحلفوا قواد الأتراك والمغاربة والأشروسنية على أن يرضوا بما رضي به من سمينا، فأجمع رأي الثلاثة على ألا يولوا أحداً من أولاد المتوكل لئلا يغتالهم بدم أبيه كما أنهم يريدون إخراجها عن أولاد المعتصم مولاهم فاقترح عليهم تولية أحمد بن المعتصم فقال لهم محمد بن موسى بن شاكر المنجم أتولون رجلاً عنده أنه أحق الناس بالخلافة قبل المتوكل وأنكم دفعتموها عنه وأنه أحق بالأمر من المتوكل والمنتصر فبأي عين يراكم وأي قدر يكون لكم عنده؟ ولكن أطيعوا إنساناً يعرف لكم ذلك.


الوزارة في عهد المستعين:

لم يكن للخليفة شيء من النفوذ فإن الموالي هم الذين حولوا الخلافة عن المعتز بخلعهم إياه من ولاية العهد وهم الذين ساقوها إلى المستعين بلا عهد ولا سابقة فكان من المعقول أن يكون بين أيديهم يفعلون به ما شاؤوا.

فالوزير من قبلهم يولى فإن وافق هواهم رضوا عنه وإن خالفهم في شيء أزالوه عن رتبته وأقاموا غيره.

تركوا الوزارة في يد أحمد بن الخصيب الذي كان وزيراً للمعتصم ثم لم يلبثوا أن غضبوا عليه في جمادى الأولى من سنة248 فاستصفوا ماله ومال ولده ونفوه إلى جزيرة أقريطش.

واختير لوزارة المستعين أتامش أحد قواد الأتراك وكان الذي يقوم بأمر الكتابة كاتبه شجاعفكان أتامش بذلك صاحب السلطان التام فأطلقت يده في الأموال ومعه شاهك الخادم الذي جعله المستعين على داره وكراعه وخزائنه وخاص أموره وضم إليهما في النفوذ والتصرف أم المستعين فإنه لم يمنعها من شيء تريده وكان كاتبها سعيد بن سلمة النصراني فكانت الأموال التي ترد على السلطان من الآفاق يصير معظمها إلى هؤلاء الثلاثة فعمد أتامش إلى ما في بيوت الأموال من الأموال فاكتسحه وكان المستعين قد جعل ابنه العباس في حجر أتامش فكان ما فضل من الأموال عن هؤلاء الثلاثة يؤخذ للعباس فيصرف في نفقاته وأسبابه.

استوزر المستعين بعد أتامش أبا صالح عبد اللَّه بن محمد بن يزيد وأبوه كان قبل ذلك وزيراً للمأمون فمكث في الوزارة نحو ثلاثة أشهر لم يرض فيها أحزاب الموالي لأنه أراد أن يضبط حساب المملكة فلم يعجب ذلك بغاً الصغير وحزبه فأظهروا له الغضب فهرب منهم إلى بغداد في شعبان سنة249.

استكتب المستعين بعده محمد بن الفضل الجرجرائي وهو الذي كان وزيراً للمتوكل قبل ذلك ولم يسمه باسم وزير.
العلويون في عهد المستعين:

كان الذي في عهد المستعين من أئمة الإمامية الاثنا عشرية عليّ الهادي وهو العاشر من أئمتهم وكان مقيماً بسامرا.

أما الزيدية فقد خرج منهم:

أولاً: يحيى بن عمر بن يحيى بن حسين بن علي بن الحسين خرج بالكوفة وكان قبل خروجه يتردد بين بغداد وسامرا يطالب كبار الدولة بما يصلح من شأنه فكان يرجع دائماً بالفشل فاستثار جمعاً كثيراً من الأعراب وانضم إليهم جمع من الكوفة فعسكر بهم بضواحي الكوفة ولما علم بخبره محمد بن عبد اللَّه بن طاهر وجه الجنود إليه فبادر يحيى إلى الكوفة فاستولى عليها وعلى بيت مالها ثم خرج منها وصار يتردد في السواد ثم عاد إلى الكوفة ودعا إلى الرضا من آل محمد وكثف أمره وتولاه العامة من أهل بغداد ولا يعلم أنهم تولوا من أهل بيته غيره.

ثانياً: خرج الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي. خرج بنواحي طبرستان وسبب خروجه أن المستعين أقطع محمد بن طاهر قطائع من صوافي السلطان بطبرستان وذلك بعد أن انتصر على يحيى بن عمر.
الجيش:

كان ما ظنه بغا الكبير في محله فإنه قال للقوم (نجيء بمن نهابه ونفرقه فنبقى معه وإن جئنا بمن يخافنا حسد بعضنا بعضنا فقتلنا أنفسنا) وجد التحاسد بين هؤلاء القوم وليس للخليفة سلطان يقمع به من بغى منهم فكانت أولى جناياتهم قتل أتامش لما رأوه قد استبد بأموال الدولة وبمصالحها. ثم اتفق وصيف وبغا على قتل باغر التركي الذي تولى قتل المتوكل لأنهما خافاه على أنفسهما وكان باغر قد جمع إليه الجماعة الذين كانوا بايعوه على قتل المتوكل فجدد عليهم البيعة التي كان أخذها عليهم وقال لهم الزموا الدار حتى نقتل المستعين وبغا ووصيفا وكانا يسميان بالأميرين ونجيء بعلي بن المعتصم أو بابن الواثق فنقعده خليفة حتى يكون الأمر لنا كما هو لهذين اللذين قد استوليا على أمر الدنيا وبقينا نحن على غير شيء فأجابوه إلى ذلك وانتهى الأمر إلى المستعين.


الأحوال الخارجية:

كان الحال في الخارج أشد من ذلك وأنكى فإن الاضطراب الحادث في داخلية الدولة كان سبباً في تقاعد أولي الأمر عن حماية الثغور والوقوف في وجه الروم الذين كانوا ينتظرون مثل هذه الفرصة وقد صادف أن قائدين عظيمين من قواد الثغور قتلا في حرب مع الروم أول عهد المستعين وهما عمر بن عبد اللَّه الأقطع وعلي بن يحيى الأرمني وكانا نابين من أنياب المسلمين شديداً بأسهما عظيماً غناؤهما في الروم فأما أولهما فقد غزا ملطية فقابله ملك الروم في جمع عظيم فأحاطوا به فقتل وقتل معه ألفا رجل وجرأهم قتله على قصد الثغور الجزرية فقصدوها وكلبوا عليها وعلى حرب المسلمين فبلغ ذلك علي بن يحيى وهو قافل من أرمينية إلى ميافارقين فنفر إليهم في جماعة قليلة فقتل نحو400 رجل.

لما بلغ ذلك أهل بغداد شق على عامتهم وعظم مقتل الرجلين في صدورهم مع ما لحقهم من استفظاعهم من الأتراك قتل المتوكل واستيلائهم على أمور المسلمين وقتلهم من أرادوا من الخلفاء واستخلاصهم من أحبوا استخلافه من غير رجوع منهم إلى ديانة ولا نظر لأمور المسلمين فثاروا وربما كانوا ينجحون فيما إليه قصدوا من ثورتهم هذه لو وجدوا قائداً يدبر أمرهم ويبعدهم عن الفوضى ولكنهم لم يظفروا به.

اجتمعت العامة ببغداد بالصراخ والنفير وانضمت إليهم الأبناء الشاكرية وفتحوا أبواب السجون وأخرجوا من فيها ثم أخرج أهل اليسار من أهل بغداد وسامرا أموالاً كثيرة من أموالهم فقووا من خف للنهوض إلى الثغور لحرب الروم وأقبلت إليهم العامة من نواحي الجبل وفارس وغيرهما لهذا القصد كل ذلك والخليفة لاه بما هو فيه عن ثغور المسلمين فلم يوجه لها عسكراً ولم تجد حركة العامة شيئاً


الأحوال الخارجية:

كان الحال في الخارج أشد من ذلك وأنكى فإن الاضطراب الحادث في داخلية الدولة كان سبباً في تقاعد أولي الأمر عن حماية الثغور والوقوف في وجه الروم الذين كانوا ينتظرون مثل هذه الفرصة وقد صادف أن قائدين عظيمين من قواد الثغور قتلا في حرب مع الروم أول عهد المستعين وهما عمر بن عبد اللَّه الأقطع وعلي بن يحيى الأرمني وكانا نابين من أنياب المسلمين شديداً بأسهما عظيماً غناؤهما في الروم فأما أولهما فقد غزا ملطية فقابله ملك الروم في جمع عظيم فأحاطوا به فقتل وقتل معه ألفا رجل وجرأهم قتله على قصد الثغور الجزرية فقصدوها وكلبوا عليها وعلى حرب المسلمين فبلغ ذلك علي بن يحيى وهو قافل من أرمينية إلى ميافارقين فنفر إليهم في جماعة قليلة فقتل نحو400 رجل.

لما بلغ ذلك أهل بغداد شق على عامتهم وعظم مقتل الرجلين في صدورهم مع ما لحقهم من استفظاعهم من الأتراك قتل المتوكل واستيلائهم على أمور المسلمين وقتلهم من أرادوا من الخلفاء واستخلاصهم من أحبوا استخلافه من غير رجوع منهم إلى ديانة ولا نظر لأمور المسلمين فثاروا وربما كانوا ينجحون فيما إليه قصدوا من ثورتهم هذه لو وجدوا قائداً يدبر أمرهم ويبعدهم عن الفوضى ولكنهم لم يظفروا به.

اجتمعت العامة ببغداد بالصراخ والنفير وانضمت إليهم الأبناء الشاكرية وفتحوا أبواب السجون وأخرجوا من فيها ثم أخرج أهل اليسار من أهل بغداد وسامرا أموالاً كثيرة من أموالهم فقووا من خف للنهوض إلى الثغور لحرب الروم وأقبلت إليهم العامة من نواحي الجبل وفارس وغيرهما لهذا القصد كل ذلك والخليفة لاه بما هو فيه عن ثغور المسلمين فلم يوجه لها عسكراً ولم تجد حركة العامة شيئاً
13- المعتز

هو أبو عبد اللَّه المعتز المتوكل بن المعتصم بن الرشيد وأمه أم ولد اسمها قبيحة ولد سنة231 وكان أبوه المتوكل جعله ولي عهده بعد المنتصر فلم تتم له الولاية لأن المنتصر أرغمه على أن يخلع نفسه ولما ولي المستعين بعد المنتصر حبسه هو وأخاه المؤيد حتى كانت الفتنة بين قواد المستعين فأخرج المعتز وبويع وتم له الأمر بعد خلع المستعين في رابع محرم سنة252 (25 يناير سنة866 ولم يزل والياً إلى أن خلع لثلاث بقين من رجب سنة255(11 يولية سنة869 )فكانت مدة خلافته بعد خلع المستعين ثلاث سنوات وستة أشهر و 23 يوماً.


وزراء المعتز:

لم يكن للوزارة في هذا العهد كبير شأن لانحطاط أمر الخلافة نفسها وقد كان الوزراء كتاب أموال فمن أمكنه أن يقوم بحاجة كبار الأتراك ومقدميهم بقي في منصبه وإلا عزل وفعلت به الأفاعيل.

أول وزراء المعتز أبو الفضل جعفر بن محمود الإسكافي. لم يكن له علم ولا أدب ولكنه كان يستميل القلوب بالمواهب والعطايا وكانت وزارته على غير رغبة المعتز لأنه كان يكرهه وكان الأتراك فيه فريقين فثارت بسبب ذلك فتنة فعزل من أجل ذلك.

وتولى الوزارة بعده عيسى بن فرخانشاه ولم يمكث إلا قليلاً حتى عزل بسبب فتنة كالأولى.

دخل صالح بن وصيف مقدم الأتراك على المعتز وقال له: يا أمير المؤمنين ليس للأتراك عطاء ولا في بيت المال مال وقد ذهب ابن إسرائيل وأصحابه بأموال الدنيا فقال له: أحمد بن إسرائيل يا عاصي يا ابن العاصي ثم لم يزالا يتراشقان الكلام بحضرة الخليفة حتى سقط صالح مغشياً عليه من شدة الغيظ والحرفرش على وجهه الماء وبلغ ذلك أصحابه وهم على الباب فصاحوا صيحة واحدة واخترطوا سيوفهم ودخلوا على المعتز فلما رأى ذلك المعتز دخل وتركهم وأخذ صالح بن وصيف أحمد بن إسرائيل الوزير والحسن بن مخلد كاتب قبيحة أم المعتز وأبا نوح عيسى بن إبراهيم فقيدهم وطالبهم بالمال فقال المعتز لصالح قبل أن يحملهم هب لي أحمد فإنه كاتبي وقد رباني فلم يفعل ذلك صالح وبعثت إليه أم المعتز في ابن إسرائيل تقول له: إما حملته إلى المعتز وإما ركبت إليك فيه. فلم يفد هذا ولا ذاك شيئاً. وهذا دليل على انحطاط عظيم في أمر الخلافة وزاد صالح الأمر شنعة فبعث إلى جعفر بن محمود الإسكافي الذي كره المعتز أن يعمل له وولاه الوزارة رغم أنفه.

وإسكاف التي ينتمي إليها جعفر بن محمود قرية من نواحي النهروان بين بغداد وواسط من الجانب الشرقي وهي إسكاف العليا وهناك إسكاف السفلى بالنهروان أيضاً.
العلويون في عهد المعتز:

في عهد المعتز مات علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا وهو الإمام العاشر من أئمة الشيعة الإمامية فتولى الشيعة بعده ابنه الحسن العسكري وهو الحادي عشر من أئمتهم وإنما لقب بالعسكري لإقامته بسامرا التي كانت تدعى إذ ذاك بالعسكر.

أما الزيدية فكانوا قد وجدت لهم دولة ببلاد طبرستان على يد الحسن بن زيد كما تقدم وقد اتهم جماعة من الطالبيين في بغداد والكوفة بالدعوة للحسن بن زيد ووجدت مع بعضهم كتب من الحسن فأمر المعتز بحملهم إليه بسامرا فحملوه إليه ولم يعرض المعتز لهم بمكروه وإنما توثق منهم.
حال الجيش والأتراك:

استخلف المعتز وأحوال الجند والأتراك على شر ما يكون فهم أصحاب السلطان والنفوذ وهم فيما بينهم مختلفون لأنه لا يد فوق تقف كلا منهم عند حده ولا حيلة للخليفة إلا مراعاة جانبهم حيناً وإعمال الحيلة والدسائس حيناً وهكذا يفعل كل من سلب سلطانه ولا قدرة على استرداده.

في أول خلافة المعتز كتب بإسقاط اسم وصيف وبغا وهما أكبر قواد الأتراك لما كان من مساعدتهما المستعين وكان هذا الكتاب مرسلاً إلى محمد بن عبد اللَّه بن طاهر أمير بغداد فبلغ ذلك وصيفاً وبغا فجاءا إلى محمد وقالا بلغنا أيها الأمير ما عزم عليه القوم من قتلنا والقوم قد غدروا وخالفواما فارقونا عليه واللَّه لو أرادوا أن يقتلونا ما قدروا فحلف لهم محمد باللَّه أنه لم يعلم بشيء من ذلك فذهب الرجلان وتحرزا وتكلم لهما عند المعتز من أرضاه عنهما ثم اجتمع الأتراك عند المعتز وسألوه الأمر بإحضارهما وقالوا هما كبيرانا ورئيسانا فكتب إليهما بالرضا عنهما فذهبا من بغداد إلى سامرا فذهب لزيارتهما في منزلهما وزير المعتز أحمد بن إسرائيل وردهما المعتز إلى مراتبهما رغم أنفه بناء على إلحاح الأتراك وردت إليه ضياعهما.
خاتمة المستعين سلف المعتز:

قدمنا أن المعتز كتب للمستعين شروطاً عند خلعه منها تأمينه على حياته وقد أكدوا في هذا الكتاب تأكيداً شديداً وارتضى أن يقيم بالبصرة فقيل له: إن البصرة وبيئة فكيف اخترت أن تنزلها فقال المستعين: هي أوبأ أو ترك الخلافة؟ فأشخص المستعين مع محمد بن مظفر بن سيسل وابن أبي حفصة إلى واسط لا إلى البصرة في نحو400 من الفرسان وقبل أن تنتهي السنة بدا للمعتز فعزم على قتل المستعين ولم يبال بكتاب الأمان فأرسل إلى ابن طاهر يأمره أن يكتب إلى عامل البصرة أن يسلم المستعين لمن ندبه المعتز لاستلامه وهو أحمد بن طولون التركي فأخرج المستعين من واسط لست بقيت من شهر رمضان فوافى به القاطول لثلاث خلون من شوال فتسلمه منه سعيد بن صالح وكان في ذلك ختام حياة المستعين وكيفية قتله مبهمة مختلف فيها كثيراً وأتى المعتز فيما قيل برأسه وهو يلعب الشطرنج فقيل هذا رأس المخلوع فقال ضعوه هنالك ثم فرغ من لعبه ودعا به فنظر إليه ثم أمر بدفنه وأجاز سعيد بن صالح بخمسين ألف درهم وولي معونة البصرة.


خلع المعتز:

لما أخذ صالح بن وصيف الكتاب على الشكل الذي أوضحناه قبلاً في تاريخ الوزراء لم يجد عندهم من المال ما يسد مطامعه ومطامع الجنود الذين معه فذهبت الجنود إلى المعتز وقالوا له: إعطنا أرزاقنا حتى نقتل لك صالح بن وصيف فأرسل المعتز إلى أمه ذات الثروة الطائلة يسألها أن تعطيه مالاً ليعطيهم فأبت أن تعطيه شيئاً وأنكرت أن يكون عندها شيء ولما وجد الأتراك أن المعتز وأمه قد امتنعا أن يسمحا لهم بشيء وبيت المال خال اتحدت كلمة الأتراك والفراغنة والمغاربة على خلع المعتز فساروا إليه لثلاث بقين من رجب فلم يرعه إلا صياح القوم وإذا صالح بن وصيف وبايكباك ومحمد بن بغا قد دخلوا عليه في السلاح فجلسوا على باب المنزل الذي ينزله المعتز. ثم بعثوا إليه اخرج إلينا فبعث إليهم إني أخذت الدواء أمس وقد أجفلني اثنتي عشرة مرة ولا أقدر على الكلام من الضعف فإن كان أمراً لا بد منه فليدخل إلي بعضكم فليعلمني فدخل إليه القوم فجروا برجله إلى باب الحجرة وتناولوه كما قيل ضرباً بالدبابيس فخرج وقميصه مخرق في مواضع وآثار الدم على منكبه فأقاموه في الشمس في الدار في وقت شديد الحر فصار يرفع قدمه ساعة بعد ساعة من حرارة الموضع الذي قد أقيم فيه ثم بعثوا إلى قاضي القضاة فحضر وأمر المعتز أن يمضي على كتاب خلع كتب له فأمضى وشهد عليه الحاضرون. ويقال إنه بعد الخلع دفع إلى من يعذبه ومنع الطعام والشراب ثلاثة أيام فطلب حسوة من ماء البحر فمنعوه حتى مات وهكذا انتهت حياة هذا الخليفة البائس الذي سعى كثيراً للحصول على هذه الخلافة وركب في سبيل الخلاص ممن توهمهم مزاحمين له ما لا يجوز من خليفة ولا من سوقة فقتل المستعين وخلع أخاه ثم قتله ونفى أخاه الثاني كل ذلك لتهيأ له الخلافة فلم ينل ما أراد بسبب الفساد المستحكم في الدولة.

وكان المعتز أول خليفة أظهر الركوب بحلية الذهب وكان من سلف قبله من خلفاء بني العباس وكذلك جماعة من بني أمية يركبون بالحلية الخفيفة من الفضة والمناطق واتخاذ السيوف والسروج واللجم فلما ركب المعتز بحلية الذهب اتبعه الناس في فعل ذلك.

yacine414
2011-03-18, 15:00
14- المهتدي

ترجمته:

هو محمد المهتدي باللَّه بن هارون الواثق بن المعتصم بن الرشيد وأمه أم ولد رومية يقال لها قرب، ولد سنة218 وبويع له بالخلافة بعد أن خلع المعتز نفسه لثلاث بقين من رجب سنة255 (11 يولية سنة869 ولم يزل خليفة إلى أن خلع في 14 رجب سنة256 (17 يونية سنة870 فكانت مدته 11 شهراً وأياماً.
كيف انتخب:

لما عزم الأتراك على خلع المعتز أرسلوا إلى بغداد فأحضروا محمداً هذا وقد كان المعتز نفاه إليها واعتقله فيها فأتي به في يوم وليلة إلى سامرا فتلقاه الموالي في الطريق ودخل إلى الجوسق فعرضوا عليه الخلافة فأبى أن يقبلها حتى يرى المعتز ويسمع كلامه فأتي بالمعتز وعليه قميص مدنس وعلى رأسه منديل فلما رآه محمد وثب إليه فعانقه وجلسا جميعاً على السرير فقال له محمد يا أخي ما هذا الأمر قال المعتز أمر لا أطيقه ولا أقوم به ولا أصلح له؛ فأراد محمد أن يتوسط أمره ويصلح الحال بينه وبين الأتراك فقال امعتز لا حاجة لي فيها ولا يرضوا بي لها، فقال محمد: فأنا في حل من بيعتك، قال أنت في حل فلما جعله في حل من بيعته حول وجهه عنه فأقيم عن حضرته ورده إلى محبسه وكان من أمره ما قدمنا.
وزراء المهتدي:

أبقى المهتدي محمود بن جعفر الإسكافي على وزارته مدة قليلة ثم عزله واستوزر من بعده سليمان بن وهب بن سعيد.

وكان سليمان أحد كتاب الدنيا ورؤسائها فضلاً وأدباً وكتابة في الدرج والدستور وأحد عقلاء العالم وذوي الرأي منهم واستمر وزيراً للمهتدي إلى أن خلع.
صفات المهتدي:

كان المهتدي من صالح بني العباس يكره الظلم ويحب رفعه وبنى قبة لها أربعة أبواب وسماها قبة المظالم وجلس فيها للعام والخاص للمظالم وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وحرم الشراب ونهى عن القيان وأظهر العدل وكان يحضر كل جمعة إلى المسجد الجامع ويؤم بهم وكان فيه ديانة وتقشف حتى أن الجند تأسوا به إلا أن الدولة كانت وصلت إلى الدرجة التي لا يصلحها فيها مثل المهتدي في صلاحه وكثرة عبادته في بدء خلافته.


خلع المهتدي ثم وفاته:

كانت كل هذه الأحوال فرصاً لخلاص المهتدي من سيادة القواد الأتراك فلم يفعل بل كان ظاهره مع الرؤساء وباطنه مع الجنود ويظهر أنه أراد استعمال الحيلة في الخلاص منهم فأنقذ جنداً لمحاربة خارجي وفيه موسى بن بغا وبايكباك ومفلح فكتب المهتدي إلى باكيباك يأمره أن يضم العسكر الذي مع موسى إلى نفسه وأن يكون هو أمير الجيش وأن يقتل موسى ومفلحا. فلما وصل الكتاب بايكباك ذهب إلى موسى وأراه إياه وقال له إني لست أفرح بهذا وإنما هو تدبير علينا جميعاً وإذا فعل بك اليوم شيء فعل بي غداً مثله فما ترى؟ قال أرى أن تصير إلى سامرا وتظهر له أنك في طاعته فإنه يطمئن إليك ثم تدبر في قتله فقدر بايكباك فدخل على المهتدي فأظهر المهتدي الغضب من مخالفته حيث لم يقتل موسى ومفلحاً فاعتذر إليه بايكباك فاحتبسه المهتدي عنده وأخذ سلاحه ولما رأى الجند الذين معه غيبته عنهم جاشوا وأحاطوا بالجوسق فلما رأى المهتدي ذلك استشار صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور فأشار عليه أن يفعل ما فعله المنصور بأبي مسلم فأمر المهتدي بضرب عنق بايكباك فضرب عنقه والأتراك مطيفون بالجوسق بسلاحهم فلم يرعهم إلا رأس بايكباك بين أيديهم أمر المهتدي برميها. فلما رأوها اضطربوا واستعدوا للقتال فحاربتهم الفراغنة والمغاربة والأشروسنية وكثر بينهم القتل ثم انفصل الفريقان وذهب الأتراك فقووا أنفسهم وجاء منهم زهاء عشرة آلاف وخرج المهتدي وفي عنقه مصحف يدعو الناس إلى نصرته فلما التحم القوم مال الأتراك الذين مع المهتدي إلى إخوانهم وبقي في المغاربة والفراغنة ومن خف من العامة فحملت عليهم الأتراك حملة شديدة ففروا منهزمين معهم المهتدي والسيف في يده مشهور وهو يقول: يا معشر الناس انصروا خليفتكم حتى صار إلى دار محمد بن يزداد وفيها أحمد بن جميل صاحب الشرطة فدخلها ووضع سلاحه فعلم الأتراك خبره فجاؤوا إليه وقبضوا عليه وحملوه إلى داره مهاناً وذلك في14 رجب سنة256 ثم خلعوه لما أبى أن يخلع نفسه ثم مات لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة256.
15- المعتمد:

ترجمته:

هو أحمد المعتمد على اللَّه بن المتوكل بن المعتصم وأمه أم ولد كوفية اسمها فتيان ولد سنة231 وبويع له بالخلافة من غير عهد سابق يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من رجب سنة256 (19 يونية 870) ولم يزل خليفة حتى توفي ليلة الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب سنة279 (15 أكتوبر سنة892 فكانت مدته23 سنة وثلاثة أيام.


الأحوال الداخلية:

كانت نتيجة طلبات الأتراك أن يتولى أمر الجيش أحد إخوة أمير المؤمنين وألا يرأسهم أحد منهم لما كان بينهم من الخلاف والمنافسة أن ولى المعتمد أخاه أبا أحمد طلحة بن المتوكل أمر الجيش والولايات فولاه في صفر سنة257 الكوفة وطريق مكة والحرمين واليمن ثم ولاه في رمضان من هذه السنة بغداد والسواد وكور دجلة والبصرة والأهواز وفارس. وفي ربيع الأول سنة258 عقد له على ديار مضر وقنسرين والعواصم فصار السلطان الفعلي لأبي أحمد لا للخليفة وصارت كلمة أبي أحمد هي العليا على الأتراك وقوادهم فكان ذلك مما حسن الأحوال العامة بعض التحسين وإن كانت أحوال المعتمد نفسه ساءت لأنه لم يترك له شيء من التصرف حتى أنه احتاج في بعض الأحيان إلى ثلثمائة دينار فلم يجدها.

كان الذي يولي الوزراء هو أبو أحمد الموفق لأن المعتمد لم يكن له إلا الخطبة والسكة والاسم وما عدا ذلك فهو لأخيه.

كان أول الوزراء عبيد اللَّه بن يحيى بن خاقان وقدمنا ذكره إذ كان وزيراً للمتوكل. ولما عرضت عليه الوزارة كرهها وتنصل منها ولكنهم أبوا إلا إياه فرضي بعد ذلك الإباء وكان عبيد اللَّه خبيراً بأحوال الرعايا والأعمال ضابطاً للأموال ولم يزل وزيراً إلى سنة263حيث مات بسقوطه عن دابته في الميدان وصلى عليه أبو أحمد بن المتوكل ومشى في جنازته.

استوزر بعده الحسن بن مخلد وكان كاتباً لأبي أحمد الموفق فاجتمعت له وزارة المعتمد وكتابة الموفق.

ولي الوزارة بعده سليمان بن وهب وهو الذي كان وزيراً للمهتدي وقد قدمنا صفته وبيته وولي عبد اللَّه بن سليمان كتابة أبي أحمد الموفق إلى ما كان له قبل ذلك من كتابة موسى بن بغا.

وفي سنة264 خرج سليمان بن وهب من بغداد إلى سامرا حيث يقيم الخليفة فلما صار بها غضب عليه المعتمد وحبسه وقيده وانتهب داره وداري ابنيه وهب وإبراهيم وأعاد إلى الوزارة الحسن بن مخلد لثلاث بقين من ذي القعدة فلما علم بذلك الموفق شخص من بغداد ومعه عبد اللَّه بن سليمان فلما قرب من سامرا تحول المعتمد إلى الجانب الغربي فعسكر به ونزل أبو أحمد ومن معه جزيرة المؤيد واختلف الرسل بينهما. ولما كان بعد أيام خلون من ذي الحجة صار المعتمد إلى حراقة في دجلة وصار إليه أخوه أبو أحمد في زلال فخلع المعتمد عليه وعلى من معه من القواد.

وفي ثامن من ذي الحجة عبر جند أبي أحمد إلى جند المتوكل على وفاق وأطلق سليمان بن وهب ورجع المعتمد إلى الجوسق وهرب الحسن بن مخلد وأحمد بن صالح بن شيرزاد وكتب في قبض أموالهما وأموال أسبابهما.

ولم يدم رضا أبي أحمد طويلاً عن سليمان بن وهب فإنه غضب عليه سنة265 وأمر بحبسه وحبس ابنه عبد اللَّه فحبسا وعدة من أسبابهم في دار أبي أحمد وانتهبت دور عدة من أسبابه ووكل بحفظ داري سليمان وابنه عبد اللَّه وأمر بقبض ضياعهما وأموالهما وأموال أسبابهما وضياعهما خلا أحمد بن سليمان ثم صولح سليمان وابنه عبد اللَّه على900000 دينار وصيرا في موضع يصل إليهما من أحبا.

وقد مات سليمان بن وهب في حبس أبي أحمد سنة272.

ولى الوزارة بعده للمعتمد أبو الصقر إسماعيل بن بلبل وهو عربي ينتسب إلى شيبان ولكن نسبه كان مغموراً ومن مساورة الظنون للمتهم أن ابن الرومي الشاعر مدح أبا الصقر بقصيدة نونية مطلعها.

أجنت لك الوصل أغصان وكثبان فيهن نوعان تفاح ورمـان

يقول فيها:

قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم كلا لعمري ولكن منه شيبان

كم من أب قد علا بابن له شـرفا كما برسول اللَّه عدنــان
السامانيون:

تنسب الأسرة السامانية إلى بهرام جور صاحب كسرى هرمز فهي أسرة عريقة المجد في الأمة الفارسية. كان في عهد المأمون من تلك الأسرة أولاد أسد بن سامان وكان المأمون يرعى حقوق الحرمة لذوي البيوتات فقربهم ورفع من أقدارهم وكانت بلاد ما وراء النهر مقسمة بينهم يلونها من جهة أمير خراسان فكان نوح بن أسد في سمرقند وأحمد بن أسد في فرغانة ويحيى بن أسد في الشاس وأشروسنة وإلياس بن أسد في هراة. وكان أحمد بن أسد عفيف الطعمة مَرْضي السيرة لا يأخذ رشوة ولا أحد من أصحابه. ولما توفي استخلف ابنه نصراً على أعماله بسمرقند وما وراءها فبقي عاملاً بها إلى آخر أيام الطاهرية. وكان إسماعيل بن أحمد يخدم أخاه نصراً فولاه بخارى سنة261 وكان بين هذين الأخوين خطوب طويلة بسبب سعاة السوء حتى إنه في سنة275 تحارب نصر وإسماعيل فقهر نصر وحمل إلى أخيه إسماعيل فلما رآه ترجل له وقبل يديه ورده من موضعه إلى سمرقند وتصرف هو على النيابة عنه ببخارى.


أحمد بن طولون:

كان طولون مملوكاً تركياً أهداه نوح بن أسد الساماني إلى المأمون سنة200 فكان من عداد الجنود التركية الكفاة وولد له أحمد ابنه بسامرا سنة220 فربيّ في حلبة أولئك الجنود وأفصح بالعربية وحفظ القرآن الكريم وكان ذا خلق قويم ولما بلغت سنه العشرين توفي أبوه طولون فكان بعده في ضمن جنود بايكباك الذي تقدم ذكره.

كانت ولاية مصر مضافة إلى بايكباك وهو الذي يختار أميرها ففي سنة254 اختار لها أحمد بن طولون لما رأى من كفايته وشجاعته فعقد له عليها ودخلها أحمد لتسع بقين من رمضان وكان يتقلد القصبة وحدها وكان معه أحمد بن محمد الواسطي كاتب بايكباك.

لما توفي المعتز سنة255وتولى المهتدي وقتل بايكباك حل محله أماجور وكان صهراً لأحمد بن طولون فإن أحمد كان زوج ابنته فكتب إليه أماجور تسلم من نفسك لنفسك وزاده الأعمال الخارجية عن قصبة مصر فعظمت لذلك منزلته واتسع ملكه وكان يدعى على منابر مصر للخليفة أولاً ثم لأماجور ثم لأحمد بن طولون حتى مات أماجور سنة258 فاستقل أحمد بمصر ودعي له بها وحده بعد الدعاء للخليفة وضبط ابن طولون بلاد مصر أحسن ضبط وخضد شوكة الثائرين الذين كانوا يثورون بها من وقت لآخر.

وفي سنة262 حصل بينه وبين أبي أحمد الموفق تنافر أدى إلى وحشة استحكمت حلقاتها فكتب أبو أحمد إلى ابن طولون يهدده بالعزل فأجابه جواباً فيه بعض الغلظة فسير إليه الموفق جيشاً يقوده موسى ابن بغا فلما بلغ الرقة أقام فيها عشرة أشهر ولم يمكنه المسير لقلة الأموال وطالبته الجنود بالعطايا فلم يكن معه ما يعطيهم فاختلفوا عليه وثاروا بوزيره فاضطر ابن بغا أن يعود إلى العراق وكفى ابن طولون شره وفي سنة263 ولى المعتمد أحمد بن طولون طرطوس ليقوم بحفظ ذلك الثغر عن الروم الذين كانوا قد تطرقوا البلاد لضعف قوة الخلافة.

وفي سنة264 دخل في حوزته بلاد الشام والثغور بعد وفاة أماجور الذي كانت تلك البلاد له فاتسع ملكه اتساعاً عظيماً حتى كانت حدود مملكته تنتهي إلى نهر الفرات وبذلك تم التغلب والانفراد عن بني العباس من أقاصي الغرب إلى نهر الفرات فضاقت مملكة بني العباس واقتصرت على العراق والجزيرة الفراتية على ما فيها من الثورات والاضطرابات وبلاد الري والأهواز.

وكان الموفق في ذلك الوقت مشغولاً بحرب الدعي صاحب الزنج فكان ذلك فرصة عظيمة لأحمد بن طولون أن يقوي أمر ملكه وكان يعلم ما بين المعتمد الخليفة وبين أخيه من الفتور فأراد أن ينتفع من ذلك وصادف أن أرسل المعتمد إلى ابن طولون يشكو له مما هو فيه من استبداد الموفق عليه وأنه ليس له من الخلافة إلا الاسم فأشار عليه ابن طولون أن يلحق به بمصر ولو تم ذلك لانتقلت الخلافة العباسية إلى القطائع مدينة أحمد بن طولون بمصر ولكن حال دونه عامل الموصل والجزيرة الذي أرسل إليه الموفق أن يبذل جهده في منع المعتمد من المسير إلى مصر فلما بارح المعتمد سامرا ووصل إلى عمل الموصل منعه العامل من المسير فعاد ثانية إلى سامرا وبسبب ذلك اتسعت مسافة الخلف بين الموفق وابن طولون حتى أن ابن طولون قطع خطبة الموفق وأسقط اسمه من الطراز فتقدم الموفق إلى المعتمد يبلغه ففضل مكرها لأن هواه كان مع ابن طولون.

وفي سنة270 توفي أحمد بن طولون فخلفه في مصر والشام والثغور الشامية ابنه خمارويه وقد استمر ملك مصر والشام في أعقاب ابن طولون إلى سنة292 وقد ولي من هذا البيت خمسة أمراء وهم

(1) أحمد بن طولون (254-270)

(2) خمارويه بن أحمد (270-282)

(3) أبو العساكر جيش بن خمارويه (282-283)

(4) هارون بن خمارويه (283-292)

(5) شيبان بن أحمد بن طولون (292-292)
الحوادث الخارجية:

ترتب على الاضطراب الذي قصصنا حديثه في عهد المعتمد أن الحدود الرومية كانت محل اضطراب دائم يغير عليها الروم كل وقت فيجدون الدفاع عنها ضعيفاً حتى أنهم أخذوا سنة263 حصن لؤلؤة الذي كان شجى في حلوقهم وغلبوا كثيراً من الجيوش ولم تتحسن الأحوال قليلاً إلا بعد أن أخذ ابن طولون مدينة طرسوس وعهد إليه حماية الثغور الشامية فتولى الغزو بجنوده المصرية والشامية وقد أوقع بالروم وقعة هائلة سنة270 .

وكانت غارات الروم بعد ذلك على ديار ربيعة وثغورها الجزري فكانت ترد السرايا من تلك الجهة فتغير على المسلمين وهم غارون يأخذون منهم كثيراً من الأسرى ولولا جنود المتطوعين لكانت الحال أسوأ مما حصل
ولاية العهد:

كان أبو أحمد الموفق ولي العهد بعد المعتمد وكانت إليه أمور الخلافة فعلاً فلما توفي سنة278 جعل ولي العهد المفوض بن المعتمد ومن بعده أبو العباس بن أبي أحمد الموفق وكان أبو العباس صاحب الكلمة في الخلافة بعد أبيه فلم يلبث أن خلع المفوض من ولاية العهد وجعل نفسه مقدماً.
صفات المعتمد:

لم يكن للمعتمد نفوذ في إدارة البلاد ولا شيء من سياسة المملكة لأن الأمر كله كان منوطاً بأخيه أبي أحمد وكان المعتمد مشغوفاً بالطرب والغالب عليه المعاقرة ومحبة أنواع اللهو والملاهي لا هم له إلا ذلك وله أحاديث في الغناء والرقص والندامى وهيئة المجالس ومنازل التابع والمتبوع وكيفية مراتبهم وتعبية مجالس الندماء استبدل هذا بتعبية الجيوش وسوقها إلى خوض الغمرات.

وكانت وفاة المعتمد على أثر شراب شربه فأكثر منه ثم أتبعه بأكلة هاضته وأتت على حياته لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب سنة279.

yacine414
2011-03-18, 15:05
16- المعتضد:

ترجمته:

هو أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الموفق طلحة بن المتوكل بن المعتصم وأمه أم ولد اسمها ضرار وكان عضداً لأبيه الموفق في حروبه وأعماله وولي العهد بعد وفاة أبيه وبعد خلع المفوض بن المعتمد سنة وبويع له بالخلافة في اليوم الذي توفي فيه المعتمد على اللَّه لأحدى عشرة بقيت من رجب سنة279(15 أكتوبر سنة892) ولم يزل خليفة حتى توفي لثمان بقين من ربيع الآخر سنة289 (15 إبريل سنة902) فكانت مدته تسع سنوات وتسعة أشهر وثلاثة أيام.
وزراء الدولة:

أول وزراء المعتضد عبيد اللَّه بن سليمان بن وهب واستمرفي وزارته حتى مات سنة288 فاستوزر بعده ابنه أبو الحسين القاسم بن عبيد اللَّه ومات وهو وزيره.


اضطرابات الجزيرة:

كانت العرب مع تغلب الأتراك على دولة بني العباس لا يقرون بالخضوع لهم بل كانوا على ما لم يزالوا عليه من الاستقلال بأمر أنفسهم في ديار ربيعة وفي ديار مضر ولا سيما بعد أن أسقط العباسيون أسماء العرب من ديوان المرتزقة فكانت لا تزال تخرج منهم خوارج يدعون الناس إلى خلع طاعة العباسيين وأكثر هؤلاء العرب جمعاً وخروجاً بنو شيبان من ربيعة.

ففي أول خلافة المعتضد سار إلى بني شيبان بالموضع الذي يجتمعون فيه من أرض الجزيرة فلما بلغهم قصده جمعوا إليهم وأغار المعتضد على الأعراب عند السن فنهب أموالهم وقتل منهم مقتلة عظيمة ثم غرق في نهر الزاب مثل من قتل ثم سار إلى الموصل فلقيته بنو شيبان يسألونه العفو وبذلوا له رهائن فأجابهم إلى ما طلبوا وعاد إلى بغداد.

وفي سنة 281 سار يريد قلعة ماردين للإستيلاء عليها من يدي حمدان بن حمدون الذي تغلب عليها وهو جد الأسرة الحمدانية فلما بلغه ميسر المعتضد إليه ترك في القلعة ابنه وسار عنها فلما وصلها المعتضد نازلها يومه وفيالغد ركب بنفسه حتى أتى باب القلعة وصاح بابن حمدان فأجابه فأمره بفتح باب القلعة ففتحه فقد المعتضد فيالباب وأمر بنقل ما في القلعة وهدمها ثم وجه خلف حمدان من يطلبه أشد الطلب حتى ظفر به بعد عودته إلى بغداد.

وكان مما يهم المعتضد خارجي ظهر بالجزيرة اسمه هارون الشاري واستفحل جمعه واشتدت قوته حتى لم يحاربه جند من جنود السلطان إلا هزمه فرأى المعتضد أن يضرب الحديد بالحديد فندب الحسين بن حمدان لحرب هارون فقال له الحسين: إن أنا جئت به فلي ثلاث حاجات عند أمير المؤمنين إحداها إطلاق أبي وحاجتان أذكرهما بعد مجيئي فأجابه المعتضد إلى ذلك فمضى مع جند اختاره حتى لقيه فحاربه وهزمه ثم ما زال يتبعه حتى ظفر به فأخذه أسيراً وأحضره للمعتضد فخلع على الحسين وطوقه وخلع على إخوته وأمر بفك أبيه والتوسعة والإحسان إليه فكان هذا بدء ظهور الأسرة الحمدانية.


القرامطة:

قد ذكرنا فيما مضى كيف ابتدأت نحلة القرامطة تشيع في سواد الكوفة ويدخل الناس فيها حتى كثر أتباع القرامطة.

في قريب من الوقت الذي انتشر فيه هذا المذهب بسواد الكوفة ظهر بالبحرين رجل يقال له سعيد الحسن الجنابي وجنابة من سواحل فارس يدخل إليها في المراكب في خليج من البحر الفارسي وبين المدينة والبحر ثلاثة أميال وقبالتها في وسط البحر جزيرة خارك نشأ بها أبو سعيد هذا وكان دقاقاً فنفي عن جنابة فخرج إلى البحرين فأقام بها تاجراً وجعل يستميل العرب إلى نحلته حتى استجاب له أهل البحرين وما والاها وقوي أمره فقتل ما حوله من أهل القرى وفعل ذلك بالقطيف وأظهر أنه يريد البصرة التي كتب عليها الشقاء فإنه لم يمض على ما لاقته من السوء على يد دعي العلويين أكثر من15 سنة فكتب واليها إلى المعتضد يخبره بالأمر فأمره المعتضد أن يبني على البصرة سوراً ففعل وفي سنة287 أقبل الجنابي بجموعه يريد البصرة فأرسل إليه المعتضد جيشاً قائده العباس بن عمرو الغنوي فهزمه أبو سعيد وأسر العباس واحتوى ما في العسكر وقتل الأسرى ثم سار الجنابي بعد الواقعة إلى هجر وانصرف المنهزمون إلى البصرة فلقيهم الأعراب فأفنوهم، أحدث ذلك بالبصرة قلقاً واضطراباً حتى هم أهلها بالجلاء عنها ولكن واليها هدأ بالهم.

كان تتابع الجيوش من المعتضد إلى من بسواد الكوفة سبباً لأن داعية قرمط زكرويه بن مهرويه سعى في استغواء كلب بن وبره بواسطة أولاده فأجابه بعض بطونهم وبايعوا سنة291 ابن زكرويه المسمى يحيى المكنى بأبي القاسم ولقبوه الشيخ وزعموا أن محمد بن عبد اللَّه بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وزعم لهم أن له بالبلاد مائة ألف تابع وسمى أتباعه الفاطميين فقصدهم شبل مولى المعتضد من ناحية الرصافة فاغتروه فقتلوه وأحرقوا مسجد الرصافة واعترضوا كل قرية اجتازوا بها حتى بلغوا الشام وكانت إذ ذاك في حوزة خماريه بن أحمد بن طولون وينوب عنه فيها طغج بن جف فقاتلهم مراراً فهزموه.

هذا ما كان منهم في حياة المعتضد ظهروا بثلاثة مواضع بالبحرين والعراق والشام وبدأوا بخروجهم شعلة النار المحرقة التي آذت المسلمين ودوختهم وسلبتهم أمن الطريق إلى بيت اللَّه المقدس كما يأتي بيانه.

وفي تلك الأزمنة كان يشتغل دعاة الفاطميين باليمن وأفريقية فكانت الدعوة الإسماعيلية رتبت أن يكون في آن واحد بجميع الجهات الإسلامية حتى لا يكون لبني العباس قبل بملاقاة شرها وكذلك كان.
صفات المعتضد:

كان المعتضد قوي القلب جرئياً ولذلك كان للخلافة في عهده أكثر مما كان في عهد أبيه من الهيبة وإن كان الأمر في الحقيقة جل أن يصلح لأن وراءهم عدواً لا ينام يريد إفساد ملكهم ما أمكنه ولو أدى ذلك إلى إفساد البلاد كلها. وكان مع شجاعته قليل الرحمة سفاكاً للدماء شديد الرغبة في التمثيل بمن يقتله.

وله إصلاحات داخلية جليلة منها أنه أمر برد الفاضل من سهام المواريث على ذوي الأرحام وأمر بإبطال ديوان المواريق وكان أصحاب التركات يلقون من ذلك عناء ومنها اهتمامه بكري دجيل وهو أحد روافد دجلة وقلع من فوهته صخراً كان يمنع الماء.


وفاة المعتضد:

توفي المعتضد لثمان بقين من ربيع الآخر سنة289 وكان ولي عهده ابنه المكتفي
17- المكتفي:

ترجمته:

هو علي المكتفي المعتضد بن أبي أحمد بن المتوكل وأمه أم ولد تركية اسمها جيجك، ولد سنة 236 وبويع بالخلافة بعد وفاة أبيه المعتضد بعهد منه وذلك في28 ربيع الآخر سنة289(15 أبريل سنة902)، ولم يزل خليفة إلى أن توفي في12 ذي القعدة سنة295(13 أغسطس سنة908)، فكانت مدته ست سنوات وستة أشهر و 19 يوماً.
وزراء المكتفي

لما استخلف المكتفي أبقى في الوزارة وزير أبيه القاسم بن عبيد اللَّه بن سليمان بن وهب فدبر الأمور على ما كان في زمن المعتضد واستمر في الوزارة عظيماً مهيباً إلى أن توفي سنة291.

فاستوزر المكتفي بعده العباس بن الحسن.

الأحوال في عهده:

انتكست البلاد في عهد المكتفي بعد أن كانت ابتدأت تنتعش في عهد أبي أحمد الموفق وعهد ابنه المعتضد فقد ابتدأت ولايته بظهور المنافسات بين ذوي النفوذ من الدولة فكان أحدهم يكيد الآخر شر كيد حتى يورده المهالك من غير نظر في ذلك إلى ما تقتضيه مصلحة الأمة.

توالت كتب أهل الشام إلى الخليفة ببغداد يشكون مما ألم بهم من ذي الشامة من القتل والسبي وتخريب البلاد فلم ير بداً من الخروج بنفسه إلى الشام فتأهب وسار إلى الشام وجعل طريقه على الموصل وقدم بين يديه أبا الأغر في عشرة آلاف فارس فنزل أبو الأغر قريباً من حلب فكبسهم القرمطي فقتل منهم خلقاً كثيراً وسلم أبو الأغر فدخل حلب في ألف رجل فتبعه القرمطي إلى حلب فحاربه أبو الأغر بمن بقي معه من أهل البلد فرجع عنهم.

سار المكتفي حتى نزل الرقة وسير الجيوش إليه وجعل أمرها إلى محمد بن سليمان الكاتب فسار محمد حتى صار بينه وبين حماه 12 ميلاً فالتقوا بأصحاب القرمطي فالتحمت الحرب بين الفريقين واشتدت فهزم أصحاب القرمطي وقتلوا وأسر من رجالهم بشر كثير وتفرق الباقون في البوادي وتبعهم أصحاب السلطان
خبر المشرق:

انتظمت بلاد خراسان وما وراء النهر لإسماعيل بن أحمد الساماني وكان رجلاً عاقلاً مدبراً ذا عزيمة ثابتة ولم يزل أمره على ما هو عليه والمكتفي راض عنه حتى توفي سنة295 فولى بعده ابنه أحمد بن إسماعيل وعقد له المكتفي بيده لواء وأرسله إليه.
خبر المغرب:

وفي عهد المكتفي انقرضت دولتان إحداهما دولة بني طولون بمصر على يدي العباسيين وآخر أمرائها شيبان بن أحمد بن طولون سنة292 والثانية دولة الأغالبة بإفريقية انتهت على يدي أبي عبد اللَّه الشيعي داعية الفاطميين بالمغرب.
العلاقات مع الروم:

كانت العلاقات في أول الأمر حسنة مع ملك الروم حتى أنه تبودلت الهدايا بين الملكين.

وفي سنة290 وردت رسل صاحب الروم يسألون المكتفي المفاداة بمن في أيدي المسلمين من الأسرى ومعهم هدايا فأجيبوا إلى طلبهم ولم يتمن هذا الفداء إلا سنة 293 فكان جملة من فودي به من المسلمين نحو1200 وكان المتولي للفداء أمير الثغور رستم بن برد ولم تستمر العلاقات حسنة.
فتح إنطاكية:

ففي سنة291 سار جيش إسلامي من طرسوس وصمد نحو إنطاكية ففتحها بالسيف عنوة وهي من أهم مدن الروم وثغورهم البحرية وقد قتل في فتحها نحو5000 من الروم وأسر مثلهم واستنقذ من أسارى المسلمين مثل ذلك وأخذوا من الروم ستين مركباً فحملت فيها الغنائم من الأموال والمتاع والرقيق وقدر نصيب كل رجل ألف دينار وغزا من المسلمين أمير الثغر رستم مرتين وبلغ في غزوته الثانية سلندوا ففتحها وصار إلى آلس فأسر من الروم عدداً كبيراً وغزا ابن كيغلغ من طرسوس وفي سنة294 استأمن إلى السلطان بطريق اسمه أندرونقس وكان على حرب أهل الثغور من قبل ملك الروم فأجيب طلبه وأخرج نحواً من مائتي نفس من المسلمين كانوا أسرى في حصنه وكان ملك الروم قد وجه من يقبض عليه فأعطى المسلمين الذين كانوا أسرى في حصنه السلاح وأخرج معهم بعض بنيه فكبسوا البطريق الموجه إليه للقبض عليه ليلاً وقتلوا من معه خلقاً كثيراً وغنموا ما في معسكرهم.

وكان رستم قد خرج في أهل الثغور في جمادي الأولىقاصداً أندرونقس ليخلصه فوافى رستم قونية بعقب الواقعة وعلم البطارقة بمسير المسلمين إليهم فانصرفوا ووجه أندونقس ابنه إلى رستم ووجه رستم كاتبه وجماعة من البحريين فباتوا في الحصن فلما أصبحوا خرج أندرونقس وجميع من معه من أسرى المسلمين ومن صارإليه منهم ومن وافقه على رأيه من النصارى وأخرج ماله ومتاعه إلى معسكر المسلمين وضرب المسلمون قونية ثم قفلوا إلى طرسوس هم وأندرونقس وأسارى المسلمين ومن كان مع أندرونقس من النصارى وقد وصل هذا البطريق إلى بغداد فأكرم.

وحصل في آخر عهد المكتفي مفاداة ثانية تمت سنة295 وكان عدة من فودي به من الرجال والنساء ثلاثة آلاف نفس

yacine414
2011-03-18, 15:09
توفي المكتفي في12 ذي القعدة سنة295 .

18- المقتدر:

ترجمته:

هو جعفر المقتدر با بن المعتضد بن أحمد بن المتوكل وهو أخو المكتفي وأمه أم ولد اسمها شغب ولد سنة282 وبويع بالخلافة بعد وفاة أخيه ولم يزل خليفة إلى أن قتل في28 شوال سنة220 (1 نوفمبر سنة 932 فتكون مدته24 سنة و 11 شهراً و 16 يوماً.
كيف انتخب:

لما ثقل المكتفي كان في منصب الوزارة العباس بن الحسين ففكر فيمن يتولى الخلافة بعده لأنه لم يكن ولى أحداً العهد في صحته وكان من عادة الوزير أن يسايره إذا ركب واحد من هؤلاء الأربعة الذين يتولون الدواوين وهم أبو عبد اللَّه محمد بن داود بن الجراح وأبو الحسن محمدبن عبد اللَّه وأبو الحسن علي بن محمد بن الفرات وأبو الحسن علي بن عيسى فاستشار الوزير يوماً محمد بن داود بن الجراح في ذلك فأشار بعبد اللَّه بن المعتز ووصفه بالعقل والأدب والرأي واستشار بعده أبا الحسن بن الفرات فقال: هذا شيء ما جرت به عادتي أن أشير فيه وإنما أشاور في العمال لا في الخلفاء فغضب الوزير وقال: هذه مقاطعة باردة وليس يخفى عليك الصحيح وألح عليه فقال: إن كان رأي الوزير قد استقر على أحد بعينه فليفعل فعلم الوزير أنه يعني ابن المعتز لاشتهار خبره فقال: لا أقنع إلا أن تمحضني النصيحة فقال ابن الفرات: فليتق اللَّه الوزير ولا ينصب إلا من قد عرفه واطلع على جميع أحواله ولا ينصبه بخيلاً فيضيق على الناس ويقطع أرزاقهم ولا طماعاً فيشره في أموالهم فيصادرهم ويأخذ أموالهم وأملاكهم ولا قليل الدين فلا يخاف العقوبة والآثام ويرجو الثواب فيما يفعله ولا يولي من عرف نعمة هذا وبستان هذا وضيعة هذا وفرس هذا ومن قد لقي الناس ولقوه وعاملهم وعاملوه ويتخيل ويحسب حساب نعم الناس وعرف وجوه دخلهم وخرجهم فقال الوزير: صدقت ونصحت فبمن تشير؟ قال أصلح الموجودين جعفر بن المعتضد فقال: ويحك هو صبي قال: ابن الفرات إلا أنه ابن المعتضد ولم نأت برجل كامل يباشر الأمور بنفسه غير محتاج إلينا. فمالت نفس الوزير إلى مشورة ابن الفرات وانضاف إلى ذلك وصية المكتفي فإنه أوصى لما اشتد مرضه بتقليد أخيه الخلافة فلما مات المكتفي اختار الوزير جعفراً للخلافة بالاتفاق مع صافي الحرمي ولقب المقتدر بالله وسنه إذ ذاك ثلاث عشرة سنة.
وزراءه:

كان أول وزرائه أبو الحسن علي بن محمد بن موسى بن الفرات استوزره يوم الأحد لعشر بقين من شهر ربيع الأول سنة296 فنظر في الأمور نظر جد واهتمام وأمر جماعة من القواد بطواف البلد ليلاً والإيقاع بأهل الدعارة ومن يرونه متعرضاً لنهب دار وأخذ مال وعلى يد ابن الفرات كانت عقوبات جميع من خرجوا مع ابن المعتز فصادر من صادر وقتل من قتل.

مضى ابن الفرات في وزارته هذه ثلاث سنين وثمانية أشهر وأربعة عشر يوماً اختلفت عليه الأمور فيها وحدثت الحوادث وحضر عيد النحر من سنة298 فاحتيج فيه من النفقات إلى ما جرت العادة به وكانت المواد قصرت والمؤن قد تضاعفت وطلب المقتدر أن يعطيه من بيت مال الخاصة ما يصرفه في نفقات هذا العيد فمنعه من ذلك وألزمه القيام به من جهته فوجد بذلك أعداؤه الطريق إلى الوقيعة فيه.


أمر القرامطة:

كان رئيس القرامطة بالبحرين أبو سعيد الحسن بن بهرام الجنابي فقتل سنة301 بعد أن استولى على هجر والأحساء والقطيف وسائر بلاد البحرين فولى بعده ابنه أبو طاهر سليمان الجنابي وكانت له غزوات متتابعة إلى جهة البصرة يريد الاستيلاء عليها وأشد غزواته لها سنة311 فإنه سار إليها في ألف وسبعمائة من القرامطة ودخلها وقتل حاميتها ووضع السيف في أهلها وأقام بها سبعة عشر يوماً يحمل منها ما يقدر عليه من المال والأمتعة والنساء والصبيان ثم عاد إلى بلده ومنها توجه إلى طريق الحاج ليلقاهم عند رجوعهم إلى مكة فأوقع بقافلة تقدمت معظم الحاج وكان فيها خلق كثير من أهل بغداد وغيرهم فنهبهم واتصل الخبر بباقي الحاج وهم بفيد فأقاموا بها حتى فني زادهم فارتحلوا مسرعين إلى طريق الكوفة فأوقع بهم القرامطة وأخذوا جمال الحجاج جميعها وما أرادوا من الأمتعة والأموال والنساء والصبيان ثم عاد الجنابي إلى هجر وترك الحاج في مواضعهم فمات أكثرهم جوعاً وعطشاً من حر الشمس فانقلبت بغداد من سوء تأثير هذا الخبر وكان وصوله في الوقت الذي قتل فيه المحسن بن الفرات من قتل من المصادرين فازدوجت المصيبة وكان ابن الفرات يتهم بالتشيع فذكر بكل قبيح على ألسنتهم.

اضطر المقتدر أن يكاتب أبا طاهر يطلب منه أن يطلق من عنده من أسرى الحاج فأطلقهم وطلب ولاية البصرة والأهواز فلم يجبه المقتدر فسار من هجر يريد الحاج وكان جعفر بن ورقاء الشيباني متقلداً أعمال الكوفة وطريق مكة فلما سار الحاج من بغداد سار جعفر بين أيديهم خوفاً من أبي طاهر ومعه ألف رجل من بني شيبان وسار معهم أيضاً قواد السلطان ومعهم ستة آلاف رجل فلقي أبو طاهر القرمطي جعفراً الشيباني فقاتله جعفر فبينما هو يقاتله إذ طلع جمع من القرامطة عن يمينه فانهزم من بين أيديهم فلقي القافلة الأولى فردها إلى الكوفة ومعها عسكر الخليفة وتبعهم أبو طاهر إلى باب الكوفة فقاتلهم فانهزم عسكر الخليفة ودخل أبو طاهر الكوفة وأقام ستة أيام بظاهرها يدخل البلد نهاراً فيقيم في الجامع إلى الليل ثم يخرج فيبيت في عسكره وحمل منها ما قدر على حمله من الأموال والثياب وغير ذلك ثم عاد إلى هجر وكان أهل بغداد قد خافوا أن يهجم القرامطة عليهم.
سرقة الحجر الأسود:

وفي سنة317 فعل أبو طاهر ما هو أشنع وأدهى وذلك أنه سار بجنده إلى مكة فوافاها يوم التروية فلم يرع حرمة البيت الحرام، بل نهب هو وأصحابه أموال الحجاج وقتلوهم حتى في المسجد الحرام وفي البيت نفسه وقلع الحجر الأسود وأنفذه إلى هجر فخرج إليه أمير مكة في جماعة من الأشراف فسألوه في أموالهم فلم يشفعهم فقاتلوه فقتلهم أجمعين وقلع باب البيت وطرح القتلى في بئر زمزم ودفن الباقين في المسجد الحرام حيث قتلوا بغير غسل ولا كفن ولا صلى على أحد منهم وأخذ كسوة البيت فقسمها بين أصحابه ونهب دور أهل مكة. ولم يحصل في التاريخ أن انتهكت حرمة هذا البيت إلى هذا الحد حتى أن المهدي عبيد اللَّه العلوي لما علم ذلك كتب إلى أبي طاهر ينكر عليه ذلك ويلومه ويلعنه ويقيم عليه القيامة ويقول: قد حققت على شيعتنا ودعاة دولتنا اسم الكفر والإلحاد بما فعلت وإن لم ترد على أهل مكة وعلى الحجاج وغيرهم ما أخذت منهم وترد الحجر الأسود إلى مكانه وترد كسوة الكعبة فأنا بريء منك في الدنيا والآخرة ولما وصله هذا الكتاب أعاد الحجر الأسود واستعاد ما أمكنه من أموال أهل مكة فرده، وقال: إن الناس اقتسموا كسوة الكعبة وأموال الحجاج ولا أقدر على منعهم.
المتغلبون وما كان منهم:

في عهد المقتدر اشتد سلطان المتغلبين بأطراف المملكة وهذه نتيجة طبيعية لما أصاب الدولة من الخلل.


قتل المقتدر:

كان في دولة المقتدر قائدان هما في أرفع الدرجات أولهما مؤنس المظفر وهو القائد العام للجيوش وعليه المعول في تسييرها ويليه في المرتبة محمد بن ياقوت وكان بينهما شيء من المنافسة.

ففي سنة319 قوي أمر محمد بن ياقوت وقلد مع الشرطة الحسبة وضم إليه رجال فقوي بهم فعظم ذلك على مؤنس وسأل المقتدر صرف محمد عن الحسبة وقال: هذا شغل لا يجوز أن يتولاه غير القضاة والعدول فأجابه المقتدر وصرف محمداً عن الحسبة وصرف ابنه عن الشرطة وأبعدها عن الحضرة فأخرجا إلى المدائن حسبما طلبه مؤنس وولى بدلهما إبراهيم بن رائق وأخاه محمداً الحسبة والشرطة وهذا كان بدء الوحشة بين المقتدر ومؤنس ومتى وجدت الوحشة ساءت الظنون وكان للوهم في النفوس أكبر الآثار.

بلغ مؤنساً أن الوزير الحسين بن القاسم قد وافق جماعة من القواد في التدبير عليه فتنكر له مؤنس وطلب من المقتدر عزله ومصادرته فأجاب إلى عزله ولم يصادره فلم يقنع مؤنس بذلك فبقي الحسين في الوزارة وكتب إلى هرون بن غريب أحد القواد وهو بدير العاقول أن يحضر إلى بغداد وكذلك كتب إلى محمد بن ياقوت يستقدمه فزادت الوحشة عند مؤنس وصح عنده أن الحسين يسعى في التدبير عليه ثم صح عنده أنه قد جمع الرجال والغلمان الحجرية في دار الخليفة فأظهر الغضب وذهب نحو الموصل وأرسل غلاماً له إلى المقتدر برسالة فطلب الوزير منه أن يسلمها إليه فأبى فسبه الوزير وشتم صاحبه وأمر بضربه وصادره بثلثمائة ألف دينار وأخذ خطه بها وحبسه ونهب داره فلما بلغ مؤنساً الخبر سار نحو الموصل في أصحابه ومماليكه وتقدم الوزير بقبض أقطاع مؤنس وأملاكه وأملاك من معه فحصل من ذلك مال عظيم وزاد في محل الوزير عند المقتدر فلقبه عميد الدولة وضرب اسمه على الدينار والدرهم وتمكن من الوزارة وولى وعزل.

أما مؤنس فإنه استولى على الموصل من يد بني حمدان واستولى على أموالهم وديارهم وخرج إليه كثير من العساكر من بغداد والشام ومصر لإحسانه كان إليهم وعاد إليه ناصر الدولة بن حمدان فصار معه. فلما اجتمعت إليه العساكر انحدر إلى بغداد في شوال سنة320 فلما بلغ خبره جند بغداد شغبوا وطلبوا أرزاقهم ففرق المقتدر فيهم مالاً عظيماً إلا أنه لم يشبعهم وسير العساكر لمقابلة مؤنس في طريقه فلم يقدروا على رده فجاء حتى نزل بباب الشماسية فحل الخوف في قلب المقتدر وجنده وكان يريد ترك بغداد لمؤنس والرحيل إلى واسط فرده عن ذلك محمد بن ياقوت وزين له اللقاء وقوي نفسه بأن القوم متى رأوه عادوا بأجمعهم إليه فرجع إلى قوله وهو كاره ثم أشار عليه بحضور الحرب فخرج وهو كاره وبين يديه الفقهاء والقراء معهم المصاحف مشهورة وعليه البردة والناس حوله فوقف على تل بعيد من المعركة فأرسل قواد أصحابه إليه يسألونه التقدم مرة بعد أخرى وهو لا يريم مكانه فلما ألحوا عليه تقدم من موضعه فانهزم أصحابه قبل وصوله إليهم فلقيه علي بن بليق من أصحاب مؤنس فترجل وقبل الأرض وقال له: أين تمضي ارجع فلعن اللَّه من أشار عليك بالحضور فأراد الرجوع فلقيه قوم من المغاربة والبربر فشهروا عليه سيوفهم وضربه أحدهم بسيفه على عاتقه فسقط إلى الأرض وذبحه بعضهم ثم رفعوا رأسه على خشبة وهم يكبرون ويلعنونه وأخذ جميع ما عليه حتى سراويله وتركوه مكشوفاً إلى أن مر به رجل من الأكرة فستره بحشيش ثم حفر له موضعه ودفن وكان عمره حين قتل28 سنة ثم تقدم مؤنس وأنفذ إلى دار الخليفة من يمنعها من النهب.
19- القاهر

ترجمته:

هو أبو محمد بن المعتضد بن الموفق طلحة بن المتوكل وأمه أم ولد بربرية اسمها قتول وبويع بالخلافة يوم أن قتل المقتدر في28 شوال سنة320(1 نوفمبر سنة932) ولم يزل خليفة حتى خلع في5 جمادى الأولى سنة322(23 إبريل سنة934) فكانت مدته سنة وستة أشهر وستة أيام.

كيف انتخب:

لما قتل المقتدر كان من رأي مؤنس إقامة ولد أبي العباس أحمد وقال: إنه تربيتي وهو صبي عاقل وفيه دين وكرم ووفاء بما يقول فإذا جلس للخلافة سمحت نفس جدته والدة المقتدر وإخوته وغلمان أبيه ببذلالمال ولم ينتطح في قتل المقتدر عنزان فاعترض عليه أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختي وقال: بعد الكد والتعب استرحنا من خليفة له أم وخالة وخدم يديرونه فنعود إلى تلك الحال واللَّه لا نرضى ألا برجل كامل يدبر نفسه ويدبرنا وما زال بمؤنس حتى رده عن رأيه وذكر له محمد بن المعتضد وهو أخو المكتفي فأجابه إليه على كره منه فإنه كان يقول: إني عارف شره وسوء نيته ولكنه لا حيلة. فبايعوه واستخلفه مؤنس لنفسه ولحاجبه بليق ولعلي بن بليق وأخذوا خطه بذلك واستقرت له الخلافة وبايعه الناس واستوزر أبا علي بن مقلة واستحجب علي بن بليق.
الحال في عهد القاهر:

كان القاهر كما قال مؤنس شريراً خبيث النية فإنه في أول خلافته اشتغل بالبحث عمن استتر من أولاد المقتدر وحرمه واشتغل بمناظرة أم المقتدر وكانت مريضة قد ابتدأ بها داء الاستسقاء وقد زاد مرضها بقتل ابنها ولما سمعت أنه بقي مكشوفاً جزعت جزعاً شديداً وامتنعت عن الأكل والشرب حتى كادت تهلك فوعظها النساء حتى أكلت شيئاً يسيراً من الخبز والملح. أحضرها القاهر عنده وهي على تلك الحال من المرض والجزع وسألها عن مالها فاعترفت له بما عندها من المصوغ والثياب ولم تعترف بشيء من المال والجوهر فضربها أشد ما يكون من الضرب وعلقها برجلها وضرب المواضع الغامضة من بدنها فحلفت أنها لا تملك غير ما أطلعته عليه وقالت: لو كان عندي مال لما أسلمت ولدي للقتل ولم تعترف بشيء ثم أخرجها على تلك الحال لتشهد على نفسها القضاة والعدول أنها قد حلت أوقافها ووكلت في بيعها فامتنعت من ذلك وقالت: قد وقفتها على أبواب البر والقرب بمكة والمدينة والثغور وعلى الضعفاء والمساكين ولا استحل حلها ولا بيعها وإنما أوكل في بيع أملاكي فلما علم القاهر بذلك أحضر القاضي والعدول وأشهدهم على نفسه أنه قد حل أوقافها جميعها ووكل في بيعها فبيع ذلك جميعه مع غيره واشتراه الجند من أرزاقهم ثم صادر جميع ولد المقتدر وحاشيته ولم نسمع في التاريخ ما يقارب فعل القاهر نذالة وجبناً وخسة وشراهة نفس.

بعد قتل المقتدر هرب كبار معينيه وخاصة محمد بن ياقوت وابنا رائق وهارون بن غريب ومفلح وعبد الواحد بن المقتدر فلما صاروا بواسط أرسل هارون بن غريب يطلب الأمان لنفسه ويبذل مصادرة ثلثمائة ألف دينار وعلى أن تطلق له أملاكه فأجيب إلى طلبه وظل رفقاؤه سائرين إلى السوس وسوق الأهواز فأقاموا بالأهواز وطردوا عماله فجهز إليهم مؤنس جيشاً أخرجهم منها ثم طلبوا إليه الأمان فأمنهم وتوجهوا معه إلى بغداد ومعهم محمد بن ياقوت فتقدم عند القاهر وعلت منزلته وصار يخلو به ويشاوره فغلظ ذلك على الوزير مؤنس المظفر وبليق الحاجب وابنه لأنهم ما حاربوا المقتدر إلا من أجله وثبت عندهم أن محمد بن ياقوت يدبر عليهم فاستوحشوا من القاهر وضيقوا عليه وأمر مؤنس بتفتيش كل من يدخل الدار ونقل من كان محبوساً بدار الخلافة كوالدة المقتدر التي اشتد عليها المرض مما نالها من الضرب علم القاهر أن العتاب لا يفيد فأخذ في التدبير على القوم الذين أجلسوه هذا المجلس وكان اعتماد مؤنس على العساكر الساجية فأفسد القاهر قلوبهم عليه وأغراهم بمؤنس وأغرى كاتب ابن مقلة به ووعده الوزارة محله فكان يكاتب القاهر بجميع الأخبار.

أما هؤلاء الخصوم فاتفقوا على خلع القاهر وتحالفوا على ذلك ولكنهم لم يبدوا شيئاً من الحكمة أمام مكر القاهر ودهائه فرأى الوزير أن يظهروا أن أبا طاهر القرمطي ورد الكوفة وأن علي بن بليق صائر إليه ليمنعها منه فإذا دخل على القاهر يودعه قبض عليه فكتب ابن مقلة إلى الخليفة بما اتفقوا على إخباره به ولكن لم يتم ذلك لأن الخبر جاء القاهر سراً بما دبر عليه فاحتاط لنفسه وأنفذ إلى الساجية فأحضرهم وفرقهم في دهاليز الدار مستخفين فلما جاء ابن بليق وطلب الإذن لم يؤذن له ورد رداً قبيحاً من الساجية فخرج هارباً من الدار وعلم بليق بما جرى على ابنه فاحتدّ وقال لا بد من المضي إلى دار الخليفة حتى أعلم سبب ما فعل بابني فذهب هو وجميع القواد الذين بدار مؤنس فلما حضر أمر القاهر فقبض عليه وقبض كذلك على أحمد بن زيرك صاحب الشرطة ثم أرسل إلى مؤنس في داره من أحضره بالحيلة وكان قد استولى عليه الضعف والكبر فلما حضر الدار أمر بالقبض عليه واختفى الوزير ابن مقلة وأمر القاهر بالختم على دور مؤنس وبليق وابنه علي وابن مقلة وأحمد بن زيرك والحسن بن هارون ونقل دوابهم ووكل بحرمهم وأمر بإحراق دار ابن مقلة فأحرقت وظهر محمد ياقوت فولي الحجبة.

ولما تمكن القاهر من هؤلاء الأعداء وضبطهم بداره أمر بقتلهم جميعاً فقتلوا ورأى الناس من شدة القاهر ما علموا معه أنهم لا يسلمون من يده وندم كل من أعانه من الجنود حيث لم ينفعهم الندم.

ومن الغريب أن القاهر بعد أن تم له ما أراد أمر بالقبض على أكبر رجل ساعده وهو طريف السبكري الذي كان من قواد مؤنس فخانه.
بقي من أعداء القاهر الوزير ابن مقلة فإنه كان مستتراً لم يظهر عليه وكذلك الحسن بن هارون فكانا يراسلان قواد الساجية والحجرية ويخوفانهم من شر القاهر ويذكران لهم غدره ونكثه مرة بعد مرة وكان ابن مقلة يجتمع بالقواد ليلاً تارة في زي أعمى وتارة في زي مكد وتارة في زي امرأة ويغريهم به حتى ملأ صدورهم فاتفقوا على خلعه وزحفوا إلى الدار وهجموا عليها من سائر الأبواب فلما سمع القاهر الأصوات والجلبة استيقظ مخموراً وطلب باباً يهرب منه فلم يجده فقبضوا عليه وحبسوه ثم سملوا عينيه وبذلك انتهت مدته وكانت جامعة للمعايب والقبائح.

20- الراضي

نرجمته:

هو أبو العباس أحمد المقتدر بن أبي أحمد الموفق طلحة بن المتوكل وأمه أم ولد اسمها ظلوم ولد سنة 297 وبويع بالخلافة بعد خلع القاهر في5 جمادى الأولى سنة322(23 إبريل سنة934) ولم يزل خليفة إلى أن توفي في منتصف ربيع الأول سنة329(8 ديسمبر سنة940) فكانت مدته ست سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام.
كيف انتخب:

لما قبض على القاهر سأل القواد الخدم عن المكان الذي فيه أبو العباس بن المقتدر فدلوهم عليه وكان هو ووالدته محبوسين فقصدوا وفتحوا عليه ودخلوا فسلموا عليه بالخلافة وأجلسوه على السرير يوم الأربعاء لست خلون من جمادى الأولى ولقبوه الراضي وبايعه القواد.
الحال في عهده:

كانت الحال تزيد إدباراً وانتكاساً واضطراباً في عهده فأصحاب السلطان في العراق يتنافسون ويقتتلون والذين يحيطون بهم من المتغلبين يجدون ويجتهدون فدولة الأندلس زهت وعظمت بهمة الرجل العظيم أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر الذي أعلن في بلاده أنه أمير المؤمنين بعد أن لم يكن سلفه يتسمون بذلك وإنما كانوا يسمون بالأئمة. والدولة العبيدية في المغرب والمهدية قد اشتدت وطأتها وهي آخذة في العلو وتحاول الاستيلاء على مصر. وبنو بويه ظهروا واستولوا على كثير من بلاد الجبال والأهواز. والروم انتهزوا هذه الفرص لاقتطاع البلاد الإسلامية وغزوا الثغور وأهل بغداد مع هذا كله مشغولون بأنفسهم ومتكالبون على ما في أيديهم من البلاد العراقية كما ترى.

كانت الكلمة العليا في أول عهد الراضي لوزيره ابن مقلة وحاجبه محمد بن ياقوت فهما اللذان بأيديهما الحل والعقد في البلاد. في سنة223 نظر ابن مقلة فوجد محمد بن ياقوت قد تحكم في البلاد بأسرها وأنه هو لم يعد بيده شيء فسعى به إلى الراضي وأدام السعاية فبلغ ما أراد ففي خامس جمادى الأولى ركب جميع القواد إلى دار الخليفة حسب عادتهم وحضر الوزير ومحمد بن ياقوت ومعه كاتبه فأمر الخليفة بالقبض عليه وعلى أخيه المظفر بن ياقوت وحبسهما وقد مات محمد في الحبس ثم أطلق المظفر بعد أن أخذ عليه ابن مقلة العهد أنه يواليه ولا ينحرف عنه ولا يسعى له ولا لولده بمكروه. ظن ابن مقلة أن الوقت قد صفا له بحبس ابني ياقوت وأنه لم يعد له منافس في سلطانه ولكنه غفل عن المظفر الذي أطلقه من السجن بعد موت أخيه محمد فإن المظفر كان يظن أن ابن مقلة سم أخاه فكان لذلك يتحين الفرصة للقبض عليه فاتفق مع الجنود الحجرية أن يقبضوا على ابن مقلة فقبضوا عليه وأرسلوا إلى الراضي يعلمونه فاستحسن فعلهم وطلبوا من الخليفة أن يعين وزيراً فرد الاختيار إليهم فاختاروا للوزارة علي بن عيسى وعرضوها عليه فامتنع وأشار بوزارة أخيه عبد الرحمن فاستوزره الراضي وسلم إليه ابن مقلة فصادره.

رأى عبد الرحمن أنه لا يمكنه إدارة الحركة لازدياد الفساد فاستعفى فلم يقبل الراضي منه وقبض عليه وصادره على سبعين ألف دينار وصادر أخاه علياً على مائة ألف.

كتب ابن رائق كتاباً عن الراضي إلى أبي الفتح جعفر بن الفرات يستدعيه ليجعله وزيراً وكان يتولى الخراج بمصر والشام وظن ابن رائق أنه إذا استوزره جبى له أموال الشام ومصر فقدم بغداد ونفذت له الخلع قبل وصوله فلقيته بهيت فلبسها ودخل بغداد وتولى وزارة الخليفة ووزارة ابن رائق جميعاً.
أمر القرامطة:

لم تزل القرامطة على حالهم في الإفساد والعبث واعتراض الحجاج وفي سنة332 أرسل محمد بن ياقوت رسولاً إلى أبي طاهر يدعوه إلى طاعة الخليفة ليقره على ما بيده من البلاد ويقلده بعد ذلك من البلدان ويحسن إليه ويلتمس منه أن يكف عن الحاج جميعهم وأن يرد الحجر الأسود إلى موضعه بمكة فأجاب أبو طاهر إلى أنه لا يعترض للحاج ولا يصيبهم بمكروه ولم يجب إلى رد الحجر الأسود إلى مكة وسأل أن تطلق له الميرة من البصرة ليخطب للخليفة بهجر. فسار الحاج إلى مكة هذه السنة ولم يعترضهم القرمطي. ولكنه في سنة333 اعترضهم فخرج جماعة من العلويين بالكوفة إلى أبي طاهر فسألوه أن يكف عن الحاج فكف عنهم وشرط عليهم أن يرجعوا إلى بغداد فرجعوا ولم يحج هذه السنة من العراق أحد وسار أبو طاهر إلى الكوفة فأقام بها عدة أيام ورحل عنها.


الدولة الأخشيدية:

وفي عهد الراضي ظهرت الدولة الأخشيدية بمصرها على يد مؤسسها محمد الأخشيد بن طغج وهو من موالي آل طولون وكان ملكه مصر سنة323 واستمر الملك في عقبه إلى سنة358 وهم الذين تسلم منهم الفاطميون مصر وهذا ثبت ملوكهم:

(1) محمد الأخشيد بن طغج (323-334)

(2) أبو القاسم أنوجر بن الأخشيد (334-346)

(3) أبو الحسن علي بن الأخشيد 346-355)

(4) أبو المسك كافور مولى الأخشيد (355-357)

(5) أبو الفوارس أحمدبنعلي بن الأخشيد (357-357)

وفي عهد الراضي مات عبيد اللَّه المهدي أول خلفاء الفاطميين بالمهدية وولي بعده ابنه أبو القاسم محمد وكان ملك مصر فلم يتمكن.

ختم الراضي الخلفاء في أشياء منها أنه آخر خليفة دون له شعر وآخر خليفة انفرد بتدبير الملك وآخر خليفة خطب على منبر يوم الجمعة وآخر خليفة جالس الندماء ووصل إليه العلماء وآخر خليفة كانت مراتبه وجوائزه وخدمه وحجابه تجري على قواعد الخلفاء المتقدمين.

وفي أيامه حدث اسم أمير الأمراء في بغداد وصار إلى أمير الأمراء الحل والعقد والخليفة يأتمر بأمره وليس له من نفوذ الكلمة ولا سلطان الخلافة شيء.

وكان الراضي أديباً له شعر مدون يحب محادثة الأدباء والفضلاء والجلوس معهم وكان سمحاً سخياً.

yacine414
2011-03-18, 15:11
21-المتقي

ترجمته:

هو إبراهيم المتقي للَّه بن المعتمد بن أبي أحمد الموفق طلحة بن المتوكل وأمه أم ولد اسمها خلوب بويع بالخلافة في20 ربيع الأول سنة329(4 ديسمبر سنة940) ولم يزل خليفة حتى خلع في20صفر سنة333 (12 أكتوبر سنة944 فكانت مدته4 سنوات و 11 شهراً.
كيف انتخب:

لما مات الراضي كان بجكم بواسط، فورد كتابه مع وزيره أبي عبد اللَّه الكوفي يأمره فيه بأن يجتمع مع أبي القاسم سليمان بن الحين وزير الراضي كل من تقلد بالوزارة وأصحاب الدواوين والعلويون والقضاة والعباسيون ووجوه البلد ويشاورهم الكوفي فيمن ينصب للخلافة ممن يرتضي مذهبه وطريقته فجمعهم الكوفي واستشارهم فاتفقوا على إبراهيم بن المقتدر فبايعوه في التاريخ السابق ولقب نفسه المتقي اللَّه وسير الخلع واللواء إلى بجكم بواسط.
الحال في عهده:

كان بجكم أمير الأمراء والتدبير كله إلى وزيره أبي عبد اللَّه الكوفي وليس للخليفة ولا لوزيره سليمان بن الحسن شيء، لم يطل زمن بجكم في الإمارة فإن البريدي كان لا يزال يمني نفسه بالاستيلاء على بغداد فأنفذ من البصرة جيشاً إلى المذار فأنفذ إليه بجكم جيشاً يقوده قائد من كبار قواده اسمه توزون فالتقى الجيشان واقتتلا وكان النصر أولاً لجيش البريدي، فأرسل توزون إلى بجكم يطلب أن يلحق به فسار إليه وصادف أن عادت الكرة لتوزون فأرسل إلى بجكم يخبره بالظفر فأراد الرجوع إلى واسط فأشار عليه بعض أصحابه أن يتصيد، فسار حتى بلغ نهر جور وحينذاك اغتاله رجل من الأكراد الذين يسكنون هناك وكان قتله مفرجاً عن البريدي ومفيداً للمتقي لأنه استولى على داره وما فيها من الأموال فبلغ ما ناله ألف ألف ومائتي دينار. وكانت مدة إمارة بجكم سنتين وثمانية أشهر.

لما قتل بجكم انحدر الديلم إلى البريدي فقوي بهم وعظمت شوكته فسار مريداً الاستيلاء على بغداد ولم يتمكن الخليفة من صده فدخلها في12 رمضان سنة329 ولقيه الوزير والقضاة والكتاب وأعيان الناس فأنفذ إليه المتقي يهنئه بسلامته. ولم يتم له ما أراده من التأمير لأن الأتراك والديالمة اختلفوا عليه ففارق بغداد بعد أن أقام بها24 يوماً وحينئذ تقدم على الجند كورتكين الديلمي فسماه المتقي أمير الأمراء وخلع عليه. وكانت مدته مضطربة لأن عامة البغداديين تأذوا من الديلم فلم ينكر كورتكين على جنده ما فعلوه لذلك حصلت وقائع بين العامة والديلم ولما رأى المتقي أن كورتكين ليس عنده من المنعة ما يزيل به الاضطراب أرسل إلى ابن رائق وهو بالشام يطلب إليه الرجوع إلى بغداد ليكون أمير الأمراء فعاد. أما كورتكين فإنه خرج إليه وقابله بعكبراء فوقعت الحرب بينهما عدة أيام وفي 21 ذي الحجة سار ابن رائق بجيشه ليلاً فأصبح ببغداد وقابل المتقي أما كورتكين فإنه لما أحس في الصباح بمسير ابن رائق تبعه إلى بغداد وكانت عليه الهزيمة حين لاقته جنود ابن رائق فاختفى وأخذ ابن رائق من استأمن إليه من الديلم فقتلهم وكانوا نحو400 وحينئذ خلع المتقي على ابن رائق وسماه أمير الأمراء.

طلب المتقي من ناصر الدولة بن حمدان أن يعينه على البريدي فأرسل أخاه سيف الدولة لنصرته فلقيه هو ابن رائق بتكريت فرجع معهما إلى الموصل وهناك جاء ناصر الدولة واغتال ابن رائق لأنه يريد أن يحل محله في إمرة الأمراء وقد كان ذلك فإن المتقي خلع عليه وسماه أمير الأمراء في أول شعبان سنة 330 وخلع على أخيه أبي الحسن علي ولقبه ذلك اليوم بسيف الدولة.

بعد ذلك تجهز ناصر الدولة وسار إلى بغداد معه المتقي ولما قارباها هرب عنها أبو الحسين بن البريدي وسار إلى واسط بعد أن أقام ببغداد ثلاثة أشهر وعشرين يوماً ودخل المتقي بغداد ومعه بنو حمدان في جيوش كثيرة.

ثم خرج بنو حمدان يريدون واسط لأخذها من البريدي فأقام ناصر الدولة بالمدائن وسير أخاه سيف الدولة لقتال البريدي فالتقى به تحت المدائن بفرسخين وكانت مقاومة البريدي شديدة حتى إنه هزم سيف الدولة ومن معه فعاد إلى المدائن فقواهم ناصر الدولة بجنود أخرى فعادوا فقاتلوا أبا الحسين وهزموه.

اختار المتقي بعد رحيل ناصر الدولة لإمارة الأمراء أكبر قواد الديلم واسمه توزون ولم يكن عنده شيء من حسن السياسة فاستوحش منه المتقي وخافه على نفسه فرأى أن يسير إلى الموصل مستعيناً بالحمدانيين فبارح بغداد إليها ولما بلغ ذلك توزون تبعه حتى وصل تكريت وهناك التقى بسيف الدولة فقاتله وهزمه مرتين ثم استولى على الموصل فسار عنها بنو حمدان والمتقي معهم إلى نصيبين. ثم ترددت الرسل بين توزون من جهة وبين الحمدانيين والمتقي من جهة على الصلح فتم على أن يضمن ناصر الدولة ما بيده من البلاد ثلاث سنين كل سنة بثلاثة آلاف وستمائة ألف درهم وعاد توزون إلى بغداد ولم يعد معه المتقي بل استمر في الموصل. ثم أرسل إلى توزون يطلب منه أن يعود إلى بغداد فأظهر توزون الرغبة في ذلك وحلف للمتقي أنه لا يغدر به فاغتر المتقي بتلك اليمين. وسار إلى بغداد فلقيه توزون تحت هيت ولما رآه قبل له الأرض وقال: ها أنذا قد وفيت بيمني والطاعة لك ثم وكل به وبعد ذلك سمله وخلعه وبذلك انتهت خلافة المتقي.
22- المستكفي:

ترجمته:

هو أبو القاسم عبد اللَّه المستكفي باللَّه بن المكتفي بن المعتضد.

لما قبض توزون على المتقي أحضر المستكفي إليه إلى السندية وبايعه هو وعامة الناس.

الخلافة العباسية تحت سلطان آل بويه:

يبتدىء هذا الدور من سنة334 إلى سنة447 تولى الخلافة فيه خمسة خلفاء وهم: المستكفي والمطيع والطائع والقادر والقائم.

تاريخ هذا الدور يرتبط بتاريخ آل بويه الديلميين الذين كانوا أصحاب النفوذ الحقيقي والسلطان الفعلي في العراق لذلك أردنا أن نسوق فصلاً نبين فيه أحوال الديلم وكيف تصرفت بهم الأحوال إلى أن وصلوا إلى ذروة العظمة باستيلائهم على بغداد عاصمة الخلافة العباسية.

بلاد الديلم أو بلاد جيلان واقعة في الجنوب الغربي من شاطىء بحر الخزر سهلها للجبل وجبالها للديلم وقصبتها روزبار...

كانت في القديم إحدى الأيالات الفارسية إلا أن أهلها لم يكونوا من العنصر الفارسي بل عنصر ممتاز يطلق عليه اسم الديالمة أو الجيل. ولما أذن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه بالانسياح في بلاد العجم كانت بلاد الديلم مما فتحه المسلمون واستمر الديلم خاضعين للحكم الإسلامي مع بقائهم على وثنيتهم ولم يكن استيلاء المسلمين عليهم مما ينقص من شجاعتهم أو يفقدهم جنسيتهم. وكانت تجاورهم بلاد طبرستان وأكثر أهلها دانوا بالإسلام وكان بين الديالمة والطبريين سلم وموادعة.

على هذا كان الحال في صدر الدولة العباسية فلا الديالمة تحدثهم أنفسهم بالخروج إلى بلاد المسلمين ولا المسلمون يحدثون أنفسهم بالتوغل في بلادهم حتى كانت حادثة إقطاع المستعين محمد بن طاهر تلك القطاع التي يقرب بعضها من ثغور طبرستان وأراد رسول ابن طاهر أن يستلمها ومعها الأرض التي كانت مرافق لأهل تلك النواحي فامتنع من ذلك أهل طبرستان وأظهروا العصيان لمحمد بن طاهر ورأوا أن ذلك لا يتم إلا أن يكون على رأسهم رجل يدينون بطاعته فاتفقوا على الحسن بن زيد الذي قدمنا حديثه في خلافة المستعين وكان مقيماً بالري فراسلوه فأقبل إليهم فبايعوه وطلبوا من الديلم أن يساعدوهم على عمال ابن طاهر فبذلوا لهم ما طلبوا من المساعدة لإساءة كانت من عمال ابن طاهر إليهم. استولت هذه القوة على مدن طبرستان ثم الري وجرجان ولم يزل الحسن مدبر أمرهم حتى مات سنة271 ثم ولي أخوه ومحمد بن زيد وكانت مدته مضطربة حتى قتل سنة 287 وكان وجود الحسن بن زيد وأخيه في تلك البلاد سبباً لمواصلة أهل الديلم وشيوع الدعوة الإسلامية بينهم.

بعد ذلك دخل بلاد الديلم الحسن بن علي الملقب بالأطروش وأقام بينهم ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام ويقتصر منهم على العشر ويدفع عنهم عدوهم فأسلم منهم خلق كثير واجتمعوا عليه وبنى في بلادهم المساجد.

وتوفي الأطروش سنة304 وكان يلقب بالناصر للَّه وكان له من الأولاد الحسن وأبو القاسم والحسين وكان الحسن مغاضباً له فلم يوله شيئاً وولى ابنيه الآخرين فكانت طبرستان في أيديهم بمعونة الحسن بن القاسم الداعي.

كان من أهم مقاصد ابن بويه المسير إلى العراق بعد الاستيلاء على واسط فصار أحمد ابن بويه يسير إلى واسط ثم يعود عنها حتى كاتبه قواد بغداد يطلبون إليه المسير نحوهم للاستيلاء على بغداد فوصلها في11 جمادى الأولى سنة334 والخليفة بها هو المكتفي باللَّه فقابله واحتفى به وبايعه أحمد وحلف كل منهما لصاحبه هذا بالخلافة وذاك بالسلطنة وفي هذا اليوم شرف الخليفة بني بويه بالألقاب فلقب علياً صاحب بلاد فارس عماد الدولة وهو أكبرهم ولقب الحسن صاحب الري والجبل ركن الدولة ولقب أحمد صاحب العراق معز الدولة وأمر أن تضرب ألقابهم وكناهم على النقود.

وهذا اليوم هو تاريخ الدور الثاني للخلافة العباسية وهو تاريخ سقوط السلطان الحقيقي من أيديهم وصيرورة الخليفة منهم رئيساً دينياً لا أمر له ولا شيء ولا وزير وإنما له كاتب يدبر إقطاعاته وإخراجاته لا غير وصارت الوزارة لمعز الدولة يستوزر لنفسه من شاء.

وكان يخطر ببال معز الدولة أن يزيل اسم الخلافة أيضاً عن بني العباس ويوليها علوياً لأن القوم كانوا شيعة زيدية لأن التعاليم الإسلامية وصلت إليهم على يد الحسن بن زيد ثم على يد الحسن الأطروش وكلاهما زيدي فكانوايعتقدون أن بني العباس قد غصبوا الخلافة وأخذوها من مستحقيها ولكن بعض خواصه أشار عليه ألا يفعل وقال له إنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة ولو أمرتهم بقتله لقتلوه مستحلين دمه ومتى أجلست بعض العلويين خليفة كان معك من تعتقد أنت وأصحابك صحة خلافته فلو أمرهم بقتلك لفعلوا فأعرض عما كان قد عزم عليه وأبقى اسم الخلافة لبني العباس وانفرد هو بالسلطان ولم يبق بيد الخليفة شيء البتة إلا أقطعه معز الدولة مما يقوم بحاجته.

كان السلطان في ذلك الوقت ببلاد الأندلس لبني أمية والقائم بالأمر منهم عبد الرحمن الناصر وقد لقب بأمير المؤمنين حينما وصلت خلافة بغداد إلى ما وصلت إليه من الضعف أمام الأتراك والديالمة الذين سال سيلهم ببغداد.

وببلاد أفريقية للعبيد الذين تأسست دولتهم على أنقاض الأغالبة والأدراسة والقائم بالأمر منهم إسماعيل المنصور وهو ثاني خلفائهم وكان يلقب بأمير المؤمنين.

وبمصر والشام للأخشيديين والأمير منهم أنوجور بن محمد الأخشيد وكانوا يخطبون باسم الخليفة العباسي.

وبحلب والثغور لسيف الدولة علي بن عبد اللَّه بن حمدان الشيباني ويخطب باسم الخليفة العباسي.

وبالجزيرة الفراتية لناصر الدولة الحسن بن عبد اللَّه بن حمدان الشيباني يخطب باسم الخليفة العباسي.

وبالعراق للديلم والسلطان منهم معز الدولة أحمد بن بويه ويخطب على منابره باسم الخليفة العباسي ثم باسم معز الدولة من بعده.

وبعمان والبحرين واليمامة وبادية البصرة للقرامطة ويخطبون باسم المهدي.

وبفارس والأهواز لعلي بن بويه الملقب عماد الدولة ويخطب باسم الخليفة العباسي وكان يلقب بأمير الأمراء لأنه أكبر بني بويه.

وبالجبل والري لحسن بن بويه الملقب ركن الدولة ويخطب باسم الخليفة العباسي وجرجان وطبرستان يتنازعهما وشمكين بن شيرويه وركن الدولة وآل سامان.

وبخراسان وما وراء النهر لآل سامان ومقر ملكهم مدينة بخارى ويخطبون على منابرهم باسم الخليفة العباسي.

هذه هي القرى الكبرى التي كانت لأسر ملوكية في الرقعة الإسلامية فقد تفرق هذا الملك الواسع تفرقاً غريباً بعد أن كان متماسك الأعضاء يرجع كله إلى حاضرة كبرى تجمع شتاته. ومما يستحق النظر أن العنصر العربي لم يبق له شيء من الملك إلا ما كان لناصر الدولة وأخيه سيف الدولة فإنهما من عنصر عربي ومع هذا فقد كان النفوذ والسلطان فيما يليانه من البلاد لقواد من الأتراك ولم يكن لهما استقلال سياسي بل كان أمر بني بويه فوقهما وكانا يذكران اسم معز الدولة في الخطبة بعد ذكر الخليفة العباسي.

لم يمكث المستكفي في الخلافة بعد استيلاء معز الدولة إلا أربعين يوماً وخلع لأن معز الدولة اتهمه بالتدبير عليهم فصمم على خلعه ففي الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة334 حضر الخليفة وحضر الناس ورسول صاحب خراسان ثم حضر اثنان من نقباء الديلم يصيحان فتناولا يد المستكفي فظن أنهما يريدان تقبيلهما فمدها إليهما فجذباه عن سريره وجعلا عمامته في حلقه ونهض معز الدولة واضطربت الناس ونهبت الأموال وساق الديلميان المستكفي ماشياً إلى دار معز الدولة فاعتقل بها ونهبت دار الخلافة حتى لم يبق بها شيء وقبض على أبي أحمد الشيرازي كاتب المستكفي وكان مدة المستكفي سنة واحدة وأربعة أشهر.

yacine414
2011-03-18, 15:16
23- المطيع:

ترجمته :

هو الفضل المطيع للَّه بن المقتدر بن المعتضد فهو ابن عم المستكفي بويع بالخلافة ثاني عشر جمادى الآخرة سنة334(29 يناير سنة946) ولم يزل خليفة إلى أن خلع في منتصف ذي القعدة سنة أغسطس سنة363(7 فكانت مدته29 سنة وخمسة أشهر غير أيام ولم يكن له من الأمر شيء والنفوذ في حياته للملوك من آل بويه وهم:

أولاً:- معز الدولة:

وهو أحمد بن بويه فاتح العراق وكان أصغر إخوته وكان سلطان معز الدولة بالعراق بداية خرابه بعد أن كان جنة الدنيا فإنه لما استقرت قدمه فيه شغب الجند عليه وأسمعوه المكروه فضمن لهم أرزاقهم في مدة ذكرها لهم فاضطر إلى ضبط الناس وأخذ الأموال من غير وجوهها وأقطع قواده وأصحابه بالقرى جميعها التي للسلطان وأصحاب الأملاك فبطل لذلك أكثر الدواوين وزالت أيدي العمال وكانت البلاد قد خربت من الاختلاف وفي الغلاء والنهب فأخذ القواد القرى وزادت عمارتها معهم وتوفر دخلها بسبب الجاه فلم يمكن معز الدولة العود عليهم بذلك وأما الاتباع فإن الذي أخذوه زاد خراباً فردوه وطلبوا العوض عنه فعوضوا وترك الأجناد الاهتمام بمشارب القرى وتسوية طرقها فهلكت وبطل الكثير منها.

وفي سنة352 أمر معز الدولة عاشر المحرم أن يغلقوا دكاكينهم ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء وأن يظهروا النياحة ويلبسوا قباباً عمولها بالمسوح وأن يخرج النساء منشورات الشعور مسودات الوجوه قد شققن ثيابهن يدرن في البلد بالنوائح ويلطمن وجوههن على الحسين بن علي رضي اللَّه عنهما ففعل الناس ذلك ولم يكن للسنية قدرة على المنع لكثرة الشيعة ولأن السلطان معهم.

وفي ثامن عشر ذي الحجة أمر معز الدولة بإظهار الزينة في البلد وأشعلت النيران بمجلس الشرطة وأظهر الفرح وفتحت الأسواق بالليل كما يفعل ليالي الأعياد فعل ذلك احتفالاً بعيد الغدير يعني غدير خم وهو الموضع الذي يروى أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال فيه عن علي: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وضربت الدبادب والبوقات وكان يوماً مشهوداً.

وبهذا الانقسام صارت بغداد وبلاد فارس والري ميداناً للاضطرابات المتكررة بين العامة والسلطان ضلعه مع أحد الفريقين والخليفة ضلعه مع الفريق الآخر.

ومع ما أدت إليه سياسة معز الدولة من هذا الفساد كانت هناك أمور أخرى تشغل باله في شمالي بلاده وجنوبيها أما في الشمال فناصر الدولة بن حمدان بالموصل وكان الرجلان يتنازعان السلطان وكل يريد الإغارة على ما بيد الآخر.

ثانياً:- عز الدولة بختيار:

وهو ابن معز الدولة أحمد بن بويه ولي العراق بعد وفاة أبيه واستمر في سلطانه إلى أن خلعه ابن عمه عضد الدولة سنة367 فكانت مدته11 سنة قضى منها سبع سنين في خلافة الفضل المطيع وكانت البلاد في سلطانه أسوأ حالاً منها في سلطان أبيه فإنه اشتغل باللهو واللعب وعشرة النساء والمغنين وشرع في إيحاش كاتبي أبيه أبي الفضل العباس بن الحسين وأبي الفرج محمد بن العباس مع أن أباه أوصاه بتقريرهما لكفايتهما وأمانتهما وأوحش سبكتكين أكبر القواد فلم يحضر داره ونفى كبار الديلم شرها إلى اقطاعاتهم وأموالهم وأموال المتصلين بهم فاتفق أصاغرهم عليه وطلبوا الزيادات فاضطر إلى مرضاتهم واقتدى بهم الأتراك فعملوا مثل ذلك ولم يتم له على سبكتكين ما أراد من اغتياله لاحتياطه واتفاق الأتراك معه وخرج الديلم إلى الصحراء وطلبوا بختيار بإعادة من سقط منهم فاحتاج أن يجيبهم إلى ما طلبوا وفعل الأتراك أيضاً مثل فعلهم وفي أول عهده قبض أولاد ناصر الدولة بن حمدان ملك الموصل على أبيهم واستقر في الأمر منهم ابنه أبو تغلب وضمن البلاد من عز الدولة بألف ألف ومائتي ألف درهم كل سنة وكذلك مات سيف الدولة علي بن عبد اللَّه ابن حمدان صاحب حلب وقام مقامه ابنه أبو المعالي شريف. ومات كافور الأخشيدي صاحب مصر سنة 356 وبموته اضطرب أمرها وتهيأت الفرصة للفاطميين. ومات وشمكير بن زيار وهو يحارب ركن الدولة على بلاد الري يريد استردادها منه وقام بأمر ملكه بعده ابنه بيستون بن وشمكير سنة357 ومات أيضاً نقفور الذي ملك الروم وهدد الثغور الشامية والجزرية وأذاقها الوبال.

حال الثغور الإسلامية في عهد المطيع:

كانت الثغور الإسلامية لذلك العهد في حوزة سيف الدولة علي بن حمدان الذي كان متغلباً على حلب والعواصم وديار بكر فكان هو الذي يقوم بحمايتها ودفع العدو عنها. وكان قد ولى هذه الثغور مولاه نصراً فكانا يتناوبان الغزو ولكن لم تكن بهما الكفاية لمقاومة عدو كانت الخلافة الكبرى تحتد له وتهتم أعظم الاهتمام بأمره.

وفي سنة337 سار سيف الدولة بنفسه إلى بلاد الروم فلقوه فاقتتلوا فكانت عليه وأخذ الروم مرعش وأوقعوا بأهل طرسوس. وفي السنة التي تليها دخل غازياً فكان له النصر أولاً ولكنه توغل في البلاد فلما أراد العودة أخذ عليه الروم المضايق فهلك من كان معه من الجند أسراً الغنائم والسبي وغنموا أثقال المسلمين وأموالهم ونجا سيف الدولة في عدد يسير.

وفي سنة341 ملك الروم مدينة سروج وسبوا أهلها وغنموا أموالهم وخربوا المساجد.

وفي سنة343 غزا سيف الدولة البلاد الرومية وكان له بها نصر عظيم وقتل في تلك الواقعة قسطنطين بن الدمستق وقد عظم مقتله على أبيه فجمع عساكره من الروم والروس والبلغار وغيرهم وقصد الثغور فسار إليه سيف الدولة فالتقوا عند الحدث في شعبان فاشتد القتال وصبر الفريقان وكانت العاقبة للمسلمين فانهزم الروم وقتل منهم وممن معهم خلق عظيم وأسر صهر الدمستق وابن بنته وكثير من بطارقته والدمستق عند الروم الرئيس الأكبر للجيش والبطارقة قواده.

وفي سنة345 سار سيف الدولة إلى بلاد الروم في جيوشه حتى وصل إلى خرشنة وفتح عدة حصون ثم رجع إلى أذنة فأقام بها حتى جاءه رئيس طرسوس فخلع عليه وأعطاه شيئاً كثيراً ثم عاد إلى حلب فلما سمع الروم بما فعل جمعوا جموعهم وساروا إلى ميافارقين بديار ربيعة فأحرقوا سوادها ونهبوه وسبوا أهله ونهبوا أموالهم وعادوا ولم يكتفوا بذلك بل ساروا في البحر إلى طرسوس فأوقعوها بأهلها وقتلوا منهم1800 رجل وأحرقوا القرى التي حولها. ثم غزوها مرة ثانية سنة347 وغزوا الرها ففعلوا بها الأفاعيل وعادوا سالمين لم يكلم أحد منهم كلما.

وفي سنة345 سار سيف الدولة إلى بلاد الروم في جمع عظيم فأثر فيهاآثاراً شديدة وفتح عدة حصون وبلغ إلى خرشنة ثم إن الروم أخذوا عليه المضايق فلما أراد الرجوع قال له من معه من أهل طرسوس إن الروم قد ملكوا الدرب خلف ظهرك فلا تقدر على العود منه والرأي أن ترجع معنا فلم يقبل منهم وكان معجباً برأيه يحب أن يستبد ولا يشاور أحداً لئلا يقال إنه أصاب برأي غيره وعاد من الدرب الذي دخل منه فظهر الروم عليه واستردوا ما كان معه من الغنائم وأخذوا أثقاله ووضعوا السيف في أصحابه فأتوا عليهم قتلاً وأسراً وتخلص هو في300 رجل بعد جهد وهذا من سوء رأي المستبدين.

وفي سنة350 سار قفل عظيم من أنطاكية إلى طرسوس ومعهم صاحب أنطاكية فخرج عليهم كمين للروم فأخذ من كان فيه من المسلمين وقتل كثيراً منهم وأفلت صاحب أنطاكية وبه جراحات.

وفي سنة351 غزا الدمستق عين زربة وهي من أحصن مدن الثغور فاستولى عليها وقتل أهلها ولم يرحم شيخاً ولا صبياً وأفلت قليل منهم هربوا على وجوههم فماتوا في الطرقات وفتح حول عين زربة54 حصناً للمسلمين بعضها بالسيف وبعضها بالأمان.

وفي هذه السنة استولى ملك الروم على مدينة حلب حاضرة ملك سيف الدولة فخرج عنها سيف الدولة منهزماً بعد أن قتل أكثر أهل بيته وظفر الدمستق بأموال سيف الدولة وكنوزه وأسلحته وخرب داره التي كانت بظاهر حلب وسبي من حلب وحدها بضعة عشر ألف صبي وصبية وصبية وقتل أكثر من ذلك ولما لم يبق مع الروم ما يحملون عليه غنائمهم أمر الدمستق بإحراق الباقي وأحرق المساجد وأقام بحلب تسعة أيام أراد الانصراف عنها فانصرف عازماً على العودة. وظهر بذلك غلبة الروم على المسلمين إلا أن هؤلاء كانوا يغيرون أحياناً بقيادة سيف الدولة أو أحد غلمانه ولكنهم لا يؤثرون عظيم أثر.

وفي سنة353 حصر الدمستق مدينة المصيصة ولكن أهلها أحسنوا الدفاع عنها فأحرق الروم رستاقها ورستاق أذنة وطرسوس لمساعدتهما أهل المصيصة.

وفي سنة354 ألح نقفور على المصيصة بالحرب حتى فتحها عنوة ووضع السيف في أهلها فقتل منهم مقتلة عظيمة ثم رفع السيف عنها ونقل كل من بها إلى بلاد الروم وكانوا نحواً من مائتي ألف إنسان ثم سار إلى طرسوس فحصرها فأذعن أهلها بالطاعة وطلبوا الأمان فأجابهم إليه وفتحوا البلد فلقيهم بالجميل وأمرهم أن يحملوا من سلاحهم وأموالهم ما يطيقون ويتركوا الباقي ففعلوا ذلك وساروا براً وبحراً وسير معهم من يحميهم حتى بلغوا أنطاكية وجعل الملك المسجد الجامع اصطبلاً لدوابه وأحرق المنبر.

وفي سنة358 دخل ملك الروم الشام فلم يمنعه أحد فسار في البلاد إلى طرابلس وأحرق بلدها وحصر قلعة عرقة فملكها ونهبها وسبى من فيها ثم قصد حمص وكان أهلها قد انتقلوا عنها وأخلوها فأحرقها ملك الروم ورجع إلى بلدان الساحل فأتى عليها نهباً وتخريباً وملك ثمامية عشر منبراً فأما القرى فكثير لا يحصى وأقام في بلاد الشام شهرين يقصد أي موضع شاء ويخرب ما شاء ولا يمنعه أحد.

وكانت هذه الحوادث الجلية سبباً لازدياد الهياج ببلاد خراسان وتنادى الناس بالنفير العام لحماية الثغور الإسلامية فتطوع منهم عشرون ألفاً عليهم قائد منهم وكان فيهم أبو بكر محمد إسماعيل بن القفال الشاشي أحد أئمة الشافعة بما وراء النهر. ومما يحزن أن هذا الجيش المتطوع اضطر إلى المرور ببلاد الجبل التي في حوزة ركن الدولة وهو ديلمي يكرهه أهل خراسان ويعتقدون أن الديلم هم سبب كل هذه البلايا فحصلت فتن بين المتطوعين والديلم وكانت نتيجتها أن حاربهم ركن الدولة وشتت شملهم.

وفي سنة359 ملك الروم مدينة أنطاكية وهي حاضرة الثغور وأضخمها وأخذوا منها سبياً يزيد على عشرين ألفاً كلهم شباب صبيان وصبايا وأخرجوا المشايخ والعجائز والأطفال من البلد ليذهبوا حيث يشاؤون. ولما تم لهم ملك أنطاكية غزوا حلب وبها قرعويه السيفي غلام سيف الدولة وكان أبو المعالي شريف بن سيف الدولة يحاربه فلما سمع بخبر الروم فارق حلب وقصد البرية ليبعد عن الروم أما هؤلاء فجداؤوا وحصروا البلد فتحصن قرعوية بقلعتها واستولى الروم على البلد ثم صالحهم قرعوية على مال يؤديه لهم وأعطاهم رهائن على ذلك.

وفي سنة361 أغار ملك الروم على الرها ونواحيها وساروا في الجزيرة حتى بلغوا نصيبين فغنموا وحرقوا وخربوا البلاد وفعلوا مثل ذلك بديار بكر ولم يكن من أبي تغلب بن حمدان في ذلك حركة ولا سعي في دفعه ولكنه حمل إليه مالاً كفه به عن نفسه فسار جماعة من أهل تلك البلاد إلى بغداد مستنصرين وقاموا في الجوامع والمشاهد واستنفروا المسلمين وذكروا ما فعله الروم من النهب والقتل والأسر والسبي فاستعظم ذلك الناس وخوفهم أهل الجزيرة من انفتاح الطريق وطمع الروم أنه لا مانع منهم فاجتمع معهم أهل بغداد وقصدوا دار الخليفة وأرادوا الهجوم عليه فمنعوا من ذلك وغلقت الأبواب وكان بختيار حينئذ يتصيد بنواحي الكوفة فخرج إليه وجوه أهل بغداد مستغيثين منكرين عليه اشتغاله بالصيد وقتال عمران بن شاهين صاحب البطيحة وهو مسلم وترك جهاد الروم ومنعهم عن بلاد الإسلام حتى توغلوها فوعدهم التجهز للغزو وأرسل الحاجب سبكتكين يأمره بالتجهز وأن يستنفر العامة ففعل سبكتكين ذلك فاجتمع من العامة عدد كثير لا يحصون كثرة وكتب بختيار إلى أبي تغلب بن حمدان صاحب الموصل يأمره بإعداد الميرة والعلوفات ويعرفه عزمه على الغزو فأجابه بإظهار السرور وإعداد ما طلب منه ثم أنفذ بختيار إلى المطيع للَّه يطلب منه مالاً فقال المطيع إن الغزو والنفقة عليه وعلى غيره من مصالح المسلمين تلزمني إذا كانت الدنيا في يدي وتجبي إليَّ الأمور وأما إذا كانت حالي هذه فلا يلزمني شيء من ذلك وإنما يلزم من البلاد في يده وليس لي إلا الخطبة فإن شئتم أن اعتزل فعلت وترددت الرسائل بينهما حتى وصل الحال إلى تهديد الخليفة فبذل المطيع400 ألف درهم فاحتاج إلى بيع ثيابه وأنقاض داره وغير ذلك وشاع بين الناس من أهل العراق وخراسان وغيرهم أن الخليفة قد صودر فلما قبض بختيار المال صرفه في مصالحه وبطل حديث الغزو.

وفي سنة362 كانت واقعة بين الدمستق وبين هبة اللَّه بن ناصر الدولة بن حمدان وكان الروم يريدون الاستيلاء على آمد فاستعد له أبو تغلب وأرسل أخاه هبة اللَّه فواقع الدمستق في مضيق لا تجول فيه الخيل والروم على غير أهبة فانهزموا وأسر الدمستق ولم يزل محبوساً إلى أن مرض سنة 363 فبالغ أبو تغلب في علاجه وجمع الأطباء له فلم ينفعه ذلك ومات.

هذه كانت الحال في خلافة المطيع استرد الروم فيها جميع الثغور الإسلامية الكبرى وصارت لهم الهيبة في قلوب المسلمين من أهل الجزيرة والشام وبنو بويه وبنو حمدان يغزو بعضهم بعضاً وهم عما نابهم من عدوهم مشتغلون.

ومما حصل في عهد المطيع من الحوادث انتقال خلفاء الفاطميين إلى مصر بعد استيلاء جوهر الصقلي عليها وذلك سنة361 في عهد الخليفة المعز لدين اللَّه معد الفاطمي.
خلع المطيع:

لم يكن للمطيع عمل ولا تاريخ يذكر وقد فلج فأشار عليه سبكتكين مقدم الأتراك أن يعتزل فلم يجد من الامتثال بداً فخلع نفسه في منتصف ذي القعدة سنة363 .

24- الطائع:

ترجمته:

هو أبو الفضل عبد الكريم الطائع للَّه بن المطيع بن المقتدر بن المعتضد ولد سنة317 وبويع له بالخلافة بعد خلع أبيه المطيع (18 أغسطس سنة974 واستمر خليفة إلى أن خلع في21 رجب سنة 381( أكتوبر سنة991) فكانت مدته 17 سنة وثمانية أشهر وستة أيام.

كانت خلافة الطائع والسلطان بالعراق لخمسة من بني بويه وهم:

أولاً:- عز الدولة بختيار بن معز الدولة إلى سنة367.

ثانياً:- عضد الدولة فناخسرو بن ركن الدولة الحسن بن بويه إلى سنة372.

ثالثاً:- صمصام الدولة أبو كاليجار المرزبان بن عضد الدولة إلى سنة376.

رابعاً:- شرف الدولة أبو الفوارس سيرزيل بن عضد الدولة إلى سنة379.

خامساً:- بهاء الدولة أبو نصر فيروز بن عضد الدولة.

ولي الطائع وأمر بختيار مضطرب لأن الأتراك وفي مقدمتهم سبكتكين قد تباعد ما بينهم وبينه وكانت العامة من أهل السنة تنصر سبكتكين لكراهة ما كان عليه بنو بويه من التشيع الشديد الذي كان سبباً لفتنة عظيمة ببغداد بين أهل السنة والشيعة سفكت فيها الدماء وأحرقت الكرخ التي كانت محلة الشيعة وظهر أهل السنة عليهم فكتب بختيار إلى عمه ركن الدولة بأصبهان وإلى ابن عمه عضد الدولة يسألهما أن يساعداه على الأتراك فجهز إليه ركن الدولة جنداً مع وزيره ابن العميد وأما عضد الدولة فكان ميالاً إلى ملك العراق فتربص ببختيار الدوائر كرر إليه بختيار الكتب يستغيث به ويستحثه فلما رأى عضد الدولة أن الأمر قد بلغ ببختيار ما يرجوه سار نحو العراق ظاهره رحمة لبختيار وباطنه إرادة الاستيلاء على العراق فسار إلى واسط ومنها إلى بغداد فتغلب على عساكر الأتراك في 14 جمادى الأولى سنة364 ودخل بغداد ظافراً وكان يريد القبض على بختيار فوسوس إلى جنده أن يثوروا عليه ويشغبوا ويطالبوه بالأموال ففعلوا ولم يكن مع بختيار ما يسكنهم به وأشار عليه عضد الدولة ألا يلتفت إلى شكواهم ويغلظ في معاملتهم ففعل ذلك فاستمر هذا الحال أياماً وحينئذ استدعي بختيار هو وإخوته إليه وقبض عليهم وجمع الناس وأعلمهم استعفاء بختيار عن الإمارة وعجزه عنها ووعد الجنود بالإحسان إليهم وأظهر الخليفة سروره مما تم لأنه كان منافياً لبختيار وقد قابله عضد الدولة بأن أظهر من رسوم الخلافة وتعظيمها ما كان قد نسي وترك وأمر بعمارة دار الخلافة والإكثار من الآلات وعمارة ما يتعلق بالخليفة وحماية أقطاعه.

لم يطل الأمر إلا بمقدار ما توفي ركن الدولة سنة466 فاستولى ابنه عضد الدولة على ملكه بعهد منه وما عتم أن تجهز إلى بغداد وأرسل إلى بختيار يطلب منه الطاعة وأن يسيره عن العراق إلى أي جهة شاء وضمن مساعدته بما يحتاج إليه من مال وسلاح فأجاب بختيار إلى ذلك وسلم إلى عضد الدولة ووزيره الأمير محمد بن بقية ثم سار حتى دخل بغداد وخطب له بها ولم يكن قبل ذلك يخطب لأحد ببغداد وضرب على بابه ثلاث نوب ولم تجر بذلك عادة من تقدمه وأمر بأن يلقى ابن بقية بين قوائم الفيلة لتقتله ففعل به ذلك وصلب على رأس الجسر في شوال سنة376 وهو الذي رثاه أبو الحسين الأنباري بقصيدته المشهورة التي أولها:

علو في الحياة وفي الممات لحق أنت إحدى المعجزات



استقر ملك عضد الدولة بالعراق وما معهما من ملك أبيه ومحمد ثم سار نحو الموصل فملكها وأقام بها مطمئناً وأزال عنها الدولة الحمدانية وبثّ سراياه في طلب أبي تغلب الحمداني فهرب أبو تغلب على وجهه إلى بلاد الروم وفتحت الجنود العضدية جميع ديار بكر وديار ربيعة ثم افتتح ديار مضر إلى الرقة وجعل باقيها في يد سعد الدولة بن سيف الدولة صاحب حلب وبذلك اتسمت أملاك عضد الدولة وصار له العراق والجزيرة والأهواز وفارس والجبال والري ثم دخلت في حوزته جرجان سنة371 أخذها من صاحبها قابوسبن وشمكير.

لم يقم في آل بويه من يماثل عضد الدولة جرأة وإقداماً وكان عاقلاً فاضلاً حسن السياسة والإصابة شديد الهيبة بعيد الهمة ثاقب الرأي محباً للفضائل واهباً باذلاً في موضع العطاء مانعاً في مواضع الحزم ناظراً في عواقب الأمور وهو الذي بنى على مدينة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سوراً.

ومما يعد من سيئاته أنه أحدث في آخر أيامه رسوماً جائرة في المساحة والضرائب على بيع الدواب وغيرها من الأمتعة ومنع من عمل الثلج والقز وجعل ذلك متجراً خاصاً وكان يتوصل إلى أخذ المال بكل طريق. توفي عضد الدولة في شوال سنة372.

اجتمع القواد بعد وفاته على بيعة ابنه أبي كاليجار المرزبان الملقب صمصام الدولة وكان إخوته وبنو أعمامه متفوقين في الولايات فأخوه شرف الدولة شيرزيل بفارس وعمه مؤيد الدولة أبو منصور بويه بجرجان.

مكث صمصام الدولة قائماً بأمر العراق واضطراب لاحق من جراء خلاف أخيه شرف الدولة عليه فإنه أظهر مشاقته وقطع خطبته فسير إليه جيشاً كانت عاقبته الهزيمة.

وخرجت عن يده بلاد الموصل استولى عليها الأكراد وعليهم شجاع باذ بن دوستك وهو من الأكراد الحميدية وكان ابتداء أمره أنه كان يغزو كثيراً بثغور ديار بكر وكان عظيم الخلقة وله شدة وبأس فلما ملك عضد الدولة حضر عنده ثم فاته لما تخوف منه وذهب إلى ثغور ديار بكر وأقام بها إلى أن استفحل أمره وقوي ملك ميافارقين وغيرها من ديار بكر بعد موت عضد الدولة ووصل بعض أصحابه إلى نصيبين فاستولى عليها فجهز إليه صمصام الدولة العساكر فانهزمت وقوي أمر باذ وغلب جيوش الديلم ثم سار إلى الموصل فملكها وحدثته نفسه بالاستيلاء على بغداد وإزالة الديلم عنها فخافه صمصام الدولة وأهمه أمره وأعد له جيشاً عظيماً مستوفي العدة فلقوه بظاهر الموصل وهزموه هزيمة منكرة فخرج منها ثم انتهى الحال بالصلح بين الديلم وباذ على أن يكون لباذ ديار بكر والنصف من طور عبدين.

كانت هذه الاضطرابات والمشاغل سبباً لأن شرف الدولة صاحب فارس تجهز يريد الاستيلاء على الأهواز والعراق فسار بجيشه سنة375 فاستولى على الأهواز من يد أخيه أبي الحسن الملقب بتاج الدولة ثم سار إلى البصرة فملكها، بلغ الخبر صمصام الدولة فراسله في الصلح فاستقر الأمر بينهما على أن يخطب لشرف الدولة بالعراق بعد صمصام الدولة ويكون هذا نائباً عنه فصلح الحال واستقام وخطب لشرف الدولة بالعراق وسيرت إليه الخلع من الطائع للَّه فلما وردته الرسل بذلك ليحلفوه عاد عن الصلح وعزم على قصد بغداد والاستيلاء عليها ونفذ تلك العزيمة فلما وصل واسط ملكها فاتسع الخرق على صمصام الدولة وشغب عليه الجند فوقع رأيه على اللحاق بأخيه والدخول في طاعته فسار إليه فقبض عليه شرف الدولة وسار إلى بغداد فدخلها في رمضان سنة376 وانتهت مدة صمصام الدولة بالعراق ومقدارها ثلاث سنين وأحد عشر شهراً.

ومن أحدث هذا البيت في عهد وفاة عمه مؤيد الدولة بويه بن ركن الدولة صاحب جرجان واستيلاء أخيه فخر الدولة علي بن ركن الدولة على بلاده باختيار القواد والوزير الكبير الصاحب بن عباد.

ملك شرف الدولة شيرزيل بغداد بعد صمصام الدولة بسنتين وثمانية أشهر وقد ابتدأ عهده باضطراب وفتن بين جنود الديلم والترك ببغداد أدى إلى قتال بينهم وقد بذل شرف الدولة جهده حتى أزال من بينهم الخصام ومن فضائل شرف الدولة أنه منع الناس من السعايات ولم يقبلها فأمن الناس وسكنوا.

وكانت وفاة شرف الدولة في جمادى الآخرة سنة379.

تولى العراق بعده أخوه بها الدولة أبو نصر. ولأول تولية تجددت الاضطرابات بين الترك والديلم وأدت إلى قتال دام خمسة أيام وانضم بهاء الدولة إلى الأتراك فاشتد الأمر على الديلم ومع ما حصل من الصلح بين الفريقين فإن الديلم قد ضعفت شوكتهم وتغلب الأتراك عليهم. وكانت بينه وبين آل بيته فتن كثيرة بسبب طمعهم فيما بيده من الملك ومحاولتهم سلبه منه ولكنهم أخفقوا.

وفي سنة381 قبض بهاء الدولة على الطائع للَّه وذلك أن الأموال قلت عنده فشغب عليه الجند فأطمعه وزيره في أموال الخليفة وحسن له القبض عليه فأرسل إلى الطائع وسأله الإذن في الحضور ليجدد العهد به فأذن له في ذلك وجلس له كما جرت العادة فدخل إليه بهاء الدولة ومعه عدد كثير فلما دخل قبل الأرض وأجلس على كرسي فدخل بعض الديلم كأنه يريد أن يقبل الخليفة فجذبه فأنزل عن سريره والخليفة يقول إنا للَّه وإنا إليه راجعون ويستغيث فلا يلتفت إليه وأخذ ما في داره من الذخائر.

ولما حمل الطائع إلى دار بهاء الدولة أشهد عليه بالخلع.
25- القادر:

ترجمته:

هو أبو العباس أحمد القادر باللَّه ابن إسحاق بن المقتدر بن المعتضد وأمه أم ولد اسمها دمنة بويع بالخلافة في12 رمضان سنة381(3 أكتوبر سنة991 واستمر خليفة إلى أن توفي في غاية ذي الحجة سنة422(18 ديسمبر سنة1031 فكانت مدته41 سنة وثلاثة أشهر وعشرين يوماً
معاصرو القادر من الملوك:

كان الخليفة بالأندلس هشام بن الحكم الملقب بالمؤيد إلى سنة399 ثم خلفه محمد المهدي بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر إلى سنة403 وقد ثار عليه سليمان المستعين بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر فأخذ منه قرطبة وكانت بينهما خطوب إلى أن قتل المهدي وانتهت مدة المستعين 408 ثم كانت البلاد الأندلسية ميدان النزاع بين أعقاب الأمويين والعلويين من ذرية إدريس بن عبد اللَّه فكانت الحال هناك في اضطراب يشبه ما كان في الشرق ويزيد عليه.

وكان الأمير بإفريقية من آل زيري النائبين عن الدولة الفاطمية المنصور بن يوسف بلكين إلى سنة 386 ثم ابنه باديس إلى سنة406 ثم المعز بن باديس إلى سنة453 وكان الخليفة بمصر والشام من الدولة الفاطمية العزيز بالله نزال إلى سنة376 ثم ابنه الحاكم بأمر اللَّه منصور إلى سنة 411 ثم ابنه الظاهر لإعزاز دين اللَّه سنة 427.

وفي عهده ابتدأت الدولة النجاحية بزبيد على أطلال الدولة الزيادية وكان ابتداؤها على يد المؤيد نجاح سنة412 وهو مولى موالي آل زياد وأصله عبد حبشي سمت به همته إلى أن تولى ملك تهامة اليمن وعاد إليها وقد استمر ملكها فيه وفي أعقابه إلى سنة554 وهذا ثبتهم:

(1) المؤيد نجاح (412-452)

(2) فترة على الداعي الصليحي (452-473)

(3) سعيد الأحوال بن نجاح (473-482)

(4) جياش بن نجاح (482-498)

(5) فاتك بن جياش ( 498-503)

(6) منصور بن فاتك 503-517)

(7) فاتك بن منصور (517-531)

(8) فاتك بن محمد بن فاتك(531-554)

وانتقل الملك عنهم إلى الدولة المهدية وسيأتي حديثها إذ ذاك.

أما الجزيرة الفراتية وما إليها من حوض الفرات فكانت منقسمة إلى ثلاث إمارات وهي ديار ربيعة وحاضرتها الموصل وديار بكر وحاضرتها آمد وديار مضر وحاضرتها الرقة

ففي عهد القادر ظهرت الدولة العقيلية التي أسسها أبو الذواد محمد بن المسيب بن رافع بن مقلد العقيلي بالموصل ولم يكن له تمام الاستقلال بل كان معه نائب من قبل بهاء الدولة الديلمي إلا أن النفوذ الفعلي كان لأبي الذواد ولم يزل كذلك حتى توفي سنة286 فخلفه أخوه حسام الدولة المسيب بن المقلد. وكان الاتفاق أن يتولى الموصل والكوفة والقصر والجامعين ولم يزل يليها إلى أن قتل سنة 391 فخلفه ولده أبو المنيع معتمد الدولة قراوش بن المقلد ومن أهم حوادثه السياسية أنه خطب للحاكم بأمر اللَّه العلوي صاحب مصر بأعماله كلها وهي الموصل والأنبار والمدائن والكوفة وغيرها وكان ابتداء الخطبة بالموصل الحمد للَّه الذي انجلت بنوره غمرات العصب وانهدت بقدرته أركان النصب واطلع بنوره شمس الحق من العرب فأرسل القادر باللَّه القاضي أبا بكر بن الباقلاني شيخ الأشعرية ببغداد إلى بهاء الدولة يعرفه ذلك فأكرم بهاء الدولة القاضي وكتب إلى نائبه ببغداد يأمره أن يسير لحرب قرواش فسار عميد الجيوش لحربه ولما علم بذلك أرسل يعتذر وأعاد خطبة القادر باللَّه.

وقد استمرت هذه الدولة العربية بالموصل إلى سنة489 وانتهت على يد السلاجقة كما انتهت الدولة الديلمية وهذا ثبت ملوكها.

(1) حسام الدولة المقلد بن المسيب (386-391)

(2) معتمد الدولة قرواش بن المقلد (391-442)

(3) زعيم الدولة أبو كامل بركة بن المقلد (442-443)

(4) علم الدولة أبو المعالي قرواش بن بدران بن المقلد (443-453)

(5) شرف الدولة أبو المكارم مسلم بن قرواش (453-478)

(6) إبراهيم بن قرواش 478-486)

(7) علي بن مسلم بن قرواش (486-489)

وفي ديار بكر ظهرت دولة الأكراد من آل مروان على يد مؤسسها أبي علي الحسين بن مروان قام بالأمر سنة380 بعد خاله باذ الذي قدمنا حديثه وضبط ديار بكر أحسن ضبط وأحسن إلى أهلها وألان جانبه لهم ثم تزوج ست الناس بنت سيف الدولة ولم يكن ملكاً إلى أن قتل سنة387 فخلعه أخوه ممهد الدولة أبو منصور بن مروان إلى أن قتل سنة402 فتولى بعده أخوه أبو نصر نصر الدولة أحمد بن مروان وهو واسطة عقد آل مروان فإن أيامه طالت وأحسن السيرة جداً وكان مقصوداً من العلماء في كافة الأقطار فكثروا ببلاده وممن قصده أبو عبد اللَّه الكازروتي وعنه انتشر مذهب الشافعي رحمه اللَّه بديار بكر وقصده الشعراء فأجزل مواهبهم ويبقى كذلك إلى سنة453 وكانت الثغور معه آمنة وسيرته في رعيته أحسن سيرة وولى ابنه نظام الدولة نصر إلى سنة472 ثم منصور بن نصر إلى سنة489 وعلى يده انتهت دولتهم بملك آل سلجوق لها.

أما ديار مصر فقد استولى عليها لأول عهد القادر بكجور الذي كان والياً على دمشق للعزيز باللَّه الفاطمي خليفة مصر وفي سنة387 عزله عنها فتوجه إلى الرقة فاستولى عليها وعلى الرحبة وما يجاورها ثم راسل بهاء الدولة ملك العراق في الانضمام إليه وكاتب أيضاً باذ الكردي والمتغلب على ديار بكر وكذلك راسل سعد الدولة بن سيف الدولة صاحب حلب بأن يعود إلى طاعته ويعطي مدينة حمص كما كانت له فلم يجبه واحد منهم إلى شيء فبقي بالرقة يراسل جماعة من مماليك سعد الدولة ويستميلهم فأجابوه وحينئذ أغرى العزيز باللَّه نزاراً صاحب مصر على قصد حلب فأجابه وأرسل إليه العساكر تتصرف بأمره ولكنه لم ينجح لأن سعد الدولة استعان عليه بوالي انطاكية الرومي وبالعرب الذين مع بكجور فكانت النتيجة فشل بكجور وقتله ثم سار سعد الدولة إلى الرقة فاستولى عليها من وزير بكجور وأخذ أولاد بكجور وأمواله ثم أن سعد الدولة هلك بعقب ذلك فأرسل أهل الرحبة إلى بهاء الدولة يطلبون إليه أن ينفذ من يتسلم بلدهم فأنفذ لهم أميراً تسلمها ولم يتمكن من الاستيلاء على الرقة ولم تمكث الحال على ذلك كثيراً فإن البلاد انتقلت إلى حوزة العلويين من أصحاب مصر وصاحب يخطب لهم بالرقة والرحبة إلا أن سلطانهم كان اسمياً والنفوذ إلى رؤساء القبائل المضرية فكان فيها أولاد أبو علي بن ثمال الخفاجي ثم استولى عليها عيسى بن خلاط العقيلي ثم صار أمرها إلى صالح بن مرداس الكلابي وكان محسناً للرعية ويدعو للعلويين.

أما حلب فكان السلطان بها لأول عهد القادر باللَّه لسعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان وكان قد عصي عليه بكجور الذي تقدم ذكره وهو أحد مماليك أبيه وغزاه من الرقة بعساكر خليفة مصر العلوي ولكنه لم يفز وقتل كما قدمنا وتسبب عن ذلك أن سعد الدولة أراد أن يأخذ دمشق ليأخذها من يد العزيز بالله فمات عقب خروجه سنة382 وعهد لابنه أبي الفضائل وأوصى به لؤلؤاً أحد مماليك أبيه سيف الدولة فلما توفي سعد الدولة قام ابنه مقامه وأخذ له لؤلؤ العهد على الأجناد.

كان خليفة مصر لا يزال يتطلع إلى الاستيلاء على حلب فسير إليها جيشاً من دمشق عليه منجوتكين أحد أمرائه ولما كانت عساكره كثيرة ولا قبل للؤلؤ بمقاومتها استنجد بملك الروم بسيل فأرسل إلى نائبه بأنطاكية يأمره أن ينجد أبا الفضائل فسار إليه بحلب حتى نزل على الجسر الجديد بالعاصي. ولما سمع منجوتكين الخبر سار إلى الروم ليقابلهم قبل اجتماعهم بأبي الفضائل وعبر إليهم العاصي وأوقع بهم وقعة شنيعة وسار إلى أنطاكية فنهب بلدهم وقراها وأحرقها. وأنفذ أبو الفضائل إلى بلد حلب فنقل ما فيه من الغلال وأحرق الباقي أضراراً بعساكر مصر. وعاد منجوتكين إلى حلب فحصرها فأرسل لؤلؤ إلى رؤساء المصريين يبذل لهم مالاً ليردوا منجوتكين عنهم هذه السنة بعلة تعذر الأقوات ففعلوا ذلك وكان منجوتكين قد ضجر من الحرب فأجابهم وعاد إلى دمشق ولكن ذلك لم يعجب العزيز باللَّه وكتب بإعادة الكرة على حلب وأرسل الأقوات من مصر إلى طرابلس بحراً ومنها إلى العسكر فنازل المصريون حلب وأقاموا عليه ثلاثة عشر شهراً فقلت الأقوات بحلب وعاد لؤلؤ إلى مراسلة ملك الروم متعضداً به وقال متى أخذت حلب أخذت أنطاكية وعظم عليك الخطب فجاء ملك الروم منجداً له فلما علم منجوتكين بقرب وروده سار عن حلب فجاء ملك الروم فنزل عليها وخرج إليه أبو الفضائل ولؤلؤ ثم سار بسيل إلى الشام ففتح حمص وشيزر ونهبها وسار إلى طرابلس فنازلها فامتنعت عليه وأقام عليها نيفاً وأربعين ليلة ولما أيس منها عاد إلى بلاده، ولما علم العزيز بتلك الأخبار عظم الأمر عليه ونادى في الناس بالنفير لغزو الروم فحال موته دون ذلك.

لم يزل الأمر لأبي الفضائل حتى سنة 402 حيث غزاه صالح بن مرداس الكلابي وكان السلطان الحقيقي في حلب للؤلؤ وكان يخطب باسم الحاكم بأمر اللَّه العلوي بمقتضى اتفاق عقد بين الطرفين بعد الحوادث المتقدمة.

وفي سنة414 اتفق ثلاثة من أمراء العرب وهم حسان أمير طيىء وصالح بن مرداس أمير بني كلاب وسنان بن عليان على أن يكون من حلب إلى عانة لصالح بن مرداس ومن الرملة إلى مصر لحسان ودمشق لسنان. فقصد صالح حلب فاستولى عليها من يد عامل المصريين وكان الحلبيون يحبون صالحاً لإحسانه إليهم ولسوء سيرة أمراء العلويين معهم فملك من بعلبك إلى عانة وأقام بحلب ست سنين وفي سنة420 جهز الظاهر صاحب مصر جيشاً سيره إلى الشام لقتال صالح وحسان وكان مقدم الجيش أبو شتكين البربري والالتقاء عند طبرية فقتل في الموقعة صالح وابنه ونجا ولده أبو كامل نصر بن صالح فجاء إلى حلب وملكها وكان يقلب بشبل الدولة وقد استمرت الدولة المرداسية بحلب إلى سنة472 وهذا ثبت ملوكها:

(1) صالح بن مرداس (414-420)

(2) شبل الدولة أبو كامل نصر (420-429)

(3) الفاطميون( 429-434)

( 4) معز الدولة أبو علوان طمل بن صالح (434-449)

(5) الفاطميون (449-452)

(6) رشيد الدولة محمود بن شبل الدولة (452-453)

(7) معز الدولة ( ثانياً ) (453-454)

(8) أبو ذؤابة عطية بن صالح (454-454)

(9) رشيد الدولة ( ثانية) (454-468)

(10) جلال الدولة نصر بن رشيد الدولة (468-468)

(11) أبو الفضل سابق بن رشيد الدولة (468-482)

وهذا آخرهم وقد انتهى أمرهم على يد الدولة العقيلية التي تقدم ذكرها.

وفي سنة384 لما ثارت الفتن والقلاقل بالبلاد الخراسانية رأى الأمير نوح بن منصور أن يكل أمرها إلى سبكتكين ليكسر من جناح قواده الذين جاهروا بعصيانه فكتب إليه وهو بغزنة يطلعه على الأحوال ويأمره بالمسير إليه لينجده وولاه خراسان فأجاب إلى ذلك سبكتكين وجمع العساكر وحشدها ولما بلغ قائدي نوح الخبر وهما فائق وأبو علي بن سيمجور راسلاً فخر الدولة بن بويه يستنجدانه ويطلبان منه عسكراً فأجابهما إلى ذلك وسير إليهما عسكراً كثيراً وكانت الواقعة بين هذين الجيشين بنواحي هراة فكان الظفر لسبكتكين ثم سار نحو نيسابور التي انهزم إليها أبو علي وفائق فلما علما بالخبر سارا نحو جرجان واستولى نوح بن منصور بمعونة سبكتكين وجيشه على خراسان فولاه محمود بن سبكتكين وسماه سيف الدولة ولقب أباه ناصر الدولة فأحسن السيرة وأقام محمود بنيسابور وعاد نوح إلى بخارى وسبكتكين إلى هراة.

لما علم أبو علي بمبارحة سبكتكين ونوح نيسابور طمع في استردادها فقدم إليها ومعه فائق فخرج إليهما محمود وقاتلهما ولما كانت رجاله قليلة لم تمكنه المقاومة فانهزم عنهما قاصداً أباه فلما استقر هذا الخبر عند سبكتكين جمع الجند وأتى ممداً لابنه فتقابلت جنوده مع جنود أبي علي بنواحي طوس فانهزم أبو علي هزيمة منكرة ولم يرتفع له بعد ذلك ذكر وصفت خراسان لسبكتكين.

وفي سنة387 توفي سبكتكين بعد بلخ وغزنة ودفن بغزنة بعد ملك دام عشرين سنة وكان عادلاً خيراً كثير الجهاد ذا مروءة تامة وحسن ووفاء وعهد بالملك من بعده لابنه إسماعي. وكان أصغر من أخيه محمود فاستضعف الجند وأرسل إليه محمود من نيسابور يقول له إن أباك إنما عهد إليك لبعدي عنه وذكره ما يتعين من تقديم الكبير على الصغير ويطلب منه الوفاق وإنفاذ ما يخصه من تركة أبيه فلم يفعل وكان ذلك داعياً إلى أن محموداً قصده بغزنة واستولى عليها ولكنه عامل أخاه معاملة كريمة ولما تم له أمر غزنة واستقام له الملكعاد إلى بلخ ومحمود هذا هو ثالث آل سبكتكين وواسط عقدهم لقبه الخليفة القادر بيمين الدولة. وكانت هناك بعض مناوشات بينه وبين قواد السامانية انتهت بالنصر والتمكين له في خراسان فأزال عنها اسم السامانية وخطب للقادر باللَّه سنة389 وجعل أخاه نصراً قائداً لجند نيسابور وسار هو إلى بلخ فاتخذها دار ملك له واتفق أصحاب الأطراف على طاعته.

كان عهد محمود عهد ارتفاع وقوة فوسع أملاكه فقد كانت في الأصل بلاد غزنة ثم ضم بلاد الغور وهي جبال ووديان بين هراة وغزنة وأكبر ما فيها قلعة يقال لها فيروزكوه. ثم أدخل جزءاً عظيماً من بلاد الهند تحت سلطانه حتى وصل إلى قشمير فأسلم صاحبها على يده وأسلم كذلك كثير من ملوك الهند وقد عبر نهر الكنج في فتوحاته. ومن الجهة الأخرى ضمت إليه خراسان والري والجبال ودانت له ملوك طبرستان وجرجان ولم يزل في عزه وسلطانه إلى أن أدركته الوفاة سنة421 عهد بالملك من بعده لابنه محمد وكان أصغر من مسعود ولقب بجلال الدولة إلا أن ذلك لم يرق لأخيه مسعود فسار إليه وأخذ الملك منه وتوفي القادر باللَّه والملك في آل سبكتكين لمسعود بن سبكتكين وقد استمرت الدولة في أعقاب هذا البيت إلى سنة582 وهذا ثبت ملوكها.

(1) سبكتكين (366-387)

(2) إسماعيل بن سبكتكين (387-388)

(3) يمين الدولة محمود بن سبكتكين( 388-421)

(4) جلال الدولة محمد بن محمود (421-421)

(5) ناصر دين اللَّه مسعود (421-432)

(6) شهاب الدولة مودود بن مسعود (432-440)

(7) مسعود بن مودود (440-440)

(8) بهاء الدولة أبو الحسن علي بن مسعود بن محمود (440-444)

(9)عز الدولة عبد الرشيد بن محمود (444-444)

(10) جمال الدولة فزحزاد بن مسعود بن محمود (444-451)

(11) ظهير الدولة إبراهيم بن عبد الرشيد (451-492)

(12) علاء الدولة مسعود بن إبراهيم 492-508)

(13) كمال الدولة شيرزاد بن مسعود (508-509)

(14) سلطان الدولة أرسلان بن مسعود (509-512)

(15) يمين الدولة بهرام شاه بن مسعود (512-547)

(16) معز الدولة خسرو شاه بن بهرام شاه (547-555)

(17) تاج الدولة خسرو ملك بن خسرو شاه (555-582)

وكان انقضاء هذه الدولة على يد الدولة الغورية.

كان بجرجان من الدولة الزيادية شمس المعالي قابوس بن وشمكير إلى سنة 403 ثم فلك المعالي متوجهر بن بستون بن وشمكير إلى سنة 420 ثم أنوشروان بن قابوس إلى سنة434 وهو الذي انتهى على يده ملك أهل بيته على يد الدولة الغزنوية.

أما السلطان ببلاد العراق فكان لأربعة ملوك من آل بويه يتلو أحدهم الآخر الأول بهاء الدولة أبو نصر عضد الدولة وهو الذي ولى القادر الخلافة وكان عهده عهد اضطراب بينه وبين أهل بيته فأضعف ذلك من سلطانه وآذن البيت كله بالانحلال وكانت وفاته سنة 403 وكان في سلطانه العراق والأهواز وفارس وكرمان.

الثاني سلطان الدولة أبو شجاع بن بهاء الدولة ولم يكن عهده أحسن من عهد أبيه بل كان عهد ضعف واستكانة فإن جنده ما كانوا يطيعونه وكثيراً ما شغبوا عليه يطلبون منه طلبات لا يقدر عليها وكان ذلك سبباً لقيام أخيه وهو:

الثالث شرف الدولة أبو علي بن بهاء الدولة قام على أخيه وانتزع منه ملك العراق فخطب له ببغداد في آخر المحرم سنة 412 ونفي سلطان الدولة عن العراق فذهب إلى بلاد فارس وضبطها ثم اصطلح الأخوان على أن يكون لشرف الدولة العراق ولسلطان الدولة فارس وكرمان إلا أن مدة سلطان الدولة لم تطل فإنه توفي سنة 415 بشيراز وخلفه ابنه أبو كاليجار وفي ربيع الأول سنة 416 توفي شرف الدولة وكان كثير الخير قليل الشر عادلاً حسن السيرة.

الرابع جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء الدولة خطب له ببغداد بعد وفاة أخيه وكان إذ ذاك بالبصرة والياً عليها وطلب إلى بغداد فلم يصعد إليها وإنما بلغ واسطاً وأقام بها ثم عاد إلى البصرة فقطعت خطبته لابن أخيه أبي كاليجار بن سلطان الدولة الذي كان صاحب الأهواز وكان بها وراسله الجند في ذلك فوعدهم أن يجيء ولكنه تأخر لما كان بينه وبين عمه أبي الفوارس صاحب كرمان من الحرب فازدادت الفتن ببغداد لعدم السلطان وكثر شر الأتراك بها ولما رأى ذلك عقلاء القوم راسلوا جلال الدولة ليصعد إليهم فيملك أمرهم وخطبوا باسمه في جمادى الأولى سنة 418 فما عتم أن صعد إليهم وملك أمرهم ولكن لم يكن عنده من المال ما يضمن راحتهم وراحته فكثر الشغب عليه من الجند وأتراك بغداد حتى كادوا يخلعونه وكان ينازعه أخوه أبو كاليجار. وانتهت مدة القادر باللَّه وهما على ذلك النزاع.

لم يكن للخليفة القادر باللَّه شيء من السلطان كمن مضى في عهد سلاطين ابن بويه إلا أن ضعف البيت الملك أحيا له شيئاً من الكلمة والنفوذ وكان فيه من خلال الخير ما يساعد على ذلك فقد كان حليماً كريماً خيراً يحب الخير وأهله ويأمر به وينهى عن الشر ويبغض أهله وكان حسن الاعتقاد صنف كتاباً على مذهب أهل السنة والجماعة وكان يخرج من داره في زي العامة ويزور قبور الصالحين وإذا وصل إليه حال أمر فيه بالحق.

وكان في زمنه أحداث عظام في جميع الأصقاع الإسلامية من قيام دول وإبادة أخرى وكلها تهتف على منابرها باسمه وتتقلد الولايات منه إلا ما كان من البلاد التي تحت يد الدولة المضرية فإنها كانت تخطب باسم أئمتها ومع ذلك فإن المعز بن باديس صاحب المغرب والقيروان دعا باسم القادر على منابر بلاده.
وفاته:

توفي القادر باللَّه في ذي الحجة سنة 432 وعمره ست وثمانون سنة وعشرة أشهر وخلافته 41 سنة وثلاثة أشهر وعشرون يوماً.

26- القائم:

ترجمته:

هو أبو جعفر عبد اللَّه القائم بأمر اللَّه. ولي الخلافة بعد أبيه بعهد منه وكانت بيعته في ذي الحجة سنة422( نوفمبر سنة 1031 وبقي خليفة إلى13 شعبان سنة 467(3 إبريل سنة 1075 فكانت مدته44 سنة و 25 يوماً.

كان سلطان العراق لأول عهده جلال الدولة بن بهاء الدولة ولم يكن أمره من سلطانه على سداد لكثرة شغب الغلمان والأتراك عليه طالبين مرتباتهم التي لم يكن يقدر على أدائها في أوقاتها لقلة الوارد عليه فلم تجيء سنة426 إلا وقد انحل أمر الخلافة والسلطنة جميعاً ببغداد.

قضى جلال الدولة حياته في منازعات بينه وبين جنوده وبينه وبين أبي كاليجار إلى أن توفي سنة 435 بعد ملك مدته16 سنة و 11 شهراً.

استقر في الملك بعده منازعه ابن أخيه أبو كاليجار المرزباني بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة ولقبه الخليفة محيي الدين ولم تكن قدمه بأثبت من قدم أبيه ولا سلطانه أوفر بل كان النزاع كثيراً ما يستحكم بين الديلم عنصر السلطان وبين الأتراك قدماء العهد ببغداد وكانت وفاة أبي كاليجار سنة 44.

yacine414
2011-03-18, 15:18
آل سلجوق:

من عشائر الغز الكبير عشيرة السلاجقة تنسب إلى مقدمها سلجوق بن تقاق وكانت هذه العشيرة تقيم في بلاد تركستان تحت حكم ملك الترك المسمى بيغوا وكان تقاق مقدم العشيرة إلى قوله يرجعون وعن أمره يصدرون وولد له ابنه سلجوق بذلك الإقليم فلما كبر ظهرت عليه أمارات النجابة ومخايل التقدم فقربه ملك الترك وجعله قائد الحقد (شباسي) وكانت امرأة تخوفه من سلجوق لما ترى من طاعة الناس له فأغرته بقتله وبلغ سلجوق ذلك الخبر فجمع عشيرته وهاجر إلى ديار الإسلام واعتنق الحنيفية فازداد بذلك عزا إلى عزه وأقام بنواحي جند (على طرف سيحون من حدود الترك) وصار يشن الغارة على بلاد الترك.

في تلك الأوقات قام النزاع بين أحد ملوك السامانية وهارون بن أيلك خان وقد استولى هارون على بعض بلاد فرأى أن يضرب الحديد بالحديد فاستنجد سلجوق فأنجده بابنه أرسلان في جمع من أصحابه فقوي بهم الساماني واسترد من خصمه ما أخذه وهذه أول صلة بين عشيرة السلاجقة والسامانية.

لم يزل سلجوق بجند حتى توفي له ثلاثة من الأولاد هم أرسلان وميكائيل وموسى فأما ميكائيل فغزا غزوة في بلاد الترك فاستشهد وبقيت أولاده وهم بيغوا وطغرلبك محمد وجغري بك داود فأطاعتهم عشيرتهم.

لما انقرضت دولة السامانية سنة 389 وملك أيلك خان عظم محل أرسلان بن سلجوق بما وراء النهر وكان على تكين أحد قواد السامانية في حبس أرسلان خان فهرب ولحق ببخارى واستولى عليها واتفق مع أرسلان بن سلجوق فامتنعا واستفحل أمرهما وقصدهما أيلكك فهزماه وبقيا ببخارى.

لما عبر محمود سبكتكين النهر إلى بخارى للاستيلاء على بلاد ما وراء النهر هرب علي تكين من بخارى وأما أرسلان بن سلجوق وجماعته فإنهم دخلوا المفازه والرمل فاحتموا من محمود فرأى من قوتهم ما هاله وأراد أن يستعمل معهم الحيلة فكاتب أرسلان واستماله ورغبه فورده عليه فلم يكن من محمود إلا أن قبض عليه وسجنه في قلعة ونهب خركاته ثم أمر عشيرته فعبروا نهر جيحون وفرقهم في بلاد خراسان فلم يطمئنوا بها من جور العمال عليهم فسار منهم أهل ألفي خركاه فلحقوا بأصبهان ومنها إلى أذربيجان ودخلوا مراعة سنة 429 وأحرقوا جامعها وقتلوا من عوامها مقتلة عظيمة فعظم الأمر على أهلها واشتد بهم البلاء.

رأى ذلك أكراد أذربيجان وكانوا مختلفين فاتفقت كلمتهم على هؤلاء المفسدين فانتصفوا منهم رأي الغز أنهم لا مقام لهم هناك فافترقوا فرقتين فطائفة سارت إلى الري ومقدمهم بوقاً وطائفة سارت إلى همذان ومقدمهم منصور وكوكتاش.

أما الذين ذهبوا إلى الري فإنهم استولوا عليها ونهبوها نهباً فاحشاً وسبوا النساء وبقوا كذلك خمسة أيام حتى لجأت الحرم إلى الجامع وتفرق الناس كل مذهب ومهرب وكان السعيد من نجا بنفسه وكادوا يستأصلون أهل الري.

وأما الذين ساروا إلى همذان فإنهم ملكوها أيضاً من يد بني بويه سنة420.

ولما دخلوها نهبوها نهباً منكراً لم يفعلوه بغيرها من البلدان غيظاً منهم وحنقاً عليهم حيث قاتلوهم أولاً وأخذوا الحرم وضربت سراياهم إلى أسداذبان وقرى الدينور واستباحوا تلك البلاد.

ولم يزالوا على هذا الإفساد والتخريب حتى ظهرت السلاجقة وخرج إبراهيم ينال أخو طغرلبك إلى الري فلما علموا بمسيره جفلوا من بين يديه وفارقوا بلاد الجبل قاصدين أذربيجان فلم يمكنهم القيام بها لما فعلوه بها أولاً ولأن إبراهيم ينال وراءهم وكانوا يخافونه لأنهم كانوا له ولأخيه طغرلبك رعية فساروا إلى ديار بكر وأميرها سليمان بن نصر الدولة بن مروان فأخربوا ونهبوا أعمالها إلى أن بذل لهم سليمان ما لا ليفارقوا عمله.

أما من كان من أولاد ميكائيل بن سلجوق فإنهم أقلعوا بنواحي بخارى كما قدمنا فغص بمكانهم أمير بخارى علي تكين فأعمل الحيلة في الظفر بهم فأرسل إلى يوسف بن موسى ابن سلجوق ومناه الإحسان وفوض إليه التقدم على جميع الأتراك الذين في ولايته ولقبه بالأمير إينانج بيغو وأراد بذلك أن يستعين به وبعشيرته على ابني عمه طغرلبك وداود وأن يفرق كلمتهم ويضرب بعضهم ببعض فلم تجر هذه الحيلة على يوسف فل يكن من علي تكين إلا أن قبض عليه وقتله بيد أمير من أمرائه فعظم على ابني عمه فجمعا قومهما للأخذ بثأره وجمع على تكين جيوشه فكان النصر لطغرلبك وأخيه ثم احتشد علي تكين مرة ثانية وأوقع بالسلاجقة وقعة كانت عليهم شديدة ألجأتهم إلى عبور النهر نحو خراسان فكتب إليهم خوارزمشاه هارون بن التونتامش ملك خوارزم يستدعيهم للاتفاق معه فساروا إليه وخيموا بظواهر خوارزم سنة426 واطمأنوا إلى خوارز مشاه ولكن غدر بهم وكبسهم وهم غارون فقتل منهم جمعاً فساروا على خوارزم إلى مفازة نسا ثم كتبوا إلى الملك مسعود بن محمود بن سبكتكين يطلبون منه الأمان ويضمنون أن يكونوا عوناً له على من يعاديه فلم يفعل وسير إليهم جيوشه فلقيتهم عند نسا فأوقع السلاجقة بجيش مسعود ولما بلغه ذلك ندم على رده طاعتهم وعلم أن هيبتهم تمكنت من قلوب عسكره فأرسل إليهم يتهددهم ويتوعدهم فكتب إليه طغرلبك هذه الآية {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير} فلما ورد الكتاب على مسعود كتب من ثانية يعدهم المواعيد الجميلة ويأمرهم أن يرحلوا إلى آمل على شاطىء جيحون وينهاهم عن الشر والفساد وأقطع داهستان لداود وداهستان مدينة عند مازندان بناها عبد اللَّه بن طاهر بين جرجان وخوارزم آخر حدود طبرستان وأقطع نسا لطغرلبك وأقطع فراوة لبيغو وفراوة بلدة مما يلي خوارزم بناها عبد اللَّه بن طاهر.

علم ذلك مسعود فاضطر أن يسير بنفسه من غزنة جيوش حتى وصل بلخ ومنها سار في أول رمضان سنة429 واستعد له السلاحقة فلما التقى الفريقان كان التعب قد أخذ من عسكر مسعود فاجتاحهم السلاجقة واضطر مسعود أن ينهزم ومعه مائة فارس وغنم السلاجقة من هذا العسكر ما لا يدخل تحت الإحصاء فقسمه داود على عسكره وآثرهم على نفسه.

بعد تلك الواقعة عاد طغرلبك إلى نيسابور فملكها ثانية آخر سنة 441 وسكن الناس وطمأنهم بعد أن كانوا في شدة من الفوضى ثم ملك داود بلخ وفي سنة 433 ملك طغرلبك وجرجان وطبرستان من يد أنو شروان بن منوجهر بن قابوس وشمكير. وفي سنة434 ملك خوارزم.

لما تم له ذلك سار يريد الري وبلاد الجبل وكان قد سبقه إليها أخوه لأمه إبراهيم ينال واستولى على الري فلما سمع بقدومه سار إليه وسلمه إياها وجميع ما ملك من بلاد الجبل فأمر طغرلبك بعمارة الري وكانت قد خرجت ثم سار إلى قزوين فملكها صلحاً وملك أيضاً همذان.

بذلك تم له ملك أصقاع كبيرة من البلاد الإسلامية وهي خوارزم وخراسان وبلاد الري ووصلت طلائع جنوده إلى البلاد العراقية أهم ذلك الملك أبا كاليجار صاحب العراق ولم يجد في نفسه قدرة على صد ذلك السيل فأرسل إلى طغرلبك في الصلح فأجابه إليه واصطلحا وكتب طغرلبك إلى أخيه إبراهيم ينال يأمره بالكف عما وراء ما بيده واستقر الحال على أن يتزوج طغرلبك بابنة أبي كاليجار ويتزوج الأمير أبو منصور بن أبي كاليجار بابنة الملك داود أخي طغرلبك وتم هذا في ربيع الأول سنة 439 وفي سنة441 خطب لطغرلبك بديار بكر. خطب له بها نظر الدولة بن مروان صاحبها وفي سنة 442 استولى على أصبهان ثم أطاعته أذربيجان وأرسل إليه من بها من الأمراء يبذلون له الطاعة والخطبة فأبقى بلادهم بأيديهم وأخذ رهائنهم ثم سار إلى أرمينية وقصد ملازجرد وهي للروم فحصرها وأخرب ما حولها وأثر في بلاد الروم آثاراً عظيمة وبلغ في غزوته هذه إلى أرزن الروم أرضروم ولما هجم عليه الشتاء عاد إلى أذربيجان ثم توجه إلى الري فأقام بها إلى سنة447 .

في هذا الوقت كانت الأحوال سيئة في بغداد فإن آل بويه قد تفرقت كلمتهم وزالت من القلوب هيبتهم فلم يكن يمكنهم أن يحفظوا بغداد لا من عدو طارىء ولا من عياريها ولصوصها فأعدوا الجمهور لقبول ما يغير من هذه الحال. ومما زاد الحال فساداً ما كان من أمر أبي الحارث أرسلان المعروف بالبساسيري وهو غلام تركي من مماليك بهاء الدولة فإنه أراد أن يزيل الخلافة عن بني العباس وكاتب الخليفة المستنصر العلوي بمصر ليدخل في طاعته ويخطب باسمه على منابر بغداد والخليفة العباسي عنده علم ذلك. فكتب إلى السلطان طغرلبك مستنجداً مستغيثاً وكانت هذه أمنيته فأظهر أنه يريد الحج وإصلاح طريق مكة والمسير إلى الشام ومصر وإزالة المستنصر العلوي صاحبها وكاتب أصحابه بالدينور وقرميسين وحلوان وغيرها فأمرهم بإعداد الأقوات والعلوفات فعظم الإرجاف ببغداد وفت أعضاد الناس. وصل طغرلبك إلى حلوان وانتشر أصحابه في طريق خراسان فأجفل الناس إلى غربي بغداد وأرسل طغرلبك إلى الخليفة يبالغ في إظهار العبودية والطاعة إلى الأتراك البغداديين يعدهم الجميل والإحسان فاتفق من بغداد من الرؤساء والأمراء على مكاتبة طغرلبك يبذلون له الطاعة والخطبة وفعلاً تقدم الخليفة إلى الخطباء بالخطبة لطغرلبك بجوامع بغداد فخطب له في يوم الجمعة 22 محرم سنة448 ودخلها طغرلبك في الخامس والعشرين منه وقبض على آخر سلاطين بني بويه وهو الملك الرحيم وبذلك انقضت دولتهم ووجدت بالعراق وما وراءه هذه الدولة الجديدة الفتية وهي دولة السلاجقة.

هذه العشيرة استولت على جل ما ملكه المسلمون وقد انقسمت إلى خمسة بيوت:

الأول: السلاجقة العظمى وهي التي كانت تملك خراسان والري والجبال والعراق والجزيرة وفارس والأهواز.

الثاني: سلاجقة كرمان.

الثالث: سلاجقة العراق.

الرابع: سلاجقة سوريا.

الخامس: سلاجقة الروم.

أما السلاجقة الكبرى فهي الدولة التي أسسها ركن الدين أبو طالب طغرلبك وحياتها93 سنة من سنة 429(1039)م إلى سنة522(1127) م وهذا ثبتها.

(1) ركن الدين أبو طالب طغرلبك (429-455)

(2) عضد الدين أبو شجاع ألب أرسلان(455-465)

(3) عضد الدين أبو الفتح ملكشاه (465-485)

(4) ناصر الدين محمود (485-487)

(5) ركن الدين أبو المظفر بركياروق (487-498)

(6) ركن الدين ملكشاه الثاني (498-498)

(7) غياث الدين أبو شجاع محمد (498-511)

(8) معز الدين أبو الحارث سنجر (511-522)

وقد انقضت دولتهم على أيدي شاهات خوازم.

وأما سلاجقة كرمان فكانوا من عشيرة قاروت بك بن داود بن ميكائيل بن سلجوق وهو أخو ألب أرسلان ومدة ملكهم 150 سنة من 432(1041 م إلى 583(1188) وهذا ثبت ملوكها.

(1) عماد الدين قرا أرسلان قاروت بك (433-456)

(2) كرمانشاه (456-467)

(3) حسين (467-467)

(4) ركن الدين سلطان نشاه (467-477)

(5) تورانشاه (477-490)

(6) أرانشاه (490-494)

(7) أرسلانشاه (494-536)

(8) مغيث الدين محمد الأول (536-551)

(9) محيي الدين طغريل شاه بهرامشاه (551-563)

أرسلانشاه الثاني

طرخان شاه

محمد الثاني (563-563)

وقد انقضت دولتهم على أيدي الغز التركمان.

وأما سلاجقة العراق وكردستان فقد ابتدأت دولتهم سنة511(1117) أي من عهد وفاة غياث الدين أبي شجاع محمد سابع ملوك السلاجقة وانتهت سنة590(1194 فبقيت79 سنة وانقرضت على أيدي شاهات خوارزم وهذا ثبت ملوكها.

(1) مغيث الدين محمود (511-525)

(2) غياث الدين داود (525-526)

(3) طغريل الأول (526-527)

(4) غياث الدين مسعود (527-547)

(5) معين الدين ملكشاه (547-548)

(6) محمد (548-554)

(7) سليمانشاه (554-655)

(8) أرسلانشاه (556-573)

(9) طغريل الثاني (573-590)

وأما سلاجقة سوريا فكانوا من بيت تتش بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق وقد ابتدأت دولتهم سنة487(1094) أي في أول عهد ركن الدين بركياروق خامس ملوك السلاجقة العظمى وانتهت سنة511(1117) فكانت حياتها24 سنة وانتهت على أيدي الدولتين النورية والأرتقية وهذا ثبت ملوكها.

(1) تتش بن ألب أرسلان (487-488)

(2) رضوان بن تتش (488-488)

(3) تقاق بن تتش في دمشق (488-507)

(4) ألب أرسلان أخرص بن رضوان (507-508)

(5) سلطانشاه بن رضشوان (508-511)

وأما السلاجقة الروم ملوك قونية وأقصرا فكانوا من بيت قطلمش بن إسرائيل بن سلجوق وقد ابتدأت دولتهم سنة في عهد جلال الدين أبي الفتح ملكشاه ثالث ملوك السلاجقة العظمى وانتهت سنة 700(1300) فمدة حياتها 230 سنة فهي أطول دول السلاجقة حياة وقد انتهت دولتهم على أيدي الأتراك العثمانيين والمغول وهذا ثبت ملوكها.

(1) سليمان بن قطلمش (470-475)

(2) قليج أرسلان داود بن سليمان (475-500)

(3) ملكشاه بن قليج أرسلان (55-510)

(4) مسعود بن قليج أرسلان (510-551)

(5) عز الدين قليج أرسلان بن ملكشاه (551-584)

(6) قطب الدين ملكشاه بن قليج أرسلان (584-588)

(7) غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان (588-597)

(8) ركن الدين سليمان بن قليبح أرسلان (597-600)

(9) قليج أرسلان بن سليمان (597-600)

(10) غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان ثانياً (601-607)

(11) عز الدين كيقاوس بن ملكشاه (607-616)

(12) علاء الدين كيقباذ بن ملكشاه (616-634)

(13) غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ (634-643)

(14) عز الدين كيقاوس بن كيخسرو (643-655)

(15) ركن الدين قليج أرسلان بن كيخسرو (655-666)

(16) غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان (666-682)

(17) غياث الدين مسعود بن كيقاوس (682-691)

(18) علاء الدين كيقباذ (691-700)

والذي كان يرتبط تاريخه من هذه البيوت بتاريخ الدولة العباسية لدخول بغداد في حوزتهم السلاجقة العظمى وسلاجقة العراق الذين كان لهم السلطان على العباسيين447 إلى سنة 590 أي 143 سنة.

استخلف من آل العباس في عهد الدولة السلجوقية تسعة خلفاء وهم:

26- عبد اللَّه القائم بأمر اللَّه القادر بن المقتدر.

27- عبد اللَّه المقتدي بااللَّه بن محمد بن القائم.

28- أحمد المستظهر بن المقتدي.

29- الفضل المسترشد بن المستظهر

30- المنصور الراشد بن المسترشد.

31- محمد المقتفي بن المستظهر.

32- يوسف المستنجد بن المقتفي.

33- الحسن المستضيء بن المستنجد.

34- أحمد الناصر بن المستضيء.

الحاديث العظيم ببغداد:

في السنة التي تلت حكم السلاجقة ببغداد وهي سنة 448 كانت عند مدينة سنجار وقعة شديدة بين البساسيري ومعه نور الدولة دبيس بن مزيد الأسدي وبين قريش بن بدران العقيلي ومعه قتلمش ابن عم السلطان طغرلبك انهزم فيها قريش وقتلمش فوصل خبر هذه الواقعة إلى السلطان بعد أن أقام ببغداد ثلاثة عشر شهراً لم يقابل فيها الخليفة فسار عنها بجيوشه فقاتل العرب بالموصل والجزيرة وانتصر عليهم وانتهى الأمر باستيلائه على جميع البلاد الموصلية والجزيرة وسلمها إلى أخيه لأمه إبراهيم ينال ثم عاد إلى بغداد في أوائل سنة449 وقابلالخليفة لأول مرة وفوض إليه الخليفة أمر إدارة البلاد وقد بالغ طغرلبك في احترام مقام الخلافة العباسية وخلع عليه الخليفة سبع خلع وتوج وعمم إشارة إلى جمعه بين ملك العرب والعجم وقلد سيفاً محلى بالذهب وخاطبه الخليفة بملك المشرق والمغرب فقبل يد الخليفة دفعتين ووضعها على عينه تبركاً، فعل ما فعل من ذلك التعظيم والإجلال تديناً.

وفي سنة450 ترك إبراهيم ينال بلاد الموصل وتوجه نحو بلاد الجبل ويقال إن المصريين كاتبوه وأطعموه في الملك فأهم ذلك السلطان وسار وراءه إلى همذان في ذلك الوقت عاد البساسيري بقوته وكن المصريون يساعدونه ويمدونه ولم يزل يجتاح البلاد حتى وصل بغداد في ثامن ذي القعدة سنة 450 واستولى عليها لأنه ليس بها جند يحميها وخطب بجامع المنصور لمعد المستنصر العلوي صاحب مصر وأذن بخير العمل وكانت العامة قد مالت إليه أما الشيعة فلاتحاد المذهب وأهل السنة فلما فعل بهم الأتراك.

أما الخليفة القائم فإنه خرج من قصره في ذمام رئيس العرب قريش بن بدران العقيلي استذم منه بذمام اللَّه وذمام رسوله صلى اللَّه عليه وسلم وذمام العربية فأعطاه ذلك ونزع قريش قلنسوته فأعاها الخليفة ثم حمله إلى معكسره وعليه السواد والبردة وبيده السيف وعلى رأسه اللواء وأنزله في خيمة ثم سلمه إلى ابن عمه مهاريش بن المجلي وهو رجل فيه دين وله مروءة فحلمه في هودج وسار به إلى حديثة عانة فتركه بها آمناً مطمئناً في ذمام العربية الذي يرى الخيانة عاراً.

أما البساسيري فإنه سار ببغداد سيرة ملك ورفعت على رأسه الألوية البيضاء التي أرسلت إليه من مصر ثم ملك بعد ذلك واسط والبصرة وهتف على منابر تلك البلاد باسم آل علي.

أما السلطان فإنه استنجد بأولاد أخيه أرسلان وياقوتي وقاورت بك فجاؤوه بالعساكر يتلو بعضها بعضاً فلقي بهم أخاه إبراهيم ينال بالقرب من الري فتغلب عليه وأسره ثم أمر به فخنق بوتر قوسه في تاسع جمادى الآخرة سنة451 ولما تم له ذلك عاد يطلب العراق وليس له هم إلا إعادة القائم بأمر اللَّه إلى خلافته ولما قارب بغداد أدرك البساسيري أنه لا قبل له بمقاومته فرحل عن بغداد وكان دخوله إليها سادس ذي القعدة سنة450 وخروجه منها سادس ذي القعدة سنة451 وكان السلطان قد أرسل وهو بالطريق إمام أهل السنة أبا بكر أحمد بن محمد المعروف بابن فورك إلى قريش بن بدران يشكره على ما فعله بالخليفة ويخبره أنه أرسل ابن فورك للقيام بخدمة الخليفة وإحضاره فأرسل قريش إلى ابن عمه مهارش يقول له أودعنا الخليفة عندك ثقة بأمانتك لينكف بلاء الغزو عنا والآن فقد عادوا وهم عازمون على قصدك فارحل أنت وأهلك إلى البرية فإنهم إذا علموا أن الخليفة عندنا في البرية لم يقصدوا العراق ونحكم عليهم بما نريد فأبى ذلك مهارش وقال إن الخليفة قد استحلفني بعهود ومواثيق لا مخلص منها وسار بالخليفة إلى العراق وقد لقيهما ابن فورك بتل عكبرا فساروا معاً حتى وصلوا إلى النهروان في 24 ذي القعدة فخرج السلطان إلى خدمة الخليفة فاجتمع به وقبل الأرض بين يديه وهنأه بالسلامة وأظهر الفرح بسلامته واعتذر عن تأخره بعصيان أخيه إبراهيم وأنه قتله عقوبة لما جرى من الوهن على الدولة العباسية فقلده الخليفة بيده سيفاً وقال لم يبق مع أمير المؤمنين من داره سواه وقد تبرك به أمير المؤمنين فكشف غشاء الخركاه حتى رآه الأمراء فخدموا وانصرفوا ثم ساروا جميعاً إلى بغداد وكان دخول الخليفة لخمس بقين من ذي القعدة سنة.

وفي سنة 465 توجه ألب أرسلان قاصداً بلاد الترك فعبر نهر جيحون ولكن المشيئة سابقته فسبقته. حكي عنه أنه قال وهو يقرب من الموت ما كنت قط في وجه قصدته ولا عدو أردته إلا توكلت على اللَّه وطلبت منه النصر وأما في هذه النوبة فإني أشرفت من تلٍ عال فرأيت عسكري فقلت أين من له قدر بمصارعتي ومعارضتي وإني أصل بهذا العسكر إلى بلاد الصين. فكان ما أراد اللَّه وكانت وفاته في 6 ربيع الأول سنة465.

ولى السلطانة بعده ولي عهده السلطان جلال الدولة أبو الفتح ملكشاه.

ولأوائل حكمه توفي الخليفة القائم بأمر اللَّه ثالث عشر شعبان سنة 467 فقام بالأمر بعده ولي عهده حفيده.
27- المقتدي بأمر الله

ترجمته:

أبو القاسم عبد اللَّه بن الذخيرة أبي العباس محمد بن القائم ولم يكن للقائم من أعقابه ذكر سواه فإن الذخيرة توفي أيام أبيه ولم يكن له غيره فأيقن الناس بانقراض نسله وانقراض الخلافة من البيت القادري إلى غيره ولم يشكوا في اختلاف الأحوال بعد القائم لأن من عدا البيت القادري كانوا يخالطون العامة في البلد ويجرون مجرى السوقة فلو اضطر الناس إلى خلافة أحدهم لم يكن له قبول ولا هيبة فقد اللَّه أن الذخيرة كانت له جارية أرمنية اسمها أرجوان وكان يلم بها فلما توفي ظهر أنها حامل وولدت بعد موت سيدهات بستة أشهر وذلك الولد هو عبد اللَّه الذي ولاه جده العهد بعده لما بلغ الحلم وقد بويع بعد وفاة جده واستمر خليفة إلى أن توفي فجأة في يوم السبت خامس محرم سنة 487. فكانت خلافته 19 سنة وثمانية أشهر غير يومين وهو من خيرة بني العباس.
مناجته:

كان قوي النفس عظيم الهمة أصلح كثيراً من الأحوال الأدبية ببغداد فأمر بنفي المغنيات والمفسدات منها ووقع الهرادي والأبراج التي للطيور ومنع من اللعب به لأجل منع الاطلاع على حرم الناس ومنع الملاحين أن يحملوا الرجال والنساء مجتمعين ولذلك أصلح كثيراً من الماديات فعمرت في بغداد عدة محال في خلافته ومنع من إجراء ماء الحمامات إلى دجلة وألزم أربابها بحفر آبار للمياه وأمر أن يغسل السمك المالح يعبر إلى النجمي فيغسله هناك وكانت أيامه كثيرة الخير واسعة الرزق وعظمت الخلافة أكثر مما كان من قبله وكان سلطان السلاجقة في عهده ملكشاه الذي ذكرنا قيامه بعد أبيه ألب أرسلان.

وكان ملكشاه سلطاناً عادلاً ذا فضل وإنصاف، شجاعاً مقداماً صائبالرأي والتدبير أيامه في دولة السلاجقة واسطة عقدها وكان ميمون النقيبة لم يتوجه إلى إقليم إلا فتحه ولما توجه إلى الشام وأنطاكية بلغ إلى حد قسطنطينية وقرر ألف دينار على ملوكها تحمل إلى خزانته ووضع في النواحي التي فتحها من الروم خمسين منبراً إسلامياً ولم يزد زمن ذلك العمل على شهرين ثم عاد إلى الري وقصد سمرقند فظفر بخانها وأسره فحمل غاشية السلطان على كتفه وسار في ركابه إلى موضع سرير ملكه ثم مَنَّ عليه وأعاده إلى ملكه. وتوجه في السنة الثانية إلى أوزكند فأخضعها وخضع له جميع الملوك والرؤساء بالمشرق والمغرب. وهذه السعادة كلها إنما تيسرت بسعادة الوزير الكبير خواجه بزرك قوام الدين نظام الملك أبي علي الحسن بن علي بن إسحاق رضي أمير المؤمنين الطوسي، وكان معدوداً من العلماء الأجواد وكان محباً للعلم مجلسه دائماً معمور بالقراء والفقهاء وأئمة المسلمين وأهل الخير والصلاح. أمر ببناء المدارس المعروفة بالنظامية في سائر الأمصار والبلاد وأجرى لها الجرايات العظيمة وسمع الحديث بالبلاد ببغداد وخراسان وغيرهما وكان يقول إني لست من أهل هذا الشأن ولكني أحب أن أجعل نفسي على قطار نقلة حديث رسول اللهَّ صلى اللَّه عليه وسلم وكان إذا سمع المؤذن أمسك عن كل ما هو فيه وتجنبه فإذا فرغ لا يبدأ بشيء قبل الصلاة وأسقط في زمنه كثيراً من المكوس والضرائب وهو الذي أزال لعن الأشعرية من المنابر وكان سلفه عميد الملك الكندري قد حسن للسلطان طغرلبك التقديم بلعن الرافضة فأمره بذلك فأضاف إليهم الأشعرية ولعن الجميع فلهذا فارق كثير من الأئمة بلادهم مثل إمام الحرمين وأبي القاسم القشيري وغيرهما فلما ولي نظام الملك أزال ذلك جميعه وأعاد العلماء إلى أوطانهم.

مات ملكشاه بعد أن اتسع ملكه اتساعاً عظيماً فخطب له من حدود الصين إلى آخر الشام ومن أقاصي بلاد الإسلام في الشمال إلى آخر بلاد اليمن وحملت إليه الروم الجزية ولم يفته مطلب. وانقضت أيامه على أمن عام وسكون شامل وعدل مطرد أسقط المكوس والمؤن من جميع البلاد، وعمر الطرق والقناطر والمرابط التي في المفاوز وحفر الأنهار الخراب، وعمر الجامع ببغداد وعمل المصانع بطرق مكة وبنى البلد بأصبهان.

وكان للسلطان ملكشاه أربعة بنين وهم بركياروق ومحمد وسنجر ومحمود. وكان محمود طفلاً وأمه تركان خاتون فطلبت من الخليفة المقتدي أن يعين ولدها للسلطنة فأجاب إلى ذلك على شروط اشترطها إلا أن جنود نظام الملك ساعدوا أخاه الأكبر بركياروق على أن يكون هو السلطان، فتم ما أرادوا وأرسل تقليده إلى الخليفة ليوقعه فمات الخليفة والتقليد بين يديه وكانت وفاته في 15 محرم سنة 488.
وفاة المقتدي:

في منتصف المحرم سنة 487 توفي المقتدي باللَّه فجأة بعد أن قدم إليه تقليد السلطان بركياروق فقرأه وعلم ما فيه ولم يمضه.
28- المستظهر بالله

ترجمته:

بويع بالخلافة بعده ولده أبو العباس أحمد المستظهر باللَّه واستمر خليفة إلى أن توفي في 11 ربيع الآخرة سنة 512 فكانت خلافته 24 سنة وثلاثة أشهر و 11 يوماً وكانت سنه حين توفي 41 سنة وستة أشهر وستة أيام.
حال الممالك الإسلامية في عهده:

وكان بالأندلس والمغرب الأقصى دولة الملثمين والقائم بأمرهم يوسف بن تاشفين إلى سنة ثم من بعد ابنه علي إلى سنة 537.

وبافريقية من آل زيري تميم بن المعز بن باديس إلى سنة501 ثم يحيى بن تميم إلى سنة 509 ثم علي بن يحيى إلى سنة 515.

وبمصر من الفاطميين المستعلي أبو القاسم أحمد بن المستنصر معد إلى سنة 495 ثم الآمر بأحكام اللَّه علي المنصور بن المستعلي إلى سنة 524.

وبزبيد من الدولة النجاحية الأمير جيش بن نجاح سنة 498 ثم فاتك بن جيش إلى سنة 503 ثم منصور بن فاتك إلى سنة 517.

وبصنعاء ومهرة ظهر الأمير حاتم بن غاشم الهمذاني من سنة 492 إلى سنة 502 ثم عبد اللَّه بن حاتم إلى سنة 504 ثم معن بن حاتم إلى سنة 510 ثم هشام بن قبيط وحاتم بن حماص.

وما عدا ذلك من البلدان الإسلامية في آسيا فهو محكوم بدولة السلاجقة، كان المستظهر باللَّه من خيار بني العباس لين الجانب كريم الأخلاق يحب الاصطناع ويفعل الخير ويسارع إلى أعمال البر والمثوبات مشكور المساعي لا يرد مكرمة تطلب منه وكان كثير الوثوق بمن يوليه غير مصغ إلى سعاية ساع ولا ملتفت إلى قوله ولم يعرف منه تلون وانحلال عزم بأقوال أصحاب الأغراض وكانت أيامه أيام سرور لرعيته وكان إذا بلغه ذلك فرح به وسره وإذا تعرض سلطان أو نائب له إلى أذى أحد بالغ في إنكار ذلك والزجر عنه وكان حسن الخط جيد التوقيعات لا يقاربه فيها أحد وله شعر رقيق.

yacine414
2011-03-18, 15:20
خطر المغرب:

كما كان اختلاف آل سلجوق وتفرق كلمتهم سبباً لنكبتهم بالباطنية كذلك كان سبباً لنكبتهم من المغرب بالحروب الصليبية وليس غرضنا الآن أن نشرح هذه الحروب شرحاً وافياً فإنها حوادث أجيال إذ قد استمر أمرها من سنة 490 إلى سنة 690 أي قرنين كاملين اشترك فيها من الدول الإسلامية الفاطمية بمصر ودولة السلاجقة ودول الأتابكية التي تفرعت عن السلاجقة ودول الأيوبية ودولة المماليك البحرية بمصر ولما كنا الآن في اقتصاص أحوال آل سلجوق نسوق من أخبار هذه الحروب ما ارتبط بتاريخهم.

امتد سلطان السلاجقة إلى بلاد الروم ( أرمينية والأناضول) وتأسست هناك دولة سلجوقية عظيمة الشأن بقونية واقصرا وما إليهما وأخذا بمخنق الروم فقصدوا كل حيلة في استرداد ما أخذ منهم لقوة الهاجمين وخافوا على ما بقي لهم من الأملاك في آسيا، وكان ملك السلاجقة الروميين في أيام تلك الحوادث السلطان قليج أرسلان داود بن قتلمش (485-500).

وكذلك امتد على بلاد سوريا وتأسست لهم بها دولة حاضرتها دمشق وكان سلطانها في هذه الحوادث السلطان رضوان بن تتش بن ألب أرسلان بينه وبين أخيه دقاق بن تتش حروب سببها المنافسة في الملك.

وكان خليفة مصر الفاطمي هو المستعلي باللَّه أبو القاسم أحمد بن المستنصر (487-495).

كان بيت المقدس مما ملكه تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان مؤسس الدولة السلجوقية بسوريا فأقطعه للأمير سقمان بن أرتق التركماني فاستمر في حوزته إلى سنة 489 وهي السنة التي سار فيها الصليبيون قاصدين في الظاهر الاستيلاء عليه وتخليصه من أيدي هؤلاء المغتصبين.

وقد اضطربت كلمة المؤرخين من العرب في السبب الذي حدا بأولئك المغيرين إلى الخروج من بلادهم بهذه الشدة والكثرة فقال فريق منهم إن هذه الحملة كانت في الأصل موجهة إلى شمال أفريقية وكانت إذ ذاك تحت يد الدولة الزيرية والقائم بالأمر فيها تميم بن المعز بن باديس (453-501) وكان رجار الصقلي قد قام في عهده واستولى على صقلية وحارب تميماً في عقر داره حروباً كانت بينهما سجالاً ولما بلغ رجار ما عزم عليه الصليبيون لم يعجبه لأنه قال إذا وصلوا إليّ احتاج إلى كلفة كثيرة ومراكب تحملهم إلى افريقية وعساكر من عندي أيضاً فإن فتحوا البلاد كانت لهم وصارت المؤنة لهم من صقلية وينقطع عني ما يصل من المال من ثمن الغلات كل سنة وإن لم يفلحوا رجعوا إلى بلادي وتأذيت بهم ويقول تميم غدرت ونقضت عهدي وتنقطع الوصلة والأسفار بيننا وبلاد افريقية باقية لنا متى وجدنا قوة أخذناها ومن أجل ذلك أشار على هؤلاء المتحمسين بقصد بيت المقدس لأن الجهاد في تخليصه أعظم أثراً وأبقى فخراً.

وقال فريق آخر إن أصحاب مصر من العلويين لما رأوا قوة الدولة السلجوقية وتمكنها واستيلاءها على بلاد الشام إلى غزة ولم يبق بينهم وبين مصر ولاية أخرى تمنعهم وقد دخل بعضهم فعلاً إلى بلاد مصر لما رأوا ذلك خافوا وأرسلوا إلى الفرنج يدعونهم إلى الشام ليملكوه ويكون بينهم وبين المسلمين.

وقال فريق من غيرهم إن ملك الروم هو الذي دعا الفرنج إلى ذلك لما خاف على دولته من السلاجقة فإنهم كما أخافوا المصريين أخافوا الروم فكل من الفريقين خائف وجل.

والذي عليه جمهور المؤرخين أن الغيرة الدينية التي أثارها في أوروبا بطرس الراهب بمساعدة الباب أوربانس الثاني هي التي هاجت أنفس الإفرنج لهذه الإغارة.

وكل هذه الأسباب لا يبعدها العقل ولا يبعد أن يكون بعضها قد ساعد بعضاً والافرنج يميلون إلى جعلها حرباً دينية لا سياسية أثار غبارها ما كان من حمية الجاهلية في ذلك العصر.

زار بطرس الراهب البيت المقدس فعز عليه ما رآه من ملك المسلمين لهذا البيت الذي فيه آثار المسيح عليه السلام فعاد إلى أوربا شاكياً باكياً مستغيثاً متضرعاً واستعان بسلطان البابا أوربانس الثاني الذي كان إذ ذاك صاحب الكلمة العليا في أوروبا فأعانه وعقد المؤتمرات لبث الحمية الدينية في قلوب المسيحيين فنجح في ذلك ولا سيما أنه أعطى امتيازات لها قيمة لمن يتطوع في هذه الحرب فتألفت جيوش عظيمة سارت إلى طلبتها في 25 أغسطس سنة 1096(419 يقدمها بطرس الراهب وغيره إلا أن هذه الحملة لم تنجح في مسيرها لأنها لم تكن ذات نظام عسكري فعاثت في الأرض فساداً فقاومها البلغاريون والهونفريون وأفنوا كثيراً منها والذين تخلصوا وجازوا البحر عند القسطنطينية إلى آسيا أخذتهم سيوف السلطان قليج أرسلان عند قونية فلم ينج منهم أحد وهذه هي الحملة الأولى من الحرب الصليبية الأولى قامت على أثرها حملة أخرى وهي الحملة الثانية يقدمها غودا فرودي بوليون دوق دي لورين السفلى ومعه عدد وافر من قواد فرنسا والنمسا وجيش آخر يقدمه هوكز أخو ملك فرنسا ومعه عدد من القواد وجيش ثالث يقدمه بوهيمند أمير تارنت الإيطالي.

سارت هذه الجيوش ومرت بالقسطنطينية بعد خطوب نالتهم من ملك الروم اليكسيوس ثم عبرت المجاز قاصدة مدينة قونية التي كانت من أعمال قليج أرسلان وعددهم عظيم جداً فلقيهم ذلك السلطان مدافعاً عن ملكه فتغلب عليه الصليبيون لكثرة عددهم ثم حصروا قونية نحو خمسين يوماً وفي نهاية سلمت حامية هذه المدينة لكنها لم تسلم للصليبيين بل سلمت لقائد ملك الروم الذي أرسل مع الصليبيين لهذه الغاية وكان هذا العمل سبباً لغيظ قوادهم، أصاب هذا الجيش بعد ذلك نكبات شديدة جداً في مسيرة ففي كثير منه بالحرب والجوع والتعب والأوبئة والاختلاف الكبير بين القواد الذين كان لكل منهم مقصد في العلو والرفعة وقد انفصل عنهم وهم سائرون أحد القواد وهو بودوين وسار إلى الجزيرة الفراتيةفامتلك مدينة الرها وكانت للروم إذ ذاك.

صار القوم إلى أنطاكية وكان حاكمها أحد قواد السلجوقية باغيسيان فحصروها تسعة أشهر وظهر من شجاعة باغيسيان وجودة رأيه وحزمه واحتياطه ما لم يشاهد من غيره فهلك أكثر الفرنج وبعد هذا الحصر استولوا على المدينة بخيانة أحد المستحفظين للأبراج الذي بذل له الافرنج مالاً وأقطاعاً وكان الإفرنج قد كاتبوا صاحب حلب ودمشق إننا لا نقصد غير البلاد التي كانت للروم لا نطلب سواها وإنما فعلوا ذلك معهم حتى لا يساعدوا صاحب أنطاكية وقد كان ما أرادوا. سار الإفرنج بعد ذلك إلى معرة النعمان فامتلكوها.

كان البيت المقدس في تلك الأيام قد خرج من حوزة السلاجقة وامتلكه المصريون فإنهم لما علموا بما أصاب الأتراك على أنطاكية أرسلوا جيشاً يقدمه الأفضل بن بدر الجمالي فاستولى عليه من يد الأمير سقمان بن أرتق التركماني واستناب فيه رجلاً يعرف بافتخار الدولة وهو الذي تلقى حملة الصليبيين الذين حضروا إليه بعد أن حصروا عكا ولم يقدروا على فتحها. حصروا بيت المقدس نيفاً وأربعين ليلة وأخيراً استولوا عليه في يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان سنة 492 ولم يكن منهم ما يحمد عليه المحارب الشجاع بل أساؤوا معاملة أهليه وقتلوا منهم خلقاً كثيراً وورد المستنفرون من الشام في رمضان إلى بغداد بصحبة القاضي أبي سعيد الهروي فأوردوا في الديوان كلاماً أبكى العيون وأوجع القلوب وقاموا بالجامع يوم الجمعة فاستغاثوا وبكوا وأبكوا والسلطانان السلجوقيان بركياروق ومحمد إذ ذاك يتطاحنان يريد كل منهما الانفراد بالملك وإقصاء أخيه عنه.

ولما تم للإفرنج ما طلبوا من الاستيلاء على البيت المقدس انتخبوا القائد غودافر ليكون ملكاً هناك ولكنه لم يرض أن يلقب بلقب ملك بل بحامي قبر المسيح وأقام معه بعض الجنود ورحل سائرهم إلى أوطانهم.
وضع غودافر قانوناً لإدارة مملكته الجديدة إلا أن زمنه لم يطل فإنه توفي في 18 يوليو سنة 1100 فأقيم مقامه بودوين ملك الرها وشقيق غودافر وأعلم بذلك فقبله وأقام بدله في ملك الرها ابن عمه بودوين دي بورغ ملكاً على الرها وسار هو إلى حاضرة ملكه وهو المعروف في التواريخ العربية باسم بردويل. هكذا وجدت مملكة افرنجية في وسط أملاك المسلمين لأول مرة ولم يتركها المسلمون براحة بال ولا هي تركتهم بل كانت الحروب متصلة بين الطرفين المصريون يناوشونهم من الجنوب والأتراك من الشرق. ولم تكن المملكة الإفرنجية واحدة في البلاد التي استولوا عليها بل كانت جملة ممالك مملكة القدس وانطاكية والرها وغير ذلك إلا أن المملكة الكبرى كانت مملكة القدس. وسنتكلم في حوادثها عند ظهور الدولة الأتابكية والدولة الأيوبية اللتين أججتا نار الحرب مع هؤلاء الإفرنج. 29- المسترشد بالله

ترجمته:

هو أبو منصور الفضل المسترشد باللَّه بن المستظهر ولاه أبوه بالعهد فبويع بالخلافة في اليوم الذي توفي فيه والده 16 ربيع الآخر سنة 513(7 أغسطس سنة 1118) واستمر خليفة إلى أن قتل في يوم الأحد 17 ذي القعدة سنة 529(30 أغسطس سنة 135.

كان سلطان العراق لأول عهده هو السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه وكان السلطان سنجر بن ملكشاه في ذلك الوقت ملك خراسان وما إليها من بلاد ما وراء النهر إلى غزنة وخوارزم وقد عظمت دولته وهو شيخ البيت السلجوقي وعظيمه. فلما توفي أخوه محمد وجلس ابن أخيه محمود وهو زوج ابنته لحقه لوفاة أخيه حزن أليم وجزع وجلس للعزاء على الرماد وتقدم الخطباء يذكرون السلطان محمد بمحاسن أعماله من قتال الباطنية وإطلاق المكوس غير ذلك وكان يلقب ناصر الدين فلما توفي أخوه تلقب معز الدين وهو لقب أبيه ملكشاه وعزم على قصد الجبل والعراق وما بيد ابن أخيه محمود.

ثم إن السلطان محمود أرسل إلى عمه سنجر وفداً معه الهدايا والتحف وطلب إليه أن ينزل له عن مازندران فغاظه هذا الطلب وقال إن ولد أخي صبي وقد تحكم عليه وزيره وحاجبه وصمم على المسير فسار وكذلك فعل السلطان محمود والتقيا عند الري بالقرب من ساوة وكان العسكر المحمودي قد استهان بالعسكر السنجري لكثرة الأولين وشجاعتهم وكثرة خيلهم ولما حصل اللقاء انهزمت ميمنة سنجر وميسرته وسارت جنودهما لا تلوي على شيء أما سنجر فكان واقفاً في القلب وأمامه السلطان محمود وقد أشار بعض المقربين من سنجر عليه أن ينهزم فقال إما النصر وإما القتل وأما الهزيمة فلا، وهجم بفيلته على قلب محمود هجوماً شديداً فتراجعت خيل محمود على أعقابها وكان بذلك هزيمة السلطان محمود ولما تم النصر لسنجر أرسل من رد المنهزمين من جنده. ورد الخبر إلى بغداد في عشرة أيام فأشير على الخليفة بالخطبة للسلطان سنجر ففعل.

أما محمود فإنه سار إلى أصبهان ومعه وزيره وبعض أمرائه وأما سنجر فسار إلى همذان وهناك راسل ابن أخيه في الصلح وكانت والدة سنجر تشير عليه بذلك وتقول قد استوليت على غزنة وأعمالها وما وراء النهر وملكت ما لأحد قدر عليه وقررت الجميع على صحابه فاجعل ولد أخيك كأحدهم فأجاب إلى قولها وبعد محاولات تقرر الصلح وسار محمود إلى عمه سنجر ونزل على جدته أم السلطان سنجر وأكرمه عمه وبالغ في إكرامه وحمل له محمود هدية عظيمة فقبلها ظاهراً وردها باطناً ولم يأخذ منه سوى خمسة أفراس عربية وكتب السلطان سنجر إلى جميع عماله أن يخطب لمحمود من بعده حيث جعله ولي عهده ورد عليه جميع ما أخذ منه سوى الري.

ولم يكد السلطان محمود ينتهي من هذا النزاع بينه وبين عمه حتى قام ضده أخوه مسعود بن محمد وكان لمسعود حينئذ الموصل وأذربيجان وذلك سنة 514 وقد أجج الأمراء نار هذا الخلاف لينالوا من وراء ذلك حظوظهم ولا يبالون بالمملكة الإفرنجية التي صارت شوكة في جنوبهم وكان وزير مسعود هو الأستاذ أبو إسماعيل الحسين بن علي الأصفهاني وهو الذي حسن لمسعود أن يقوم مطالباً بالمملكة ولما بلغ ذلك محموداً كتب إليهم يخوفهم إن خالفوه ويعدهم الإحسان إن أقاموا على طاعته وموافقته فلم يصغوا إلى قوله وأظهروا ما كانوا عليه وما يسرونه وخطبوا للملك مسعود بالسلطنة وضربوا له النواب الخمس ثم سار كل منهم إلى لقاء صاحبه فالتقوا عند عقبة أسداباذ واقتتلوا من بكرة إلى آخر النهار وأبلت الجنود المحمودية بلاء حسناً فانهزم عسكر مسعود آخر النهار وأسر جماعة من مقدمي جنودهم ومنهم الوزير أبو إسماعيل الطغرائي فأمر السلطان بقتله وقال قد ثبت عندي فساد دينه واعتقاده وكان حسن الكتابة والشعر.

ثم أرسل محمود وراء أخيه من لحقه وأتى به بعد أن بذل له الأمان فاستقبله استقبالاً عظيماً ووفى له بما بذلن وخلطه بنفسه في كل أفعاله فعد ذلك من مكارم محمود ولا عجب فقد علمه سنجر.

كان الخليفة المسترشد با في هذا العصر قد استرد شيئاً من نشاط العباسيين وقاد الجيوش بنفسه لحرب المخالفين عليه وأهمهم دبيس بن صدقة ملك الحلة ولم يكن للخلفاء عهد بذلك منذ زمن طويل ولا شك أن الملوك السلجوقيين لا يقع ذلك عندهم موقع الاستحسان فإنهم يتخوفون عاقبته ويرون منه خطراً على نفوذهم ومما يدل على أن ذلك منحه قوة لم تكن لسلفه أن شحنة بغداد برنقش الذكوي حصل بينه وبين نواب الخلافة نفرة فتهدده الخليفة فخاف فسار عن بغداد إلى السلطان محمود وشكا إليه وحذره جانب الخليفة وأعلمه أنه قاد العساكر ولقي الحروب وقويت نفسه ومتى لم تعاجله بقصد العراق ودخول بغداد ازداد قوة وجمعاًومنعك عنه وحينئذ يتعذر عليك ما هو الآن بيده فأثر ذلك الكلام في نفس السلطان وتوجه نحو العراق فأرسل إليه الخليفة يعرفه بالبلاد وما عليه أهلها من الضعف والوهن وأن الغلاء قد اشتد بالناس لعدم الغلات والأقوات لهرب الأكرة ويطلب منه أن يؤخر حضوره حتى تصلح الأحوال وبذل له على ذلك مالاً كثيراً فكان هذا مما زاد في إغراء السلطان حتى قصد بغداد فسار مجداً ولما بلغ الخليفة الخبر أظهر الغضب والنزوح عن بغداد واستعد لذلك إن جاء السلطان فأثر ذلك في أنفس العامة تأثيراً عظيماً حتى أكثروا البكاء والضجيج ولما أعلم السلطان بذلك أرسل يستعطف الخليفة ويطلب إليه العودة إلى داره بأبى إلا أن يعود السلطان ولا يحضر إلى بغداد فلم يلتفت السلطان إلى قوله واستمر قاصداً بغداد أما الخليفة فاستعد لمقابلته بالقوة وكان معه كثير من العامة والجند يدافعون عنه تديناً وقد حصلت مناوشات بين الفريقين في أول سنة 521 وكان مع كل جمع عظيم ولما رأى المسترشد باللَّه جنح إلى الصلح الذي طلبه السلطان محمود فتم ذلك وكان أعداء الخليفة يشيرون على السلطان بإحراق بغداد فلم يفعل وقال لا تساوي الدنيا فعل مثل هذا وأقام ببغداد إلى رابع شهر الآخر سنة 521 ثم فارقها بعد أن حمل إليه الخليفة الخلع والدواب الكثيرة.

وفي سنة 524 ملك السلطان محمود قلعة الموت من يد صاحبها الحسن بن الصباح.

وفي سنة 525 توفي السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه وكان حليماً كريماً عاقلاً يسمع ما يكره ولا يعاقب عليه مع القدرة قليل الطمع في أموال الرعايا عفيفاً عنها كافاً لأصحابه عن التطرق إلى شيء منها.

لما توفي خطب لولده داود بالسلطنة في بلاد الجبل وأذربيجان إلا أنه قام ضده ابن عمه السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه فكان الظفر لمسعود وخطب له بالسلطنة على منابر بغداد إلا أن هذا لم يرق لعميد البيت ورئيسه السلطان سنجر فأقبل من خراسان قاصداً دفع مسعود عن السلطنة وسار إليه مسعود فالتقيا بعولان عند الدينور وكانت النتيجة أن انهزم مسعود وفل جيشه وتحكم سنجر فيما بقي ثم أرسل وراء ابن أخيه من يرده فرده إليه فلما حضر عنده قبله وأكرمه وعاتبه على عصيانه ومخالفته ولم يعده إلى السلطنة بل رده إلى كنجه وأجلس الملك طغرل ابن أخيه محمد مكانه وخطب له في جميع البلاد ثم عاد إلى نيسابور فلما رأى ذلك مسعود خرج من مكمنه وتوجه إلى بغداد ثانياً بما جمعه من الجيوش فدخلها فقابله الخليفة بالإكرام ووعده أن يرسل معه جيشاً لمحاربة طغرل وقد وفَّى بما وعد فسارت الجنود المسعودية صوب طغرل حتى التقوا به عند همذان فكانت بينهما موقعة انهزم فيها طغرل واستقر الأمر ثانية للسلطان غياث الدنيا والدين أبي الفتح مسعود بن محمد بن ملكشاه .

كان هذا الخلاف بين البيت السلجوقي مقوياً للمسترشد فصار يعد نفسه صاحب الأمر الذي يجب أن يطاع لا بالقوة المعنوية وحدها بل بقوة السيف أيضاً. فقد صار تحت أمره أجناد ورجال يلبون دعوته وينفذون كلمته وقد حصل بسبب ذلك نفرة بينه وبين السلطان مسعود أدت إلى أن أمر الخليفة بقطع خطبة مسعود من منابر بغداد ولم يقف عند ذلك بل تجهز بجيشه يريد حرب مسعود بدار سلطنته ومعه الجنود الكثيرة إلا أنها لم تكن ذات عصبية تصدق عند اللقاء فإن العصبية الجنسية غلابة مهما كانت الأحوال ولذلك لما التقى الطرفان انحاز كثير من عسكر الخليفة الأتراك إلى السلطان مسعود فانهزم جند الخليفة أما هو فبقي ثابتاً حتى أسر ولما بلغ ذلك الخبر بغداد قامت قيامة أهلها وخرجوا من الأسواق يحثون التراب على رؤوسهم ويبكون ويصيحون وخرجت النساء حاسرات في الأسواق يلطمن.

أما الخليفة فقد جعله السلطان في خيمة ووكل به من يحفظه وقام بما يجب من خدمته وترددت الرسل بينهما في تقرير قواعد الصلح على مال يؤديه الخليفة وألا يعود إلى جمع العساكر وألا يخرج من داره فأجيب إلى ذلك ولم يبق إلا أن يعود الخليفة إلى بغداد إلا أنه صادف أن هجم على خيمة الخليفة جماعة من الباطنية فقتلوه ومثلوا به وكان ذلك في يوم الأحد 17 ذي القعدة على باب مدينة مراغة وكان المسترشد شهماً شجاعاً كثير الإقدام بعيد الهمة وكان فصيحاً بليغاً حسن الخط. قال ابن الأثير ولقد رأيت خطه في غاية الجودة ورأيت أجوبته على الرقاع من أحسن ما يكتب وأفصحه ولقد حاول أن يعيد شيئاً من مجد أهل بيته فحالت الأقدار بينه وبين ما أراد.


30- الراشد باللَّه

بويع بالخلافة بعد المسترشد باللَّه ابنه أبو جعفر المنصور الراشد باللَّه وكان ولي العهد فلما مات أبوه جددت له البيعة في 27 من ذي القعدة وكتب السلطان إلى شحنة بغداد بالبيعة له وحضر بيعته 21 رجلاً من أولاد الخلفاء.

ولم يكن السلطان مسعود مع الراشد أسعد حظاً من أبيه معه، بل حاول الراشد أن يثأر لأبيه ويخل سلطنة مسعود فاتفق مع داود بن السلطان محمود أخي مسعود أقبل مسرعاً صوب بغداد ولما وصلها حصرها لامتناع الخليفة ومن معه بها ولكن سرعان ما اختلفت كلمة الأمراء الذين حالفوا الخليفة وتفرقوا تاريكن بغداد حتى أكبرهم شأناً عماد الدين زنكي صاحب الموصل ولما رأى الخليفة ذلك بارح بغداد في رفقة عماد الدين ولما رأى مسعود ذلك دخل بغداد ظافراً وأمر فجمع القضاة والشهور والفقهاء وعرضوا عليهم اليمين التي حلف الراشد باللَّه لسمعود وفيها بخط يده إني متى جندت أو خرجت أو لقيت أحداً من أصحاب السلطان بالسيف فقد خلعت نفسي من الأمر. فأفتوا بخروجه من الخلافة. وكانت خلافته 11 شهراً و 11 يوماً.


31- المقتفي لأمر اللَّه

ترجمته:

هو أبو عبد اللَّه الحسين المقتفي لأمر اللَّه ابن المستظهر، اختاره السلطان مسعود للخلافة بعد أن كتب محضر بخلع ابن أخيه الراشد من الخلافة وكانت بيعته في ثامن ذي الحجة سنة 530 (7 سبتمبر سنة 1136) واستمر في الخلافة إلى أن توفي ثاني ربيع الأول سنة 555(12 مارس سنة 1160) فكانت خلافته 24 سنة وثلاثة أشهر و 16 يوماً وكان عمره إذ توفي 66 سنة.

ولما بايع السلطان المقتفي صاهره فزوجه أخته فاطمة على صداق مائة ألف دينار وبذلك أمن السلطان أن يكون الخليفة ضدَّه. وقد حاول الخليفة المعزول أن يعيد لنفسه الخلافة فاتحد مع الملك داود بن السلطان محمود ولكنه مع ما بذلهمن المجهود العظيم لم ينجح فقد ائتمر به جماعة من الباطنية فسقوه الردى بنواحي أصفهان.

استمر السلطان مسعود في سلطانه مع كثرة المخالفين والخارجين عليه من أهل بيته ومن امرأته إلى أن توفي سنة 547 بهمذان وذلك على رأس مائة سنة من الخطبة ببغداد للسلطان طغرلبك، وماتت مع مسعود سعادة البيت السلجوقي فلم تقم له بعده راية يعتد بها ولا يلتفت إليها. وكان رحمه اللَّه حسن الأخلاق كثير المزاح والتبسط مع الناس وكان كريماً عفيفاً عن أموال الرعية حسن السيرة فيهم. من أصلح السلاطين سيرة وألينهم عريكة سهل الأخلاق وكان مسعود قد عهد بالسلطنة بعده لابن أخيه ملكشاه بن السلطان محمود.

أما الخليفة فإنه لم بلغه وفاة مسعود طرد شحنة السلجوقية بها وأخذ داره ودور أصحاب السلطان ببغداد وأخذ كل ما لهم فيها ولك من عنده وديعة لأحد منهم أحضرها بالديوان وجمع الرجال والعساكر وأكثر التجنيد وتقدم بإراقة الخمور من مساكن أصحاب السلطان وأرسل جنوده فاستولت على سائر البلاد العراقية الحلة وواسط وغيرها وخرج بنفسه ليقوي جنده.


أصبح ذلك الملك العظيم الذي أسسه طغريل بك وإخوته ورفع بنيانه ملكشاه أصبح نهباً تقاسمته دول شتى تعرف بالدول الأتابكية.

32- المستنجد باللَّه

هو أبو المظفر يوسف المستنجد باللَّه بن المقتفي لأمر اللَّه وأمه أم ولد اسمها طاوس رومية ولي سنة 555 وبويع بالخلافة عقب وفاة والده واستمر خليفة إلى أن مات في تاسع ربيع الآخر سنة 566.

فكانت خلافته 11 سنة وشهراً وأسبوعاً.

المستنجد معدود من خيرة الخلفاء العباسيين ومن مآثره أنه لما ولي أزال المكوس والمظالم ولم يترك بالعراق منها شيئاً وكان شديداً على أهل العبث والفساد والسعاية بالناس قبض مرة على خبيث كان يسعى بالناس فأطال حبسه فشفع فيه بعض أصحابه المختصين بخدمته وبدل عنه عشرة آلاف دينار فقال الخليفة أنا أعطيك عشرة آلاف دينار وتحضر إلي إنساناً آخر مثله لأكف شره عن الناس ولم يطلقه ورد كثيراً من الأموال على أصحابها أيضاً.

ومن أعماله أنه حل المقاطعات وأعادها إلى الخراج وهذا عمل حسن إلا أن بعض العلويين بالعراق تضرروا به ومن أجل ذلك يعدون هذا العمل من عيوبه وهو صلاح للجمهور.

وكان ملك السلاجقة لعهده أرسلان شاهبن محمدبن ملكشاه ولم يكن له شيء من السلطان في بلاد العراق نفسها بل استبد الخليفة بأمرها منذ عهد أبيه.


33- المستضيء باللَّه

هو أبو محمد الحسن بن المستنجد باللَّه وأمه أم ولد أرمينية تدعى غضة. بويع بالخلافة بعد وفاة أبيه وكان عادلاً حسن السيرة في الرعية كثير البذل للأموال غير مبالغ في أخذ ما جرت العادة بأخذه وكان الناس معه في أمن عام وإحسان شامل وطمأنينة وسكون لم يروا مثله وكان حليماً قليل المعاقبة على الذنوب محباً للعفو والصفح عن المذنبين. فعاش حميداً ومات سعيداً. وكانت وفاته ثاني ذي القعدة سنة 575 هـ .

وفي عهده انقرضت الدولة الفاطمية بمصر وظهرت الدولة الأيوبية بهمة مؤسسها المقدام صلاح الدين الأيوبي يوسف بن أيوب الذي ظهر في كنف محمود نور الدين الشهيد وكان ذلك في محرم سنة 567 حيث قطعت خطبة الخليفة العاضد لدين اللَّه واستيفاء ذلك في تاريخ مصر والذي خطب له من العباسيين هو المستضيء باللَّه.

وفي عهده توفي خوارزمشاه أيل أرسلان بن أتسز وملك بعده ابنه سلطانشاه بتدبير أمه ولما علم بذلك أخوه الأكبر علاء الدين تكش جمع العساكر وقصد خوارزم فاستولى عليها واستقل بالملك.
وفي عهده توفي الرجل العظيم ذو القدم الثابتة في فعال الخير وفي جهاد الإفرنج وهو محمود نور الدين بن زنكي وكان قد اتسع ملكه جداً وخطب له بالحرمين وبالمين ومصر وسوريا وقد طبق ذكره الأرض بحسن سيرته وعدله قال ابن الأثير في تاريخه وقد طالعت سير الملوك المتقدمين فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر ابن عبد العزيز أحسن من سيرته ولا أكثر تحريا منه للعدل، وله أخبار حسان ألفت فيها الكتب خاصة.

34- الناصر لدين اللَّه

هو أبو العباس أحمد الناصر لدين ا بن المستضيء بن المستضيء بن المستنجد وأمه أم ولد تركية اسمها زمرد.

بويع بالخلافة بعد وفاة والده المستضيء في 2 ذي القعدة سنة 575(30 مارس سنة 1180 ولم يزل خليفة إلى أن توفي في آخر ليلة من رمضان سنة 622(6 أكتوبر سنة 1225) فكانت خلافته 46 سنة وعشرة أشهر و 28 يوماً وهو أطول خلفاء بني العباس مدة ولم يزد عليه من خلفاء الفاطميين إلا المستنصر باللَّه فإنه قد ولي 60 سنة ولا من خلفاء بني أمية بالأندلس إلا عبد الرحمن الناصر فإنه ولي 50 سنة.

yacine414
2011-03-18, 15:23
حال الممالك الإسلامية لعهده:

كان في الأندلس وشمال أفريقيا دولة الموحدين. وفي عهد الناصر ابتدأت الدولة المرينية بمراكش أسسها عبد الحق المريني سنة 591 وهو من أعقاب الموحدين.

وكان مصر واليمن والحرمين وسوريا الدولة الأيوبية التي أسسها صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة 564.

وكان بالموصل وسنجار وجزيرة ابن عمر بقايا دول الأتابكية.

وكان بقونية دول سلاجقة الروم.

وكان ببلاد الجبل والعراق من السلاجقة السلطان طغريل الثاني وهو آخر سلاجقة العراق.

وكان بخوارزم وخراسان وما إليها الدولة الخوارزمشاهية والقائم بالأمر منهم السلطان تكش بن إيل أرسلان إلى سنة 596 ثم علاء الدين محمد إلى سنة 617 ثم جلال الدين منكبرتي إلى سنة 628 وهو آخرهم.

وكان بالغور والأفغان والهند الدولة الغورية.

في عهد الناصر لدين الله انتهى ملك السلجوقيين بالعراق سنة 590 بقتل طغريل بن ألب أرسلان على يد خوارزمشاه علاء الدين تكش الذي اتسع ملكه جداً فصار ملكه ممتداً من أقاصي بلاد ما وراء النهر شرقاً إلى بلاد الري التي أخذها بعد القضاء على السلاجقة ولكن ملكه لم يكن بالري ثابتاً فإن الخليفة الناصر قد طمع أن تكون البلاد له بعد رحيل خوارزمشاه عنها فأرسل إليها جنداً مع وزيره فاستردها بعد أن حارب عسكر خوارزمشاه لكن ذلك لم يطل فإن خوارزمشاه لما بلغه ذلك رجع فحارب عسكر الخليفة وأخذ البلاد منهم، وفي سنة 596 توفي وخلفه ابنه قطب الدين خوارزمشاه محمد وزاد ملكه اتساعاً.

كان هوى خوارزمشاه بعد اتساع ملكه أن يتشرف بذكر اسمه على منابر بغداد فيخطب له بدل السلاجقة فأبى الخليفة ذلك عليه فاشتدت العداوة بينهما حتى قطع خوارزمشاه خطبة الناصر من منابر بلاده فاستحكمت حلقات الفساد وهذا الذي جعل كثيراً من المؤرخين يعتقد أن خروج التتر إنما كان باستدعاء الناصر لدين ا وليس ببعيد كان قصده على ما يظهر أن يشتغل بهم خوارزمشاه فتخف عنه وطأته وقد اعتادوا ذلك من قبل.

إغارة المغول والتتار:

من أكبر الحوادث في التاريخ الإسلامي خروج طوائف المغول والتتر إلى البلاد الإسلامية واستيلاؤهم على معظمها في آسيا وشرق أوروبا وأول فتح هذا الباب كان على يد جنكيز خان المغولي وخوارزمشاه محمد بن تكش الخوارزمي.

التتر شعب كبير من الأمة التركية ومنه تتفرق معظم بطونها وأفخاذها وهو مرادف للترك عند الإفرنج حتى إنهم يعدون قبائل الأتراك كافة تتراً ومنه العثمانيون والتركمان وقرمان وغيرهم وكانوا مشهورين عند قدماء اليونان باسم سيتيا أواسكوتيا ومؤرخو الترك ونسابوهم يقولون ألنجه خان أحد ملوك الترك في الأزمنة القديمة ولد له ولدان توأمان هما تتارخان ومغل خان نحو ربيعة ومضر في الأمة العربية.
خروج المغول إلى البلاد الإسلامية

قد أكثر المؤرخون في ذكر الأسباب التي دعت جنكيز خان وقومه للخروج إلى البلاد الإسلامية فقال بعضهم إن خوارزمشاه لما أظهر الخلاف على الناصر لدين اللَّه وقطع خطبته من بلاده وأراد أن يذهب إلى بغداد للاستيلاء عليها أرسل الناصر لدين ا إلى جنكيز خان يحرضه على الخروج إلى خوارزمشاه والتعرض لمملكته يريد بذلك أن تنكسر شوكة خوارزمشاه ويشتغل عنه بنفسه وقد سبق لخلفاء بني العباس أن فعلوا ذلك مراراً فهم الذين راسلوا بني بويه ليخلصوهم من استبداد الأتراك البغداديين وتحكمهم فيهم وهم الذين راسلوا طغرلبك شاه السلجوقي ليخلصهم من تحكم البساسيري حينما أراد تحويل الدعوة إلى المصريين الفاطميين وهم الذين راسلوا خوارزمشاه ليخلصهم من السلاجقة ولكن الفرق أن هؤلاء كلهم كانوا مسلمين وأما المغل فكانوا كفاراً ولا نبدي هذا الفرق استبعاداً للمكاتبة لأن ذلك الملك لا يبالي بما يفعل لتخليص ملكه ولم يكن الخليفة هذا الفرق استبعاداً للمكاتبة لأن ذلك الملك لا يبالي بما يفعل لتخليص ملكه ولم يكن الخليفة يبغي إلا أن المغول يشغلون عنه خوارزمشاه فتكون العداوة بين الرجلين ضامنة لاستقلاله كما أنه لم يكن يظن أن يكون من التتر ما كان لأن بينهم وبين العراق أمكنة مترامية الأطراف وبينه وبينهم ذلك الأسد الهصور ولم يكن يظن به من الضعف ما يجعله يجفل أمام جنكيز خان كالحمامة تجفل من صقرها. وهذا السبب وإن كان مطمعاً لجنكيز خان في البلاد الإسلامية ولكنه كان يتطلب سبباً آخر يبيح له فتح باب الحرب على خوارزمشاه فيقال إنه في سنة 612 أرسل رسلاً إلى خوارزمشاه وكانوا من كبار المسلمين الذين يقيمون ببلاده يطلب منه أن يعاهده لتردد التجارة من كل جانب إلى الآخر وأرسل إليه هدايا عظيمة المقدار فلما وصلت الرسل إلى خوارزمشاه أجاب إلى ذلك فرجعوا إلى جنكيز خان مسرورين من تمام ما أرسلوا له فاستبشر بذلك جنكيز خان ومكث الأمر على سداد مدة والتجار والزوار يترددون آمنين مطمئنين.

وفي سنة 615 سافر تجار من بلاد جنكيز خان حتى وصلوا إلى بلدة أترار وهي بلدة بثغر خوارزمشاه بساحل سيحون سرداريا وبها والٍ كان من قبله فلما ورد عليه هؤلاء التجار وكانوا زهاء 400 نفس ومعهم أموال جسيمة طمع ذلك الوالي في أخذ أموالهم فأرسل قاصداً إلى خوارزمشاه يخبره أن جواسيس جنكيز خان قد قدموا في زي تجار فأمره بقتلهم واستصفاء أموالهم فسارع ذلك الوالي المشؤوم إلى ذلك وأرسل إلى خوارزمشاه ما كان معهم من الأموال فأخذها وفرقها على تجار بخارى وسمرقند وأخذ منهم ثمنها. فلما بلغ علم ذلك جنكيز خان أخذه المقيم المقعد وأرسل إلى خوارزمشاه يخبر بصورة الحال ويطلب منه غاير خان ذلك الوالي ليقتص منه فلم يكن من الأحمق خوارزمشاه إلا أن قتل الرسول فلما بلغ ذلك جنكيز خان استشاط غضباً وصمم على قصده وحربه. وعلم خوارزمشاه أنه قد استهدف بعمله لحرب تلك الأمة العظيمة وزاد الطين بلة بأن جمع عساكره وسار بادئاً بالعدوان حتى وصل تخوم تركستان وهجم على بلاد عدوه فلقي هناك جموعاً قليلة متخلفة في النساء والصبيان لأن جنكيز خان كان غائباً بجنده في داخل بلاده فلم يمكن خوازرمشاه أن ينتصر على هذا العدد القليل فعلم أنَّ له يوماً ضروساً إذا تحرك عليه جنكيز خان وهو لا بد فاعل فأمر خوارزمشاه سكان تلك المدن العظيمة التي على حدود بلاده أن يجلوا عنها خوفاً عليهم من التتر وكانت من جنان الدنيا فأصبحت بذلك بلاقع وسهل بهذا العمل السبيل إلى عدوه ثم عاد. أما جنكيز خان فإنه جمع عساكره الجرارة التي تفوق عد العادين وعبر نهر سيحون وليس أمامه من يناوشه قتالاً أو يشغله عن قصده وسار حتى أتى بخارى وكان بها عشرون ألفاً من الجنود الخوارزمية فلم يكن عندهم طاقة بما دهمهم من ذلك البحر الزاخر فتركوا المدينة من غير حام فأرسل أهلها القاضي بدر الدين قاضيخان يطلب الأمان للناس فأمنهم جنكيز خان ودخل هو وجنده البلد في رابع ذي الحجة سنة 616 وأعلن أهله بأن كل ما هو للسلطان عندكم من ذخيرة وغيرها أخرجوه إلينا ثم طلب رؤساء البلد وقال لهم أريد منكم أمتعة التجار التي باعكم إياها خوارزمشاه فإنها لي ومن أصحابي أخذت وهي عندكم فأحضر كل من كان عنده شيء منها ما عنده ثم أمرهم بالخروج من البلد فخرجوا منها مجردين من أموالهم وأعمل التتر النهب وقتلوا من وجدوا فيه ثم أمرهم بالخروج من البلد فخرجوا منها مجردين من أموالهم وأعمل التتر النهب وقتلوا من وجدوا فيه ثم أمر أصحابه أن يقتسموا الناس فاقتسموهم وأصبحت بخارى تلك المدينة العظيمة خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس.

ثم رحلوا نحو سمرقند وهي قصبة ما وراء النهر والمصر الجامع لعلمائه وأدبائه وثروته واستصحبوا معهم من سلم من أهل بخارى فساروا بهم مشاة على أقبح صورة ومن أعيا عن المشي قتل.

ولما وصلوا سمرقند كان بها خمسون ألفاً من جند خوارزمشاه فحاموا عن اللقاء لما دخل قلبهم من الرعب والخور أما أهل البلد فخرج منهم ذوو الجلد والقوة فقاتلهم العساكر الجنكيزية ظاهر البلد واحتالوا عليهم بأن تقهقروا أمامهم وأهل سمرقند يتبعونهم ويطمعون فيهم حتى أبعدوا عن معقلهم وكان المغول قد أعدوا لهم كميناً يأتيهم من خلفهم فلما جاوزوا الكمين خرجوا عليهم وحالوا بينهم وبينم البلد ورجع عليهم الباقون من الأمام فأخذهم السيف من كل جانب وقتل عظيمهم ولما رأى ذلك الباقون بالبلد من الجند والعامة ضعفت نفوسهم وأيقنوا بالهلاك فقال الجند نحن من جنس هؤلاء ولا يقتلوننا لأن الكل أتراك فطلبوا الأمان فأمنوا وفتحت البلد فخرجوا إلى التتر بأهلهم وأموالهم فطلبوا منهم أن ينزعوا أسلحتهم فنزعوها وإذ ذاك وضعوا فيهم السيف وقتلوهم عن آخرهم وفي اليوم الرابع نادوا في البلد أن لا يتأخر بها أحد ومن تأخر قتلوه وهكذا فعل التتر بسمرقند ما فعلوه ببخارى وكان ذلك في المحرم سنة 617.

ولما تم لجنكيز ملك سمرقند سير عشرين ألفاً من أشداء جنوده وقال لهم اطلبوا خوارزمشاه أين كان لو تعلق بالسماء حتى تدركوه وتأخذوه فساروا وعبروا جيحون وكان خوارزمشاه مقيماً بغربيه يستعد وقد ملىء قلبه رعباً فلما علم بقدوم التتر عليه لم ير إلا أن ينهزم عنهم قبل أن يحصل بينهم وبينه صدام وقتال ورحل لا يلوي على شيء وقصد مدينة نيسابور فلم يكد يستقر بها حتى أدركه جنود التتر فطار إلى مازندان والتتر على أثره ولم يعرجوا على نيسابور فكان كلما رحل عن منزلة نزلوها فوصل إلى مرسي من بحر طبرستان ونزل يريد قلعة له في البحر فلما نزل هو وأصحابه في السفن وصل التتر فأيسوا من اللحاق به فعادوا عنه وكان ذلك آخر العهد به.

وهذه الفرقة من التتر تسمى المغربة لأنهم ساروا إلى غرب خراسان وتشبه هذه الفرقة فرقة السلاجقة العراقيةالتي قصدت البلاد الإسلامية بالتخريب والإفساد قبل أن ينساح السلاجقة ويستولوا على البلاد ولما أيس التتر من اللحاق به ساروا إلى مازندان فملكوها في أسرع وقت مع حصانتها وصعوبة الدخول إليها وامتناع قلاعها. ثم ساروا نحو الري وقد انضم إليهم كثير من عساكر المسلمين والكفار من المفسدين من يريد النهب والشر وهم كثيرون فوصلوا إلى الري على حين غفلة من أهلها فملكوها وفعلوا بها الأفاعيل وكانوا ينهبون في طريقهم كل قرية مروا عليها. ثم ساروا إلى همذان فطلب صاحبها الأمان فأمنوه هو ومن معه ثم وصلوا إلى قزوين فدخلواها عنوا ويقال إن من قتل من أهلها يبلغون أربعين ألفاً. ثم ساروا إلى أذربيجان فوصلوا إلى تبريز وبها صاحب البلاد أوزبك بن البهلوان فلم يخرج إليهم ولا حدثته نفسه بقتالهم لاشتغاله بما هو بصدده من إدمان الشراب ليلاً ونهاراً لا يفيق وإنما أرسل إليهم وصالحهم فساروا عنه إلى ساحل البحر ليشتقوا فيه فوصلوا إلى موقان وتطرقوا في طريقهم إلى بلاد الكرك فحاربهم أهلها لكنهم انهزموا فأرسلوا إلى أوزبك خان يطلبون منه أن يتفق معهمفي دفع التتر وكذلك أرسلوا إلى الملك الأشرف بن العادل الأيوبي صاحب خلاط وديار الجزيرة يطلبون منه الانضمام إليهم وظنوا جميعاً أن التتر لا يتحركون حتى ينحسر الشتاء فلم يفعلوا ذلك بل ساروا نحو الكرج وانضاف إليهم مملوك من مماليك أوزبك اسمه أقوش وجميع أهل تلك الجبال والصحراء من التركمان والأكراد وغيرهم فاجتمع إليه خلق كثير وأرسل التتر في الانضمام إليهم فأجابوا إلى ذلك للجنسية فاجتمعوا جميعاً حتى وصلوا تفليس فاجتمعت الكرج وخرجت بحدها وحديدها لكن لم يجدهم شيئاً فانهزموا أقبح هزيمة وركبهم التتر من كل جانب فقتل منهم ما لا يحصى وكانت الوقعة في ذي القعدة سنة 617.

ولما دخلت سنة 618 كروا راجعين إلى مدينة مراغة فملكوها عنوة ووضعوا السيف على أهلها ونهبوا كل ما صلح لهم وما لا يصلح أحرقوه ثم رحلوا عنها قاصدين إربل لكنهم هابوا الهجوم عليها لخوفهم أن تجتمع الجنود عليهم من العراق وغيرها فعادوا إلى همذان وساروا إلى أذربيجان ومنها ساروا إلى دربند شروان فاستولوا على مدينة شماخي عنوة وخرجوا من الدربند إلى البلاد الشمالية وهي دشت القفجاق وفيها أمم كثيرة تركية فأمعن التتر فيهم قتلاً وسبياً والذي لقي حد هذه الحروب أمة القفجاق فكثر فيهم القتل والأسر فتفرقوا أيدي سبأ في جميع الأقطار وكان هذا أول ورود المماليك القفجاقية على البلاد المصرية فاشترى منهم الصالح نجم الدين أيوب مماليكه البحرية ملوك مصر بعد الدولة الأيوبية ومنهم المعز أيبك والمظفر قطز والمنصور قلاوون وغيرهم.

ثم قصد التتر بعد ذلك بلاد الروس فاتفق هؤلاء مع فلول القفجاق أن يكونوا يداً واحدة ضد التتر ومع هذا فكان الظفر للتتر وانهزم عنهم الروس والقفجاق أقبح هزيمة ونهب التتر بلادهم ثم عادوا عنهم وقصدوا بلغار أواخر سنة 620 فلما سمع أهل بلغار بقربهم منهم كمنوا لهم في عدة مواضع واستجروهم إلى أن جاوزوا موضع الكمناء فخرجوا عليهم من وراء ظهورهم فقتل منهم كثير.

هذه أخبار طائفة صغيرة من طوائف التتر وما فعلته.

أما جنكيز خان فإنه لما سير تلك الطائفة لطلب خوارزمشاه أقام بسمرقند وهناك سير جيشاً عليه أحد أولاده لملك خراسان فعبروا النهر وقصدوا مدينة بلخ فطلب أهلها الأمان وتسلموا البلد سنة 617 ولم يتعرضوا له بنهب ولا قتل بل جعلوا فيه شحنة ثم صاروا يستولون على تلك البلاد شيئاً بعد شيء دون صعوبة أو مقاومة ولذلك لم يكونوا يتعرضون لأهلها بسوء ولا أذى سوى أنهم كانوا يأخذون الرجال ليقاتلوا بهم من يمتنع عليهم ولم يمض إلا القليل حتى دخل معظم البلاد الفارسية تحت حكم التتر.

وأرسل جيشاً آخر وجهته الشمال ليملك دشت القفجاق وكان الأمر قد تهيأ لهم بها لما فعله التتر المغربة من إضغاف القوى التي كانت بهاتيك البلاد على أنها لم تكن قوى مجتمعة يخشى بأسها بل كانوا طوائف شتى لا جامعة لهم فسهل على الجيش الجنكيزي أن يستولي على الدشت كله في أسرع ما يمكن.

فتم بذلك لجنكيز خان مملكة عظيمة واسعة مترامية الأطراف تبتدىء شرقاً من بلاد الصين وتنتهي غرباً إلى بلاد العراق وبحر الخزر وبلاد الروس وجنوباً ببلاد الهند وشمالاً بالبحر الشمالي كل ذلك تم له في مدة قصيرة.

ولما أحس بقرب منيته قسم الممالك الجنكيزية إلى أربعة أقسام بين أبنائه الأربعة وهم جوجي وجغطاي وتولى وأوكداي.

فجعل دشت قفجاق بأسرها وبلاد الداغستان وخوارزم وبلغار والروس وما يؤمل أخذه إلى منتهى المعمورة وسواحل البحر الغربي لولده الأكبر جوجي.

وجعل بلاد ايغور والتركستان وما وراء النهر بأسره لولده الثاني جغطاي.

وجعل خراسان وما يؤمل أخذه من ديار بكر والعراقين إلى منتهى حوافر خيولهم لولده الثالث تولى خان.

وجعل بلاده الأصلية والخطا والصين إلى منتهى المعمورة الشرقي لولده الرابع أوكداي وجعله ولي عهده من بعده ويصير قاآناً على الكل أو ملك الملوك وهو عندهم بمنزلة الخليفة عند المسلمين وأمر الباقين بمتابعته وكذا كل من يصير قاآناً من ذريته يجب على الباقين طاعته ومن أتباعه ومن خالفه يجب على الباقين حربه حتى يفيء إلى يساق جنكيز خان.

هكذا قدر للرجل لعظم همته أن يملك أولاده الدنيا بأسرها ولا يبقى فيها لغيرهم كلمة ولا سلطان ولولا ما حصل من الخلاف بعده لتم كل ما توقعه.

وفي سنة 624 أدركته منيته وكان الخليفة العباسي حين وفاته المنصور المستنصر باللَّه بن محمد الظاهر.

وجد من آل جنكيز خان أربعة بيوت ورثت الملك وتممت الفتح حتى تهيأ لها أن تملك معظم بلاد المسلمين وجزءاً من أوروبا.

وبيت تولي هو الذي كان على يده سقوط الخلافة العباسية ببغداد وامتداد سلطان التتر على الجزيرة والشام وبلاد الروم وسنذكر ذلك في حينه.

حصلت هذه الحوادث الكبرى وخليفة بغداد لاه بما هو فيه من عسف الناس وظلمهم فقد كان قبيح السيرة في رعيته ظالماً فخرب في أيامه العراق وتفرق أهله في البلاد وأخذ أملاكهم وأموالهم وكان كثيراً ما يفعل الأشياء ثم ينقضها وجعل جل همه في رمي البندق والطيور المناسيب وسراويلات الفتوة فبطلت الفتوة في البلاد جميعاً إلا من يلبس منه سراويل يدعى إليه ولبس كثير من الملوك منه سراويلات الفتوة وكذلك منع الطيور المناسيب لغيره إلا ما يؤخذ من طيوره ومنع الرمي بالبندق إلا من ينتمي إليه. هذه كانت مشاغله العجيبة والتتر يمعنون في بلاد المسلمين قتلاً وأسراً وتخريباً ومع ذلك أثنى عليه ابن طباطبا في تاريخه الموسوم بالفخري ثناء جماً ومن ضمن ما وصفه به أنه كان يرى رأي الإمامية والظاهر أن هذا هو الذي حببه إلى المؤرخ المذكور.
بقي الناصر في أواخر أيامه ثلاث سنين عاطلاً عن الحركة وقد ذهبت إحدى عينيه والأخرى يبصر بها إبصاراً ضعيفاً وفي آخر الأمر أصابته دوسنطاريا عشرين يوماً وكانت بها منيته.

35- الظاهر بأمر اللَّه

ترجمته:

هو أبو نصر محمد الظاهر بأمر اللَّه بن الناصر بويع بالخلافة عقب موت أبيه وكان ولي عهده واستمر خليفة إلى 14 رجب سنة 623 فكانت خلافته تسعة أشهر و 14يوماً.

ولما ولي أظهر من العدل والإحسان ما أعاد به سنة العمرين قال ابن الأثير فلو قيل إنه لم يل الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز مثله لكان القائل صادقاً فإنه أعاد من الأموال المغصوبة في أيام أبيه وقبله شيئاً كثيراً وأطلق المكوس في البلاد جميعها وأمر بإعادة الخراج القديم في جميع العراق وأن يسقط جميع ما جدده أبوه وكان كثيراً لا يحصى. ولما أمر بأخذ الخراج الأول من جميع البلاد حضر كثير من أهل العراق وذكروا أن الأملاك التي كان يؤخذ منها الخراج قديماً قد يبس أكثر أشجارها وخربت ومتى طولبوا بالخرج الأول لا يفي دخل الباقي بالخراج فأمر ألا يأخذ الخرج إلا من كل شجرة سليمة وأما الذاهب فلا يؤخذ منه شيء ومن أعماله أن المخزن كان له صنجة الذهب تزيد على صنجة البلد نصف قيراط يقبضون بها المال ويعطون بالصنجة التي للبلد يتعامل بها الناس فسمع بذلك فخرج خطه إلى الوزير وأوله {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم} قد بلغنا كذا وكذا فتعاد صنجة المخزن إلى الصنجة التي يتعامل بها المسلمون واليهود والنصارى فكتب بعض النواب إليه يقول إن هذا مبلغ كبير وقد حسبناه فوجدنا في السنة الماضية 35 ألف دينار فأعاد الجواب ينكر على القائل ويقول لو أنه 350 ألف دينار يطلق وكذلك أيضاً فعل في إطلاق زيادة الصنجة التي للديوان وهي في كل دينار حبة وتقدم إلى القاضي كل من عرض عليه كتاباً صحيحاً بملك يعيده إليه من غير إذن ومنها أن العادة كانت في بغداد أن الحارس بكل درب يبكر ويكتب مطالعة في الخليفة بما تجدد في دربه من اجتماع الأصدقاء ببعض كل نزهة أو سماع أو غير ذلك ويكتب ما سوى ذلك من كبير وصغير فكان الناس من هذا في حجر عظيم فلما ولي الظاهر أتته المطالعات على العادة فأمر بقطعها وقال أي غرض لنا في معرفة أحوال الناس في بيوتهم فلا يكتب أحد لنا إلا ما يتعلق بمصالح دولتنا فقيل له إن العامة تفسد بذلك ويعظم شرها قال إنا ندعو اللَّه أن يصلحهم ومنها أنه لما ولي الخلافة وصل صاحب الديوان من واسط وكان قد سار إليها أيام الناصر لتحصيل الأموال فأصعد ومعه ما يزيد على مائة ألف دينار وكتب مطالعة تتضمن ذكر ما معه ويستخرج الأمر في حمله فأعاد الجواب بأن يعاد إلى أربابه فلا حاجة لنا إليه فأعيد عليهم. ومنها أنه أخرج كل من كان في السجون وأمر بإعادة ما أخذ منهم وأرسل إلى القاضي عشرة آلاف دينار ليعطيها عن كل من هو محبوس في حبس الشرع وليس له مال.

ولم يزل كل يوم يزداد من الخير والإحسان إلى الرعية فجدد من العدل ما كان دارساً وأذكر من الإحسان ما كان منسياً. وقبل وفاته أخرج توقيعاً إلى الوزير بخطه عن أرباب الدولة وقال الرسول: أمير المؤمنين يقول ليس غرضنا أن يقال برز مرسوم أو نفذ مثال ثم لا يبين له أثر بل أنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال. وقد قرىء التوقيع فإذا في أوله بعد البسملة (اعلموا أنه ليس إمهالنا إهمالاً ولاإغضاؤنا إغفالاً ولكن لنبولك أيكم أحسن عملاً وقد عفونا لكم ما سلف من إخراب البلاد وتشريد الرعايا وتقبيح الشريعة وإظهار الباطل الجلي في صورة الحق الخفي حيلة ومكيدة وتسمية الاستئصال والاجتياح استيفاء واستداراً كالأغراض التي انتهزتم فرصها مختلسة من براثن ليث باسل وأنياب أسد مهيب تنفقون بألفاظ مختلفة على معنى وأنتم أمناؤه وثقاته فتميلون رأيه إلى هواكم وتمزجون باطلكم بحقه فيعطيكم وأنتم له عاصون ويوافقكم وأنتم له مخالفون والآن قد بدل اللَّه سبحانه بخوفكم أمناً وبفقركم غنى وبباطلكم حقً ورزقكم سلطاناً يقيل العثرة ولا يؤاخذ إلا من أصر ولا ينتقم إلا ممن استمر يأمركم بالعدل وهو يريده منكم وينهاكم عن الجور وهو يكرهه لكم يخاف اللَّه ويخوفكم مكره ويرجو اللَّه تعالى ويرغبكم في طاعته فإن سلكتم مسالك نواب خلفاء اللَّه في أرضه وأمنائه على خلقه وإلا هلكتم والسلام ).

ولم تتمتع الأمة بهذا الخليفة طويلاً فإنه لحق بربه قبل أن تمر سنة على خلافته.


36- المستنصر بالله

ترجمته:

هو أبو جعفر المنصور المستنصر باللَّه بن الظاهر.

بويع بالخلافة يوم وفاة والده 14 رجب سنة 623(11 يولية سنة 1226) واستمر في الخلافة إلى أن توفي لعشرين خلون من جمادى الآخرة سنة 640(5 ديسمبر سنة 1243) فكانت خلافته 17 سنة إلا شهراً.

كان المستنصر شهماً جواداً يباري الريح كرماً وجوداً وله الآثار الجليلة في بغداد منها وهي أعظمها المدرسة المستنصرية على شط دجلة من الجانب الشرقي مما يلي دار الخلافة وبنى غيرها من القناطر والخانات والربط ودور الضيافة وكان يقول إني أخاف ألا يثيبني اللَّه على ما أهبه وأعطيه لأن اللَّه تعالى يقول لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وأنا واللَّه لا فرق عندي بين التراب والذهب.

ولما ولي سلك في الخير والإحسان إلى الناس سيرة أبيه وأمر فنودي ببغداد بإفاضة العدل، وأن من كانت له حاجة أو مظلمة يطالع بها تقضي حاجته وتكشف مظلمته.

وفي عهده توفي ملك المغول الكبير جنكيز خاز سنة 624 وحل محله في بلاد خراسان وما وراءها ابنه تولي خان فوسع مملكته إلى الغرب وأرسل فرقة إلى بلاد أذربيجان فملكتها وأجلت عنها جلال الدين مكبرتي وخافهم أهل أذربيجان خوفاً شديداً ولم يكن أمامهم من يرد غائلتهم بعد جلال الدين الذي لم يجد له نصيراً لأنه وتر الملوك المجاورين له طراً.

قال ابن الأثير تعليقاً على هذه الحال: (فما نرى من ملوك الإسلام من له رغبة في الجهاد ولا نصرة الدين بل كل منهم مقبل على لهوه ولعبه وظلم رعيته وهذا أخوف عندي من العدو قال اللَّه تعالى واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة).

وكان مقتل جلال الدين في منتصف شوال سنة 628 قتل شريداً طريداً لم يفده هذا الملك العظيم الذي ورثه عن أبيه، وبهلاكه تم للمغول ملك جميع البلاد الفارسية إلى حدود العراق ولم يتهيأ للملوك أن يتفقوا ضد هذا العدو الشديد المراس بل كانوا فيما بينهم مختلفين يغير بعضهم على بعض وعن عدوهم لاهون غافلون. صار العراق ينتظر النكبة منهم من أن لآن وخليفة بغداد مستسلم للحوادث مدل بمركزه الديني.

yacine414
2011-03-18, 15:25
37- المستعصم

ترجمته:

هو أبو أحمد عبد اللَّه المستعصم باللَّه بن المستنصر بن الظاهر بن الناصر بن المستضيء بن المستنجد بن المقتفي بن المستظهر بن المقتدي بن محمد الذخيرة بن القائم بن القادر بن إسحاق بن المقتدر بن المعتضد بن طلحة بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهتدي بن المنصور ففي آبائه سبعة عشر خليفة.

بويع بالخلافة بعد وفاة أبيه المستنصر باللَّه في عاشر جمادى الآخرة سنة 640(6 ديسمبر سنة 1242 ولم يزل خليفة إلى أن قتل بين يدي هولاكو خان في 20 محرم سنة 656(27 يناير سنة 1258 وبقتله انتهت الخلافة العباسية.

قال ابن طبابا كان المعتصم رجلاً خيراً متديناً لين الجانب سهل العريكة عفيف اللسان والفرج حمل كتاب اللَّه تعالى وكتب خطاً مليحاً وكان سهل الأخلاق وكان خفيف الوطأة إلا أنه كان مستضعف الرأي ضعيف البطش قليل الخبرة بأمور المملكة مطموعاً فيه غير مهيب في النفوس ولا مطلع على حقائق الأمور وكان زمانه ينقضي أكثر بسماع الأغاني والتفرج على المساخرة وفي بعض الأوقات يجلس بخزانة الكتب جلوساً ليس فيه كبير فائدة وكان أصحابه مستولين عليه وكلهم جهال من أرذال العوام إلا وزيره مؤيد الدين دين محمد بن العلقمي فإنه كان منأعيان الناس وعقلاء الرجال وكان مكفوف اليد مردود القول يترقب العزل والقبض صباح مساء.


حال التتر

قلنا قيما تقدم إن جنكيز خان لما حانت منيته قسم ممالكه إلى أقسام أربعة بين أولاده ومنهم تولي خان بعمل له خراسان وما يؤهل أخذه من ديار العراقين إلى منتهى حوافر خيولهم وقد استمر تولي في مملكته الجديدة يتوسع في الفتح ويمد بلاده إلى الغرب ويستنزل ملوك فارس عن تخوتها حتى توفي سنة 654 في عهد المستعصم باللَّه وكانت حدود بلاده تنتهي عند بلاد العراق فحلفه في الملك ابنه هولاكو خان حفيد جنكيز خان فأهمه التوسع في الفتح وأخذ بغداد وكان بها من يحب ذلك:

قال المؤرخون إن أهل السنة والشيعة الذين يتألف منهم جمهور البغداديين كانوا في نزاع مستمر وقد أدى هذا النزاع بينهم إلى حروب وشدائد رائدها الجهل والغفلة عن المصالح وكان وزير المستعصم من رجال الشيعة فكان يسؤوه ما يلقاه أهل مذهبه من اضطهاد أهل السنة الذين هم الجمهور الأكبر وكان يزيد في مساءته أن أهل البيت العباسي كانوا يساعدون أهل السنة لأنهم عماد بيتهم والشيعة يريدون خروج الأمر منهم وقد حصل في أواخر عهد المستعصم أن أغار أهل السنة على الكرخ وهو محلة الشيعة فأهانوا أهله وأسرفوا في قتلهم ونهب دورهم وكان ذلك بأمر أبي بكر أحد أولاد الخليفة المستعصم فيقال إن الوزير كاتب هولاكو يحرضه على قصد بغداد ويطمعه فيها وجل رغبته أن تسقط الخلافة العباسية ولا يهمه بعد سقوط عدوه من تولى الملك بعده فكانت تلك المكاتبة مما ساعد هولاكو على تنفيذ رغبته وأكثر المؤرخين يتهمون ابن العلقمي بهذه التهمة الشنيعة حتى نقل ابن الوردي في تاريخه ما يؤكد هذه التهمةوهو رسالة أرسلها ابن العلقمي إلى وزير إربل منها أنه قد نهب الكرخ المكرم وقد ديس البساط النبوي المعظم وقد نهب العترة العلوية واستؤسرت العصابة الهاشمية.

وكن لما أقول بالمرصاد وتأويل أول النجم واحرص واللَّه أعلم.

وابن طباطبا العلوي يبعد هذه التهمة عن ابن العلقمي قال في تاريخه وقد نسبه الناس إلى أنه خامر وليس ذلك بصحيح ومن أقوى الأدلة على عدم مخامرته سلامته في هذه الدولة فإن السلطان هولاكو لما فتح بغداد وقتل الخليفة سلم البلد إلى الوزير وأحسن إليه وحكمه فلو كان قد خامر على الخليفة لما وقع الوثوق إليه أه واللَّه أعلم بمقدار هذا البرهان في الإنتاج.

سارت جيوش هولاكو الجرارة قاصدة بغداد وفي منتصف محرم سنة 656 نزل بنفسه على باب بغداد وأعد عدة الحصار ولم يكن عند الخليفة ما يدفع به ذلك السيل الجارف واكتفى بإقفال الأبواب فجد المغول في القتال حتى ملكوا الأسوار بعد حصار لم يزد على عشرة أيام وبملك الأسوار تم لهم ملك البلد.

ولما رأى الخليفة ذلك استأذن أن يخرج إلى هولاكو فأمر هولاكو أن ينزل باب كلواذي أحد أبواب بغداد وشرعت جنوده في نهب تلك المدينة التي كانت حاضرة الإسلام كله ثم تقدم بإحضار الخليفة فأحضره ومثل بين يديه وقدم لهولاكو جواهر نفيسة ولآليء ودرراً معبأة في أطباق ففرق هولاكو ذلك على أمرائه.

وفي رابع عشر صفر سنة رحل عن بغداد واستصحب معه الخليفة وفي أول مرحلة قتله هو وابنه الأوسط مع ستة نفر من الخصيان وقتل ابنه الكبير ومعه جماعة من الخواص على باب كلواذي وبهذا لقتل كسفت شمس الخلافة العباسية من بغداد بعد أن مكثت مشرقة سة واشتفت قلوب العلويين من بني عمهم بما حل بهم من هذا الخراب والدمار.

أما بغداد دار الخلافة وعاصمة الملك فقد جرى عليها ما جرى على سواها من أمهات المدن الإسلامية فقد قتل معظم أهلها وقيل منهم من نجا وقد استبقى المغولي جماعة من الشيعة والنصارى وسكان بغداد بعد أن أفنى أكثر أهلها قوم جاءوا مع هولاكو ومن أقطار شتى وصارت حاضرة دولة لا تدين بدين بعد أن كانت عاصمة المسلمين.


حال الدولة الإسلامية

عند سقوط الدولة العباسية

(1)كانت بغرناطة من البلاد الأندلسية دولة بني نصر والقائم بالأمر منها مؤسسها محمد الغالب باللَّه بن نصر (629-671) .

(2) بشمال إفريقية دولة الموحدين والقائم بالأمر منهم أبو حفص عمر المرتضى بن إسحاق بن يعقوب يوسف بن عبد المؤمن (646-665). .

(3) وبالجزائر الدولة الزيانية والقائم بالأمر منهم بغمواسن بن زيان مؤسس الدولة ( 633-681).

(4) وبتونس الدولة الحفصية والقائم بالأمر منهم أبو عبد اللَّه محمد المستنصر باللَّه أي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص (647-675).

(5) وبمراكش الدولة المرينية والقائم بالأمر منهم أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق .

(6) وبمصر دولة المماليك البحرية والقائم بالأمر منهم المنصور نور الدين علي بن المعز عز الدين أيبك (655-658)..

(7) وباليمن الدولة الرسولية والقائم بالأمر منهم المظفر بن يوسف بن المنصور عمر بن علي بن رسول (647-675).

(8) وبصنعاء من أئمة الزيدية المتوكل شمس الدين أحمد (656-680) .

(9) وبالروم من السلاجقة ركن الدين قليج أرسلان الرابع (655-666) .

(10) وبماردين من الدولة الأرتقية نجم الدين غازي السعيد (637-658) .

(11) وبفارس من الأتابكية السلغرية أبو بكر بن سعد بن زنكي بن مودود (633-658) .

(12) وبلورستان من الأتابكية الهزار سبية دكلا بن هزار سب (650-657). .

(13) وبكرمان من دولة قتلغ خان قتلغ خاتون (655-681).


إجمال القول في الدولة العباسية:

تولى العباسيون الخلافة الإسلامية سنة 132 حيث بويع لأولهم أبي العباس عبد اللَّه السفاح بالكوفة واستمرت خلافتهم إلى سنة 656 حيث سقط عبد اللَّه المستصم قتيلاً بين يدي هولاكو خان المغولي في أعقاب جنكيز خان موحد التتر الخارج بهم إلى بلاد الإسلام. جاءت الرايات السود من المشرق فأقعدت بني العباس على عشر بني أمية وجاءت رايات التتر من المشرق فثلت عرشهم من بغداد زهرة المشرق وجنة الدنيا فمن الشرق أشرق كوكب سعدهم ومن الشرق ظهر نجم نحسهم استمرت خلافتهم 524 سنة استخلف فيها منهم 37 خليفة فمتوسط ملك الخليفة منهم نحو 14 سنة وأكبر مدة قام فيها خليفة عباسي 46 سنة وأقلها سنة فما دونها.

مكثت الدولة العباسية100 سنة لخلفائها الكلمة العليا والسيادة التامة على جميع العالم الإسلامي ما عدا بلاد الأندلس يقولون فيسمع لهم ويأمرون فيأتمر الناس ولا يجسر أحد على مخالفتهم والوقوف في وجه جنودهم إلا منافسيهم في القرب من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهم بنو عمهم من آل أبي طالب وبعض الخوارج الذين كانت تخبو نارهم حيناً وتلمع ثم تجيء القوة العباسية الهائلة على ذلك بسرعة.

وقام في هذا العصر الباهر من العباسيين ثمانية خلفاء وهم السفاح والمنصور والمهدي والرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق متوسط خلافة الواحد منهم اثنتا عشرة سنة ونصف وينتهي هذا الدور بوفاة الواثق سنة 232.

ثم جاء بعد ذلك قرن آخر من 232 إلى 234 أخذت الدولة فيه في النزول شيئاً فشيئاً وضعف تلك المكانة التي كانت لهم في نفس الأمم الإسلامية واجترأ الأمراء بالأطراف على الاستقلال وصار أمر العباسيين يضمحل حتى لم يبق بيدهم إلا العراق وفارس الأهواز وهذه مملوءة بالاضطراب والفتن وآل الأمر إلى أن يتولى بغداد مملوك تركي أو ديلمي يطلق عليه أمير الأمراء له النفوذ التام والسلطان المطلق والولاية العامة وليس للخلافة من الأمر شيء.

قام في هذا العصر اثنا عشر خليفة. وهم المتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهدي والمعتمد والمعتضد والمكتفي والمقتدر والقاهر والمتقي والمستكفي الذي ملك بنو بويه في آخر عهده ومتوسط خلافة الواحد منهم ثماني سنوات ونصف ولم يمت منهم موتاً هادئاً إلا أربعة والباقون خرجوا من الخلافة بين قتيل ومخلوع. وكان استيلاء بني بويه على بغداد سنة 334.

جاء بعد ذلك دور ثالث من 334 إلى 447 ليس للخليفة فيه إلا اسم الخلافة والسلطان الفعلي لأمة فارسية هي الأمة الديلمية التي يمثلها السلطان من بين بويه يقيم ببغداد فصار الخليفة كأنه موظف لهم يتناول منهم ما يقوم بأوده وليس له تصرف ولا نفوذ يؤمر فيأتمر ويفعل ما يراد منه لا ما يريد وليس له على أنفس المالكين شيء من السلطان الديني لمباينتهم له في العقيدة فقد كانوا شيعة غلاة يدينون بفضل علي وآل بيته على من عداهم وإنما رضوا ببقاء الخليفة العباسي ليكون أمره عليهم هيناً يبقونه حتى رأوا في بقائه خيراً لهم ويعزلونه أو يقتلونه متى رأوا في ذلك مصلحتهم.

وقد قام في هذا الدور المستكفي المطيع والطائع والقادر والقائم ومتوسط مدة الخليفة منهم 22 سنة ونصف والقائم هو حلقة الاتصال بين هذا الدور والذي يليه والثلاثة الأولون من خلفاء هذا الدور خلعهم بنو بويه.

جاء بعد ذلك دور آخر من سنة 447 إلى سنة 590 انتقل السلطان الفعلي فيه إلى أمة تركية يمثلها سلطان من آل سلجوق يقيم ببلاد الجبل لا في بغداد وكان بنو العباس مع هذه الدولة أحسن حالاً منهم مع بني بويه فإن هؤلاء كانوا يحترمون الخلفاء تديناً وكانوا يبدون لهم من مظاهر التعظيم والإجلال ما يقضي به منصبهم الديني.

وقد ولي في هذا الدور المقتدي والمستظهر والمسترشد والراشد والمقتفي والمستنجد والمستضيء ومتوسط خلافة الواحد منهم نحو عشرين سنة ونصف ولم يكن الخلفاء في هذه المدة على حال واحد فإنهم من عده المسترشد شرعوا يستردون شيئاً من نفوذهم الفعلي في بغداد والعراق والذي ساعدهم على ذلك بعد آل سلجوق عنهم وتفرقهم ووقوع الحرب بينهم وقد تم استبدادهم بأمر العراق في عهد المقتفي وانقضت دولة السلاجقة سنة 490 على يد خوارزمشاه ونفوذهم في العراق قد اضمحل تماماً.

مكث العباسيون بعد سقوط الدولة السلجوقية 66 سنة لم يكونوا فيها تحت سلطان أحد بل كانوا مستقلين بملك العراق إلى أن قام المغول والتتار بحركتهم التي ابتدأت بأقصى تركستان وعصف ريحهم على البلاد الإسلامية فأخذ أنفاس الدولة العباسية وأزالها من بغداد على يد هولاكوا خان حفيد جنكيز خان سنة 656.

فللدولة العباسية أدوار

100سنة عصر القوة والعمل من(132-232)

102 سنة عصر استبداد المماليك الأتراك من (232-334)

113 سنة عصر استبداد الملوك من آل بويه من (334-447)

83 سنة عصر استبداد الملوك من آل سلجوق من (447-530)

126 سنة عصر استعادة العباسيين شيئاً من نفوذهم السياسي مع تغلب القواد من (530-656)

ونريد أن نوضح هنا الأسباب الرئيسية التي أدت بهذه القوة الهائلة إلى الضعف ثم التلاشي.

yacine414
2011-03-18, 15:27
قيـــام دَولَة الممَاليك

كان الترك الذين يؤسرون في الحروب يشكلون أكبر نسبة للرقيق وكانوا يجلبون من بلاد ما وراء النهر إذ كانت تلك الجهات مسرحاً دائماً للقتال وتمتد بلاد الترك إلى ما بعد تلك المناطق كثيراً حيث تتوغل إلى منغوليا وغيرها من بلدان أواسط آسيا، وتصل إلى بلاد الأفغان اليوم ونواحي واسعة من سيبيريا، وتتجه تلك الأقوام باستمرار نحو الغرب وتصطدم مع المسلمين، وتكون أعداد من الأسرى كبيرة، وإن كانت جموع أخرى تدخل ديار الإسلام ثم لا تلبث أن تدين بديانة أهل البلاد، وتعمل بعدئذٍ على نشر الإسلام ومحاربة أبناء جلدتها أيضاً، ومن هؤلاء السلاجقة والتركمان العز ثم العثمانيون و....

ثم غدا الصقالبة مصدراً آخر للرقيق، وكان يؤتى بهم من شرقي أوروبا إلى ألمانيا وفرنسا وايطاليا والأندلس حيث يباعون، وعمل اليهود في تجارة الرقيق وحصلوا على أموال وفيرة من وراء هذه التجارة، وغدت بعض الأسواق في أوروبا لهذا الرقيق الذاهب إلى البلدان الإسلامية وبيزنطة. "فإذا قدم بالمملوك تاجره، عرضه على السلطان فيشتريه ويجعله في طبقة جنسه، ويسلّمه إلى المختص برسم الكتابة، فأول ما يبدأ به تعليمه ما يحتاج إليه من القرآن الكريم. ولكل طائفة فقيه يأتيها كل يوم، ويأخذ في تعليمها القرآن، ومعرفة الخط والتمرين بآداب الشريعة الإسلامية، وملازمة الصلوات والأذكار. وصار الرسم إذ ذاك ألا تجلب التجار إلا المماليك الصغار، فإذا شبّ الواحد من المماليك، علّمه الفقيه شيئاً من الفقه، وأقرأه فيه مقدمة، فإذا صار إلى سن البلوغ أخذ في تعليمه فنون الحرب من رمي السهام ولعب الرمح ونحو ذلك، فيتسلّم كل طائفةٍ معلم حتى يبلغ الغاية في معرفة ما يحتاج إليه. وإذا ركبوا إلى لعب الرمح أو رمي النشاب، لا يجسر جندي ولا أمير أن يحدّثهم أن يدنو منهم، عند ذلك ينقل إلى الخدمة، وينتقل في أطوارها رتبةً بعد رتبةٍ إلى أن يصير من الأمراء، فلا يبلغ هذه إلا وقد تهذّبت أخلاقه، وكثرت آدابه، وامتزج تعظيم الإسلام وأهله بقلبه، واشتدّ ساعده في رماية النشاب، وحسن لعبه بالرمح، ومرن على ركوب الخيل. وقد كان لهم خدام وأكابر من النواب يفحصون الواحد منهم فحصاً شافياً ويؤاخذونه أشد المؤاخذة، ويناقشونه على حركاته وسكناته، فإن عثر أحد مؤدبيه الذي يعلمه القرآن، أو رأس النوبة الذي هو حاكم عليه، على أنه اقترف ذنباً، أو أخلّ برسم، أو ترك أدباً من آداب الدين أو الدنيا قابله على ذلك بعقوبةٍ شديدةٍ بقدر جرمه. فلذلك كانوا سادةً يدبّرون الممالك، وقادةً يجاهدون في سبيل الله، وأهل سياسةٍ يبالغون في إظهار الجميل ويردعون من جار أو تعدّى".

كان هذا الوضع أيام الأيوبيين، ولم يختلف عند أيام المماليك إذ أخذوا عنهم كثيراً من تقاليدهم ونظمهم ولا غرابة في ذلك فهم ساداتهم.

وكان الملك الصالح نجم الدين أيوب الملك الأيوبي السابع قد استكثر من المماليك الذين نسبوا إليه كالعادة - فهم المماليك الصالحية، وذلك خوفاً من اجتماع الملوك الأيوبيين عليه وخاصةً عمه اسماعيل، وقد أعطى هذا الملك الصالح الحرية لمماليكه هؤلاء حتى ضجّ منهم الناس فاضطر أن يبعدهم عن السكان فبنى لهم قلعةً خاصةً بجريرة الروضة عام 638، واتخذ من هذه القلعة مقراً لحكمه، وقد عرف هؤلاء المماليك بالبحرية إضافةً إلى الصالحية، والبحرية نسبةً إل جزيرة الروضة، وإن كانت هذه النسبة ليست خاصةً بهم إذ أطلقت على كثيرين غيرهم إذ جلبوا مما وراء البحار وخاصةً الصقالبة الذين جيء بهم عن طريق البحر.

توفي الملك الصالح نجم الدين أيوب وهو يقاتل الصليبيين عام 647، وكتمت زوجته شجرة الدر نبأ وفاته حتى وصل إلى مصر ابنه توران شاه الذي استدعته حيث قاد بنفسه قتال الصليبيين، على حين كانت هي تدير أمور المملكة وشؤون القتال باسم زوجها المتوفى ولا يعلم أحد خبر وفاته. ووصل الصليبيون إلى المنصورة، وجيوش المسلمين تتراجع، فجمع الأمير بيبرس البندقداري جماعة من المسلمين وقادهم وتمكن من إبادة الصليبيين الغزاة. كما قاد الأمير فارس الدين أقطاي المملوكي المماليك وهاجم الصليبيين وانتصر عليهم حتى أيقنوا بعدم إمكانية البقاء فانسحبوا إلى دمياط.

كان توران شاه قد وصل من بلاد الشام وقد الجيوش بنفسه واضطر لويس التاسع ملك فرنسا إلى طلب المهادنة والصلح بعد أن وقع أسيراً بأيدي المسلمين، وانتهت الحملة الصليبية السابعة حيث انسحب الملك لويس التاسع إلى عكا، ودفع جزيةً كبيرةً وفداءً له.

اختلف توران شاه مع المماليك فقتله الأميران فارس الدين أقطاي وبيبرس البندقداري عام 648، كما كان قد اختلف مع زوجة أبيه شجرة الدرّ التي عادت السلطة إليها بعد مقتل ابن زوجها، فعيّنت عزالدين أيبك، ثم تنازلت له بعد أن تزوجت به. وفي هذه الأثناء انسحب الفرنسيون من دمياط.

غضب الأيوبيون من سيطرة عزالدين أيبك، وسار الملك الناصر يوسف(1) صاحب حلب إلى دمشق فدخلها، وزحف نحو مصر غير أن عزالدين أيبك قد تمكن من ردّه وتحالف مع الملك لويس التاسع خوفاً من مداهمة الأيوبيين لمصر.





_______________________________________

(1) الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف الأيوبي.



أرسل هولاكو وفداً إلى عزالدين أيبك وفي الوقت نفسه أرسل إلى الملك الناصر يوسف.

عمل عزالدين أيبك الملك المعزّ على إنهاء معارضة الأيوبيين، بأن جعل أميراً أيوبياً بجانبه وقد اختار لهذه الإمرة طفلاً لا يزيد على السادسة من عمره، وهو الأشرف موسى بن يوسف بن المسعود بن الكامل، وكان جده المسعود صاحب اليمن، وهو المعروف باقسيس، أما أبوه فقد عاش في كنف الملك الصالح نجم الدين أيوب، لكن هذا الطفل لم يلبث أن توفي، غير أن هذه الطريقة لم تنطل على الأيوبيين فاستمرت المعارضة فأعلن أيبك ارتباط مصر بالخلافة العباسية وأن يحكمها نيابةً عن الخليفة العباسي المستعصم الذي بدأ يخطب له.

استمر الملك الأيوبي الناصر يوسف في معارضته لعزالدين، وعرض على ملك فرنسا لويس التاسع المقيم في عكا مساعدته مقابل تسليمه بيت المقدس غير أن الملك المعز قد هدد لويس التاسع بقتل الأسرى الصليبيين في مصر جميعهم إن اتفق مع الناصر يوسف، وفي الوقت نفسه عرض عليه التحالف معه مقابل أن يتنازل له عن نصف الفدية المقررة عليه، فرأى بعدئذٍ الملك لويس التاسع أن يقف على الحياد بين الطرفين مستفيداً من خصومتهما بعضهما لبعض أو عمل على التحريض بينهما.

زحف الملك الأيوبي الناصر يوسف على مصر، والتقى مع المماليك عند بلدة العباسة وأحرز النصر في بداية الأمر غير أنه قد هزم في الجولة الثانية إذ انضم جزء من مماليكه إلى المماليك، وفر الأيوبيون من الميدان، ورأى الملك المعز عزالدين أيبك ملاحقتهم، وعرض على ملك فرنسا الصليبي لويس التاسع دعمه مقابل تسليمه بيت المقدس إن أخذها، ورأى لويس التاسع الصليبي رجحان جانب المماليك فانضم إليهم حيث لم يرغب أن تفوته هذه الفرصة واحتل يافا بينما سار المماليك بإمرة فارس الدين أقطاي إلى غزة وكذا سار الملك الناصر يوسف نحو غزة ولكن لم تحدث لقاءات لأن الخليفة المستعصم قد أصلح بين الطرفين بحيث تكون مصر وجنوبي فلسطين بما فيها غزة وبيت المقدس للمماليك وتكون بقية بلاد الشام للأيوبيين وذلك عام 651، وبذا لم يسلّم المماليك بيت المقدس للصليبيين فلم خاب أمل الملك لويس التاسع عاد إلى فرنسا عام 652 وقد اضطر إلى ذلك إذ توفيت والدته التي كانت تحكم له فرنسا وباسمه.

قامت في هذه الأثناء حركة في الصعيد ضد المماليك وقد تزعمها شريف يُدعى حصن الدين إلا أن أيبك قد وجّه لهم قوةً بإمرة فارس الدين أقطاي فاستطاع أن يقمعها.

أصبح الأمير فارس الدين أقطاي أكبر الأمراء وأكثرهم شهرة، وينافس الملك المعز عزالدين أيبك، ويحمل عليه بعض تصرفاته في تعهده للملك الصليبي بتسليمه بيت المقدس، وتلقب فارس الدين أقطاي باسم الملك الجواد، وتزوج إحدى الأميرات الأيوبيات هي ابنة الملك المظفر تقي الدين محمود صاحب حماه، لكن الملك المعز عزالدين أيبك قد استدعى أقطاي لاستشاراته في بعض الموضوعات فسار إليه مع مجموعةٍ من مماليكه فلما وصل إلى القلعة دخلها إلا أن الباب قد أغلق دون مماليكه، وانهال عليه مماليك المعز أيبك بالضرب، وعلى رأسهم سيف الدين قطز، وقتلوه وأسرع أنصار أقطاي عندما علموا بالخبر لإنقاذه وعلى رأسهم الظاهر بيبرس البندقداري وقلاوون الإلفي ظناً منهم أنه لم يقتل بعد، ولكنهم لم يلبثوا أن أخبروا أن أمره قد انتهى، وهكذا انقسم المماليك إلى معزية وهم مماليك الملك المعز عزالدين أيبك، وصالحية أو بحرية، وهم مماليك الملك الصالح نجم الدين أيوب.

بدأ بعض أمراء المماليك البحرية يفرّون إلى ملوك بني أيوب في بلاد الشام وخاصةً إلى الملك الناصر يوسف الذي كان الخصم الأيوبي الأول لعزالدين أيبك والمتصالح معه حالياً لذا فإن الناصر يوسف قد طلب من الملك المعز أيبك أن يعطي هؤلاء المماليك جنوبي بلاد الشام فيكون قد أبعدهم خوفاً من شرّهم وفي الوقت نفسه يكون قد أرضاهم فلا تتفتت قوة المسلمين تجاه أعدائهم إلا أن هذا الطلب من الملك الناصر يوسف قد أخافه، واعتقد دعمه للمماليك البحرية، واتفاقه معهم على أمر، لذا فقد استعد وأقام بالعباسة استعداداً لأي طارئ، وبقي على حالة استعداده أو استنفاره مدة ثلاث سنوات، وعاد بعدها إلى القاهرة بعد أن تمّ حيث أرسل الخليفة العباسي المستعصم رسولاً هو نجم الدين البادراني فأصلح بينهما على أن يكون للملك المعز عزالدين أيبك مصر وساحل بلاد الشام. ولجأ المماليك البحرية بعد هذا الصلح الذي دارت بنوده بين الملك المعز عزالدين أيبك المملوكي والملك الناصر يوسف الأيوبي لجؤوا إلى الملك المغيث عمر(1) صاحب الكرك الذي كان يطمع أيضاً ببلاد مصر.

أراد الملك المعز عزالدين أيبك أن يحصر المغيث عمر فراسل صاحب الموصل بدرالدين لؤلؤ وخطب ابنته فوقعت الغيرة في نفس شجرة الدر زوجة أيبك وعملت على التخلص من زوجها فراسلت الملك الأيوبي الناصر يوسف تحرّضه على غزو مصر وتتعهد له بدعمه للتخلص من أيبك ولكن لمتجدعنده ذلك الحماس، فعملت مع المماليك واستطاعت قتله عام 655هـ.

اختلف المماليك بعضها مع بعض فالصالحية منهم تناصر شجرة الدر، والمعزية تعارضها، وأصبح الأمير علم الدين سنجر الحلبي مقدم المماليك الصالحية غير أن المماليك المعزية قد قبضوا عليه وسجنوه وتغلبوا على الأمر وبدأت المماليك الصالحية تفرّ إلى ملوك الأيوبيين في بلاد الشام وخاصة إلى المغيث عمر صاحب الكرك وتحرّضه على أخذ مصر، وقد حاول مرتين 655 و 656 غير أنه فشل في كلتا المحاولتين بجهود سيف الدين قطز. أما المماليك المعزية فقد قدموا عليهم نورالدين علي بن عزالدين أيبك الذي غدا سلطاناً لمصر، أما الذي يقوم بالنيابة عنه فهو الأمير سيف الدين قطز، ولكن لم يلبث قطز أن عزل نورالدين علي وتسلم السلطنة بنفسه بحجة أن الأول كان ضعيفاً

(1) المغيث عمر : ابن الملك العادل محمد ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل سيف الدين محمد ابن نجم الدين أيوب.

وظروف البلاد تقتضي رجلاً قوياً، فالأيوبيون لا يزالون يطمعون في مصر والخطر الخارجي على ديار الإسلام يتمثّل في عدوين شرسين هما التتار والصليبيون.

استولى التتار بقيادة هولاكو على بغداد عام 656 وخاف الملك الناصر يوسف فراسل هولاكو يجامله، ويطلب منه الدعم لأخذ مصر غير أنه لم يحدث بين الطرفين ما يدعو إلى التفاهم. وزحف التتار إلى بلاد الشام ووجد الناصر يوسف نفسه ضعيفاً أمام جحافل التتار فاتصل بالمماليك وطلب منهم المساعدة.

استولى التتار على حلب في صفر عام 658، ثم استولوا على ميافارقين بإمرة يشموط بن هولاكو بعد أن دافع عنها أهلها دفاعاً مستميتاً لم يعرفه المغول من قبل، واستشهد صاحبها الملك الأيوبي الكامل محمد(1)، وخضع الملك الأشرف موسى(2) صاحب تل باشر فأعطاه هولاكو إمارة حمص مكافأةً له، وكان الملك الناصر يوسف قد انتزعها منه منذ عام 646، وزحف هولاكو نحو دمشق ففرّ منها الناصر يوسف واتجه إلى غزة فاستقبله سيف الدين قطز ومن معه، وبدأ قطز يتقرّب من جيش الناصر يوسف ويضم أمرؤه إليه، حتى لم يبقى مع الناصر يوسف إلا قليل فذهب بهم إلى جنوب الأردن حيث استقر قرب الجفر ليعيش منزوياً بمن معه منعزلاً عن الأحداث التي تدور في بلاده، وعلم هولاكو بهذا فأرسل مجموعة من الجند إلى الجفر وأحضرت الناصر يوسف، فاستقبله هولاكو استقبالاً كريماً ورأى فيه ضالته، ومنّاه بالتربع على عرش دولةٍ أيوبية تشمل مصر والشام تحت حمى التتار، وقدّمه على الأشرف موسى إذ وجد في الأول خيراً له لما عنده من إمكانات وطاقات.

حاصر هولاكو دمشق في ربيع الأول عام 658 وشدّد الحصار حتى استسلمت في ربيع الثاني أما القلعة فقد صمدت حتى 21 جمادى الآخرة من العام نفسه غير أنها سلمت من التهديم لالتماس أعيانها لديه، واتجه هولاكو نحو انطاكية بعدها.

وصل إلى هولاكو نبأ وفاة أخيه مانغو خان التتار الأعظم، لذا فقد ترك بلاد الشام بعد أن ولّى عليها مكانه القائد كتبغانوين، واتجه إلى قره قورم حاضرة التتار لحضور اجتماع رؤساء التتار لانتخاب الخان الأعظم لهم، وهو يطمع أن يحصل على هذا المنصب لما قدم من خدمات لهم بمد نفوذهم إلى العراق والشام، فلما وصل إلى تبريز بلغه خبر انتهاء الاجتماع وإتمام عملية الانتخاب، واختيار أخيه قوبلاي خاناً أعظم للتتار، فسكت احتراماً لأخيه.

أما المماليك البحرية الذين فرّوا إلى بلاد الشام خوفاً من المماليك المعزية وأميرهم سيف الدين

(1) الكامل محمد : ابن الملك المظفر غازي بن الملك العادل سيف الدين محمد ابن نجم الدين أيوب.

(2) الأشرف موسى : ابن المنصور ابن الملك المجاهد أسدالدين شيركوه ابن ناصر الدين محمد بن أسدالدين شيركوه بن شادي، ولم يكن ليسيطر إلا على تل باشر قرب الرها.

قطز، واتجهوا إلى الملوك الأيوبيين وخاصةً إلى الناصر يوسف والمغيث عمر فقد رجع بعضهم إلى مصر خوفاً من المغول، وترك بعضهم الآخر الناصر يوسف الذي تفاهم مع التتار على كرهٍ منه، أو اعتزل بعد فراره من التتار وانضمام جيشه في غزة إلى سيف الدين قطز هؤلاء قد ساروا إلى المغيث عمر صاحب الكرك ومنهم الظاهر بيبرس البندقداري، وبدؤوا يُغيرون على أملاك الناصر يوسف الجديدة، وهذا ما جعل الناصر يوسف يسير بجيش إلى الكرك ويحاصرها ووجد المماليك أنفسهم في وضع خطير وخاصةً الذين كانوا بجانب الناصر يوسف وفرّوا من عنده مغاضبين لموقفه حتى ليقال إن الظاهر بيبرس كان قد عرض على الناصر يوسف إعطاءه أربعة آلاف مقاتل للوقوف في وجه التتار عندما أرادوا عبور نهر الفرات لمنعهم من ذلك لكن الناصر يوسف لم يستجب لهذا الطلب، في هذا الوقت عفا قطز عن المماليك البحرية فبدؤوا يتجهون نحوه من بلاد سلاجقة الروم، ومن الكرك، ومن دمشق وغدا المماليك مرة أخرى مجموعة واحدة، واستقبل قطز هؤلاء استقبالاً لائقاً وخاصةً بيبرس إذ أنزله بدار الوزارة وذلك عام 658.

بعد أن سقطت دمشق بيد التتار أرسل هولاكو وفداً إلى الأمير سيف الدين قطز يحمل رسالةً كلها تهديد ووعيد، فعقد قطز اجتماعاً ضمّ أمراء المماليك فكان الرأي العزم على الحرب، فقبض قطز على رجال وفد هولاكو وأعدمهم، وعرض أجسادهم للناس، وأخذ قطز يحشد الحشود، ويفرض الضرائب فوجد معارضةً من العلماء على هذه الضرائب وعلى رأسهم العز بن عبد السلام الذي أعلن أن على الأمير إذا أراد فرض الضرائب أن يأخذ قبل ذلك الحلي التي في بيته وبيت أمثاله من الأمراء وأن يضربها نقوداً فإن لم تف بالحاجة يفرض بعضها الضرائب فامتثل قطز بذلك وفعل ما وجّه إليه.

وتمّ الاستعداد، وأرسل قطز حملةً استطلاعيةً بإمرة الظاهر بيبرس البندقداري إلى جهات غزة فانتصر على حملة تتارية متقدمة، وبقي يناور التتار كي لا يعلموا بتحرك الجيش الرئيسي الذي يقوده سيف الدين قطز.

سار سيف الدين قطز بجيشه مع الساحل الشامي باتجاه عكا، وهدد الصليبيين إن بدرت منهم أية بادرة شرّ، وطلب منهم أن يكونوا على الحياد إن لم ينصروا المسلمين، ولم يكن وضعهم يومئذٍ بالذي يساعدهم على التحرك سواء أكان بجانب المسلمين أم بجانب التتار. ووافى الأمير سيف الدين قطز قائده الظاهر بيبرس عند عين جالوت، وتدفق التتار إلى ذلك الميدان، واحتدمت المعركة وهجمت ميمنة التتار على ميسرة المسلمين، فتقدم أمير الجيش الإسلامي سيف قطز والقى بخوذته على الأرض أمام الأمراء وصاح بأعلى صوته "وإسلاماه" واندفع نحو التتار يقاتل والتف حوله جنود المسلمين، انقضوا على التتار فأفنوهم، وقُتل قائد التتار كبتغا في ميدان المعركة وأُسر ابنه.

ووصلت أخبار معركة عين جالوت إلى دمشق فابتهج المسلمون وانطلقوا يهاجمون التتار ويعملون بهم ذبحاً، وشملت هذه المذبحة النصارى أيضاً الذين وقفوا فجانب التتار وأعانوهم على المسلمين، واستأسدوا على المسلمين أثناء حكم التتار، ولم يستتب الأمن بدمشق إلا بدخول قطز إليها في 27 رمضان عام 658 أي بعد استسلام قلعتها بثلاثة أشهر وستة أيام وهذه المدة لتي حكم التتار فيها دمشق. وبدأ التتار يفرون من بلاد الشام خوفاً من انتقام المسلمين منهم، وتمكن قطز من فتح بلاد الشام بعدة أسابيع، وأعاد بعض الملوك الأيوبيين إلى ممالكهم بعد أن أخذ المواثيق والعهود عليهم بالولاء ودفع الإتاوات السنوية للسلطان في مصر، وكذلك أقطع أمراء المماليك إقطاعاتٍ واسعةً إذ أعطى علم الدين سنجر الحلبي نيابة يحكمها باسمه، ومنح حلب إلى الملك السعيد علاء الدين بن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وكان الظاهر بيبرس يرغب بها، وقد طلبها من قطز لملاحقة التتار فلم يقبل منه فأصبح بنفسه شيء عليه.

عاد المماليك إلى مصر، وقتل الظاهر بيبرس أميره سيف الدين قطز وربما كان للخلاف السابق بين المماليك البحرية الذين منهم بيبرس والمماليك المعزية الذين منهم قطز، وقد اضطر المماليك البحرية للعودة إلى مصر بعد أن فرّوا منها عندما لم يجدوا لهم مقاماً في الشام لهجوم التتار فكان لابدّ من الاتفاق لحماية ديار الإسلام، فلما أصبحت ديار الإسلام في أمان من هجوم التتار عاد الخلاف وظهر من جديد، وقتل قائد جناح المماليك البحرية أمير المماليك المعزية، وربما كان سبب هذا القتل ما بقي في نفس بيبرس من قطز عندما رفض إعطاءه ولاية حلب، وهو يريد أن يتابع التتار ويستعيد للمسلمين أرضهم، وعلى كل فقد قتل الأمير سيف الدين قطز، واتفق أمراء المماليك على تعيين الظاهر بيبرس سلطاناً على مصر.

إن انتصار المماليك في عين جالوت قد جعل دعايةً واسعةً لهم وخاصةً أن الناس كانوا لا يتصورّون هزيمةً كهذه الهزيمة تلحق بالتتار بسبب الرعب الذي أصابهم والهلع الذي ملأ قلوبهم.

إن الهجوم الصليبي الشرس من الغرب على ديار الإسلام والغزو التتاري الوحشي من الشرق ودعم النصارى الذين عاشوا في كنف المسلمين منذ فجر الإسلام إلى كلا العدوين الصليبي والتتاري والحقد الواضح الذي بدا منهم كل هذا جعل المسلمين يعودون قليلاً إلى دينهم، كما كانت دعوة حكامهم بالدرجة الأولى إلى وحدة صفوف المسلمين للوقوف في وجه الأعداء وخاصةً أولئك التي تعرّضت بلادهم للتخريب الصليبي أو للتدمير التتاري، لذلك اعترف المماليك بسلطة الخلافة العباسية عليهم، والخلافة هي محطّ أنظار المسلمين في كل مكان، ويمكن أن يلتفّ حولها المسلمون، وتتوحد كلمتهم بها، ولا يوجد في ديار المسلمين سوى خليفةٍ واحدٍ لذا فهو الذي يمكن أن يحمل راية الجهاد ويقاتل المسلمون جميعاً تحت هذه الراية. وهذا الاعتراف بالخلافة العباسية قد أكسبهم الصفة الشرعية التي اعترف العباسيون بحكمهم، وفي الوقت نفسه فقد أكسبهم القوة، وعندما سقطت بغداد بيد التتار عام 656 قام المماليك يحملون عبء الجهاد، وقد وفقوا في ذلك فأنزلوا بالتتار هزيمة عين جالوت عام 658.

كان الملك المظفر سيف الدين قطز قد استناب على دمشق الأمير علم الدين سنجر الحلبي فلما قتل قُطز نادى سنجر بنفسه سلطاناً، وتلقّب بالملك المجاهد، وأخذ شعار السلطنة بعد مقتل قطز بشهر واحد، وطلب من الملك الأشرف موسى الأيوبي، والملك المنصور صاحب حماه الأيوبي أيضاً، والأمير حسام الدين لاجين العزيزي صاحب حلب مساعدته فلم يوافقوه، وسيّر الظاهربيبرس حملةً إلى دمشق حملت سنجر إلى القاهرة مقيداً بالأغلال ولم يمض على سلطنته المحلية أكثر من شهر.

وقام رجل شيعي بالقاهرة يدعى الكوراني يدعو لنفسه ويرغب في عودة النفوذ العبيدي مرةً أخرى أو الشيعة كما يسميها واستطاع الظاهر بيبرس القضاء عليها بسرعة.

ومع استقرار الوضع للظاهر بيبرس وقفت دولة المماليك على أقدامها، كما أن الخلافة قد عادت من جديد.

ولما كان المماليك هم السلاطين، وهم ولاة الأمور إذ لهم الدور الأول في تسيير شؤون الدولة سواء أكان في الداخل أم في الخارج لذا كان لا بد من بحث أمور هؤلاء السلاطين على نطاق أوسع من بحث الخلفاء، فالسلاطين هم الذين نسب إليهم العهد، ولم ينسب إلى العباسيين، وهم الخلفاء أو أمراء المؤمنين بالنسبة إلى المسلمين في جهات الأرض.

ففي مرحلة قيام دولة المماليك تولّى أمر مصر أربعة من السلاطين هم :

1- شجرة الدر 648 80 يوماً

2- المعز عزالدين أيبك 648 - 655

3- نورالدين علي 655 - 657

4- سيف الدين قطز 657 - 658

وبعد أن تولى السلطنة الظاهر بيبرس السلطنة بمدة أصبحت الخلافة أو حملة الدولة اسم الخلافة من جديد، واتجهت إليها أنظار المسلمين أكثر من السابق.

وتولى أمر المماليك نوعان من السلاطين يعودون في أصولهم إلى جهتين وهما :

1- المماليك البحرية 648 - 792

2- المماليك الجراكسة أوالبرجية 792 -
عصر الممَاليك البحرية

648 - 792



1- شجرة الدر : 80 يوماً 648-648

2- عزالدين أيبك : 7 سنوات 648-655 قتل

3- نورالدين علي : 2 سنة 655-657 ابن أيبك خلع

4- سيف الدين قطز : 1 سنة 657-658 قتل

5- الظاهر بيبرس : 18 سنة 658-676 توفي

6- السعيد بركة : 2 سنة 676-678 ابن بيبروس خلع

7- العادل بدرالدين : أقل من سنة 678-678 ابن بيبرس خلع

8- المنصور قلاوون : 11 سنة 678-689 توفي

9- الأشرف خليل : 4 سنوات 689-693 ابن قلاوون قتل

10- الناصر محمد : 1 سنة 693-694 ابن قلاوون خلع

11- العادل كتبغا : 2 سنة 694-696

12- المنصور لاجين : 2 سنة 696-698 قتل

أعيد 13- الناصر محمد : 10 سنوات 698-708 ابن قلاوون اعتزل

14- المظفر بيبرس ابي شنكير : 1 سنة 708-709 قتل

عاد 15- الناصر محمد : 32 سنة 709-741 ابن قلاوون توفي

16- المنصور أبو بكر : أقل من سنة 741-742 ابن الناصرمحمد خلع

17- الأشرف كجك : أقل من سنة 742-742 ابن الناصرمحمد خلع

18- الناصر أحمد : أقل من سنة 742-743 ابن الناصرمحمد خلع

19- الصالح اسماعيل : ثلاث سنوات 743-746 ابن الناصرمحمد توفى

20- الكامل شعبان : أقل من سنة 746-747 ابن الناصرمحمد قتل

21- المظفر أمير حاج : أقل من سنة 747-748 ابن الناصرمحمد قتل

22- الناصر حسن : 4 سنوات 748-752 ابن الناصرمحمد خلع

23- الصالح صالح : 3 سنوات 752-755 ابن الناصرمحمد خلع

أعيد 24- الناصر حسن : 7 سنوات 755-762 ابن الناصرمحمد قتل

25- المنصور محمد : 2 سنة 762-764 ابن المظفر أمير حاج خلع

26- الأشرف شعبان : 14 سنة 764-778 ابن حسين قتل

27- المنصور علي : 5 سنوات 778-783 ابن الأشرف شعبان توفى

28- الصالح حاجي : 1 سنة 783-784 ابن الأشرف شعبان خلع

برقوق

29- الصالح حاجي : أقل من سنة 791-792 ابن الأشرف شعبان خلع



وهم مماليك السلطان الصالح نجم الدين أيوب الذين كثر عددهم، وزادت تعدياتهم فضجّ منهم السكان فبنى لهم قلعة في جزيرة الروضة عام 638 فعرفوا بالمماليك البحرية، وإن كان هذا الاسم ليس خاصاً بهم إذ كثيراً ما أطلق على غيرهم بسبب حملهم عن طريق البحر، وإن لحق بهم هذا الاسم فيما بعد وأصبح دلالةً عليهم، كما عرفوا أيضاً باسم الصالحيين نسبة إلى لقب سيدهم الصالح نجم الدين أيوب، وأقل من هذا الاسم وذاك أطلق عليهم النجميين لاسم اليد نفسه.

حكم هؤلاء المماليك البحرية مصر مدة أربع وأربعين ومائة سنة 648-792، وقد تمثّل هذا الحكم في أسرتين فقط، وهما أسرة الظاهر بيبرس البندقداري، وقد دام حكمها مدة عشرين سنة (658-678) وقد حكم هو وولداه، ودام حكمه ثماني عشرة سنة، وحكم ابنه الأول السعيد بركة ما يقرب من سنتين، ثم خلع، وحكم ابنه الثاني العادل بدرالدين سلامش عدة أشهر وخلع بعدها. وكان الظاهر بيبرس قد حرص على بقاء أسرته في الحكم من بعده، وهيأ الأسباب لذلك، وكان خوفه من المماليك أنفسهم، وقد برز منهم يومذاك المنصور قلاوون لذا فقد سعى إلى ضمان قلاوون بل فكر بأن يجعله يقف بجانب أولاده من بعده، وزوّج ابنه وخليفته السعيد بركة من ابنة قلاوون غازية، وظنّ بأن هذه المصاهرة سيقف قلاوون بجانب ابنه السعيد بركة، عندما حاصر المماليك السعيد بركة اتصل بالمنصور قلاوون وطلب دعمه فنصحه بالتنازل عن السلطنة، وقد فعل ذلك، ووافق قلاوون على استلام العادل بدر الدين سلامش أخي السعيد بركة وابن الظاهر بيبرس السلطنة وذلك لأنه صغير ويمكن ان يتصرف بالأمر، ولم تمض عدة أشهر، حتى دعا المنصور قلاوون أمراء المماليك وبسط لهم الوضع القائم، وأن الأمر يتطلب رجلاً حكيماً يدبر شؤون الدولة، وأن الصغير يعيق الأمر ولا يصلح للأمر فانفق الجميع على خلع العادل بدر الدين سلامش وسلطنة المنصور قلاوون.

أما الأسرة الثانية فهي أسرة المنصور قلاوون نفسه، وقد استمر أمرها أربع عشرة ومائة سنة (678-792) وحكم هو وأولاده وأحفاده، لم يتخللها سوى خمس سنوات خرج أمر مصر من أيديهم، إذ تسلم العادل كتبغا والمنصور لاجين والمظفر بيبرس الجاشنكير وقد قتل ثلاثتهم، حكم الأوليان منهم مدة أربع سنوات 694-698، وحكم الثالث ما يقرب من سنة (708-709).

أما أفراد الأسرة فقد حكم المنصور محمد أبو ناصر قلاوون احدى عشرة سنة توفي بعدها (678-689)، ورجع الحكم بعده ضعيفاً إذ حكم ابنه الأشرف صلاح الدين خليل مدة أربع سنوات (689-693) وقتل بعدها، وجيء بأخيه الناصر محمد، ولم يطل عهده بأكثر من سنة حتى خلع، وتسلطن العادل كتبغا مدة سنتين ثم علا السلطة المنصور لاجين عندما كان العادل في زيارة لدمشق لكن المنصور لاجين لم يلبث أن قتل، وأعيد إلى السلطنة الناصر محمد ابن قلاوون، وبقي عشر سنوات 689-708 غير أنه اعتزل، فتسلم السلطة المظفر بيبرس الجاشنكير، وشعر الناصر محمد بن قلاوون أنه هضم حقه فاستعاد السلطنة بالاتفاق مع بعض الأمراء، واستمر أمره حتى توفي وقد أحبه الناس، لذا فقد حكم أبناؤه من بعده رغم ضعفهم وصغر سنهم، إذ تلسم السلطنة ثمانية من أبنائه.

كان الأول منهم المنصور سيف الدين أبو بكر وخلع قبل مرور عام على حكمه.

وكان أمر الثاني الأشرف علاء الدين كجك كالأول لم يصل عهده إلى العام.

ويشبههما الثالث الناصر أحمد.

أما الرابع فهو الصالح اسماعيل وقد حكم ثلاث سنوات (743-746) ومات بعدها.

وجاء الخامس الكامل شعبان وقتل قبل أقل من عام.

وكذا السادس المظفر أمير حاج كان مصيره القتل ولم يصل أمره إلى العام.

وحكم السابع الناصر حسن أربعة أعوام (748-752) وخلع بعدها.

وخلع الثامن الصالح صالح بعد ثلاث سنوات من حكمه (752-755).

وأعيد الناصر حسن فاستمر سبع سنوات (755-762) وقتل بعدها.

وتولّى الأمر بعدئذ المنصور محمد بن السلطان المظفر أمير حاج وخلع بعد عامين من حكمه 762-764.

وجاء بعده ابن عمه الأشرف شعبان فحكم أربع عشر عاماً 764-778 وقتل بعدها.

وخلفه ابنه المنصور علي لمدة خمس سنوات توفي بعدها 778-783، وخلفه أخوه الصالح حاجي.

فلم يمض عليه سوى سنة حتى خلع وتسلطن الأمير برقوق من المماليك الجراكسة.

غير أنه أعيد الصالح حاجي بعد سبع سنوات (784-791) وحكم مدة سنة واحدة (791-792).

ثم أخرج السلطان برقوق من سجنه وأعيد إلى سلطانه، وانتهى أمر المماليك البحرية بشكل دائم وجاء عهد المماليك الجراكسة أو البرجية.

ونلاحظ أن أسرة المنصور قلاوون قد حكم منها خمسة عشر سلطاناً توفي منهم أربعة وفاة طبيعية أو تركوا الحكم نتيجة الوفاة الطبيعية بينما خلع سبعة منهم خلعاً، وقتل خمسة منهم، وأن بعضهم وهو الناصر محمد قد خلع مرة واعتزل مرة وعاد حتى توفي، وأن الناصر حسن قد خلع وأعيد ثم قتل...

yacine414
2011-03-18, 15:30
خلفاء بني العباس في القاهرة



المستنصر بالله

أحمد بن محمد الظاهر

(659 - 660 هـ)



هو أحمد أبو القاسم ابن الخليفة العباسي الظاهر (622-623)، أخو الخليفة العباسي المستنصر (623-640)، عمّ الخليفة المستعصم (640-656)، كان داخل السجن عندما اقتحم التتار بغداد، فلما فتح السجّانون أبواب السجون أطلق أحمد أبو القاسم فهرب وتمكن من الخروج من بغداد فاتجه إلى عرب العراق فبقي مدةً عندهم، فلما انتصر المماليك في عين جالوت على التتار، ثم طردوهم من الشام، توجه أحمد أبو القاسم إلى القاهرة، وكان الأمر فيها للسلطان بيبرس فوصل إليها في أوائل رجب من عام 659، فأثبت نسبه فبايعه بالخلافة السلطان بيبرس، ثم قاضي القضاة تاج الدين، ثم الشيخ عز الدين بن عبد السلام وذلك في شهر رجب من العام نفسه، وخطب له، ونقش اسمه على السكة، ولُقّب بالمستنصر على لقب أخيه، وخطب بالناس يوم الجمعة، ودعا للسلطان بيبرس، ثم صلى بالمسلمين.

قرر الخليفة المستنصر التوجه إلى العراق لقتال التتار فخرج، وخرج معه السلطان بيبرس يشيعه حتى دمشق، فجهّزه بجيش، وانضم إليه الملوك في الشام، وصاحب سنجار، والخليفة الحاكم بأمر الله الذي بويع في حلب الذي تنازل له بسبب أنه أكبر منه سناً، ولصلته بأواخر خلفاء بني العباس في بغداد، وسار معه تحت لوائه، واستطاع الخليفة المستنصر أن يدخل مدينة الحديثة على نهر الفرات، وسار بعدها إلى هيت فدخلها أيضاً، فالتقى بعدها بجيشٍ من التتار، وحدثت معركة بين الطرفين، قتل فيها الخليفة المستنصر، ونجا منها الخليفة الحاكم بأمر الله مع عدد قليل من أنصاره، وذلك في الثالث من محرم عام 660.

وبذا كانت خلافة المستنصر دون ستة أشهر بعشرة أيام

yacine414
2011-03-18, 15:34
الحاكم بأمر الله

أحمد بن الحسن

(661 - 701 هـ)



هو الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بن أبي علي الحسن بن أبي بكر بن الحسن بن علي الضبي ابن الخليفة المسترشد بالله ابن الخليفة المستظهر بالله. كان قد اختفى عندما سقطت بغداد بيد التتار فلما خفّ الطلب وانخفضت موجة التدمير التتاري هرب مع جماعة من أنصاره، وسار إلى عرب بني خفاجة فأقام عندهم مدةً، ثم سار إلى دمشق وأقام عند عيسى بن مهنا زمناً فطلبه الملك الناصر صاحب دمشق غير أن هجوم التتار قد كف عنه الطلب فلما جاء الملك المظفر إلى دمشق أرسل في طلبه الأمير قلج البغدادي فالتقى به وبايعه بالخلافة، ودعاه الظاهر بيبرس للسير إلى القاهرة وقد همّ بذلك غير أن أحمد أبا القاسم ابن الخليفة قد سبقه مما اضطره أن يعدل الرأي في السير إلى القاهرة وأن يتوجه إلى حلب حيث بويع هناك بالخلافة، وقد جهّزه صاحب حلب، وأرسل معه فرقة لقتال التتار وانقاذ بغداد منهم، وتلقّب بالحاكم بأمر الله وسار إلى عانة والحديثة والتقى بالخليفة المنتصر الذي بويع في القاهرة ، وتنازل له لأنه أصغر منه سناً، وقاتل تحت رايته والتقيا مع التتار في معركةٍ قتل فيها الخليفة المستنصر أحمد أبو القاسم، ونجا أحمد أبو العباس هذا مع عددٍ قليلٍ فاتجه إلى الرحبة، ومنها إلى عيسى بن مهنا فراسل الظاهر بيبرس فيه فطلبه فسار إلى القاهرة، ومعه ولده، ومجموعة من أتباعه، فأكرمه الظاهر بيبرس، وأنزله بالبرج الكبير بالقلعة وخطب بمسجدها عدة مرات. وبعد أن أثبت نسبه بايعه السلطان وقاضي القضاة والعلماء وبقية الناس، وذلك في مطلع عام واحد وستين وستمائة (الثامن من محرم)، فبقي المسلمون سنةً بلا خلافة من عام (660 - 661)، كما مرت عليهم مدة ثلاث سنوات بلا خلافة (656 - 659) أي منذ سقوط بغداد بيد التتار إلى قيام خلافة المستنصر بن الظاهر بالقاهرة.

بقي اللقب الذي اختاره الخليفة لنفسه وهو "المتوكل على الله" كما هو لم يغيره، واستبقى الملك الظاهر بيبرس الخليفة في القاهرة، ولم يعد يفكر بإرساله إلى بغداد لقتال التتار واسترجاع بغداد كحاضرة للعباسيين، وإنما أراد تقوية مركز الخلافة بالقاهرة بوجود الخليفة فيها، وليس هو إلا رمز تقوى به السلطة، ويدعمه السلطان، ويقوى به أهل السنة أيضاً، وتعود إلى المسلمين خلافتهم ويقوى سلطانهم بالتفافهم حول الخليفة الذي هو رمز السلطة الإسلامية، وتكتسب الدولة المملوكية الصفة الشرعية، ويعظم نفوذها، وتزاد أهميتها لدى الدول الإسلامية الأخرى، وبالفعل فقد أصبح المماليك محط أنظار المسلمين وأقوى دولة لهم في تلك الحقبة من التاريخ.

وإلى جانب الخلافة العباسية في القاهرة أعلنت الدولة الحفصية في تونس وتنتسب هذه الدولة إلى أبي حفص يحيى بن عمر الهنتاني شيخ قبيلة هنتانة أحد بطون مصمودة التي قامت دولة الموحدين على جهودها، وكان أبو حفص أحد دعاة المهدي بن تومرت، وقد عين والياً على تونس، وخلفه في الولاية ابنه عبد الواحد عام 602 الذي تزوج أخت الأمير الموحدي المنصور، وقام من بعده ابنه أبو زكريا، فلما هزم الموحدون أمام نصارى الأندلس في معركة العقاب عام 609، وضعف نفوذهم في المغرب والأندلس أعلن أبو زكريا بن عبد الواحد الحفصي استقلاله بتونس عام 626، وخلفه ابنه أبو عبدالله عام 647 فأعلن نفسه خليفةً للمسلمين عندما سقطت بغداد بيد التتار عام 656، وبايعه على ذلك شريف مكة ادريس، وتلقّب الخليفة الحفصي باللقب نفسه الذي تلقّب به الخليفة العباسي بالقاهرة.

إن مركز الخليفة بالقاهرة قد قوّى دولة المماليك، أو أن الملك الظاهر بيبرس قد دعّم دولته بشكلٍ قويٍ ورسّخ أركانها، وفي عام 667 حج الظاهر بيبرس وأزال أنصار الحفصيين في مكة، وبسط نفوذه في الحجاز، وتقرّب من العلماء، وبنى المدارس والمكتبات وتزعم العالم الإسلامي.

وإذا كان صاحب حمص الملك الأشرف موسى الأيوبي وصاحب حماه الملك المنصور الأيوبي قد أعلنا ولاءهما للظاهر بيبرس إلا أن المغيث عمر بن الملك العادل بن الملك الكامل صاحب الكرك كان يرى نفسه أحق بالسلطنة وبحكم مصر من المماليك، وبقي يعمل لذلك، واستطاع بيبرس دعوته إلى معسكره في بيسان فاستجاب له وسار إليه فقبض عليه، ودخل الكرك وعيّن عليها والياً من قبله عام 661، وبذا صفا له الوضع في بلاد الشام.

وإذا كان الصليبيون قد خفّ أثرهم، ولم يعد بإمكانهم إرسال حملات جديدة إلى ديار المسلمين لأنهم يئسوا من إحراز النصر، وانقطع أملهم في تحقيق أي هدف لهم بعد أن وجدوا كلمة المسلمين تميل إلى الوحدة، ولم يكن لدعم النصارى في المشرق والذين يعيشون في كنف المسلمين منذ مدة ليست قصيرة كبير فائدة، غير أن الظاهر بيبرس كان يخافهم لوجودهم في بلاد المسلمين، ولم يأمن مكرهم في أي وقتٍ من الأوقات، كما لم يأمن مكر التتار الذين خفّت هجمتهم الشرسة عما كانت عليه أيام جنكيزخان وهولاكو غير أن شرّهم لا يزال قريباً، ومتوقعاً في كل وقت لذا فقد عمل السلطان الظاهر بيبرس مع الجهات الثانية وإن كانت ذات ضررٍ لكنه أقل من شرّ التتار والصليبيين، لقد تحالف مع امبراطور الدولة البيزنطية ميخائيل الثامن باليولوج وأرسل له وفداً وهدايا وذلك عام 660، كما حالف امبراطور الدولة الرومانية الغريبة، وملك صقلية ونابولي منفرد بن فريدريك الثاني، وهو هنشتافن، وأرسل له وفداً برئاسة جمال الدين بن واصل، وكانت لا تزال في صقلية آنذاك بعض المدن الإسلامية، ويبدو من هذه التحالفات أن القصد منها عدم دعم الصليبيين وعدم العمل لإرسال حملاتٍ صليبيةٍ جديدةٍ.

كما تحالف السلطان الظاهر بيبرس مع بركة خان أمير التتار في شمال بلاد القفجاق والسهولة الشمالية وهو أول التتار الذين أسلموا من القبيلة الذهبية(1)، وكانت حاضرتها مدينة سراي(2) على نهر الفولغا مكان ستالينغراد اليوم، وتزوج الظاهر بيبرس ابنه بركة خان، وشجّعه للعمل ضد ابن عمه هولاكو، وكانت خصومات بينهما، ويبدو أن القصد من هذا التحالف إنما هو ضد هولاكو.

وتوفي الخليفة الحاكم بأمر الله في مطلع جمادى الآخرة عام 701 وبويع من يعده لابنه سليمان أبي الربيع، ولُقّب بالمستكفي بالله. وكانت مدة خلافة المتوكل على الله أربعين سنة.

___________________

(1) أسسها أباتو بن جوجي بن جنكيزخان، وتسلّم أمرها بركة خان 654 - 665.

(2) سراي : تقع شرق ستالينغراد على الضفة اليسرى لنهر الغولفا
المستكفي بالله

سليمان بن أحمد الحاكم بأمر الله

(701 - 736 هـ)



هو أبو الربيع سليمان بن أحمد الحاكم بأمر الله، ولد في الخامس عشر من شهر المحرم عام أربعة وثمانين وستمائة، وبويع بالخلافة بعهد من أبيه في الثامن عشر من جمادى الأولى من عام واحد وسبعمائة، في اليوم الثاني من وفاة أبيه.

وفي عهده فتحت جزيرة أرواد على ساحل بلاد الشام مقابل مدينة انطرطوس (طرطوس اليوم)، وأنقذت من أيدي الصليبيين، وهي آخر مواقعهم في بلاد الشام.

وجاءت الأخبار في شهر رجب بعزم التتار على دخول بلاد الشام، فاستعد السلطان الناصر محمد بن قلاوون للخروج من مصر والتوجّه إلى الشام لحرب التتار، وفي النصف الثاني من شهر شعبان من العام نفسه (702) بدأت الأمراء تصل من مصر، وبدأت أفواج التتار تتدفق نحو بلاد الشام، وفر الجيش من حلب ومن حماه نحو دمشق، ووصل التتار إلى حمص وبعلبك، والتقى شيخ الإسلام ابن تيمية مع جند حماه الفارين في القطيفة.

وخرجت العساكر الشامية من دمشق في 24 شعبان، وعسكرت بناحية الكسوة، وذلك ليجنبوا مدينة دمشق الخراب والاعتداء على الأطفال والعجزة من الرجال وسبي النساء، ولأن المرج كان كثير المياه يومذاك لا يصلح للقتال. وجاءت الجيوش من مصر والتقت مع أهل الشام بناحية الكسوة، وعلى رأس هذه الجيوش الخليفة المستكفي والسلطان الناصر محمد بن قلاوون، وفي يوم السبت الثاني من شهر رمضان التقت هذه الجيوش مجتمعة في مرج الصُّفُّر، وطُلب من أهل دمشق حماية الأسوار وحفظ الأمن، والتشبُّث بالقلعة.

أما التتار فقد وصلوا إلى قارة ومنها انتقلوا إلى القطيفة، وعندما اقتربوا من دمشق تركوها من يمينهم وتحركوا نحو الكسوة حيث الجيش المملوكي بانتظارهم، ولم يتعرضوا للمدينة أبداً وإنما رغبوا في قتال الجند فقد رأوا أنهم إن أحرزوا النصر فإن المدينة في قبضتهم ويفعلون بها وبأهلها ما يشاءون، وإن هزموا فلا حاجة لهم بالمدينة وليس من الضرورة ترك جنودهم يمرحون في المدينة ويفقدون عزيمة القتال، وربما إذا اتجهوا إلى دمشق تبعهم الجند الذين هم في مرج الصفر وجعلوهم بين نارين نار أهل البلد من الداخل ونار الجند من الخلف.

واحتدمت المعركة بعد ظهر السبت وثبت الخليفة كما ثبت السلطان، وانتهت بهزيمة التتار الذين فروا إلى أعالي التلال، ثم فروا، ورجع الناس من القتال إلى دمشق يوم الاثنين في الرابع من شهر رمضان، وفي اليوم الثاني (الثلاثاء) دخل السلطان دمشق، وعرفت تلك المعركة باسم معركة "شقحب" حيث دار القتال، وهي في الطرف الشمالي من مرج الصُّفَّر، ولا يزال الاسم معروفاً إلى الآن، وتقوم مزرعة اليوم هناك تحمل هذا الاسم.

وسارت حملة إلى بلاد النوبة عام 704، وانتصرت على النوبيين الذين نقضوا العهد مع المسلمين، وبدؤوا في اعتداءاتهم، وكرروا ما قاموا به عام 670 عندما أغار الملك داود ملك النوبة على أسوان، وهذا ما أجبر المسلمين إلى حربهم واحتلال جزءٍ من أرضهم أيام الظاهر بيبرس عام (674)، وعُقدت معاهدة جديدة بين الطرفين.

وفي عام 708 خرج السلطان الناصر محمد بن قلاوون قاصداً الحج فمرّ على الكرك، ونصب له جسر على وادٍ فانكسر به، ولكنه نجا، فأقام بالكرك، واعتزل السلطة، وكتب إلى القضاة بمصر يعلمهم اعتزاله وكذا قضاة الشام، فبويع الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير بالسلطنة في الثالث والعشرين من شهر شوال، ولقب بالملك المظفّر، غير أن الناصر محمد رجع يطلب العودة إلى الملك في رجب عام 709، ووافقه جماعة من الأمراء فدخل دمشق في شهر شعبان، وسار بعدها إلى مصر فدخلها في شهر رمضان وفرّ المظفر ركن الدين بيبرس من قلعة الجبل في أواخر شهر رمضان فدخلها الناصر في عيد الفطر، وقُبض على المظفر وقتل، وهكذا عاد الناصر محمد بن قلاوون إلى السلطنة للمرة الثالثة.
الواثق بالله

إبراهيم بن محمد أحمد الحاكم بأمر الله

736 -741



هو إبراهيم بن محمد المستمسك بأمر الله بن الحاكم بأمر الله .

كان الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بن أبي على الحسن قد عهد بالخلافة لابنه محمد، ولقبه بالمستمسك بأمر الله غير أنه قد مات في حياة أبيه وعطفاً من الجد على ولد ولده فقد عهد إليه بالخلافة ظناً منه أ،ه يصلح لها، ولكنه لم يلبث أن وجده منهمكاً في اللعب، منصرفاً إلى صداقة الأرذال لذا فقد عدل عنه، وعهد إلى ابنه أبي ربيع سليمان الذي تكلمت عنه، وتولى الأمر أبو ربيع سليمان وتلقب باسم المستكفي، غير أن إبراهيم هذا لسوء في طباعه كان يمشي بالنميمة بين عمه المستكفي وبن السلطان الناصر محمد بن قلاوون وهذا ما أدى إلى الوقيعة بين الاثنين بعد أن كانا كالأخوين وقبض السلطان على الخليفة المستكفي ونفاه وأهله إلى قوص، وقد بقي فيها حتى توفي عام 740 وقد عهد قبل وفاته إلى ابنه أحمد.

أما السلطان الناصر أحمد بن قلاوون فمذ نفى الخليفة بايع إبراهيم هذا باسم الواثق بالله، ولم ينظر إلى عهد المستكفي، ولما حضرت الوفاة ندم على ما فعل لان الواثق بالله لم يكن أهلاً للخلافة فأوصى بعزله، ومبايعة أحمد بن سليمان المستكفي وتم ذلك في غرة شهر المحرم من عام اثنين وأربعين وسبعمائة، ولقب أحمد هذا باسم جده الحاكم بأمر الله كما كني بكنيته أبي العباس.

توفي الناصر محمد بن قلاوون في ذي الحجة من عام 741 بعد أن أوصى بخلع الخليفة إبراهيم وبيعة أحمد بن المستكفي.

yacine414
2011-03-18, 15:39
الحاكم بأمر الله

أحمد بن سليمان المستكفي

(742 - 753 هـ)



هو أحمد بن الخليفة المستكفي سليمان، ويُكنّى بأبي العباس، ويُلقّب بالحاكم بأمر الله على كنية ولقب جده. وقد تولّى الخلافة في مطلع شهر المحرم من عام 742، إذ أن السلطان الناصر محمد بن قلاوون قد أوصى بذلك، وكان الخليفة المستكفي قد عهد بالخلافة من بعده لابنه أحمد هذا إذ لم يعترف بخلعه وبيعة ابن اخيه إبراهيم.

ولما تولى أمر السلطنة المنصور سيف الدين أبو بكر بن السلطان الناصر عقد مجلساً يوم الخميس الحادي عشر من شهر ذي الحجة سنة 741، وطلب الخليفة إبراهيم وولي عهد المستكفي أحمد والقضاة، وقال : من يستحق الخلافة شرعاً ؟ فقال ابن جماعة : إن الخليفة المستكفي المتوفى بمدينة قوص أوصى من بعده بالخلافة لولده أحمد، وأشهد عليه أربعين عدلاً بمدينة قوص، وثبت ذلك عندي بعد ثبوته عند نائبي بمدينة قوص، فخلع السلطان حينئذٍ إبراهيم، وبايع أحمد، وبايعه القضاة. وكان لقبه "المستنصر" ثم لقب "الحاكم".

ومات الخليفة الحاكم بأمر الله في منتصف عام 753 بمرض الطاعون.
المعتضد بالله

أبو بكر بن سليمان المستكفي

(753 - 763 هـ)



هو أبو بكر بن الخليفة سليمان المستكفي، يُكنّى بأبي الفتح، ويُلقّب بالمعتضد بالله، بويع بالخلافة بعد موت أخيه الحاكم بأمر الله سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة، وبقي في الخلافة مدة عشر سنوات إذ توفي عام ثلاثة وستين وسبعمائة في شهر جمادى الأولى، وكان خيّراً، متواضعاً، محباً لأهل العلم.

وقد خلع السلطان الصالح صلاح الدين صالح عام 755 وأعيد الناصر حسن، وبقي في السلطنة مدة سبع سنوات ثم قتل عام 762، وأعطي السلطنة ابن أخيه المنصور محمد بن المظفر أمير حاج، ولم تمر عليه سوى سنتين حتى خلع.

المتوكل على الله

محمد بن أبي بكر المعتضد بالله

(763 - 785 هـ)



هو محمد بن أبي بكر المعتضد بالله، يُكنّى بأبي عبدالله، ولي الخلافة بعهد من أبيه بعد موته في جمادى الأولى من عام 763، واستمرت أيامه مدة اثنتين وعشرين سنة خلع بعدها وتولى الخلافة اثنان من ابناء عمومته، وهما الواثق بالله بن الواثق بالله ابراهيم، وأخوه المستعصم بن الواثق بالله ابراهيم، ثم أعيد المتوكل على الله عام 791 وتولى أمر الخلافة مدة سبعة عشر عاماً أي كانت السنوات التي تولى فيها الخلافة تسعاً وثلاثين سنة.

وقد حدث في عهده خلع المنصور محمد عام 764 وتولية السلطنة إلى ابن عمه الأشرف شعبان بن حسين بن الناصر محمد بن قلاوون. وفي عام 767 استولى الفرنجة ومعهم ملك قبرص على الاسكندرية، وذلك أن الحروب الصليبية لم تنته بطرد الصليبيين من عكا عام 690 والانتهاء منهم من كل بلاد الشام أيام الأشرف صلاح الدين خليل بن المنصور قلاوون، ثم طردهم من جزيرة ارواد عام 702 أيام السلطان الناصر محمد بن قلاوون، وإنما استمرت الحروب الصليبية لأن كثيراً من الصليبيين قد لجؤوا إلى جزيرة قبرص بعد طردهم من بلاد الشام، واتخذوا هذه الجزيرة مستقراً لهم، وأخذوا يقومون بالإغارة على بلاد المسلمين كلما وجدوا الفرصة سانحةً لهم، وكانت أسرة لوزجنان التي حكمت الجزيرة في تلك الآونة تقوم بهذه المهمة، وقد تولى أمر هذه الأسرة وحكم الجزيرة عام 760 بطرس الأول، وقد زار غربي أوروبا، ودعا البابا وملوك أوروبا لمساعدته للقيام بحربٍ ضد المسلمين، فحصل على بعض التأييد وسار مع من جاءه من الصليبيين واحتلوا الاسكندرية.

وفي عام 778 قتل الأشرف شعبان، وسُلّمت السلطنة إلى ابنه المنصور علي فبقي في أمره حتى توفي عام 783، وتسلّم الأمر من بعده أخوه الصالح حاجي لمدة سنة فخلع بعدها، وأخذ الأمر السلطان الظاهر برقوق، وهو أول المماليك الجراكسة.

أما الخليفة المتوكل فقد أُمر بالخروج إلى مدينة قوص من قبل أمير العساكر أيبك البدري الذي جاء بزكريا بن الخليفة الواثق وأعطاه الخلافة دون بيعة ولا إجماع، فسافر الخليفة إلى قوص ثم رجع إلى بيته وبعد خمسة عشر يوماً عاد إلى الخلافة وازيح زكريا، ولم يستقر في مركز الخلافة سوى خمسة عشر يوماً وذلك في عشرين من شهر ربيع الأول من عام 779.

وفي عام 785 قبض السلطان برقوق على الخليفة المتوكل على الله وسجنه في قلعة الجبل، وخلعه من الخلافة، وبايع الخليفة محمد بن الواثق بالله ابراهيم، ولقّبه بلقب أبيه الواثق بالله، وبقي في الخلافة مدة ثلاث سنوات حيث توفي عام 788، وطلب الناس من السلطان برقوق إعادة المتوكل على الله فلم يقبل، وإنما طلب زكريا أخا الواثق والذي جلس على كرسي الخلافة مدة خمسة عشر يوماً بلا بيعة عام 779، وولاه الخلافة وأُطلق عليه اسم المستعصم بالله، وبقي بالخلافة حتى عام 791 حيث ندم السلطان برقوق على ما فعل، فأخرج المتوكل على الله من السجن، وأعاد إليه الخلافة، وخلع المستعصم بالله الذي لزم بيته حتى مات. واستمر المتوكل على الله في الخلافة حتى عام 808 .

وفي شهر جمادى الآخرة من العام نفسه (791) قُبض على السلطان برقوق، وسُجن في الكرك، وأعيد السلطان الصالح حاجي إلى السلطنة فغيّر لقبه من الصالح إلى المنصور، ولكنه لم يمكث في السلطنة سوى ثمانية أشهر حيث أخرج السلطان الظاهر برقوق من السجن وأعيد إلى السلطنة وخلع المنصور حاجي في شهر صفر من عام 792، وانتهى عهد الأسرة القلاوونية بل انقضى حكم المماليك البحرية وجاء عهد المماليك الجراكسة.
الممَاليك الجَراكِسَة "البرجية"

(792 - 923 هـ)



1- الظاهر برقوق : 9 سنوات 792-801 للمرة الثانية توفي

2- الناصر فرج : 7 سنوات 801-808 ابن برقوق خلع

3- المنصور عبد العزيز : ثلاثة أشهر 808-808 ابن برقوق خلع

أعيد 4- الناصر فرج : 7 سنوات 808-815 للمرة الثانية ابن برقوق قتل

الخليفة خمسة أشهر

5- المؤيد : 9 سنوات 815-824 شيخ الاصطبل توفي

6- المظفر أحمد : عدة أشهر 824-824 ابن المؤيد خلع

7- الظاهر ططر : عدة أشهر 824-824 توفي

8- الصالح محمد : عدة أشهر 824-825 ابن الظاهر ططر خلع

9- الأشرف برسباي : 16سنة 825-841 توفي

10- العزيز يوسف : عدة أشهر 841-842 ابن برسباي خلع

11-الظاهر جقمق : 15 سنة 842-857 توفي

12- المنصور عثمان : أقل من 857-857 ابن الظاهر خلع

شهر ونصف جقمق

13- الأشرف اينال : 7 سنوات 857-865 توفي

14- المؤيد أحمد : أقل من سنة 865-865 ابن الأشرف اينال خلع

15- الظاهر خشقدم : 7 سنوات 865-872 توفي

16- الظاهر بلباي : شهرين 872-872 خلع

17- الظاهر تمربغا : شهرين 872-872 خلع

18- خير بك : ليلة واحدة 872-872 خلع

19- الأشرف قايتباي : 29 سنة 872-901 توفي

20- الناصر محمد : سنة واحدة 901-902 ابن الأشرف قايتباي خلع

21-قانصوه : 902-903 قتل

أعيد22- الناصر محمد : 903-904 للمرة الثانية ابن الأشرف قيتباي قتل

23- الظاهر قانصوه : 904-905 خلع

24- جانبلاط : 905-906 قتل

25- العادل طومان باي : عدة أشهر 906-906 قتل

26- الأشرف قانصوه الغوري : 17 سنة 906-922 قتل

27- طومان باي : أقل من سنة 922-923 قتل



لقد حكم المماليك الجراكسة مصر والشام والحجاز مدة تزيد على إحدى وثلاثين ومائة سنة (792-923)، وتعاقب في هذه المدة أكثر من سبعة وعشرين سلطاناً.

وفي عام 795 دخل تيمورلنك بغداد وهدد المنطقة، فتشكّل حلف من سلطان المماليك الظاهر برقوق، وأمير سيواس، ومغول القفجاق، والعثمانيين ضد تيمورلنك زعيم التتار، وخرج الظاهر برقوق على رأس حملة عام 797 باتجاه بغداد، ومعه أحمد بن أويس صاحب بغداد والذي فرّ منها عند دخول تيمورلنك إليها والتجأ إلى القاهرة، فسار برقوق لإعادته إلى عاصمة ملكة، إلا أنه لم يحدث قتال لأن تيمورلنك كان قد ترك بغداد وعاد إلى الشرف فما كان من الظاهر إلا أن رجع هو الآخر.

yacine414
2011-03-18, 15:41
المستعين بالله

العباس بن محمد المتوكل على الله

(808 - 815 هـ)



هو العباس بن محمد المتوكل على الله، أبو الفضل، أمه أم ولد تركية اسمها "باي خاتون" بويع بالخلافة بعهد من أبيه، وتولّى، الأمر بعد أن توفي في رجب عام 808.

ولما قتل الناصر فرج عام 815 في أثناء قتاله للمحمودي أضيفت إلى الخليفة السلطنة وذلك في مطلع عام 815 بعد إصرار الأمراء على ذلك، وفوّض الخليفة إلى شيخ تدبير شؤون المملكة، ولقّبه "نظام الملك" ثم سأل شيخ الخليفة أن يفوّض إليه السلطنة فلم يقبل لأن شيخ رفض شرط الخليفة وهو عدم السكن بالقلعة، فأخذ شيخ السلطنة بالقوة وتلقّب باسم "المؤيد" وأعلن خلع الخليفة المستعين، وبايع أخاه داود بن المتوكل على الله.

ولما بلغ نائب الشام "نوروز" بخلع الخليفة جمع القضاة والعلماء وسألهم بما جرى فأجابوا بان هذا الخلع لا يصح، وهذا ما جعل النائب يخلع الطاعة، وأجمع على قتال السلطان المؤيد الذي انتزع السلطنة بالقوة وخلع الخليفة دون ضرورة شرعية. فجمع المؤيد جيشاً وسار إلى الشام لقتاله نائبها، ونقل المستعين إلى الاسكندرية ليسجن هناك، وبقي في السجن حتى عام 824 حيث أخرجه السلطان ططر لكنه فضل بقاء إقامته في الاسكندرية وتوفي عام 833.
المعتضد بالله

داود بن محمد المتوكل على الله

(815 - 845 هـ)



هو داود بن محمد المتوكل على الله، أبو الفتح، أمه أم ولد تركية تدعى "كزل" أعطي الخلافة حين خلع المؤيد أخاه المستعين عام 815.

وفي عهده انطلق السلطان المؤيد إلى الشام لإخضاع نائبها "نوروز" وذلك عام 817، وتمكّن من الانتصار عليه، وبعد تحقيق هدف الحملة تابع إلى أطراف بلاد الشام الشمالية لإعادة تبعية الإمارات التركمانية إلى الدولة المملوكية.

وتوفي السلطان المؤيد عام 824 في شهر المحرم فقلّد السلطنة ابنه أحمد ولُقّب بالمظفر، وأعطي الأمير "ططر" تدبير شؤون المملكة، وبعد مرور سبعة أشهر أي في شهر شعبان قبض "ططر" على السلطان المظفر وخلع، وتسلّم هو مقاليد السلطة، فقلّده الخليفة السلطنة، وتلقّب باسم الظاهر، وكان عمله أن أخرج الخليفة السابق "المستعين بالله" من سجن الاسكندرية، وسمح له بالعودة إلى القاهرة، ولكن المستعين فضل الإقامة في الاسكندرية، وبدأ يعمل في التجارة حتى توفي عام 833.

ولم تمض سوى أربعة أشهر حتى توفي الظاهر ططر في شهر ذي الحجة من العام نفسه (824)، فقلّد الخليفة أمر السلطنة لابن ططر محمد، وقد اختار لنفسه لقب "الصالح"، وجعل شؤون المملكة للأمير "برسباي".

وبعد أربعة أشهر أي من شهر ربيع الثاني من عام 825 خلع الأمير برسباي من السلطنة الصالح ابن ططر، وتسلّم شؤونها، وقلّده الخليفة أمرها، فاتخذ لقب الأشرف.

أرسل الأشرف برسباي حملةً استطلاعيةً إلى جزيرة قبرص وقد اتجهت إلى ميناء "ليماسول" وذلك عام 827 كردٍ على الحملات التي قام بها ملوك تلك الجزيرة على الاسكندرية ودمياط في أثناء اشتداد حملات تيمورلنك على بلاد الشام، فلما تصدعت دولة تيمورلنك بعد وفاته، قام السلطان الأشرف برسباي بهذا الردّ، وفي العام التالي 828 أرسل حملةً ثانيةً وكانت جهتها في هذه المرة إلى مدينة "فاما غوستا"، وقد أحرزت النصر، ومكثت أربعة أيام ثم اتجهت إلى مدينة "ليماسول" وتمكنت من فتحها بعد جهد، ثم رجعت الحملة إلى مصر.

وبعد عام خرجت حملة جديدة سارت نحو "ليماسول" ففتحها، ثم اتجهت نحو الداخل فالتقت بجيشٍ كبيرٍ يقوده ملك قبرص "جانوس" بنفسه فجرت معركة طاحنة بين الفريقين انتصر فيها المسلمون انتصاراً كبيراً، وأسروا الملك، وحملوه معهم، وساروا نحو نيقوسيا ... ثم رجعوا إلى مصر والملك معهم أسير، وفي القاهرة فدى الملك نفسه ووافق على أن تكون قبرص تابعة لدولة المماليك، وبقيت بعدها كذلك مدة بقاء الدولة المملوكية وبذا انتهى الأثر الصليبي نهائياً إذ بقي في قبرص بعد طرده من بلاد الشام.

كان تيمورلنك قد توفي عام 808 فتصدّعت امبراطوريته الواسعة التي أسسها، وقام بعده أبنه "شاه رخ"، واستطاع أن يستعيد مدينة سمرقند، ورغب أن يُحسّن علاقته مع دولة المماليك فأرسل إلى برسباي عام 832 وفداً يطلب منه السماح له بكسوة الكعبة، وإرسال بعض الكتب إليه ومنها كتب ابن حجر العسقلاني. ولم يعط الأشرف برسباي جواباً، فأعاد "شاه رخ" الطلب في العام نفسه، ولم يحظ بجواب. وفي عام 839 طلب "شاه رخ" السماح له بزيارة القدس، وجدد الطلب في العام التالي (840) ولم يتلق في الطلبين أي ردّ فاتجه عندها "شاه رخ" لتأليف حلف ضد المماليك من العثمانيين وأمراء التركمان.

وبالنسبة إلى إمارات التركمان على أطراف بلاد الشام، فقد أرسل الأشرف برسباي حملةً إلى إمارة "الشاه البيضاء" عام 833 استطاعت تهديم مدينة الرها، وبدأ بعدها النفوذ العثماني يقوي في تلك الإمارات.

أما بالنسبة إلى جزيرة رودوس القريبة من السواحل التركية فقد غدت عام 710 قاعدةً لفرسان الاستبارية، فعندما انسحب الصليبيون من بلاد الشام أو طردوا عام 690 انتقل هؤلاء الفرسان إلى جزيرة قبرص، وقد لعبوا دوراً مهماً في الحرب الصليبية، ثم انتقلوا إلى جزيرة قبرص، وقد لعبوا دوراً مهماً في الحرب الصليبية، ثم انتقلوا إلى جزيرة رودوس إتخذوها قاعدةً لهم، وعندما غزا الأشرف برسباي قبرص، وأخضعها لنفوذ المماليك خشي الاسبتاريون من ذلك، فأسرع فلوفيان أمير الاسبتاريين وأرسل الهدايا للسلطان برسباي الذي كان في نيته غزو رودوس لكن عهده لم يطل إذ توفي في شهر ذي الحجة من عام 841. فقلد الخليفة السلطنة إلى يوسف بن برسباي الذي لُقِّب بالعزيز، وجعل شؤون المملكة إلى الأمير جقمق، وبعد ثلاثة أشهر (ربيع الأول 842) خلع جقمق من السلطنة العزير يوسف بن برسباي، وتسلّم هو أمرها، وتلقّب باسم الظاهر، وقلّده الخليفة. وكان عهد برسباي عهد استقرار، وقوة، وغزو ولكن الحالة الاقتصادية كانت متأخرة.

وفي عام 843 أغارت أربع سفن لقراصنة النصارى على مدينة رشيد على الساحل المصري، فاتجهت الشبهة نحو أمراء الاستباريين في رودوس، فجهز الظاهر جقمق حملةً عام 844 وغزا رودوس، وخاصةً أن السلطان العثماني مراد الثاني قد حرّض الظاهر جقمق للقيام بهذا الغزو، وأسرع أمراء الاستباريين إلى أوروبا يطلبون النجدات الصليبية منها.

وفي عام 845 توفي الخليفة المعتضد بالله داود، وكان من سروات الخلفاء، نبيلاً، ذكياً، فطناً، يجالس العلماء والفضلاء ويستفيد منهم، ويشاركهم فيما هم فيه، جواداً، سمحاً للغاية.
المستكفي بالله

سليمان بن محمد المتوكل على الله

(845 - 854 هـ)



هو سليمان بن محمد المتوكل على الله، أبو الربيع، بويع بالخلافة بعهد من شقيقه المعتضد بالله. وكان الظاهر جقمق يعرف حق المستكفي بالله.

وفي عهده سمح الظاهر جقمق لملك التتار "شاه رخ" بكسوة الكعبة عام 847 ثم عاد فنزعها لأن المسلمين وخاصة العوام منهم لم يقبلوا ذلك، وكذلك بعض المماليك لما في تاريخ التتار من سوء وقتال للمسلمين وتهديم لديارهم وهتك أعراضهم، ولم ينس بعد ذلك التاريخ.

وغزا الظاهر جقمق جزيرة رودوس مرتين أيضاً في عهد المستكفي مرةً سنة 847، ومرةً في العام الذي تلا (848)، هذا بالإضافة إلى الغزوة التي تمت في عهد المعتضد عام 844 ولكنه لم يوفق في فتحها وذلك بسبب الدعم الصليبي لهذه الجزيرة بعد استنجاد أمرائها بالبابا وملوك أوروبا.

وثار على الظاهر جقمق أتابك مصر قرقماس الشعباني، ونائب الشام، وقام العبيد بفتنة في منطقة الجيزة، غير أنه تمكّن من القضاء عليها جميعها.

وتوفي الخليفة يوم الجمعة الثالث من شهر ذي الحجة عام 854، وتولّى بعده أخوه القائم بأمر الله.

yacine414
2011-03-18, 15:42
القائم بأمر الله

حمزة بن محمد المتوكل على الله

(854 - 859)



هو حمزة بن محمد المتوكل على الله، أبو البقاء، القائم بأمر الله، بويع بالخلافة بعد وفاة أخيه الذي لم يعهد بالخلافة إلى أحد من بعده، وهو شقيق المستعين بن المتوكل على الله.

كان شهماً صارماً، أقام أبهة الخلافة مدة حكمه.

توفي الظاهر جقمق في مطلع عام 857، فقلد الخليفة ابنه "عثمان" أمر السلطنة، وحمل لقب المنصور، وكان مدبر شؤون الدولة الأمير "اينال"، وبعد شهر ونصف من تسلّم المنصور السلطنة خلعه الأمير "اينال" وتسلّم مكانه، فما كان من الخليفة إلا أن قلّد "اينال" السلطنة في شهر ربيع الأول من عام 857، وأخذ لقب "الأشرف".

اختلف السلطان "اينال" مع الخليفة "القائم بأمر الله" فقبض السلطان على الخليفة في شهر جمادي الأولى وسجنه في الاسكندرية وبقي فيها حتى مات عام 863، ودفن هناك. ثم بايع السلطان أخا الخليفة الآخر وهو المستنجد بالله.
المستنجد بالله

يوسف بن محمد المتوكل على الله

(889 - 884 هـ)



هو يوسف بن محمد المتوكل على الله، أبو المحاسن، المستنجد بالله، وهو الخليفة الخامس من أبناء المتوكل على الله، ولي أمر الخلافة بعد خلع أخيه القائم بأمر الله.

كان السلطان هو الأشرف اينال إلا أن الاضطرابات قد استمرت عليه طيلة حكمه، وقد توفي عام 865، فقلّد الخليفة من بعده ابنه احمد والذي أخذ لقب "المؤيد"، ولم تمض مدة حتى وثب على المؤيد الأمير خشقدم وخلعه واستبد بالأمر، فقلّده اسم السلطنة في شهر رمضان من العام نفسه، وأخذ لقب الظاهر سيف الدين خشقدم.

استمر السلطان الظاهر خشقدم في السلطنة مدة سبع سنوات وتوفي في شهر ربيع الأول من عام 872، فقلّد الخليفة الأمير "بلباي" الذي أخذ لقب سلفه الظاهر سيف الدين، ولكن لم يلبث سوى شهرين حتى وثب عليه الجند وخلعوه، فقلد الخليفة الأمير "تمربغا" فحمل لقب "الظاهر" أيضاً، وبعد شهرين من تسلّمه السلطنة وثب عليه الجند أيضاً وخلعوه. وأعطيت السلطنة للأمير خير بك مساءً وفي الصباح خلعه الجند. ثم تقلدّ السلطنة الأمير "قايتباي" فأخذ لقب الأشرف فاستقر له الأمر مدة تسعة وعشرين عاماً، وأخذ الأمور بحزم فدانت له، ونتيجة الاستقرار الذي عمّ أيامه فقد انصرف إلى انشاء الطرق، والجسور، والمدارس، والمساجد، كما انصرف إلى الشؤون الخارجية فقد أرسل عدة حملات ضد إمارة (ذو القادر) التركمانية التي تقع على أطراف بلاد الشام بين البلاد التي تدين للعثمانيين والبلاد التي تخضع للمماليك فقد أرسل حملة عام 876 ضد (شاه سوار) زعيم هذه الإمارة، كان السلطان العثماني محمد الفاتح يدعم أمير التركمان هذا ويؤيده، واستطاعت هذه الحملة أن تستولي على "عينتاب" و "أضنه" و "طرسوس"، وأن تأسر (شاه سوار) نفسه وحمل إلى القاهرة، وقد شنق على باب زويله عام 877. وكان قائد الحملة الأمير "يشبك"، قد عيّن الأمير "بوداق" أميراً على دولة (ذو القادر) وهو من الذين يعتمد عليه المماليك ويؤيدونه.

وفي عام 877 قاد الأمير يشبك أيضاً حملة ضد الدولة التركمانية الثانية (الشاه البيضاء) التي كان أميرها آنذاك حسن الطويل وكان قد أغار على ضواحي حلب، وقد تمكن الأمير يشبك من احراز النصر في معركة البيرة على نهر الفرات. وتوفي الأمير حسن الطويل عام 883، وخلفه ابنه يعقوب أمير الرها.

وفي عام 884 توفي الخليفة المستنجد بالله في الرابع عشر من شهر المحرم، بعد أن أصابه الفالج وبقي مريضاً بسببه مدة شهرين، وخلفه ابن أخيه عبد العزيز بن يعقوب.
المتوكل على الله "الثاني"

عبد العزيز بن يعقوب

(884 - 893 هـ)



هو عبد العزيز بن يعقوب بن محمد المتوكل، أبو العز، المتوكل على الله. ولد سنة تسع عشرة وثمانمائة، وأمه تدعى "حاج ملك" بنت أحد الجنود. كان محبوباً بين الخاصة والعامة لما امتاز به من أدبٍ وأخلاقٍ وتواضعٍ، وبشاشة لكل واحد.

تولى خمسة من أبناء المتوكل على الله محمد الخلافة، ولم يليها ابنه السادس يعقوب والد هذا الخليفة، ولما مرض عمه بالفالج، وطال مرضه عهد إليه بالخلافة من بعده، فلما توفي المستنجد بويع بها في يوم الاثنين السادس عشر من شهر محرم من عام 884.

وفي عام 885 قاد الأمير "يشبك" حملة إلى جهات التركمان، فالتقى مع أمير دولة (الشاه البيضاء) فهُزم المماليك، وأُسر "يشبك" وقُتل على شاطئ نهر الفرات. ثم عقد السلطان "قايتباي" صلحاً مع إمارة (الشاه البيضاء).

وتوفي الخليفة عام 893، وعهد لابنه المستمسك بالله.

yacine414
2011-03-18, 15:44
المتوكل على الله "الثاني"

عبد العزيز بن يعقوب

(884 - 893 هـ)



هو عبد العزيز بن يعقوب بن محمد المتوكل، أبو العز، المتوكل على الله. ولد سنة تسع عشرة وثمانمائة، وأمه تدعى "حاج ملك" بنت أحد الجنود. كان محبوباً بين الخاصة والعامة لما امتاز به من أدبٍ وأخلاقٍ وتواضعٍ، وبشاشة لكل واحد.

تولى خمسة من أبناء المتوكل على الله محمد الخلافة، ولم يليها ابنه السادس يعقوب والد هذا الخليفة، ولما مرض عمه بالفالج، وطال مرضه عهد إليه بالخلافة من بعده، فلما توفي المستنجد بويع بها في يوم الاثنين السادس عشر من شهر محرم من عام 884.

وفي عام 885 قاد الأمير "يشبك" حملة إلى جهات التركمان، فالتقى مع أمير دولة (الشاه البيضاء) فهُزم المماليك، وأُسر "يشبك" وقُتل على شاطئ نهر الفرات. ثم عقد السلطان "قايتباي" صلحاً مع إمارة (الشاه البيضاء).

وتوفي الخليفة عام 893، وعهد لابنه المستمسك بالله.
المستمسك بالله

يعقوب بن عبد العزيز المتوكل على الله

(893 - 914 هـ)



هو يعقوب بن عبد العزيز المتوكل على الله، بويع بالخلافة بعهد من أبيه عام 893، وفي عهده توفي الأشرف قايتباي عام 901 وكان قد تنازل لابنه محمد قبل موته بيوم واحد، فقلّد ابنه محمد السلطنة، فتقلّب باسم الناصر، غير أنه لم يلبث أن عزل بعد عدة أشهر إذ كان صغيراً لم يزد عمره على الأربع سنوات، فقلّد الخليفة الأمير قانصوه، غير أن الجند قد وثبوا عليه وقتلوه بعد مرور سنة على تسلمه السلطنة، وأعيد الناصر محمد بن قايتباي ثم لم يلبث أن قتل بعد أشهر من إعطائه السلطنة، وقام الظاهر قانصوه خال السلطان قانصوه الذي قتل قبل إعادة الناصر محمد بن قايتباي، لكنه عزل بعد اشهر أيضاً، وقام بأمور الدولة الأمير "جان بلاط" فقلّده الخليفة وأخذ لقب الأشرف.

أعلن نائب الشام الأمير "قوصروه" العصيان فأرسل له الأشرف "جان بلاط" حملة بقيادة الأمير "طومان باي" ومعه الأمير "قانصوه الغوري"، ولما وصل "طومان باي" إلى الشام اتفق مع الأمير "قوصروه" على الغدر بالأشرف "جان بلاط" والسير إلى مصر معاً، وقتال "جان بلاط"، وتعيين "طومان باي" سلطاناً، وزحفوا فعلاً على مصر، وقبضوا على "جان بلاط"، وخنقوه بالاسكندرية، وأعلنوا تعيين "طومان باي" سلطاناً باسم الملك العادل، كما عينوا الأمير "قوصره" أتباكاً للجند. لكن العادل "طومان باي" لم يلبث أن غدر بصديقه "قوصروه" وقتله. وبدأت مرحلة من الظلم، فنفر الجند من العادل وبدؤوا يتآمرون عليه فهرب واختفى عن الأنظار.

اتجهت الأنظار إلى الأمير "قانصوه الغوري" لتعيينه سلطاناً، فهو كبير السن إذ يقال : إنه من مواليد 850، وكان مملوكاً للأشرف قايتباي ثم اعتقه بعد أن أظهر شجاعةً فائقةً، وجعله من خاصة أتباعه، وعيّنه عام 886 حاكماً للوجه القبلي، ونائباً على طرسوس، وحاجب الحجاب في حلب عام 894، فلما عرضت عليه الإمارة رفض ذلك وبكى، إذ لاحظ ما آل إليه أمر المماليك وقتل بعضهم لبعض، غير أنهم أصروا على تعينه فاشترط دعمه وعدم التآمر عليه فوافقوا على ذلك. وقلّده الخليفة السلطنة في شوال عام 906، وكان قد قارب الستين من العمر، وتلقّب باسم الأشرف، وكانت كنيته أبا النصر.

تابع الأشرف قانصوه الغوري السلطان العادل طومان باي حتى قبض عليه حيلة‌ً وقتله، وعين في الدولة المراء الذين يثق بهم، وحصّن الاسكندرية ورشيد، وأصلح القلعة، وحفر الترع، وأكثر من المماليك واعتنى بهم. ووطد الأمن والاستقرار.

وفي عهده أغار الاسبتاريون من رودوس على مصر عام 914، فردّهم.

ووصل البرتغاليون الصليبيون إلى سواحل بلاد العرب، ودخلوا إلى البحر الأحمر، فجهز السلطان الأشرف قانصوه الغوري حملةً جعل قيادتها لحسين الكردي وسلّمه نيابة جده، فأبحرت من السويس عام 911، واستطاعت أن تهزم البترغاليين على الشواطئ الهندية عام 914، وأن تغنم غنائم كثيرة.

وفي عام 914 شعر الخليفة بالتعب فتنازل لابنه محمد، وبقي حتى دخل العثمانيون مصر عام 923، وقد نقل ابنه إلى حاضرة العثمانيين. أما هو فلم ينقل لكبر سنه، وبقي حتى توفي عام 927.
المتوكل على الله "الثالث"

محمد بن يعقوب المستمسك بالله

(914 - 923 هـ)



هو محمد بن يعقوب المستمسك بالله، تنازل له أبوه عن الخلافة عام 914، وبقي حتى تنازل للسلطان العثماني سليم الأول، وبذا يكون آخر خلفاء بني العباس، وانتقل إلى استانبول مع السلطان العثماني بناءً على رأي الخليفة الجديد سليم الأول، وبعد مدة سمح له بالعودة إلى مصر، وبقي فيها حتى توفي عام 950.

وفي عهد الخليفة المتوكل على الله "الثالث"، كان السلطان المملوكي الأشرف قانصوه الغوري. وقد حدث أن أغار الصليبيون الاسبتاريون على مصر عام 915 ولكنهم هزموا، وأعادوا الغارة عام 916، وقتلوا "محمد بيك"، فكان لذلك الأثر الكبير على نفسية الغوري حتى أنه قبض على رهبان كنيسة القيامة في القدس ووبخهم. وفي عام 917 أغاروا على سواحل البرلس فداهمه حامد المغربي، وهزمهم، وأسر مائتين منهم وساقهم إلى القاهرة.

أما بالنسبة إلى البرتغاليين فقد هزم الاسطول المملوكي في معركة "ديو" قرب السواحل الهندية بعد الانتصار الذي أحرزه في العام السابق 914، وعاد حسين الكردي إلى مصر بعد غياب سبع سنوات فوصل إلى السويس عام 918، واستطاع البرتغاليون الاستيلاء على شبه جزيرة كوجرات في الهند، ودخلوا إلى البحر الأحمر، وحاصروا ميناء سواكن. فأبحرت حملة من السويس بقيادة حسين الكردي أيضاً عام 921، وفيها سلمان العثماني معاوناً لحسين الكردي وفي رجب من عام 922 اختلف سلمان العثماني وحسين الكردي فقتل الأول الثاني منهما. وفي هذه الأثناء بدأ العثمانيون يتحركون في الشمال.

أما بالنسبة إلى الدولة الصفوية التي قامت في تبريز في اذربيجان فقد كانت علاقتها سيئة مع المماليك إذ قامت على فكر شيعي معاد للإسلام من أهل السنة الأقل، وقد استطاع اسماعيل شاه الصفوي عام 916 أن يدخل بغداد، ويخلصها من ملكها مراد خان بن يعقوب بن حسن الطويل التركماني، ففر مراد خان والتجأ إلى مصر.

وفي العام نفسه (916) أرسل اسماعيل الصفوي رسلاً من قبله إلى بعض ملوك الفرنجة يحرّضهم على غزو مصر، وقتال الغوري، وخاصة أن صلةً كانت بين الصفويين والبرتغاليين والمماليك يومذاك ألد أعداء البرتغاليين، وهم الذين وقفوا في وجههم ودخلوا معهم في حروب طاحنةٍ. وأراد البرتغاليون يومذاك الإفادة من الخلاف القائم بين الصفويين لتشيّعهم وبقية المسلمين في المنطقة، وقد وجدوا ضالتهم في الصفويين الذين استجابوا لهذه الرغبة وعملوا على التحرك باتجاه الغرب.

وفي العام نفسه (916) انتصر الصفويون على التتار وقتلوا ملكهم "أوزبك خان" وابنه، وفي سبيل تهديد المماليك أرسل الشاه اسماعيل الصفوي رأس "اوزبك خان" ورأس ابنه ضمن علبة إلى السلطان الأشرف قانصوه الغوري، وبدأ الصفويون يتحركون نحو الغرب، ووصلت طلائع جيوشهم عام 918 إلى "البيرة" على نهر الفرات، شمال بلاد الشام (ضمن الحدود التركية اليوم)، ومع أن القتال أو الحرب الباردة التي كانت دائرةً يومذاك كانت فكريةً بل دينيةً سواء أكانت من ناحية البرتغاليين أم من ناحية الشيعة أصدقاء أو حلفاء البرتغاليين فإن سادة مصر يومذاك لم يحسنوا التصرف وخاصة السلطان الأشرف قانصوه الغوري سيد الموقف في مصر والشام إذ أراد الوقوف على الحياد فكانت النتيجة أن قضي عليه ودالت دولته، وزالت الخلافة العباسية من مصر، وانتقلت أنظار المسلمين من القاهرة إلى استانبول التي أصبحت مركز الخلافة وحاضرة المسلمين وبذا فقد ورثت القاهرة.

وأما بالنسبة إلى الدولة العثمانية فقد كانت العلاقة حسنة بينها وبين دولة المماليك في مصر والشام، وقد ازينت القاهرة عام 857 بأمر من السلطان اينال بمناسبة فتح العثمانيين للقسطنطينية، وكانت القاهرة ترسل وفداً إلى استانبول بعد كل نصر أو عند تولية سلطان. وتعكرت العلاقات بين الدولتين عام 865 عندما وصل السلطان الظاهر سيف الدين خشقدم إلى السلطنة، وفي عام 869 مات أميرا دولتي (ذو القادر) و (قرمان) التركمانيتين فعيّن العثمانيون عليهما أميرين من غير أنصار المماليك. ومع هذا الخلاف الذي بدأ يظهر بين العثمانيين والمماليك فقد فرّ إلى القاهرة الأمير "جم" أخو السلطان العثماني بايزيد الثاني، وفي الوقت نفسه فقد آوت استانبول بعض الأمراء الفارين من مصر والشام.

لقد أرسل السلطان قايتباي حملة ضد إمارة (ذو القادر) عام 876 استطاعت أن تستولي على هذه الإمارة، وأن تأسر أميرها (شاه سوار)، الذي نقل إلى القاهرة حيث أعدم على باب زويلة، وأن تعيّن الأمير بوداق مكانه وهو من الذين يناصرون المماليك. وفي العام التالي انتصر المماليك على حسن الطويل أمير دولة (الشاه البيضاء) في معركة البيرة على نهر الفرات.

لقد ثار ابن (شاه سوار) على عمه (علي دولات) الذي يؤيده المماليك، ودعم السلطان سليم العثماني ابن (شاه سوار) وهاجم علي دولات وهذا ما وطد الصلة بين المماليك وعلي دولات. وعندما دخل الصفويون بغداد فرّ ملكها من التركمان إلى القاهرة مقر دولة المماليك رغم أن جده حسن الطويل كان قد قاتل المماليك.

لقد اثارت تصرفات الصفويين السلطان سليم الأل العثماني فآثر ترك أوروبا والتوجه نحو الصفويين لقتالهم. ويمكن أن أقول : إن أوروبا كانت تدعم الاسبان والبرتغاليين منذ مدة حتى استطاعوا طرد المسلمين من الأندلس عام 497 وبقيت تدعمهم بعد ذلك، وعندما قام العثمانيون يقاتلون الأوروبيين ويتقدمون من جهة الشرق رأت أوروبا الوقوف في وجه العثمانيين بقوة وقطع المساعدة عن الاسبان والبرتغاليين الذين يقاتلون المسلمين في الأندلس، وعندما وصل البرتغاليون إلى جنوب بلاد العرب ودخلوا الخليج العربي رأوا أن يحركوا الصفويين ضد العثمانيين من الشرق ليخفّ ضغط العثمانيين في أوروبا. فلما اشتد ضغط الصفويين على الشرق العثماني، وتحريض ملوك أوروبا ضد المماليك، ومحاولة نشر الشيعة فضّل السلطان العثماني ترك أوروبا والتوجه نحو الشرق لتاديب الصفويين. واعتقد أن المماليك سيكونون عوناً له في مهمته هذه لأن العثمانيين يقاتلون الصفويين الشيعة أعداء العثمانيين والمماليك معاً. وأن العثمانيين إنما يقاتلون الأوروبيين النصارى الذين يدعمون البرتغاليين الذين يقاتلون المسلمين في الغرب ويريدون دخول البحر الأحمر وتهديد المدينة المنورة ونبش قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كي يتسلموا القدس. والمماليك يقاتلون البرتغاليين ويدافعون عن بلاد المسلمين فالمصلحة الإسلامية العثمانية والمملوكية واحدة، غير أن العثمانيين عندما عرضوا مشروعهم لقتال الصفويين على المماليك، وقف المماليك على الحياد حسب رأيهم إلا ان الحياد ذاك معناه تقوية الخصوم وهم الصفويون بل والبرتغاليون الذين وراءهم وحلفاؤهم وعندما رأى العثمانيون هزيمة المماليك أمام البرتغاليين كان عليهم أن يقوموا بواجبهم فيقفوا أمام البرتغاليين ولكن المماليك لم يسمحوا لهم بدخول بلادهم للوقوف في وجه البرتغاليين، فأضمر السلطان سليم في نفسه رغبته بالقضاء على المماليك إذ استطاع احراز النصر على الصفويين.

تحرك السلطان سليم العثماني من أوروبا واتجه نحو الشرق لقتال الصفويين غير أن علي دولات أمير دولة (ذو القادر) قد تصدّى لطلائعع الجيش العثماني، ولما كان هذا الأمير من أنصار المماليك لذا اقتنع السلطان العثماني بأن هذا العمل إن هو إلا من تحريض المماليك، فما كان من السلطان العثماني إلا أن داهم التركمان وقتل علي دولات وولي مكانه ابن (شاه سوار)، وتابع نحو الصفويين فانتصر عليهم ودخل عاصمتهم مدينة تبريز عام 920 بعد معركة (جالديران) المشهورة، وبعد هذا النصر بدأ يستعد لقتال المماليك، ولقد ضم السلطان العثماني إليه الجزيرة وإمارة (ذو القادر) إلى الدولة العثمانية عام 921، وبدأ يتصل بنواب المماليك في بلاد الشام.

أحسّ السلطان الغوري بمشروع السلطان سليم فجهّز حملةً وقادها بنفسه وانطلق إلى بلاد الشام، وتوجه شمالاً، وانطلق من حلب إلى مرج دابق في الشمال الغربي من حلب حيث التقى مع السلطان سليم، ورتب السلطان الغوري جيشه فكان في القلب وعلى ميمنته نائب دمشق جان بردي الغزالي وعلى ميسرته نائب حلب خايربيك، وتقدّم للقتال، وأحرز النصر في الجولة الأولى، وحمل العثمانيون ثانيةً، وانضم إليهم نائب حلب خايربيك وبعض الأمراء فنالوا النصر، وقتل الغوري في ميدان المعركة، وتقدم العثمانيون فدخلوا حلب وبقية مدن بلاد الشام دون مقاومة بل أحياناً كثيرة كانوا يستقبلون استقبالاً حاراً حيث ينظر إليهم نظرة احترام على أنهم توغلوا في أوروبا، وضربوا الدولة الصفوية الشيعية، ويرغبون منازلة البرتغاليين الذين يهددون المسلمين بل مقدسات المسلمين أيضاً، وربما كانت هذه من دعايات العثمانيين التي روّجوها وأطلقها أنصارهم لأننا لا نستطيع أن نعد الشعب كان يومذاك يعرف هذه الحقائق، ويدركها تماماً وإن كانت صحيحة، وتابع السلطان سليم العثماني تقدمه حتى مصر فوقف في وجه نائب السلطان الغوري الأشرف طومان باي، وجرت معركة بين الطرفين على أبواب القاهرة هي معركة الريدانية التي قتل بها الأشرف طومان باي ودخل إثرها السلطان سليم القاهرة فبايعه أهلها، وتنازل له آخر خليفة عباسي وهو المتوكل على الله، كما جاء إليه أشرف الحجاز فبايعوه فتسمى باسم خليفة المسلمين وخادم الحرمين الشريفين، وعاد بعدها إلى حاضرة ملكة استانبول بعد أن أخذ معه الخليفة العباسي المتوكل على الله، والصناع المهرة، والتجار. بينما ترك والد الخليفة في القاهرة نتيجة كبر سنة، وفقد بصر. وبذا زالت دولة المماليك، وانتهت الخلافة العباسية من مصر بعد أن دامت 264 سنة (659-923)، وكانت قد انقضت أيامها من بغداد قبل ذلك بأربع سنوات. وهكذا انطوت صفحة من تاريخ الخلافة في القاهرة لتفتح صفحة جديدة من تاريخ الخلافة في استانبول.

yacine414
2011-03-18, 15:47
منشأ آل عثمان وظهور دولتهم

ظهور آل عثمان.

اعلم أنه لما أغار جنكيز خان سلطان المغول سنة هـ م على بلاد آسيا الغربية آتياً من الشمال خرج سليمان شاه بن قيا ألب من سبط قايي خان وكان نازلا في أواسط آسيا بصحراء ماهان بجهات مرومها جرامع نحو 50 ألفاً من قبيلته وماز زالوا يسيرون يتخيرون المنازل والأعشاب حتى استقروا بجهات أذربيجان وبعد أن أقاموا تلك الجهات نحو ست سنوات هاجم السلاجقة خراسان وخوارزم وفتحوهما فقفل سليمان شاه راجعاً إلى وطنه ولما وصلوا إلى نهر الفرات وأرادوا عبوره غرق سليمان شاه بالنهر المذكور قضاء وقدراً هـ م فأخرجوه ودفنوههـناك عند قلعة جعبر ولا يزال قبره يوجد للآن ويدعى (ترك مزارى) .

وكان لسليمان شاه المذكور أربعة أولاد وهم سنقور زنكي وكون طوغدي وأرطغرل وكوندوز وقع بينهم الاختلاف في الرحلة أو المقام بعد موت والدهم فمنهم من اختار متابعة المسير إلى بلاده ومنهم من فضل البقاء مع أرطغرل الذي قصد بلاد الأناضول مع أربعمائة بيت من قومه منهم نحو 440 فارساً فساروا حتى نزلوا غرباً بجهة سرمهلووياسين وضربوا بها خيامهم ولما كانت تلك الجهات غير موافقة لسكناهم بالمرة أرسل أرطغرل سنة 630 هـ ولده صاروباتي بك إلى سلطان الروم علاء الدين السلجوقي يطلب منه الحماية ويستعطفه في أن يمنح عشيرته بعض الأراضي الخصبة فدله السلطان جناح الرأفة وأقطعهم أراضي قرهجهطاغ قرب أنقرة وكان بها ما يلزمهم من الدفء شتاء والمراعي صيفاً فأقاموا هناك قريري العين.

وبينما كان أرطغرل يرود بعض الجهات يوماً مع فرسان من قبيلته إذ صادفوا جيشين في حومة الميدان يستعدان للقتال وكان أحدهما أقل عدداً من الآخر فانضم أرطغرل بقومه إلى الجانب الضعيف لأنه كان يميل دائماً لمساعدة الضعفاء ويقال إنه وجدهما يتقاتلان وكان أقلهما عدداً أشرف على الهرب فحركته حينئذ الغيرة على الضعيف فانضم إليه مساعداً له وكان أحد هذين الجيشين وهو الضعيف للسلطان علاء الدين كيقباد بن كيخسرو السلجوقي، والثاني لهولاكوخان من أعقاب جنكيز خان ملك المغول، فلما قامت الحرب بينهما ويسّر الله الظفر للسلجوقيين بمساعدة أرطغرل وعشيرته وانقضى القتال وعلم السلطان السلجوقي بذلك استدعى إليه أرطغرل رئيس أولئك الغرباء وبعد أن وقف منه على حالته وحالة عشيرته أظهر له عظيم ارتياحه ومزيد شكره وخلع عليه وعلى أخيه وأقطعهم الأراضي الواقعة بجهتي طومانيج واسكيشهر 663 هـ 264م .

وبعد ذلك أخذ أرطغرل في مساعدة علاء الدين السلجوقي في أكثر وقائعه الحربية ضد المغول ودولة بوزنطية فكان له أثر مشهور ولهذا زاد السلطان علاء الدين في الاقطاعات لأرطغرل وتنازل له عن قطعة من بلاده الأصلية وقطعة مما فتحه من دولة القسطنطينية وهي الجهة المسماة الآن سلطانية أو (صيراجق) من ولاية قونية فكانت تلك الأراضي بما فيها جهة سكود مهّد الدولة العثمانية، ولما وقعت الحرب بعد ذلك بين السلطان علاء الدين والمغول لتعرضهم لبلاده فوض أمر المحافظة على قلعة كوتاهية التي استولى عليها المغول للأمير أرطغرل فاستردها بعد قتال شديد فَعَلتْ منزلة أرطغرل عند السلطان علاء الدين ولم يزل أرطغرل يقارع أعداء علاء الدين مؤيداً منصوراً حتى توفي سنة680هـ بسكود وسنّه يتجاوز 90 سنة.

ولما بلغ السلطان علاء الدين خبر وفاته جزع لذلك جدّاً وعين ولده الغازي عثمان مكانه ولما رآه السلطان علاء الدين من حزمه واجتهاده واتباعه خطة أبيه في الغزو والجهاد مدّة بالإعانة والإمداد وأرسل إليه شارات السلاجقة وهي الراية البيضاء والخلعة والطبل وكتاباً تركي العبارة معلناً باستقلال عثمان بك وبأن يكون له فيما بعد كل ما فتحه من الأراضي 688 هـ ولما ضرب الطبل بين يدي الأمير عثمان نهض قائماً على قدميه تعظيماً للسلطان علاء الدين وقد جرت العادة بعد ذلك بأن يقوم السلطان عند سماعه الطبلة تعظيماً وتذكاراً ولقبه علاء الدين بلقب بك وسمح له بأن يضرب السكة باسمه وبذكر اسمه على المنابر بعد ذكر السلطان.

ولقد كانت عوامل الفساد والضعف دبت إذ ذاك في جسم المملكة الرومية وكانت أحوال ولاياتها غير منتظمة فكان كل حاكم من حكامها المسمى بالتكفور يستبد في ولايته حسب رغبته ومشتهاه ولما شاهد الغازي عثمان ذلك أخذ في التضريب بينهم وإلقاء بذور العداوة والشحناء بين مجموعهم لأن الحرب خدعة ولما تمكن من مراده أخذ في الاستيلاء على ولاياتهم حتى أن حاكم (خرمن قيا) المدعو كوسه ميخال وأمثاله من المتفقين شرعوا في إلقاء المفاسد بين الحكام وكوسه ميخال هذا هو الذي أطلع الغازي عثمان على ما دبره له بقية الحكام من الايقاع به لما بينهما من الصداقة في يوم عرس حصل عند بعضهم وقد تدارك الأمير عثمان هذا الخطر بحيلة حربية.

وبينما كان كوكب العثمانيين في صعود وأمرهم في ارتقاء إذ أغار غازان خان سنة 699هـ على مدينة قونية وأزال دولة السلاجقة.



السلطان الغازي عثمان خان (699-726) هـ:

لما أعلن السلطان عثمان الغازي استقلاله أتاه كثير من علماء وأعيان وأمراء الدولة السلجوقية المنقرضة ودخلوا تحت حمايته واستمر يجاهد بعد الاستقلال نحو سبع سنوات واستولى من دولة الروم على كثير من الجهات ولما رأى من نفسه عدم القدرة على تحمل مشاق الأسفار لتقدمه في السن نصب ابنه أورخان بك قائداً للجنود وكان القسم الذي خص الأمير الغازي عثمان يتركب من جزء من إقليم بروسه ومن كافة البلاد الواقعة حوالي جبل أولمبة بالأناضول ولاذ أيضاً كثير من أعيان الروم بعدالة الغازي عثمان معترفين بسيادته وبذلك تأسست الدولة العلية العثمانية في التاريخ المذكور وقت الحادثة المذكورة وكانت في مبدأ أمرها حكومة صغيرة كما علمت، ثم أخذت تنمو شيئاً فشيئاً بمساعي هذا السلطان وشجاعته وعدالته حتى صارت قبلة الإسلام ونقطة آمال الموحدين ولما كانت هذه المملكة الصغيرة متاخمة لمملكة القسطنطينية الآخذة في الاضمحلال كانت الحروب لا تنقطع تقريباً بين البلدين فكانت هذه المملكة الحديثة العهد الممتلئة قوّة وحماساً تريد محو جارتها الهرمة التي كان يعز عليها أن ترى مملكة صغيرة حديثة النشأة تخالفها في المعتقد والعوائد تجاريها في مضمار الفتوحات.

ثم إن السلطان عثمان وجه التفاته لتوسيع دائرة أملاكه فحاصر مدينة كبري حصار عدّة مرات حتى اضطر عاملها للتسليم، ثم حاصر قلعة أزنيق الشهيرة وأنشأ في جانب قلعتها على الجبل من جهة يكيشهر القلعة المسماة سردار طارطغان وفي أثناء ذلك اتفق عامل بروسه مع حكام أطره نوس أوادربانوس وكستل وكته على مهاجمة مدينة يكيشهر مقام العثمانيين فقابلهم السلطان عثمان على رأس جيشه بجوار قلعة قيون حصار وهزمهم ثم اقتفى أثرهم حتى المكان المدعو ديمبوز وأوقع بهم فيه وقتل في هذه الواقعة أمير مدينة كستل وآي طوغدي ابن أخي السلطان ثم أركن أمير أطره نوس وبروسه إلى الفرار أما تكفوركته فإنه بعد التجائه إلى تكفور مدينة أولوباد أصر السلطان الغازي عثمان على تسليمه إليه فامتثل أمير أولو باد للأمر.

وفي سنة717 هـ شيد السلطان عثمان بالقرب من مدينة بروسه على مسافة ربع ساعة منها عند ينبوع الماء المعدني الحار قلعتين جعل في إحداهما ابن أخيه آق تيمور وفي الأخرى البطل بلبانحبق أحد مماليكه وبعد أن تمكن من حصار بروسه بهذه الكيفية وأسلم القائد كوسه ميخال الشهير ترك ولده السلطان أورخان وكوسه ميخال وصالتق ألب للمحافظة على البلاد وأنزلهم بقلعة قره حصار ثم سار هو بنفسه يقصد قلعة لبلبنجي ولفكه جادرلق فاستولى عليها بلا حرب وأخضع بعد ذلك يكيجه حصار وآق حصار وتكفور بكاري بلا حرب أيضاً وضم الجميع لأملاكه ثم أرسل الغازي أورخان والغازي عبد الرحمن وغيرهما إلى قلعة قره جيش الشهيرة وبعد حصارها أسروا حاكمها واستولوا عليها مع الجهات المجاورة لها ثم استمرت الفتوحات واستولى على مدينة طوز بازاري بعد أن أخضع قلعة قره تكبه ثم أن فرقة أقجه قوجه فتحت جملة جهات في أطراف أزميد ولهذا السبب كان يطلق على سنجق أزميد في ذلك الوقت قوجه ايلي وفي خلال ذلك فتح الغازي عبد الرحمن مدينة أزنيق.

ولما عزم السلطان عثمان الغازي على فتح بروسه أنشأ لذلك قلعتين حولها كما سبق وعين لهذه المهمة الغازي أورخان 726هـ وبعد خروجه من مدينة يكيشهر مر بأطره نوس ولما تقابل مع حاكمها أراد القبض عليه ففر من وجهه إلى أن وقع من صخرة فمات وأرسل الغازي أورخان خبر ذلك إلى السلطان مع كوسه ميخال وبذلك أمكن الاستيلاء على مدينة بروسه بلا كبير مشقة وفي أثناء تلك الفتوحات المتعاقبة بلغ الغازي أورخان مرض والده فسافر إليه مسرعاً ولما صار بين يديه نصحه بنصائح عظيمة منها حسن المحافظة على الرعية وسياستهم بالعدل والإنصاف.

وفاته:

ثم توفي يوم 17رمضان سنة 726هـ وكان سنه 70سنة ونقلت جثته من داخل قلعة بروسه إلى تربته المخصوصة وكانت ولادة هذا السلطان بمدينة يكيشهر سنة 656 هـ ومدّة سلطنته 20 سنة ولم يقع بينه وبين دولة من الدول الأجنبية حروب خلاف دولة القسطنطينية أو بينه وبين الأمراء التابعين لها وترك من الذكور اثنين وهما الأمير أورخان والأمير علاء الدين.

السلطان الغازي أورخان ابن السلطان الغازي عثمان خان 726-761هـ:

اعلم أنه عند جلوس السلطان الغازي أورخان على سرير السلطنة كانت شبه جزيرة الأناضول منقسمة بين ملوك الطوائف الذين قاموا بعد انقراض دولة السلاجقة فكان بخشى بك بن محمد بك من أولاد قرمان متغلباً على مدينة قونية وتوابعها أي جالساً مكان الدولة السلجوقية وكان آيدين بك وصاروخان بك ومنتشا بك وكرميان بك وحميد بك وتكه بك وقره سى بك وهم من أولاد أمراء السلاجقة حكاماً على ممالك صغيرة أخرى إلا أنهم لم يكونوا تحت طاعة أمير قونية المذكور وكان أولاد أسفنديار حكاماً مستقلين بجهات قسطموني.

وكانت بقية الممالك الأخرى تحت تسلط بعض عشائر التركمان فكان بمرعش أولاد ذو القدرية وباطنة أولاد رمضان وكان من بين هؤلاء حكومة السلطان أورخان التي ورثها من أبيه ولما لم تكن قوية في أول استقلالها كما مر ولم يكن في إمكانها الدخول في المنازعات التي كان يثيرها أولاد قرمان للمطالبة بميراث الدولة السلجوقية أمكنها فيما بعد بما أظهره السلطان عثمان الغازي من الإقدام والجسارة أن تكتسب قدرة ومكانة خصوصاً بعد استيلائها على مدينة بروسه لأن السلطان أورخان بعد أن اتخذ تلك المدينة مقر السلطنة التي كانت عديمة القرار قبل ذلك تمكن بمساعيه من إظهار شوكة الدولة وسطوتها بالفتوحات الآتية.

ولما جلس هذا السلطان على سرير الملك كان سنه يبلغ أربعين سنة وبعد أن نقل تخت المملكة إلى مدينة بروسه بعد أن كان بمدينة يكيشهر مدّة خمس وثلاثين سنة التفت إلى التنظيمات الضرورية وسن القوانين والنظامات بمساعدة رجال حكومته الذين نخص بالذكر منهم قاضي بروسه جندره لوقره خليل فكان أول شيء بدأ به أن ضرب السكة العثمانية وجعل للمأمورين والأمراء وأصناف العساكر وطبقات الأهالي ملابس مخصوصة.

ولما رأى أن جيوشه المؤلفة من فرسان التركمان وممن قدر من الرعية على الحرب لا نظام لهم ولا معرفة بقوانين الضبط والربط ولا هم مجمكون أخذ يرتب عساكر نظامية ووضع لهم قانوناً للتربية فأنشأ لذلك طائفة اليكجرية الانكشارية وصار حسب ما رآه وزيره يأخذ كل سنة العدد الممكن من أولاد النصارى ويجمعونهم ثم يعلمونهم آداب الإسلام ويعتنون بتربيتهم ومتى بلغوا السن اللائق للعسكرية أدخلوهم ضمن أوجاق اليكجرية.

وكان لكل واحد منهم يومياً وظيفة مقدرة وقد استمر هذا النظام أي ادخال مثل هؤلاء الأولاد في الجيش العثماني لسنة 1050هـ وقد نبغ من هؤلاء كثير من الرجال تولوا الوزارة والإمارة والأعمال الجليلة حتى صار النصارى فيما بعد يطلبون من تلقاء نفسهم إدخال أولادهم ضمن اليكجرية ومن النظامات التي أوجدها هذا السلطان منصب الوزارة عين له أخاه علاء الدين باشا فكان أول وزير في الدولة العثمانية.

ولما أتمّ التنظيمات السابقة التفت إلى أراضي البلاد المفتتحة فقسمها إلى قسمين وهما خاص وتيمار فكانت إيرادات الخاص للخزينة السلطانية ولأمراء العائلة الملوكية ولأعيان الحكومة وإيرادات التيمار لرجال الحرب.

ولما استقرت قواعد الدولة بهذه النظامات الحديثة التفت إلى الفتوحات فأشهر في سنة 727هـ حرباً على بلاد الروم وفي خلالها صادف وفاة حاكم أزميد مركز إقليم قوجه ايلي فآلت إدارة المدينة إلى ابنته وكانت ترد لها الإمدادات من القسطنطينية ولما حاصر تلك المدينة الغازي عبد الرحمن كاتبته البنت المذكورة سراً فاستولى على قلعتها وأرسل البنت المذكورة مع الغنائم إلى السلطان الذي عقد نكاحها على الغازي عبد الرحمن لكونها خدمت وأعانت الدولة وكانت النساء اللاتي يتظلمن للسلطان أورخان يلاطفهن بالكلام وينعم عليهن بما يسر خواطرهن فمالت إليه قلوب الناس.

وما زال يتقدّم في فتوحاته حتى حضر بنفسه في سنة 728هـ 1327 م وحاصر أزميد وأرسل القائدين قره على وايغور ألب مع جنود إلى فتح قيون حصار وفي أثناء المحاربة أصيب قلايون حاكم قيون حصار برصاصة فسقط ميتاً من سور القلعة وبذلك استولت الجيوش العثمانية على القلعة المذكورة وفي خلالها سلمت بلا قونية حاكمة أزميد نيقوميديا المدينة إلى السلطان أورخان فأركبها هي وجنودها ومن يريد من أهالي المدينة السفن وأرسل الكل إلى القسطنطينية وذلك بناء على رغبتها وبذلك صارت حدود الدولة قريبة من خليج القسطنطينية.

وفي سنة 731هـ فتحت مدينة أزنيق أو أزنيك وغنم العثمانيون منها مغانم وافرة جداً بعد أن اجتهد قيصر القسطنطينية في خلاصها وكان فتحها على يد الأمير سليمان ابن السلطان ولما تم فتحها وأصلح ما تهدم من مبانيها حول السلطان بعض كنائسها إلى مدارس ومساجد وعين للتدريس بإحدى تلك المدارس العالم الشهير داود القيصري وجعل على قضائها العالم العامل خليل جندارلي ولما كانت هذه المدينة في الوقت المذكور من أعظم مدائن تلك الجهات اتخذها السلطان أورخان عاصمة له.

ولما توفي الوزير علاء الدين سنة 732 صار الأمير سليمان باشا وزيراً للدولة وفتحت بلاد مدرني وكمليك وفي خلالها أرسل قيصر الروم جملة هدايا للسلطان أورخان وعقد بين الطرفين مهادنة في السنة نفسها لمدّة عشرين سنة وبموجبها صارت جهات مايناس وأيدنجق وباليكسري وبرغمه وقره سي وميخاليج وكرماستي من أملاك الدولة العثمانية ولم يبق بعد ذلك لقياصرة بالأناضول غير مدينة آلاشهر وقلعة بيغا وضم العثمانيون أيضاً إلى ممالكهم سنة 737هـ مملكة قره سي وهي أول مملكة إسلامية من الأناضول عند وقوع الاختلافات بين أولاد عجلان بك حاكمها بعد وفاته وفي مدّة المهادنة المذكورة تفرّغت الدولة للإصلاحات الداخلية وسنة 746 هـ جدّدت المعاهدة السلمية مع قيصر الروم وفي التي بعدها ذهب السلطان مع حاشيته إلى مدينة اسكدار وتقابل هناك مع قيصر الروم وتأيدت بذلك المصافاة بين المملكتين.

إلا أن دولة الروم لما كانت تبطن العداوة للعثمانيين كانت تنتهز الفرص للإيقاع بهم فخالفت شروط المعاهدة بعض مضي عشر سنوات من امضائها واتحد القيصر مع البنادقة الذين كانوا في أغلب الأوقات يهاجمون حدود المملكة العثمانية من جهة البحر فلذلك أصدر السلطان أورخان أمراً إلى ولده الأمير الغازي سليمان باشا بالاستعداد والزحف على بلاد الرومللي فجهز الجيوش وتقدّم بها في سنة 757هـ 1356 م حتى وصل إلى مدينة جناق قلعة بساحل غربي آسيا على مضيق الدردنيل ثم عقد هناك مجلساً مع أشهر قوّاده وهم حاجي إيل وآجه وغازي فاضل وأرنوس وكان حاكماً قبل لمدينة بروسه ثم اعتنق الإسلام فاتفقوا على عمل صالات (أكلاك) للعبور بها وبعد انشائها ركبوا عليها ليلاً من بلدة أيد نجق أبيدوس وعبروا بها الدردنيل إلى ساحل الرومللي وعقب عبورهم بقليل استولى الأمير سليمان باشا على قلعة جنك Tzympe سنة 758هـ 1357 م .

وهذا العبور هو مبدأ التاريخ البحري للدولة العثمانية وبعد أن عبر سليمان وجنوده بالكيفية المذكورة أخذ في إخضاع البلاد التي تقرب من كليبولي وفي تلك الأثناء ظهرت اضطرابات ومنازعات ومناقشات بين أعضاء العائلة الإمبراطورية بالقسطنطينية لأنه بعد وفاة اندرو نيقوس الثالث إمبراطور الروم 741هـ كان الوارث لسرير السلطنة يوانيس أو يوحنا اليولوغوس ولكونه كان حديث السن قام ناظر سراي الإمبراطور المدعو قانتا قوزينوس وأمثاله يطلبون لأنفسهم الاستبداد بالملك حتى أن قانتاقوز ينوس المذكور طلب من السلطان الغازي أورخان المساعدة وزوّجه بابنته تيودورا وعلى ذلك أرسل السلطان الجيوش عدّة مرات لمساعدة المستجير به وإسعافه ليتمكن من قهر أخصامه.

ولما شرع الأمير سليمان باشا في إجراء ما عهد إليه به السلطان قام الروم واتفقوا مع أهالي المجر والصرب والبلغار والأفلاق والبغدان بقصد قتال سليمان باشا لفتوحاته بأوروبة ومداخلته في أحوال الدولة الرومية فاستعد سليمان باشا لملاقاة قوّتهم المتحدّة ثم انقض عليهم من جبال البلقان وأوقع بجمعهم ثم تجوّل في جهات بلاد البلغار مسكناً اضطراباتها وفي خلال ذلك حصلت منافسات كبيرة بين ملوك المجر والصرب والبلغار والأفلاق والبغدان أدّت إلى منازعات التزم فيها امبراطور القسطنطينية أن يطلب من آل عثمان الإعانة ثانية فأمدّوه وتقدّم الأمير سليمان باشا حتى عسكر تحت أسوار القسطنطينية وسكن ذلك الاضطراب ثم حصلت زلازل جسيمة 759هـ دمرت جملة بلاد وقلاع من تلك الجهات.

وفي سنة 760 هـ 1358 م نهض الأمير الغازي سليمان باشا بجيش يبلغ عدده 700من شجعان العثمانيين إلى قلعة كليبولي المعتبرة مفتاحاً للبحر المتوسط الأبيض فحاصرها مدّة أيام حتى تمكن من فتحها ثم استولى بعدها على بولاير وخيره بولي وتكفور طاغ بكل سهولة وبهذا الفتح أظهر الأمير المذكور لجميع الدول الأخرى ما للدولة العثمانية الحديثة العهد من السطوة والاقتدار وبينما كان الروم يطلبون من العثمانيين أن يعيدوا لهم هذه الأماكن في مقابلة مال يدفعونه لهم كانت عساكرهم مهتمة بالفتوحات المتواصلة بأراضي الرومللي لاشتغال الروم بالمنازعات الداخلية إذ ذاك ففتحت إبصاله ومعلقرة وما جاورهما بكل سهولة وبينما كان الأمير سليمان في القنص يوماً 761هـ جمح به جواده وصدمه بقوّة في بعض الأشجار فكان في ذلك حتفه ومات وهو في ريعان الشباب مأسوفاً عليه من جنوده الذين كانوا يحبونه جدّا لما اتصف به من حميد الخصال ودفن بالجامع الذي شيده بمدينة بولاير.

ولما بلغ هذا الخبر المؤلم والده السلطان أورخان الغازي حزن عليه حزناً مفرطاً ولم يمكث بعده إلا زمناً يسيراً وتوفي من كدره في السنة المذكورة ودفن بمدينة بروسه وخلف ولدين الأمير مراد والأمير سليمان.

وكان هذا السلطان كوالده محباً للعلماء والفضلاء شديد الاعتناء والميل إلى أصحاب الاستحقاق من الأمراء عظيم الشغف في عمارية واصلاح الممالك التي استولى عليها ولما كانت خزائن الدولة ملأى بالأموال التي اكتسبتها من الغنائم اهتم في تشييد المدارس والمساجد والقناطر والآبار وغير ذلك من أنواع المبرات وقد قوي رحمه الله بنيان الدولة التي شرع في تأسيسها السلطان عثمان وتمكن من تحويل أمتها التي كانت قبل ذلك تسكن الخيام وادخالها ضمن الممالك العظيمة.

yacine414
2011-03-18, 15:49
السلطان مراد الأول ابن السلطان أورخان 761-791هـ:

لما جلس هذا السلطان على كرسي الدولة اتبع خطة والده في الفتوحات ففتح سنة 672 هـ قلعة أنقرة المعرفة بقلعة السلسلة وفي تلك المدّة سير أهل البنادقة على العثمانيين عمارة مؤلفة من ستين سفينة افترقت فرقتين تقدّمت إحداهما إلى قلعة كليبولي والأخرى دخلت جون المعارض وأخرجت كل منهما 10000جندي والتحق بهذا العدد بعض الأهالي ثم تقدّم الجميع وهاجموا العثمانيين الموجودين في الرومللي فتلقاهم الجيش العثماني بجنان ثابت وحمل عليهم حملة منكرة لم يمكنهم بها الثبات أمامه فارتدوا على أعقابهم عند الصدمة الأولى طالبين النجاة تاركين بميدان القتال عدداً عظيماً من القتلى والجرحى وقدراً وافراً من الذخائر.

وبعيد ذلك وسع السلطان دائرة أوجاق الانكشارية وبذلك تقوّت عسكريته ولم يكن للعثمانيين في هذا الوقت سفن حربية بل كان لهم بعض زوارق يستعملونها بداخل بحر مرمرا فزاد السلطان عدد تلك الزوارق 673هـ 1361 م لتساعد على نقل الجيش ومهماته ولما تم له ما أراد منها عبر بجيش إلى الرومللي وفتح جملة بلاد وقلاع منها بيطور و جورلي ومسللي وبرغوس وبرغاز وديمتوقه ثم فتح مدينة أدرنة العظيمة في هذه السنة أيضاً وعين عليها لالا شاهين باشا محافظاً وأرسل أورنوس بك لغزو كوملجنة وما يجاورها من البلاد الكائنة بالجهات الجنوبية من الرومللي.

ثم أخذ هذان القائدان في الغزو والفتوحات ففتح لالا شاهين باشا 765 هـ فلبه وزغره وما جاورها من البلاد وفتح أورنوس بك سيروزو مناستر وبهشتنة وكوملجنة وموشتة ولما تم فتحها جعلها السلطان صنجقية 788هـ وعين عليها أورنوس بك المذكور واليابرتبة أمير الأمراء ووقعت قبل ذلك مدينة صوفية أيضاً في يد العثمانيين بعد أن حاصروها مدّة ثلاث سنوات 1381-1383 م وعقب ذلك فتح الصدر الأعظم خير الدين باشا مدينة سلانيك الشهيرة وفي سنة 788 هـ 1386م أخضع السلطان بلاد مقدونيا و البانيا ولما مات في تلك الأثناء الوزير خير الدين باشا وجه مسند الوزارة لولده علي باشا قاضي العسكر.

واقعة قصوة

وبينما كان السلطان يشتغل بهذه المسائل وغيرها من الأمور الداخلية عقد لازار ملك الصرب 790هـ 1389 م اتفاقية مع ملوك الأفلاق وأمراء دلماسيا وملك المجر وملك البلغار وتحزبوا جميعاً لمحاربة السلطان وطلبوا من البابا أوربانوس الخامس أن يحرض أوروبا النصرانية لمساعدتهم ثم تقابلت جيوشهم المتفقة في سنة ه م مع جيوش العثمانيين في سهول قوصوة (Cossova) وحصلت بين الطرفين معركة من أشهر معارك التاريخ انهزمت فيها جيوش المتحدين هزيمة كلية ومات في الواقعة لازار المذكور وكثير من أمراء وأعيان أوروبا، وبينما كان السلطان مراد يتجوّل بعد الواقعة مع حاشيته في ساحة الحرب قام من بين الموتى رجل بلغاري كان مستتراً وأظهر التضرع للسلطان وتقدّم نحوه كمن يريد تقبيل يده وفي أقل من لمح البصر أخرج خنجراً كان ستره بين ألبسته وطعن به السلطان مراد الأوّل في أحشائه فاستشهد لوقته وقبض الحاشية على ذلك الغدّار فقطعوه إرباً إرباً.

وقد كان هذا السلطان رحمه الله من أعظم الملوك همة وشجاعة محباً للفتوحات تمكن بمساعيه من مد حدود المملكة العثمانية إلى شواطئ نهر الطونة وجهات بوسنة ويقال إنه اشترى في سنة 783هـ من صاحب بلاد حميد خمس قلاع وهي بلواج ويكي شهر وآق شهر وقره أغاج وسيدي شهر.

السلطان يلديرم بايزيد الأول ابن السلطان مراد 791-805هـ:

بويع له في ميدان حرب قوصوة يوم موت أبيه 791هـ وكان عمره 30 سنة وكان على جانب عظيم من الشجاعة والإقدام ولهذا لقبوه بيلديرم أي الصاعقة فتتبع خطوات أبيه في الغزو والجهاد وبعد أن بايعه الجنود والوزراء عاد إلى بروسه ونقل معه جثة والده فدفنت هناك ثم أرسل قائده الشهير تيمور طاش باشا إلى حدود الصرب فاستولى على قره طوه وما حولها من البلاد وأدخل استفان ملك الصرب تحت طاعة الدولة وكان السلطان انتخبه ملكاً لبلاده بعد واقعة قوصوه المذكورة وترك له استقلاله بشرط دفع جزية معينة وتقديم عدد معلوم من الجنود وقت الحرب وطلب من السلطان على لسان قائده أن يتنازل بقبول أخته الأميرة مليجه لتكون زوجة للسلطان فقبل السلطان منه مطلبه وتزوّج بها وفي تلك التجريدة استولى القائد المذكور على يكيد وبوسنة ودخل فيروز بك مملكة الأفلاق غازياً ففتح وغنم ثم عاد إلى بروسه ظافراً غانماً.

وفي سنة 792هـ استولى السلطان بنفسه على قلعة آلاشهر بآسيا المسماة فيلاد لفيا لدى الفرنج وكانت آخر مدينة مهمة بقيت للقسطنطينية بآسيا ثم استولى على مملكة آيدين صلحاً وأحال إدارتها على الأمير أرطغرل ولما استولى على سنجق صاروخان ألحقه بمقاطعة الأمير سليمان وهي قره سي ثم أخضع جهات آمد شهر وآق سراي وأضافها إلى حكومته وبعد أن أخضع جميع البلاد المستقلة من جهات الأناضول زحف بجيش عظيم على نواحي الزومللي واستولى على مدينة سلانيك ثانية وكانت لملوك الروم ثم اتفقت البنادقة وفرانسا وجنوة وإسبانيا 796هـ وأرسلت أساطيلها لإخراج العثمانيين من سلانيك فقاومتهم الجيوش العثمانية وألزمتهم الرجوع عنها خاسرين.

ثم استولى العثمانيون على قلعة يكيشهر ولما عاد السلطان إلى بروسه بلغه أن الإمبراطور باليولوغوس اتفق مع ملوك المجر والصرب وفرنسا عليه وإنهم سيهاجمون بلاده قريباً ولهذا استعد سريعاً وعبر بحر مرمرا قاصداً أدرنة ثم تقدم بجيشه وحاصر القسطنطينية وركب عليها المنجنيقات وفي خلالها ساق ملك المجر جيشاً على صوفية وودين ونيكويولي فالتزم السلطان أن يرجع عن القسطنطينية ليقابل جيش المتحدين ولما التقى الجمعان هزمهم شر هزيمة وهرب ملك المجر في زورق بنهر الطونة وأخذ العثمانيون عدّة آلاف من الأسرى وغنموا غنائم وافرة ويقال إن قتلى جيش المتفقين بلغوا 80 ألفاً.

وفي سنة 798 هـ أرسل السلطان يلديرم بايزيد تحسين بك ابن تيمور طاش باشا إلى ضواحي الإستانة فاستولى على حصار شبلة وتقدّم داخل سنجق قوجه ايلي حتى وصل إلى مضيق البحر الأسود وهناك أنشأ قلعة أناضول حصار الشهيرة ولما خاف إمبراطور القسطنطينية من تقدّم السلطان بايزيد مع عدم مقدرة من يتصدى له من ملوك أوروبا الذين استجار بهم أرسل جملة هدايا يستجلب بها رضا السلطان متعهداً ليدفع جزية سنوية معينة وعجل بدفع جزية سنة ورضي بأن يسكن المسلمون القسطنطينية وأن يكون لهم بها مسجد وقاض يحكم في نوازلهم وكان ذلك على يد علي باشا الصدر الأعظم.

ولما علم ملك بخارى بما حازه العثمانيون من الانتصارات بعث يهنئ السلطان وأرسل له سيفاً مرصعاً نفيساً سنة 800هـ لما أوتيه من الفتوحات الباهرة إذ كانت العادة جارية إذ ذاك بأنه متى انتصر السلطان على أعدائه أخبر ملوك الإسلام المعلومين بتلك الانتصارات بمكاتيب يرسلها لهم ولقبه أيضاً الخليفة العباسي بمصر المتوكل بن المعتضد بلقب سلطان أقاليم الروم وفي تلك الأثناء غزا أطراف البلغار ومقدونيا وبحيثجزيرة مورة ومدينة أثينا وجهات ترحاله واستولى على معظم تلك الجهات.

ثم تفرغ بعد ذلك للاستعداد لحصار القسطنطينية مرة ثانية وبينما هو يهتم في ذلك إذ أغار تيمورلنك على المملكة العثمانية فاستعد السلطان لملاقاته وجمع جنوده وذهب فعسكر قريباً من مدينة أنقرة ولما استعد الطرفان للقتال ووقعت العين على العين انفصل جنود آيدين ومنتشا وصاروخان الذين بجيش العثمانيين وعددهم خمسون ألفاً وانضموا إلى تيمورلنك لوجود أمرائهم الأصليين الذين استولى العثمانيون على بلادهم معه وكانوا التجؤا إليه لما شاهدوه من بأسه فضعفت بذلك قوّة العثمانيين جداً وداخلهم الخوف ووقع الخلل في صفوفهم ولم يبق لهم إلا الانكشارية وعددهم عشرة آلاف وعساكر الرومللي.

ولما اشتعلت نيران الحرب انهزم العثمانيون هزيمة منكرة ووقع السلطان بايزيد مع ابنه أسيراً في يد تيمورلنك فلم يقتله وأكرم مثواه وفي رواية أنه أهانه وأبقاه بطرفه ثم انتشر التتار في داخل المملكة العثمانية يخربون وينهبون ما أرادوا وقد كانت هذه الهزيمة سبباً في تراكم الهموم على السلطان فأصابه مرض توفي به سنة 805 هـ .

وصرح تيمورلنك للأمير موسى جلبي ابنه بأن يدفن أباه في مقابر سلاطين العثمانيين فنقله إلى بروسة ودفنه بالجامع الذي شيده فيها وهذا دليل على احترام تيمورلنك للسلطان بايزيد وترك المرحوم المشار إليه من الأولاد سبعة وهم أرطغرل وموسى جلبي وسليمان وعيسى ومحمد ومصطفى وقاسم.

وكان السلطان بايزيد رحمه الله من خيار الملوك وبطلاً من أشجع الأبطال وكان عليّ الهمة قوي النفس وساد الأمن في أيامه حتى كان الرجل يصادف الحمل من البضاعة مطروحاً في الطريق فلا يتعرض له وكان شديد البطش محباً للفتوحات فتح عدّة مدن لم تصلها جيوش العثمانيين من قبله.

فاصلة السلطنة

وقائع الدولة بعد واقعة أنقرة 805-816 هـ:

قد كان تيمورلنك بعد غلبته على العثمانيين يقصد تمزيق دولتهم وتفريق جامعتهم وأن لا تقوم لهم بعد ذلك قائمة ولهذا ساعد أمراء بلاد الأناضول على استرجاع البلاد التي كانت لهم سابقاً وافتتحها العثمانيون ثم قامت المنازعات في السنة التي مات فيها بايزيد بين أولاده بخصوص الجلوس على كرسي السلطنة وانضم إلى كل شيعته فذهب سليمان إلى بروسه ووضع يده على بيت مالها ثم توجه إلى أدرنة وجلس على تخت السلطنة المضطربة الأركان بمساعدة الجنود ووقعت الفوضى في بر الأناضول ونازل أولاد السلطان فيها بعضهم بعضاً ووقع الأمير موسى في يدل المغول واختفى الأمير عيسى بمكان ببروسة ثم أعلن سلطنته بمساعدة الوزير تيمور طاش وذهب الأمير محمد إلى أماسيا منتظراً سنوح الفرصة وكان تغلب على عسكر المغول في بعض الوقائع واسترد منهم بعض المدن.

ثم إن الأمير سليمان التجأ إلى أمبراطور القسطنطينية أمانويل الثاني خوفاً من المغول واتفق معه على أن يمدّه بالجنود والأموال ليقبض على زمام السلطنة وتنازل له في مقابلة ذلك عن بعض جهات منها سالونيك وتزوج إحدى قريبات الإمبراطور ولما بلغ موسى جلبي انتصار السلطان محمد بالأناضول واشتباكه في الحروب مع التتار وغيرهم تقدم هو نحو بروسه يريد الجلوس على تختها ومما زاد الحالة ارتباكاً والأمور صعوبة أن أولاد السلطان بايزيد كانوا يستعينون بتيمورلنك على بعضهم فكان يحرضهم على مقاتلة بعضهم ليخربوا بيوتهم بأيديهم وبعد أن تمكن تيمورلنك من تمزيق شمل المملكة العثمانية ورد غالب الأمراء الذين انتزع منهم العثمانيون بلادهم إلى ممالكهم وأطاعته آسيا الصغرى بأكملها داخلة الطمع لحب الاستكثار من الدنيا فسار يقصد بلاد الصين الغنية ليخضعها لسلطنته إلا أن المنية لم تمهله إذ مات في سن متقدم بإحدى مدن إقليم خوقند 807هـ1404 م .

وبعد أن ترك تيمورلنك بلاد الأناضول استمرت المقاتلات بين من بقي من أولاد السلطان وقتل الأمير محمد أخاه الأمير عيسى بعد أن حاربه عدة مرات وبذلك خلصت جميع آسيا الصغرى للأمير محمد بلا منازع ثم تمكن بعد ذلك من استخلاص أخيه موسى وكان عند أمير كرميان سلمه إليه تيمورلنك قبل سفره وأوصاه بالمحافظة عليه ثم إن الأمير محمد جهز لأخيه عيسى جيشاً عظيماً وأرسله إلى أوروبا لمحاربة أخيه الأمير سليمن الذي كان استقل بها إلا أنه لم يتمكن من قهره بل عاد مهزوماً إلى آسيا ثم جمع جيشاً آخر ودعا به إلى أوروبا واقتتل مع أخيه سليمان خارج مدينة أدرنة وقتله 813هـ ثم أغار موسى على بلاد الصرب معاقباً لأهلها في خروجهم عن الطاعة وقهر ملك المجر سجسموند لأنه أراد صده عن الدخول إلى بلاد الصرب ثم إن الأمير موسى داخله الطمع والكبرياء لما أوتيه من النصر فعصى أخاه محمداً وأراد الاستقلال ببلاد الدولة التي بأوروبا وحاصر القسطنطينية يريد فتحها لنفسه فاستنجد ملكها بالأمير محمد فأتى إليه مسرعاً وقاتل أخاه حتى ألزمه برفع الحصار عنها ثم تحالف الأمير محمد وملك القسطنطينية وملك الصرب وأخذوا في نصب المكايد والحيل للأمير موسى حتى تفرق عنه جيشه وغالب قواده ثم قبض عليه أخوه وقتله 826 هـ وبذلك انفرد الأمير محمد بالسلطنة العثمانية بلا منازع.

السلطان محمد الأول الملقب بجلبي بن بايزيد الأول 816-824هـ:

لما استقل بالملك بعد النزاع الطويل الذي حدث بينه وبين إخوته وجلس على تخت آبائه بلا منازع أتته رسل ملوك أوروبا والروم مقدّمين له التهاني بالنيابة عن ملوكهم فرحب بهم وأكرمهم ثم شرع في إصلاح الأمور وكان الخلل تطرق إلى جميع الإدارات ولذلك عقد الصلح مع الدول الأوروبية المجاورة له وقوّى معهم روابط المحبة والمصافاة وردّ إلى الإمبراطور أمانويل بعض الحصون والولايات التي أخذها منه الأمير موسى وغير ذلك ليتفرغ إلى ما عزم عليه ولولا ذلك لخيف على وحدة الدولة العثمانية ولما كان سعيد الطالع عادلًا كريماً شفوقاً على الرعية لا يسعى إلا لما فيه خير أمته تكللت مساعيه بالنجاح وكذا كل أمر أخلصت فيه النية وهو أوّل من شرع في ترتيب العساكر البحرية وبناء السفن في أزميد وكليبولي وبعض السواحل ونقل كرسي السلطنة إلى أدرنة وإعادة رونق السلطنة بعد أن تداعت جوانبها إلى السقوط.

ولما خرج حاكم الأفلاق عن دائرة الطاعة العثمانية 819هـ تقدم السلطان بجيشه وعبر نهر الطونة وأنشأ قلعة يركوى على ساحل الأفلاق وعمر قلعتي إيساقجي ويكي ساله ثم توسط بعض حاشية السلطان لملك الأفلاق فعفا عنه ورده إلى ملكه ثم تقدم الجيش العثماني إلى داخل بلاد المجر لتعرض سجسموند لامور بلاد الأفلاق وفتح قلعة سورين ولما كان ملك المجر غير قادر على المقاومة قدم للسلطان هدية مفتخرة أرسلها مع ثلاثة سفراء من أعيان المجر وبعد عقد معاهدة الصلح معهم عاد السلطان إلى أدرنة منصوراً غانماً ثم سكن بعض الاضطرابات الداخلية وكانت كثيرة من أهمها ظهور رجل يدعى بدر الدين وكان من مشاهير العلماء وكان عند الأمير موسى بوظيفة قاضي عسكر.

وكانت أركان مذهب هذا الرجل المساواة بين الناس في الأموال وسائر المقتنيات بلا فرق بين مسلم وغيره لاعتباره الكل سواء فتبعه خلق كثير من أرباب البطالة والكسل من جميع الملل والنحل حتى خيف على البلاد منه فأرسل عليه السلطان محمد الجيوش وبعد أن دارت رحى الحرب زمناً بين الطرفين وكانت سجالاً تمكن الوزير بايزيد باشا من قهر جيش بدر الدين المذكور وكان تحت قيادة رجل من اتباعه يدعى مصطفى وذلك بضواحي أزمير بمكان يقال له قره برون وقتل كثيراً من أتباعه ثم إن السلطان تعقب بدر الدين إلى أن تمكن من القبض عليه ببلاد مقدونية بعد أن أظهر شدة ومقاومة وأمر به فقتل 820هـ بفتوى قاضي العسكر.

ولم يكد السلطان محمد يستريح من عناء هذه الفتن حتى ظهر أخوه الأمير مصطفى وكان اختفى يوم هزيمة أنقرة ولم يوقف له على خبر ولما ظهر وطالب أخاه بسرير الملك انضم إلى حزبه قره جنيد أمير أزمير السابق وغيره من القواد والجنود وأمده أمير بلاد الأفلاق بجيش لتستمر القلاقل والاضطرابات في المملكة العثمانية ويتمكن بذلك أميرا الأفلاق المذكور وغيره من أمراء شبه جزيرة البلقان من الخروج عن دائرة التبعية العثمانية ثم إن الأمير مصطفى أخذ يشن الغارة على بلاد مقدونيا وتساليا ولما أدركته جنود السلطان انهزم والتجأ إلى مدينة سلانيك وكانت عادت إلى مملكة الروم كما سبق ولما طلب السلطان تسليمه إليه أبى عليه ملك الروم وتعهد بعدم التصريح له بمفارقة سلانيك ما دام السلطان على قيد الحياة فقبل السلطان ذلك ورتب لأخيه راتباً سنوياً يعيش منه 822هـ .

وفاته:

ولقد كانت هذه الفتنة آخر الفتن الداخلية التي حدثت بالمملكة بعد تيمورلنك وبعد ذلك تفرغ السلطان لإصلاح المملكة وتنظيم الجنود والنظر فيما يعود على الدولة بالترقي وبينما هو يجد في ذلك إذ فاجاءته المنية بمدينة أدرنة 824هـ وأوصى بالملك من بعده لابنه مراد.

ولقد كان رحمه الله عالي الهمة فاضلاً تقياً ذا عفة وورع وشفقة على الرعية يعفو عن المسيء ويحسن إلى البائس وقد اشتهر بمحبته للعلوم والفنون وهو أوّل سلطان عثماني رتب الهدية السنوية التي ترسل للآن إلى الحرمين الشريفين باسم الصرة وقال بعضهم إن أول من أرسل الصرة هو السلطان الغازي سليم الأول بعد فتحه مصر 923هـ إلا أن رواية المؤرخين الذين يوثق بكلامهم تؤيد أن السلطان محمد جلبي هو أوّل من رتب ذلك وترك خمسة أولاد وهم الأمير مراد والأمير مصطفى والأمير أحمد والأمير يوسف والأمير محمود.

yacine414
2011-03-18, 15:51
السلطان مراد خان الثاني ابن السلطان محمد الأول824-855هـ

لما جلس هذا السلطان على كرسي السلطنة كان عمره ثمان عشرة سنة وبعد أيام من جلوسه أرسل له أمير بخارى سيفاً نفيساً فتقلده في بروسة ثم التفت إلى بلاده مهتماً بإصلاح شؤونها وكان محباً للغزو والفتوحات وتوسيع أطراف سلطنته إلا أنه كان له من أحوال مملكته ما يشغله عن مراده ولذلك سعى حتى أبرم صلحاً مع أمير القرمان وهدنة مع ملك المجار لمدة خمس سنوات وبينما هو يسعى في هذا الطريق السلمي إذ طلب منه أمانويل ملك القسطنطينية التعهد له بأن لا يحاربه مطلقاً وأن يعطيه اثنين من إخوته تأميناً على هذا العهد رهناً على قيامه بهذا الشرط وإلا أطلق سراح عمه مصطفى بن بايزيد من سلانيك وتركه يعيث في أنحاء السلطنة فلم يقبل السلطان مراد بدلك أصلاً ورد طلبه.

فأطلق عند ذلك أمانويل الأمير مصطفى وجهزه بما يلزم من الذخيرة والجنود وأعطاه عشر سفن حربية جعل على قيادتها أحد رجاله المدعو دمتريوس لاسكاريس فأتت هذه العمارة وحاصرت مدينة غليبولي وشددت عليها الحصار حتى سلمت بعد أيام إلا قلعتها ثم تركها الأمير مصطفى وحولها من الجنود من يضيق عليها الحصار ويمنع وصول المدد إليها وقصد مدينة أدرنة تخت السلطنة بأوروبا فلاقاه في الطريق الوزير بايزيد باشا وعند ذلك نادى الأمير مصطفى في جنود السلطان بأنه هو الأحق بالسلطنة واعداً من ساعده منهم بالمكافأة العظيمة فأثر كلامه في الجنود حتى أنهم قتلوا الوزير بايزيد باشا وانضم إليه بعضهم.

ثم تقدّم وتلاقى مع ابن أخيه السلطان مراد فرحاً ظاناً أن الدهر ساعده على مطلوبه إلا أن الجنود لم تطاوعه هذه المرة بل حملت عليه حملة منكرة فبددت شمل جيشه وتخلص هو ناجياً إلى مدينة غليبولي فقبض عليه هناك وسلم إلى السلطان مراد الذي أمر بشنقه ولما كان امبراطور القسطنطينية هو السبب في هذه المشاكل والمذابح عزم السلطان على معاقبته فاستعد لحصار مدينته وجرد عليه جيشاً يبلغ مائتي ألف مقاتل ثم تقدم وحاصر هو المدينة بنفسه سنة 825هـ 1422م حصاراً شديداً وهذا هو الحصار الرابع للعثمانيين إلا أنها لما كانت حصينة امتنعت عليه ولم يتمكن من التفرغ لها لأن الثورات كانت قامت بجهات الأناضول بتحريضات أخيه الأمير مصطفى جلبي الذي شق عليه عصا الطاعة وقد تمكن السلطان من قهره وقتله.

وكان الأمير مصطفى هذا استعان على أخيه السلطان مراد ببعض أمراء آسيا الذين كان تيمورلنك ردّ إليهم أملاكهم التي انتزعها العثمانيون منهم ولما كانت مساعدتهم لأخيه الثائر عليه منافية لحق الجوار أغار السلطان على بلادهم وانتزعها منهم وأضافها ثانية إلى مملكته وكان منهم أمير قسطموني وأمير صاروخان ومنتشا وأمير بلاد القرمان ولما استراح السلطان من شرورهم أمكنه التفرغ للنظر في الفتوحات الخارجية التي كان يستعدلها من زمن فجرد على ملك المجر أشد معانديه وبعد أن قهره ونكل به ألزمه بالتوقيع على معاهدة تقضي بأن يكون نهر الدانوب فاصلاً طبيعياً للأملاك العثمانية عن أملاك المجر وقبل أيضاً ملك الصرب جورج برانكوفيتش دفع جزية سنوية قدرها 5000من الذهب وأن يمد السلطان بفرقة من جنوده في زمن الحرب وأن يقطع كل صلة بينه وبين ملك المجر وأن يتنازل أيضاً عن مدينة الآجه حصار (كروشيفتس) الكائنة في وسط بلاد الصرب ليجعلها السلطان حصناً تقيم به جنوده.

ثم إنه جرد على مدينة سلانيك قصد افتتاحها ولما توفي امبراطور القسطنطينية أمانويل 1425م وخلفه يوحنا باليولوغوس واعترف السلطان مراد رسمياً بجلوسه على تخت القسطنطينية فرض عليه جزية معلومة يدفعها لخزينته في كل سنة وشرط عليه أن يتنازل له عن جميع البلاد خلا القسطنطينية وضواحيها وقد التزم الإمبراطور الجديد بهذا الاقتراح وبذلك استولى السلطان مراد على جميع القلاع والحصون الباقية تحت تصرف الروم على شواطئ البحر الأسود وسواحل الرومللي.

استرداد سلانيك 832 هـ:

لما كان السلطان مراد استرد كل المدائن والبلاد التي كانت للعثمانيين مدّة السلطان بايزيد بل زاد عليها وكانت مدينة سلانيك من المدن التي وقعت في قبضتهم واستولى عليها الروم ثانية أراد إخضاعها أيضاً فجرد عليها يريد حصارها وكان المتولي على هذه المدينة وما يتبعها اندرونيك ثالث أولاد القيصر المتوفى وكان أهلها لما رأوا أنهم لا يقوون على صد مهاجمة العثمانيين عنها سلموها بالرغم عنه للبنادقة 1425م لما عهدوه فيهم من المهارة بأساليب الحروب وفنون القتال.

ولما تسلط البنادقة على سلانيك أظهروا لأهلها في أول الأمر العدل ورقة الجانب وأطلقوا لهم الحرية في أن يحكموا أنفسهم حسب قوانينهم إلا أن ذلك لم يدم زمناً طويلاً لأنهم أخذوا يوجدون أسباباً متنوعة لإذلالهم ونفوا منهم خلقاً كثيراً وشردوهم في جزائر الأرخبيل التي كانت يومئذ في حوزتهم ولو أمهلهم السلطان مراد لكانوا بدلوا جميع سكان سلانيك بغيرهم.

ولما كان هذا السلطان العظيم لا ينظر بعين الرضا إلى استيلاء البنادقة على هذه المدينة المهمة لأنهم من ألد أعدائه مظهراً رغبته في افتتاحها نهائياً اجتهد البنادقة في إحباط مسعاه واستغاثوا بالقيصر يوحنا ليتوسط بينهم وبينه فأرسل يوحنا إلى السلطان مراد سفيراً يذكره بأن هذه المدينة التي عزم على افتتاحها ليست من مدن الأعداء بل هي من المدن التابعة للقسطنطينية فقال السلطان لو كانت هذه المدينة باقية بيد اندرونيك أخي يوحنا لما كان قصدها بالشر.

ولما أخفق سعي القيصر وعلم البنادقة إصرار السلطان على قصده حصنوا تلك المدينة تحصيناً قوياً وأرسلوا عمارتهم لإحراق السفن العثمانية الراسية في مينا غليبولي قصد عرقلة مساعي السلطان فيما يقصد وكانت تلك العمارة تحت قيادة اندراوس موكينكو أميرال خليج البنادقة وبعد أن هاجم العمارة العثمانية في خليج غليبولي ولم يقو على نيرانها ارتد مقهوراً ولقد كانت هذه النصرة البحرية من الأسباب التي أعانت العثمانيين على فتح سلانيك ثم شدد العثمانيون الحصار على المدينة ففتحوها عنوة وهربت منها حامية البنادقة إلى سفنهم 1429م 832هـ .

ولما وقعت سلانيك في أيدي العثمانيين تزعزعت أركان سلطنة الروم وانخلعت لها قلوب أهل القسطنطينية وصاروا من ذلك الوقت يتوقعون أن يصيب مدينتهم ما أصاب تلك المدينة العظيمة وبعد أن ملكوا سلانيك أخذوا في مد سطوتهم في تلك الأطراف فاستولوا على اخائية وابيرة ويانية وغيرها وكانت الدائرة فيها طوراً على الروم وطوراً على العثمانيين إلا أنهم كلما أرادوا الدخول إلى بلاد البانيا صدهم أهلها فرجعوا منتظرين الوقت المناسب.

محاربة الصرب والمجر وواقعة وارنة الشهيرة:

إنه بعد أن نكل السلطان بابن قرمان رأى من الضرورة تأديب ملك المجر وجورج برانكو تش أمير الصرب لاتفاقهما على الإضرار بالعثمانيين.

ولما سار الجيش العثماني وعبر نهر الطونة دخل بلاد المجر وعاث فيها حتى بلغ بلاد طمشوار وهرمانشتاد وذهبت فرقة منه إلى بلاد الصرب فاستولت على مدينة سمندرة عاصمة تلك البلاد ثم شرع الجيش العثماني في حصار مدينة بلغراد إلا أنه لم يتمكن من فتحها وبعد ذلك طلب أمير الصرب أن يزوّج ابنته للسلطان ويعقد معه صلحاً فقبل السلطان منه ذلك إلا أنه لما علم أن أعماله كانت ولا تزال مجلبة عليه غضب السلطان فر ملتجئاً إلى ملك المجر لادسلاس ولهذا رأى السلطان من الضرورة سوق الجيش مرة ثانية على بلاد المجر.

ولما دخلها الجيش العثماني أخذ في شن الغارة عليها حتى بلغ مدينة هرمانشتاد وشرع في محاصرتها وفي هذه الأثناء كان ظهورجان هونياد المشهور أمير الأردل وفي خلال ذلك نهض البابا أوجيلينيوس وشرع في عقد تحالف بين دول الفرنج وعصبهم على محاربة العثمانيين فتصدى لادلاس ملك المجر وبولونيا وتقدم بعساكر تحت قيادة جان هونيار القائد المجري الشهير بعدما انضم إلى جيشه جمهور من الفرنساويين والجرمانيين وقصدوا جيوشفي جوار هرمانشتاد سنة 845هـ .

وكان حاكم بلاد ترانسل فانيا التي منها مدينة هرمانشتاد المذكورة تابعاً الملك المجر وكان على هذا الإقليم جان هونياد المذكور الذي أتى مسرعاً للدفاع عن هذه المدينة فانتصر على العثمانيين وقتل منهم قدراً عظيماً حتى ألزم من بقي منهم إلى القهقرى.

ولما علم السلطان بذلك أرسل جيشاً آخر تحت قيادة شاهين باشا فأصابه ما أصاب الأوّل من هونياد وجنوده ووقع شاهين باشا أسيراً في موقعة قرب بلدة يقال لها وازاج 845هـ .

وكان السلطان في خلالها مشتغلاً بمحاربة إبراهيم أمير بلاد قرمان وبعد أن قهره السلطان كان المجريون تقدموا واتفقوا مع الصربيين على محاربة العثمانيين ولما تلاقوا معهم جهة بلغراد صدتهم العساكر العثمانية فانقلبوا على أعقابهم وكانت هذه الفعلة خدعة منهم لأنه بينما كانت جيوشهم آخذة في التقهقر والعثمانيون في تعقبهم إذ بهم ارتدوا على العثمانيين بينما كانوا يسيرون خلفهم في مضيق نيش وأحاطوا بهم من كل جهة في المضيق المذكور وحصلت بين الطرفين واقعة دموية انجلت عن انتصار هونياد وهزيمة العثمانيين هزيمة شنعاء وقتل منهم عدد وافر بين أمراء وجنود وأسر منهم كذلك 846هـ ومال زال فلهم يفر حتى وصل إلى أدرنة.

ثم توسط جورج برنكو فتش ملك الصرب في الصلح فقبله السلطان واشترط فيه بقاء الصرب وبوسنة يدفعان خراجاً للدولة العلية واستقلال الأفلاق عن السلطنة العثمانية تماماً وأن ترد قلعة سمندرة إلى الصرب وإخلاء سبيل بعض أسرى من الجانبين وغير ذلك وتقرر أن تكون الهدنة لمدة عشر سنوات ولما انتهى الأمر على ما تقدّم بعد هذه الحروب والمخاصمات وسكنت الفتن والقلاقل توفي الأمير علاء الدين وكان والده يحبه كثيراً فساورته الهموم حتى إنه عزم على تمضية بقية حياته في راحة معتزلاً عناء الملك فتنازل عن كرسي السلطنة إلى ولده محمد الثاني الملقب بالفاتح ثم ضم إليه بعض خواصه وقصد مدينة مغنيسيا متفرغاً للعبادة.

ولما علم بذلك لادسلاس ملك المجر ظن أن الجو خلا له لنوال مقاصده فتقدّم بجيش عطيم ولم يراعِ الهدنة التي عقدت بينه وبين السلطان وأغار على أملاك السلطنة وكان ذلك بتحريضات البابا ولما رأى السلطان مراد هذه الأحوال خاف من عواقب الأمور فاضطرأن يعود إلى الملك ثانياً وأمر بسرعة التجهيزات الحربية ولما قصد العبور من جهة كليبولي وجد أن سفن الأعداء سدت ذلك المعبر فالتزم العبور من مضيق البحر الأسود وكان بصحبته خليل باشا الوزير الأعظم وشهاب الدين باشا ولما وصل إلى أدرنة ووجد الجيش الهمايوني على قدم الاستعداد تقدم وتلاقى مع جيش المجر المشكل من 80 ألف مقاتل وكان لادسلاس من قبل ذلك دخل بلاد البلغار وبغدان وهرسك وبوسنة واتفق مع أمرائها على أن يكونوا يداً واحدة وكانت ملاقاة الجيشين أمام مدينة وارنة على سواحل البحر الأسود 1444م 28رجب 848 هـ .

ولما اشتعلت بينهما نيران القتال وحمى وطيسها تقدّم لادسلاس ملك بولونيا والمجر ومعه فرقة منتخبة من جنده واقتحم الميدان قاصداً الهجوم بنفسه على السلطان مراد الذي كان واقفاً على تل مرتفع يعطي الأوامر لجيشه وعند ذلك أطبقت الجيوش العثمانية على لادسلاس وقتلوه وبموته انهزمت جيوش المجر ومحالفيهم وتفرق شملهم وأخذتهم سيوف العثمانيين في كل مكان وصار هونياد قائدهم يجمع شتيت العساكر ويحرضهم على الرجوع والثبات فلم ينجح لأن الرعب كان قد استولى عليهم وقتل من جيش الأعداء في ذلك اليوم ما يزيد عن عشرة آلاف نفر واغتنمت الجيوش العثمانية في هذه الواقعة غنائم لا تحصى ثم عادت إلى أدرنة غانمة ظافرة وكان من بين القتلى القونت سيزار يني رسول البابا.

ثم إن السلطان بعد أن رد كيد أعدائه في نحورهم ومهد أمور المملكة تنازل عن الملك ثانية إلى ابنه السلطان محمد الثاني وعاد إلى عزلته كالأوّل ولكن لم ترض الانكشارية بذلك وتذمروا واضطربوا فاضطر أن يعود إلى السلطنة ولما كسر شوكتهم خاف من قيامهم مرة أخرى فأراد إشغالهم بالحرب ولذلك تقدّم وأغار على بلاد اليونان وساعده على مقصوده هذا أن أمانويل ملك القسطنطينية كان قسم مملكته في حال حياته بين أولاده بأن أعطى مدينة القسطنطينية وما حولها من البلاد القريبة إلى ابنه حنا وبلاد مورا وقسماً من تساليا لابنه قسطنطين وهو آخر ملوك الروم.

ولما علم قسطنطين بعزم السلطان مراد على فتح بلاده ابتنى ببرزخ كورنثة حصوناً ومعاقل جعلته لا يرام ومع ذلك فإن هذه القلاع لم تغن شيئاً أمام عساكر العثمانيين الأبطال لأنهم سلطوا مدافعهم على أسوار تلك الحصون حتى أحدثوا بها ثلمة ودخلوا منها قاصدين مدينة كورنثة ففتحوها وقد كان في نية السلطان الاستمرار على فتح هذه البلاد لولا ظهور اسكندر بك الشهير وإثارته القلاقل بالبانيا فاكتفى بضرب الجزية عليها.

yacine414
2011-03-18, 15:52
واقعة قوصوة الثانية

وبينما كان السلطان يشتغل بمحاربة اسكندر بك المذكور قام جان هونياد وكيل ملك المجر وجمع في دائرة اتفاقه عدة أمراء من أوروبا وهاجمت جنوده الرومللي تحت قيادته فعاد السلطان إلى صوفية وجمع الجنود العثمانية فيها ثم تقدم والتقى مع جيوش هونياد في وادي قوْصَوة 852هـ حيث انتصر السلطان مراد الأول قبل ذلك بستين سنة وحصلت بينهما حروب شديدة امتدت ثلاثة أيام قتل فيها من الطرفين ما يقرب من 60 ألف مقاتل ثم انهزم هونياد وفر من ميدان القتال بعدما لحقه من الخسائر ما لا يحصى ثم عاد السلطان إلى أدرنة واهتم ببناء جامعه الشهير فيها وفي سنة 853هـ عقد السلطان لابنه محمد على ابنه اسكندر بك وبعد عودة السلطان من هذه المحاربة إلى أدرنة زوّج ابنة أمير بلاد ذي القدرية إلى ولده السلطان محمد سنة853هـ .

وفاته:

ثم اعتراه مرض بعد ذلك بسنتين مكث به اثنى عشر يوماً ثم ارتحل إلى الدار الآخرة 855 هـ فكتم أمراء الدولة خبر موته مدّة اثنى عشر يوماً حتى حضر ابنه السلطان محمد ثم نقل نعشه ودفن في مدينة بروسة في تربته المخصوصة.

وكان رحمه الله ملكاً جليلاً صالحاً يعتني بالعلم والعلماء والصلحاء مقداماً فاتكاً شجاعاً كريماً واسع العطايا عين للحرمين الشريفين من خاصة صدقاته في كل عام 3500 دنيار وهو وإن لم يصل إلى ما وصل إليه أسلافه من الفتوحات إلا أنه جدير بأن يشترك مع والده في لقب الباني الثاني للدولة العثمانية وذلك لأن هذين السلطانين توصلا بمساعيهما العظيمة لجبر وملافاة الخسائر والتخريبات التي أحدثها تيمورلنك ولما عزم على الاستراحة من عناء الملك وتفرغ للعبادة ورأى ما كاد يصل إلى جسم الدولة من الأذى استلم زمام السلطنة بيده القوية فكبح أعداءه وسارت جيوشه منصورة حتى بلغت جهات مورة واشقودرة.

السلطان الفاتح محمد خان الثاني 855-886هـ

جلس هذا السلطان الشهير والبطل الكبير وهو السابع من سلالة ملوك آل عثمان على سرير السلطنة بعد وفاة أبيه وكان سنة إذ ذاك 22 سنة وعقب جلوسه قام عليه كثير من أمراء بلاد الأناضول الذين كان فتح العثمانيون بلادهم بدعوى استرداد تلك البلاد فتمكن في آخر الأمر من إدخالهم جميعاً تحت لواء الطاعة ولما استلم زمام السلطنة كانت جميع بلاد آسيا الصغرى خاضعة للسلطنة العثمانية ما عدا بلاد ابن كرمان ومدينة سينوب ودولة طرابزون.

أما بأوروبا فكانت دولة القسطنطينية لا تزال على استقلالها وبلاد بيلوبونيز (موره) منقسمة بين عدّة أمراء من اليونان واللاطينيين وبلاد البانيا خاضعة لاسكندر بك وبوسنة مستقلة تمام الاستقلال وبلاد الصرب تدفع جزية للعثمانيين وما عدا ذلك من الجهات فكان في قبضة العثمانيين.

فتح القسطنطينية :

كان ملوك القسطنطينية يجتهدون على الدوام في بث الدسائس ونفخ روح العصيان في جسم مملكة العثمانيين منذ عظم أمرهم وضخم ملكهم ليأمنوا على ما بأيديهم من بقايا الدولة اليونانية العظيمة وكان الإمبراطور قسطنطين من يوم تبوئه عرش المملكة وهو عامل على طريقة أسلافه من إحداث الثورات وتنشيط عوامل الاضطرابات الداخلية بالمملكة العثمانية فانتهز السلطان المشار إليه ذلك فرصة لاتمام مقصوده ونيل مرغوبه من فتح القسطنطينية سيما وأن أحوال تلك المدينة الداخلية كانت مختلة بسبب التعصبات المذهبية والقلاقل الدينية.

وبعد أن صمم السلطان على إنقاذ غرضه واحتاط لأمره وأعد جيوشه خرج من أدرنة عاصمة بلاده بعد أن وطد الأمن في أنحاء المملكة وأدخل تحت لواء طاعته من ثار عليه من الأمراء المار ذكرهم على رأس جيش كثيف يبلغ مائتي ألف جندي ومعه أسطول مؤلف من ثلاثمائة غراب حربي وكثير من سفن النقل وكان أمر بتجهيزها بمدينة كليبولي قبل خروجه وكانت هذه الأساطيل تحت قيادة بلطه أوغلى سليمان بك المعتبر لدى الملاحين أوّل قبودان للأساطيل العثمانية ومعه أيضاً كثير من آلات الحصار وأدوات الحرب والنزال وحاصر مدينة القسطنطينية براً وبحراً.

ولما شرع السلطان في تهيئة الأسباب لفتح القسطنطينية وأخذ في بناء الحصون على ساحل البحر الأسود أرسل إمبراطور القسطنطينية قسطنطين باليولوغ يتضرع إليه ويسأله العدول عن مشروعه هذا وفي مقابلة ذلك يتعهد بدفع الجزية التي كان يدفعها سلفه فلم يقبل السلطان ذلك من رسله ونقل بعض المؤرخين أنه أرسل للسلطان ثانية رسولاً يقول له أن بناء هذه الحصون والقلاع ما وراءها إلا القتال وتجريد جيوش الشر والحرب فإن لم تحملك المواثيق على عقد الصلح بيننا فذاك إليك وقد فوضت أمري إلى الله تعالى فإن هداك وعطف قلبك كان ذلك غاية المراد وإن كان قدر لك بفتح القسطنطينية فلا مرد لقضائه ولا مانع لحكمه وإلا فلا أزال أدافع عنها إلى آخر رمق من حياتي.

وقد بذل هذا السلطان في أمر حصار القسطنطينية من السعي والإقدام ما جعله يعد من أعظم الفاتحين ولم يترك أية وسيلة ممكنة لنجاح مرغوبه ونيل مطلوبه فصنع من خوارق العادات ما لم يسمع بمثله.

منها أنه سبك مدفعاً جسيماً من البرونز قطره اثنا عشر شبراً يقذف كرة من الحجر يبلغ وزنها اثنى عشر قنطار لمسافة ميل وكان خدامه يبلغون سبعمائة شخص ويحتاج حشوه لساعة من الزمان ولما أرادوا نقله من مدينة أدرنة حيث صبوه لوضعه على حصار القسطنطينية خصصوا له خمسمائة زوج من الثيران القوية وثلاثة آلاف جندي.

ومنها وهو أغربها تسيير السفن الحربية على اليبس مسافة فرسخ من عند المكان المسمى الآن طولمة باقجه إلى المكان المدعو قاسم باشا وكيفية ذلك أنه أمر بناء على إشارة المهندسين بتغطية الأرض التي يراد سحب السفن عليها بألواح الصنوبر المدهون بالشحم حتى صارت كالمزلقان ثم سحبوها عليها وكانت عبارة عن ثمانين غراباً وسبعين سفينة خفيفة بقوة الأيدي والآلات المستعملة إذ ذاك لأنه رأى تعذر إدخال السفن إلى مينا المدينة لأنها كانت مقفلة بأضخم السلاسل الحديدية ومحصنة بأقوى الآلات الدفاعية وأجودها فتمت جميع هذه الأعمال في ليلة واحدة فقط وعند الصباح اندهش المحصورون تمام الاندهاش حينما شاهدوا أسطولاً حربياً تام المعدات انحدر من الشاطئ إلى ميناهم ثم أنشأ العثمانيون في نفس ذلك اليوم جسراً عظيماً من السفن المذكورة ونصبوا عليه إحدى بطارياتهم الأربعة عشر كل ذلك على مرأى من المحصورين.

ونقل هامير المؤرخ أن السفن أثناء سحبها كانت ناشرة شراعاتها وربابينها على مقدّمتها وكانت الأبواق تضرب والطبول تعزف ولما طلع الفجر شاهد المحصورون أزيد من سبعين سفينة حربية راسية بميناهم .

ولما علم الإمبراطور ضعف عساكره أمام عسكر العثمانيين المنتظمة المدربة على القتال العارفة بأساليبه أرسل يستغيث بأوروبا النصرانية فأعارته أُذناً صماء وأرسل البابا إليه رسولاً يحرضه على مداومة القتال وشد العزيمة ويعده بأنه سينادي بالحرب المقدسة بين أمم النصارى ومع ذلك فإنه لم يكن بأوروبا إذ ذاك من ملوك النصارى من له قدرة على مساعدة القسطنطينية ومقاومة جيوش العثمانيين القوية غير أميرين وهما هونياد أمير تراسل فانيا إلا أنه لم يكن في مقدرته غير حفظ نفسه والآخر هو اسكندر بك الشهير الذي كان يهتم في حفظ مركزه بجبال بلاد ايبير كما كان يفعل الدون بيلاج بجبال استورى حين إغارة المسلمين على بلاد إسبانيا ولما كان لمدينة جنوة منافع تجارية ومواصلات مستمرة مع القسطنطينية ولها عدة مخازن تجارية بجهة غلطة أرسلت إلى الإمبراطور دوننمه مؤلفة من خمس سفن حربية تحت إمرة رجل شجاع يدعى جوستنياني ومعه ستة آلاف جندي فتمكن هذا القائد بمهارته من إنزال جيشه إلى البر على مرأى من العثمانيين وعند ذلك انتعشت قلوب المحصورين وقويت نفوسهم واجتهد ذلك القائد الجنويزي مراراً في إحراق السفن العثمانية فلم ينجح أصلاً لتيقظ جنودها حتى إنه أتى ذات ليلة تحت دجى الظلام لهذا القصد فوجد جند العثمانيين متيقظاً فلمحوه ولما همَّ بالرجوع أطلقوا عليه نيراناً قوية فأغرقوا سفينته وكان بها أزيد من مائتي شاب من متطوّعة الطليانيين ومن أولاد أشرافهم ولم ينج ذلك القائد بنفسه إلا بعد جهد جهيد وعناء شديد.

ولما تيقن العثمانيون من نجاح مشروعهم وأنهم سيستولون على المدينة لا محالة أرسل السلطان قبل الهجوم العام بيوم واحد رسولاً إلى الإمبراطور يخبره بأنه إن سلم المدينة من غير قتال فإن السلطان يمنح جميع الرعايا الحرية التامّة ولا يتعرض لهم في شيء أصلاً ويهب الإمبراطور بلاد مورة في مقابلة ذلك فلم يقبل من الرسول قولاً وردّه بعد أن وبخّه ومما قال له: إن السلاطين الذين أنوا قبل محمد هذا سعوا في افتتاح القسطنطينية فلم يقدروا مع ما بذلوه من القوّة والسعي فالأصلح للسلطان أن يرجع بعساكره وهو يتعهد بدفع الجزية كالأول ولما شكل الإمبراطور مجلسه الخاص وعرضه عليه ما قاله رسول السلطان أطرقت الأعضاء برؤوسهم ولم يعارض واحد منهم دلالة على القبول ما عدا رسول البابا ومندوب إسبانيا وغيرهما فإنهما أشارا على الإمبراطور بمداومة القتال وانتظار أمداد أوروبا.

لما شرع السلطان في الهجوم العام رتب عساكره وقسمهم إلى فرق تحت قيادة أمهر ضباطه ونادى مناديه في المعسكر بأن أوّل من يتسلق سور المدينة من العسكر يوليه السلطان ولاية من أغنى الولايات وينعم عليه بالعطايا الوافرة والإنعامات الجزيلة وأخذ هو يجول بين الصفوف على ظهر جواد يحرض الجند ويستحثهم وأمر فسار المتطوّعون أمام العسكر وبيد بعضهم أحجار وبيد البعض الآخر أخشاب أو أكياس ملئت بالطين والرمل ليلقوها بالخندق لتكون كالجسر يعبرون عليه لامتلاك المدينة.

ولما صدر لهم الأمر بالسير اندفعوا كالسيل المنهمر وانقضوا كالأسود وصاروا يلقون ما بأيديهم بالخنادق فأنصبت عليهم من أعلى السور نيران الأعداء وقتلت منهم كثيراً وأظلم الجو من دخان المدافع وحجبت الشمس حتى صار النهار ليلاً وقابلتهم سهام الهاجمين كل ذلك والجيوش المنتظمة لم تبد أقل حركة مدة ساعتين حتى تعب عسكر الإمبراطور وضعفت نيرانهم فعند ذلك تحركت تلك الفرق وزحفت على الأسوار بقلوب لا تخاف الموت وأمامهم أبراج من الخشب على عجل يجرها الجند مكسوة من الخارج بجلود يبلونها بالماء على الدوام لتمنع تأثير النيران التييقذفها المحاصرون وبداخلها عدد من أبطال الجند معهم آلات الدفاع.

وشرع النقابون من أهالي توقات في نقب الأسوار ورميت سلالم التسلق على الأبراج واشتبك القتال وقويت نيران الأعداء بعد ضعفها وفتحت مدافع العثمانيين أفواهها الشبيهة بالبراكين حين ثورانها وقذفت عليهم مقذوفاتها الهائلة وصار الإمبراطور يطوف بنفسه على العسكر ليبعث فيهم روح القوّة الخامدة ثم اقترب العثمانيون من الأسوار جدّاً وضربت مدافعهم أغلب الحصون والأبراج وعبروا الخندق على الجثث الملقاة به ودخلوا المدينة فاستولوا عليها عنوة.

ويقال إن الإمبراطور قتل أثناء مقاومته الهاجمين خلف الباب ويقال إنه أصابه سهم وهو فوق السور يحرض عسكره فخر قتيلاً وسمعه أحد عسكره المنهزمين يتضرع إليه بأن يحتز رأسه لكي لا تعلم جثته بين القتلى فيمثل بها المتغلبون.

وكانت القسطنطينية في غاية المنعة متينة الأسوار والحصون والأبراج وقد حوصرت تسعاً وعشرين مرة وكانت هي المنصورة وكان بها من السكان إذ ذاك أزيد من 300 ألف نسمة.

ولما استولى السلطان المشار إليه على تلك المدينة الجسيمة وامتلكها بحق الافتتاح أبقى للنصارى عدّة كنائس خصوصاً الكنائس الموجودة بالقسم المنخفض من المدينة فإنها لم تُمس أصلاً ووجد الفاتحون بالمدينة من الأموال والنفائس والأمتعة الثمينة شيئاً كثيراً جداً خصوصا ما كان للقياصرة بقصورهم.

ومما يدل على مكارم أخلاق هذا السلطان أنه أبقى للنصارى خلاف ما أبقاه لهم من الكنائس والصوامع كنيسة وحارة بتمامها مراعاة لمهندس معماري يدعى كريستبول كان استعمله السلطان محمد في بناء بعض المباني وأعطاه تلك الحارة بتمامها لتكون ملكاً له ولذريته من بعده.

قال فولتير بعد روايته هذه الحادثة: ليست هذه الحادثة من الحوادث التي تستحق الذكر في التاريخ أي أن مهندساً كان يمتلك حارة بتمامها بل القصد أن نبين أن الأتراك لم يعاملوا النصارى بقسوة كما نعتقده نحن ولا تجيز أمة من أمم النصارى أن يكون للمسلمين مسجد ببلادها أصلاً بخلاف الأتراك فإنهم يسمحون لليونان المقهورين بأن تكون لهم كنائس وكثير من هذه بجزائر الأرخبيل تحت مراقبة أحكامهم .

وكان استيلاء العثمانيين على هذه المدينة العظيمة في يوم الثلاثاء عشرى شهر جمادى الآخر سنة 857هـ 29ماية 1453م بعد حصار دام ثلاثة وخمسين يوماً حسب رواية غالب المؤرخين، وقد أرخ بعضهم سنة افتتاحها بقوله: بلدة طيبة ولما دخلوا المدينة بحثوا عن جثة الأمبراطور بين القتلى ولما وجدوها حسب دلالة من يعرفه دفنوها بما يليق بها من التعظيم في مقابر الملوك وافتدى السلطان كثيراً من أمراء اليونان ممن كان وقع في يد العسكر أسيراً.

وقد أوقع هذا الظفر جميع أوروبا في الحيرة والاندهاش فهاجت ملوكها وماجت وأظهر السلطان مزيد التفاتة لراحة الرعايا وأمر للنازحين منهم بالعودة إلى أوطانهم وبحريتهم في معتقداتهم وأصولهم الدينية وبحسن تدبيره جعل شعلة هذا الهيجان تخمد نوعاً.

قال بعض المؤرخين: لما سقطت القسطنطينية في يد الفاتحين وقع الرعب في قلوب جميع سكان ممالك اليونان حتى كأنهم أصيبوا بمصيبة عظيمة فهاجت سكان مورة والجزائر المجاورة لها وتركوا مواطنهم هائمين على وجودهم لا يدرون أي جهة يقصدون.

ثم أمر السلطان بانتخاب بطريق لليونان حسب عادتهم فانتخب جورج جيناد يوس وألبسه التاج بيده وسلمه عصا البطارقة وقال له إذ ذاك: كن بطريرقاً لأمتك وليحفظك المولى ويجب عليك في جميع الأحوال أن تتأكد من محبتي وخلوص طويتي إليك وتتمتع بالمزايا التي كان يتمتع بها أسلافك من قبل ولما أمن اليونان على أنفسهم وأموالهم وحرية عبادتهم أصدر السلطان المشار إليه فرمانا يصرح لهم فيه بحكم أنفسهم بأنفسهم فشكلوا طائفة منفصلة تمام الانفصال عن الأمة الفاتحة وكان بطريرقهم جائزاً لرتبة وزير ودرجة شرف بين ضباط الانكشارية.

وبعد أن أتّم السلطان تنظيم أحوال هذه المدينة العظيمة وإصلاح ما تخرب من حصونها سافر في سنة 858هـ بالجيوش الكثيرة العَدَد والعُدَد لفتح بلاد جديدة فغزا مقاطعة بوسنة واستولى على أكثر بلادها وأضافها إلى أملاكه ثم قصد بلاد موره فأسرع أميراها هادمتر يوس وتوماس قسطنطين وطلبا من السلطان أن يقبل منهما دفع جزية سنوية قدرها 1200من الذهب فقبل منها وكان أرسل قبل ذلك أسطولاً تحت قيادة الرئيس خاص يونس ففتح قلعة أينوز وجزيرتي سمايرك وطاشيوز،وكانتا للبنادقة.

ولما عاد السلطان إلى أدرنه قتل وزيره جندره سي قرة خليل باشا بتهمة أخذ الرشوة من إمبراطور القسطنطينية وقت الفتح وقد كان الوزير المذكور يجتهد ويبذل المساعي في تحويل فكر السلطان وصرف عزمه عن فتح القسطنطينية وقد كان قبل ذلك أيضاً اجتهد في تثبيط همة السلطان بايزيد عندما أراد مقابلة جيش المتفقين في الواقعة الشهيرة التي انتصر فيها بورنة وقد عزل السلطان أيضاً كلا من الوزيرين يعقوب باشا ومحمد باشا لسوء طنه في سلوكهما نفيا إلى بعض البلاد البعيدة وبعد قتل خليل باشا بقي مسند الصدارة خالياً مدّة سنتين إلى أن وجهت إلى محمود باشا الشهير.

ولما كان فتح القسطنطينية قد أثار عوامل الغضب والحقد عند ممالك أوروبا خصوصاً بابا رومية كالكستوس الثالث منهم لما كان يرجونوا له من ضم الكنيستين الشرقية والغربية إلى بعضهما سعى في تأليف حملة صليبية فتم له ذلك وأغار جيش أوربى مختلط على حدود المملكة العثمانية بأوروبا سنة860 هـ 1456 م فلما بلغ السلطان محمد الفاتح نهض بجيش يبلغ 150ألف مقاتل وأسطول مركب من 200سفينة وذلك بعد أن رتب إدارة الأمور بالقسطنطينية وحاصر مدينة بلغراد عاصمة بلاد الصرب براً وبحراً وكاد يفتحها إلا أنه في خلال ذلك هاجم جان هونياد قائد المجر أساطيل العثمانيين وأتلف منها قسماً عظيماً وكان دخل المدينة قبل حصارها ودافع عنها دفاع الأبطال فالتزم السلطان بترك حصار بلغراد بعد أن قتل من جيشه عدد كبير وقد جرح هونياد في هذه الحرب جرحاً بليغا مات به بعد عشرين يوماً من رفع الحصار ولما علم السلطان بموته أرسل محمود باشا الصدر الأعظم فأتم فتح بلاد الصرب 860هـ .

وبذلك فقدت هذه البلاد استقلالها تماماً ثم توجه إلى مورة عن طريق سيروزو يكيشهر واستولى على مدينة كورنثة وما جاورها من البلاد وبذلك لم يبق لتوماس بالبولوغ أخي قسطنطين شيء من البلاد التي كانت له ثم أراد التقدّم لفتح بلاد مورة تماماً إلا أن ديمتر يوس تعهد بدفع الجزية فقبل السلطان ورجع عنه في هذه المرة ومع ذلك فإنه لما أظهر الطغيان بعد بقليل دخل السلطان بلاده في هذه السنة فأخضعها تماماً وفر توماس إلى إيطاليا وتوفي ديمتر يوس في إحدى جزائر الأرخبيل.

فتح أماصرة وسينوب وطرابزون:

لما نال السلطان مراده من الاستيلاء على بلاد الصرب واليونان حول عزيمته لتسخير الممالك الباقية في حالة استقلال على سواحل البحر الأسود وهي أماصره وطرابزون وسينوب وكانت الأولى تابعة للجنويزيين والثانية وهي طرابزون تابعة لأمراء من بيت قياصرة القسطنطينية وكانت تشكلت حين إغارة الحملة الصليبية الرابعة سنة 600هـ على مدينة القسطنطينية واستيلائهم عليها فتم له فتح أماصرة سنة 865 هـ وأخضع أيضاً مملكة طرابزون ولم ينفعها تصدي الأمير أوزون حسن لحمايتها من مخالب العثمانيين سنة 865 ثم نقل ملكها داود كومنين هو وعائلته إلى القسطنطينية ورتب السلطان لهم ما يكفيهم من المرتبات.

أما مدينة سينوب فقد استولى عليها من يد صاحبها إسماعيل بك من عائلة اسفنديار وهم بقية من طوائف ملوك الإسلام كانوا يحكمون قسطموني وسينوب وهم وإن كانوا يدفعون للدولة أتاوة سنوية معينة إلا أنهم كانوا لا يفترون عن بث الدسائس وإقلاق الراحة بجهات الدولة العثمانية كلما تمكنوا من ذلك ولما رأى السلطان أن بقاء هذه الإمارة وإن كانت خاضعة له عرقلة لمساعيه، أراد محو استقلالها وضم الممالك الإسلامية المتفرقة إلى بعضها ولذلك أصدر أمره إلى وزيره الأعظم محمود باشا بمداركة ما يلزم لفتح تلك الإمارة، فساق عليها جيشاً برياً واسطولاً مؤلفاً من مائة غراب حربي .

yacine414
2011-03-18, 15:53
فتح مديللي:

بعد عودة السلطان من غزواته المذكورة اهتم بتقوية البحرية فأنشأ كثيراً من السفن الحربية على أشكال أساطيل البنادقة وسارت الدوننمة العثمانية تخرج سنوياً للغزو في بحر الأرخبيل لإظهار آثاراً البسالة العثمانية لكسان جزائره ولما كانت جزيرة مديللي واقعة على طريق بوغاز الدردنيل صمم السلطان على ضمها لأملاكه تأمينا لهذا الطريق فأرسل وهو في كليبولي سنة 866 هـ1462 م الوزير محمود باشا مع الجيوش براً وساق أساطيل الاستانة وغليبولي بحراً فلما وصلت الأساطيل إليها نقلت الجيوش من ساحل الأناضول إلى الجزيرة وشرع في حصارها فحضر حاكمها وأظهر الخضوع فاستولى الباشا على قلعتها وباقي البلاد الموجودة بالجزيرة وعين لها محافظاً وقاضياً وحامية ثم عاد ظافراً ومن وقتئذ أخذ السلطان يشيد الحصون والقلاع في بوغاز الدردنيل وجزيرة بوزجه أطه لحماية طريق القسطنطينية.

فتح بلاد بوسنة:

أنه لما يئس ملك بوسنة من المداخلة في أمور بلاد الصرب كما قلناه فيما سبق أظهر التمنع عن دفع الجزية السنوية المضروبة عليه سيما أنه كان رأى قرب وقوع الحرب بين العثمانيين والبنادقة، لهذا رأى السلطان ووزراؤه أن من الوجوب الاستيلاء على بلاد بوسنة ليتمكنوا من تهديد بلاد البنادقة فلهذا أمر وزيره الأعظم محمود باشا سنة 867هـ بالخروج من مدينة أسكوب لمحاربة ملك بوسنة ولما وصلت الجنود العثمانية إلى بوسنة أخذت في مطاردة ملكها الذي كان يفر أمامها من نقطة إلى أخرى إلى أن حاصروه ببلدة كلوجي ولما رأى عدم مقدرته على المدافعة سلم نفسه وخضع أيضاً جميع من بالقلاع والمدن من الحكام.

فتح بلاد القريم:

قد كانت بلاد روسيا الشرقية وشبه جزيرة القريم وجميع الجهات الواقعة شمالي البحر الأسود يحكمها من زمن جنكيزخان أمراء من التتار وكانت الطوائف المذكورة اعتنقت الدين الإسلامي من عهد تيمور لنك وقد كان تيمور جمع الطوائف النازلة ببلاد قازان وأزدرهان والقريم وقبجاق من التتار وشكل منها مملكة القبجان وقد استمرت هاته الحكومات زمنا طويلاً فاتحة قوية إلا أنه بعد مدة اعتراها الوهن والاختلال فانتهز الجنويزيون فرصة ضعفهم واستولوا على ثغو آزاق وكفه ومنكوب وغيرها واتخذوها محطات للتجارة وكانوا ينتفعون كثيراً من وقوع الاضطرابات بين الممالك المذكورة وفي سنة 880هـ أمر السلطان وزيره الأعظم كديك أحمد باشا بالذهاب إلى تلك الجهات وفتحها وطرد الجنويزيين منها وكان تولى الصدارة بعد عزل محمود باشا ثم خرج إليها يقود 300سفينة بين حربية ونقلية وأخضع البلاد التي كانت في قبضة الجنويزيين بأكملها وطردهم من تلك الأطراف واتفق في تلك الأثناء أن الحاج كراى آخر ملوك القبجاق كان توفي وترك اثنى عشر ولداً ذكراً فقام هؤلاء الأولاد على بعضهم كلٌّ يدعى حق الملك واستمرت المحاربات بينهم زمناً وطويلاً حتى ضعف حالهم وانقسمت مملكتهم فقام عند ذلك علماء القريم وأشرافها وعرضوا للسلطنة العثمانية بمحضر قدموه يلتمسون إصلاح ذات البين وتقرير قواعد النظام والسكينة ببلادهم وقد كان العثمانيون وجدوا من ضمن الأسرى الذين قبضوا عليهم بمراكب الجنويزيين منكلى كراى أحد أولاد الحاج كراى ولما عرفوه أظهر له السلطان الاحترام وعامله بما يليق وأطلعه على المحضر المقدم من أهل بلاده ثم نصبه خاناً على بلاد القريم بالنيابة عنه وأنعم عليه بالخلع السنية والتشريفات المخصوصة وأرسله إلى بلاده وقعد ذلك صارت بلاد القريم ولاية ممتازة تابعة للدولة العثمانية 880هـ وانتقلت جميع المنافع التجارية التي كانت للجنويزيين بتلك الجهات إلى يد العثمانيين.

الحملة الأولى على رودس:

لما بلغ السلطان سنة885 هـ 1480 م أن سفن قرصان أسير جزيرة رودس وهو من نسل أمراء الصليبيين الذين بعد أن طردوا من الديار الشامية تمكنوا من الاستيلاء على جزيرة رودس وجعلها داراً إقامة لهم وكانوا أخذوا يهتمون في بناء السفن الحربية وإرسالها للصيال والفتك بسفن التجارة العثمانية وكانت أضرت بها كثيراً صمم السلطان على تسخير هذه الجزيرة المهمة لتأمين طريق التجارة فأرسل عمارة بحرية مؤلفة من 160سفينة حربية وجيشاً برياً يبلغ مائة ألف مقاتل تحت قيادة مسيح باشا ولما وصلت هذه القوّة إلى الجزية حاصرت المدينة وبعد مدّة استولت على بعض الحصون لكن لما أصدر هذا القائد لجنوده الأمر بعدم التعرض للغنائم وقع منهم هذا الأمر أسوأ موقع لمنعهم عن التمتع بالفوائد المطلوبة والثمرة المرغوبة ونتج عنه تكاسلهم وتراخيهم عن الهجوم وبعد حصار ثلاثة شهور التزم مسيح باشا بالرجوع عنها وتأخر فتحها نحو خمسين سنة ومع ذلك لم تفترهمة هذا السلطان العظيم عن الفتوحات بل جهز في سنة 886هـ 1481 م جيشين عظيمين أحدهما لفتح جزيرة قبرس وقاد الثاني بنفسه لغزو بلاد العجم وبينما هو في الطريق أدركته الوفاة.

ولما كانت البحرية العثمانية في أيامه تقدمت كثيراً عده المؤرخون مؤسساً للبحرية العثمانية وقد فتح العثمانيون في زمنه فتوحات كثيرة وتمهدت أركان السلطنة عن ذي قبل بحيث أصبحت حاكمة على جميع جهات البحر الأسود تقريباً وبحر مرمراً كله والقسم الأهم من جزر الأرخبيل ولو لم يكن له إلا فتح القسطنطينية لكفاه فخراً ومجداً.

وترك من الأولاد الذكور اثنين الأمير بايزيد والأمير جم.

وكان ملكاً جليلاً يعجز الواصفون عن مقدار فضائلة ومحاسنه وكان رحمه الله محباً للعلم والعلماء شجاعاً كريماً عاقلاً له الفتوحات العظيمة والمآثر الجسيمة معدوداً من أعظم الفاتحين وأسمى المتغلبين وهو الذي افتتح مدينة أتينا وكسر أساطيل البنادقة مراراً حتى جبرهم على دفع الجزية له ونزع من بلاد إيطاليا عدة مدائن وافتتح دولة طرابزون وغير ذلك، ثم في أثناء مشروعاته الجسيمة اعتراه مرض أوقف أخراجها من القوّة إلى الفعل فانتقل إلى رحمة ربه في سنة 886 هـ 1481 م بمدينة ككبوزه بعد أن حكم اثنتين وثلاثين سنة حكماً مكللاً بالنصر والمجد ودفن بجامعه الذي شيده بالقسطنطينية المعروف باسمه وكان قبل وفاته يستعد للتغلب على جزيرة رودس ونزعها من يد طائفة الفرسان لكثرة شرورهم ونهبهم سفن المسلمين ويقود بنفسه جيشاً لافتتاح مدينة رومة.

ولقد كان الاستيلاء على مدينة القسطنطينية في مدّة هذا السلطان من أعظم الدواعي لتقدم المملكة العثمانية وضم أجزائها إلى بعضها لأنه لم يكن من المناسب بقاء دولة مستقلة وسط دولة أخرى واسعة الأطراف خصوصاً إذا كانت هذه الدولة الثانية عاملة على بث عوامل الشرور في جسم المملكة الأولى كما كانت تفعله دولة القسطنطينية الضعيفة. زيادة عن أن وقوع القسطنطينية في وسط المملكة العثمانية يكون بعد فتحها العاصمة التي منها يمكن لسلاطين آل عثمان مراقبة أطراف مملكتهم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً ولذلك فإنهم بعد فتحها نقلوا إليها عاصمتهم لوقوعها في المكان المتوسط من أملاكهم.

وكان هذا السلطان من أعظم ملوك زمانه تهذيباً وعلماً فكان يحسن العربية والفارسية والتركية واليونانية واللاطينية وغيرها وله ميل شديد لفن التصوير ويعرف ما يمكن معرفته إذ ذاك من الجغرافيا والتاريخ والرياضة وكان يقرأ القصائد اللاطينية التي كانت الشعراء من أهل البنادقة والجنويزيين يمدحونه بها وكان يطالع مؤلفات بلوتارك بمواظبة ويهتم في تقليد اسكندر الأكبر وقيصر والفاتحين الشهيرين الذين ذكرهم هذا المؤلف وقد اتفقت أقوال مؤرخي اليونان والبنادقة والجنويزيين على محبة السلطان محمد للعلوم وانكبابة على دراستها ولما سمع بشهرة المصور البندقي جنتيلي بيللينوا حضره لديه فلما قدم أحسن وفادته وغمره بالهدايا وأنعم علهي بتاج وقلادة من الذهب وغير ذلك ورده إلى بلاده مع الاحترام اللائق بأمثاله وكان يحضر بنفسه امتحان العلماء والفقهاء المستعدين للترقي في الدرجات العلمية السامية وأعلى شأن العلم كثيراً وعضده.

السلطان الغازي بايزيد خان الثاني 886-918هـ:

لما توفى السلطان محمد الفاتح كان ابنه السلطان بايزيد في جهات أماسية حيث كان والياً فطار إليه الخبر ولما وصل إلى القسطنطينية وجد اليكجرية شقوا عصا الطاعة ونهبوا كثيراً من منازل الأغنياء وقتلوا الصدر الأعظم قرمانلي محمد باشا لأنه كان أخفى موت السلطان حتى يحضر ولي عهده ويجلس مكانه إلا أنه لم يحسن التدبير في ذلك، ويقال إنه كان أرسل أيضاً للأمير جم يعلمه سراً بموت أبيه لأنه كان يميل إليه فلما علم اليكجرية بذلك فعلوا ما فعلوا.

ومن حسن الطالع أن تمكن إسحاق باشا محافظ استانبول من تهدئة الخواطر بمبايعته الأمير قورقود من أولاد السلطان مبايعة وقتية حتى يحضر السلطان بايزيد ولما حضر السلطان بعد ثمانية أيام وجد الأحوال مضطربة فاجتهد في تسكينها ووعد اليكجرية بالعطايا والهبات ومن هذا الوقت وجدت عادة إعطاء الهبات والعطايا للجنود وضباطهم كلٌّ حسب مرتبته كلما جلس سلطان جديد وكانت هذه العادة سبباً لفتن كثيرة جلبت على الدولة مشاكل جمة ولقد كانت هذه الفعلة أوّل ظهور تمرد وطغيان الانكشارية.

وقائع الأمير جم:

أما الأمير جم وكان والي قونية فكان يطمع في السلطنة على انفراد أو يشارك أخاه فيها وكان كثير من أمراء الدولة وجنودها يميلون إليه ويرغبون له ذلك ولما عظمت عنده هذه الآمال شق عصا الطاعة على أخيه ثم التف عليه كثير من شيعته حتى صار له جيش عظيم وأخذ في شن الغارات وفتح القلاع فجهز السلطان عليه جيشاً تحت قيادة إياس باشا إلا أنه هزم هذه الجيش وأسر قائده وكثيراً من ضباطه ثم تقدم جم بجيشه وفتح بروسة واستقبلته سكانها بالترحاب وسلموه المدينة وبعد أن رتب أمورها استولى على البلاد المجاورة لها وكوّن من ذلك مملكة خطب له فيها على المنابر ورتب له وزراء وقواداً ولما علم السلطان بذلك خاف سوء العقبى واحتال وزراؤه لذلك بحيلة وهي أنهم اجتهدوا في استمالة مدير الأمير جم المدعو لالايعقوب ووعدوه ومنوه فنجحوا في قصدهم وبانحياز المدير المذكور ضعفت عساكر السلطان جم واستظهرت عليه جيوش السلطان بايزيد ثم هرب جم جريحاً إلى قونية ملتجئاً عند أولاد قرمان.

ولما علم أن الجيوش العثمانية تتعقبه أخذ اتباعه والتجأ إلى قايتباي ملك مصر إذ ذاك أما السلطان بايزيد فإن توجه إلى ديار القرمان واستولى عليها عقاباً لأمرائها على ما فعلوه من نصرة جم ثم عين ولده الأمير عبد لله والياً عليها ولما عاد إلى الإستانة عزل وزيره إسحاق باشا ونفاه إلى سلانيك وعين مكانه داود باشا صدراً أعظم وأخذ في ترتيب إدارة الدولة فنظم الباب العالي وعين للدولة أربعة وزراء.

وفي تلك الأثناء هاجم قاسم بك أمير قرمان السابق الأمير عبد الله الذي ولاه السلطان بلاده فأرسل السلطان عليه هرسك زاده أحمد باشا بجيش عظيم فاستظهر على قاسم بك المذكور وشتت شمله ولما عدم قاسم بك شيعته هرب إلى طرسوس وكان الأمير جم بعد التجائه إلى قايتباي ذهب إلى الحج وبعد عدوته سعى قايتباي في الصلح بينه وبين أخيه فلم يجد سعيه نفعاً ثم إن الأمير جم راسل قاسم بك المذكور واتفق معه على محاربة السلطان وتحزب معهما عدة أمراء فهزمهم السلطان بايزيد بقرب جبل طوروس بالجيش الذي أرسله صحبة كديك علي باشا ولما ضاقت الأرض في وجه الأمير جم أخذ يضرب في الأرض.

ثم ذهب أخيرأ إلى جزية رودس 1482م فتلقاه فرسانها بالترحاب وأنزلوه خير منزل وكان قبل ذلك سعى كثيراً في الصلح مع أخيه بشرط أن يمنحه بعض الاقطاعات فرفض هذا الطلب خوفاً من أن ذلك يؤدي إلى مالاً تحمد عاقبته ولما علم السلطان بالتجاء أخيه إلى فرسان رودس أرسل لهم رسولاً يطلب منهم إبقاء الأمير جم عندهم وعدم التصريح له بمبارحة الجزيرة المذكورة وفي مقابلة ذلك يتعهد لهم السلطان بعدم مس استقلالهم وأن يعطيهم سنوياً 45000 من الذهب فقبل رئيس الفرسان ذلك وقد وفى الفرسان بهذه الشروط ولم يصرحوا اللأمير جم بمبارحة الجزيرة وكذا لم يسلموا فيه حتى حينما طلبه ملك الجرو إمبراطور ألمانيا اللذان طلبا إطلاق سراحه للتشغيب به على الدولة العثمانية ولما خاف رئيس الفرسان من فراره أو أخذه منه بالقوة أرسله تحت الحفظ إلى مدينة نيس فأقام بها زمناً ثم نقل منها إلى مدينة سجري ومنها إلى غيرها مدّة سبع سنوات ثم إن رئيس الفرسان سلمه أخيراً 1489م إلى البابا أينوسان الثامن الذي خابر السلطان في ذلك وطلب منه أن يدفع إليه ما كان يدفعه لفرسان رودس بشرط أن يحافظ على الأمير جم فقبل السلطان منه ذلك وبقي الأمير جم عند هذا البابا حتى مات.

ومازال هذا الأمير جم مصاحباً الجيوش الفرنساوية حتى توفي في 21جمادى الآخرة سنة900 هـ 1495 م بمدينة نابولي ودفن ببلدة جابيت من أعمال إيطاليا وبعد ذلك نقلت جثته إلى بروسة ودفن في مقابر أجداده وكان سنة لما توفي36 سنة قضى منها نحو 13 في حالة تشبه الأسر وكان شاعراً لبيبا شهما ويقال إنه أصيب بالجنون في آخر حياته.

yacine414
2011-03-18, 15:54
الوقائع البحرية في العهد المذكور:

لما حدثت الثورات والاضطرابات المتقدّمة بين مصر والاستانة انتهز البنادقة فرصة ذلك وأرسلوا أساطيلهم لمهاجمة سواحل الدولة العثمانية ولما تخلص السلطان من تلك المشاكل أصدر أمراً باستعداد العمارة وتجديد سفينتين طول كل واحدة منهما 180 قدماً وأن ينزل فيهما ألفا محارب خلاف ما بهما من الجنود البحرية لصدّ البنادقة عن تعدّياتهم ولما تمت المعدّات أقلعت الدوننمه 904هـ 1488م تحت قيادة القبودان داود باشا وكانت منقسمة إلى قسمين أحدهما تحت قيادة كمال رئيس والآخر تحت قيادة براق رئيس لطرد البنادقة من القلاع الباقية في يدهم بشبه جزيرة مورة ثم وصل المدد إلى قسم كمال رئيس حتى بلغت سفنه 300 سفينة مختلفة النوع والقدر وكانت عمارة البنادقة تحت إمارة أنطوني فريماني وكانت مركبة من 36 سفينة من نوع الغالي و 50 من نوع الغليون و 40 سفينة نقلية وبهذا كانت تفوق العمارة العثمانية قوّة وضخامة وعلى الأخص عندما انضم إليها أساطيل بعض الدول الأوروباوية البحرية التي صيرتها أعظم ما كانت عليه قبلا وكان رسوها أمام قلعة متون Modon الكائنة في شمال جزيرة سابيانجة بالجنوب الغربي من مورة وبقيت تلك العمارة في انتظار العمارة العثمانية حتى وصلت إلى تلك الجهة بعد مضي ثلاثة شهور من خروجها وعليها نيف و 2000 ألف مقاتل جميعهم قد تأهبوا للقتال وفاضت صدورهم بحب التشفي والانتقام من عدوّهم كما هو شأنهم وبعد وصولها بقيت عشرين يوماً بلا قتال ريثما أخذت كفايتها من المياه والذخائر ثم شكل كمال رئيس مجلساً حربياً من الأمراء للاتفاق على أحسن طريقة يمكن إتخاذها للقتال فتقرر بعد المداولة أن يحاربوا دوننما العدو قبل الدخول في جون أينه بختى L'epantes المدعو الآن بجون بتراس وبناء على ذلك تقدّمت الدوننما العثمانية وأخذت في إطلاق مدافعها على أساطيل البنادقة التي قابلتها بنيران قوية ثم حملت عليها والتحمت السفن ببعضها وكانت جيوش العثمانيين متشوقة للكفاح رغما عن التعب الذي صادفوه أثناء الطريق فما صدّقوا أن يروا رحى الحرب دائرة حتى انقضوا على عدوّهم انقضاضاً آذنه بالويل والدمار وبشره بسرعة الهزيمة والإنكسار.

وقد حدث أن بعض العثمانيين لم يستطع صبراً دون أن وثب داخلاً في سفن عمارة البنادقة والتصق بعساكرها وفتك فيهم فتكا شديداً فلم يكن إلا القليل من الزمن حتى لحق البنادقة ومساعديهم من العثمانيين ما لحقهم من الهزيمة وتمّ الانتصار لكمال رئيس واستولى على بعض سفنهم وأحرق البعض وأغرق البعض وانسحب الأميرال أنطوني فريماني بباقي سفن عمارته ورسا بها في فم جون أينه بختى فملم يشعر إلا والعمارة العثمانية مستعدة للحملة عليه ثانية ودخول الجون المذكور فلما رأى ذلك استعد لمقاومتها ولكن استعداده كان كحركة المذبوح فلم يجده نفعاً بل دخلت العمارة العثمانية الجون رغماً عنه وقام هو بمراكبه عائداً إلى عاصمة البنادقة خوفاً من ضياعها هي الأخرى فلما وصل العاصمة المذكورة وعرض لحكومته تقرير الواقعة عقدت له مجلساً حربياً لمحاكمته فحكم عليه بتجريده من رتبه ونزع العمارة من تحت قيادته وتسليمها لأميرال آخر يسمى تراويسانو.

وفي تلك الأثناء كان السلطان بايزيد تقدم بجيوشه براً إلى قلعة ابنه بختى فحاصرها وأمر العمارة بالحصار بحراً وبذلك سلمت القلعة ثم عادت الدوننما العثمانية بعد ذلك للاستانة لتمضية فصل الشتاء بها كالعادة السنوية وكان هرسك زاده أحمد باشا قائداً على الجيوش البرية ومعه مصطفى باشا وسنان باشا فعادوا بمعية السلطان إلى أدرنة وفي شتاء سنة905 هـ استوالت سفن البنادقة على جزيرة كفالونيا وهاجموا مينا برويزة واحرقوا بعض السفن العثمانية التي كانت راسية فيها.

ولما وصلت هذه الأخبار إلى الاستانة سير السلطان في سنة 906 هـ العمارة بحراً وأمرها بحصار قلعة متون السابق ذكرها ونهض هو بجيش عظيم براً من أدرنة إلى هذه القلعة وعند وصول العمارة إليها تلقاها الأميرال تراويسانو بأساطيل البنادقة فالتحم بينهما قتال عظيم جدّاً وأخيراً دارت الدائرة على الأميرال المذكور فعاد بالخيبة بعد أن خسر كثيراً من سفنه واستولت الدوننما العثمانية على سفينتين عظيمتين من سفن البنادقة أضافتهما إلى العمارة العثمانية واستولى العثمانيون أيضاً على قلعتي متون وقرون Coron ثم دخل السلطان مورة بجيوشه ولما رأى الأميرال تراويسانو ذلك قام فهجم على ميناناوارين واستولى عليها ومع ذلك فلم يمهله البطل كمال رئيس الشهير في الحروب الأندلسية بل تعقبه بثلاثين سفينة وحمل بها على أساطيله في ميناناوارين المذكورة وبعد فترة قصير من الزمن استولى على ثمان مراكب من أسطول البنادقة المذكور واسترد منها قلعة ناوارين فعاد الأميرال تراويسانو بعمارته منهزماً ومن شدة تأثره مما ناله من الخسران والانهزام أصيب بمرض شديد مات بسببه سيماو أن مثل هذا الانهزام كان السبب الوحيد في محاكمة سابقه وتجريده من رتبة وأن جمهورية البنادقة قد جعلته محل ثقتها وموضع الأمل بفوز عمارتها ونجاحها فلم يكن منه إلا خيبة المسعى وعكس ما كانت تأمله فيه.

وقد استمرت الدولة العثمانية في أيام بايزيد الثاني ملتزمة جانب السلم مع المالك المجاورة لها إلا أنها كانت لا تخلو عن فتن ومشاجرات داخلية لتعدد أجناس سكانها واختلاف نحلهم ومشاربهم ووجهتهم ولما كان هذا السلطان يميل إلى السلم والملاينة وديعاً يكره سفك الدماء بلا سبب استخف به جنوده وأولاده فكدرواصفو أيامه في آخر حياته وذلك أنه لما خاف منهم فرقهم في الولايات فعين الأمير قرقود بإحدى الولايات البعيدة والأمير أحمد على أماسيه والأمير سليمان وهو أصغرهم سناً على طرابزون وعين سليمان ابن ابنه سليم على كفة من بلاد القريم إلا أن سليمان لم يقبل بهذا المنصب لبعده عن مقر السلطنة وطلب من جدّه ولاية قريبة وبعد أخذ ورد عينه على مدينتي سمندرة وودين حقنا للدماء سنة 917هـ 1511 م .

ولما وصل خبر نجاح سليم لإخوته قاموا جهاراً على أبيهم فأرسل السلطان عليهم الجيوش فقمعتهم ولما كان الأمير سليم لم يكتف بمنصبه الجديد أيضاً سيما وأن اليكجرية كانوا يميلون إليه كثيراً قصد أردنة فاحتلها ونادوا به سلطاناً إلا أن والده لم يمهله بل جرد عليه حتى ألجأه إلى الفرار إلى بلاد القريم ثم سعى اليكجرية لدى السلطان حتى عفا عنه رضي برجوعه إلى سمندرة وبينما هو عائد إليها قابله اليكجرية وهونوا عليه الجلوس على تخت السلطانة فقبل منهم وساروا به إلى والده الذي لم يقدر في هذه المرة على المقاومة لتقدمه في السن وميل وكلاء الدولة عموماً إلى ولده بل التزم أن يتنازل له عن الملك وخلع نفسه وطلب أن يذهب إلى ديمتوقة ليمضي بها بقية أيامه وقد شيعه ابنه وسار بجانب عربته ماشياً مسافة طويلة إلا أنه لم يطل إليها بل مات في الطريق سنة 918هـ 1512م ويقال أنه مات مسموماً وسنهُ 67 سنة فنقلت جثته إلى الإستانة ودفن في تربته المخصوصة داخل جامعه وكان السلطان بايزيد لما ألح عليه وكلاء الدولة بانتخاب أحد أولاده للسلطنة لعدم مقدرته على تحمل مشاق الحروب ولتفاقم أخطار الشاه إسماعيل الصفوي الذي كان يهدد الدولة بالهجوم وقع اختياره على ولده الأمير أحمد ووافقه بعض الوكلاء على ذلك إلا أن اليكجرية هاجوا وماجوا وطلبوا تعيين السلطان سليم لاتصافه بعلو الهمة والجسارة وهجموا بعض بيوت الوزراء ونهبوها وعتد ذلك ألح الوكلاء على السلطان حتى قبل بتعيين ولده السلطان سليم.

السلطان سليم الأول الملقب بياوز 918هـ926هـ:

قبض على زمام الملك وسنه 46 سنة وكانت الأحوال الداخلية في ارتباك لأن السلطان أحمد كان يدعى الحق في السلطنة لأنه أكبر سناً ولأن والده كان انتخبه قبل تنازله عن السلطنة وصادق على ذلك كبراء الدولة فساق جيشاً تحت قيادة ولده الأمير علاء الدين، وفي تلك الأثناء وفد من كان ببروسة من أولاد السلاطين إلى استانبول وبايعوا السلطان سليم وأخذوا منه الإذن فأذن لهم بالعودة والإقامة ببروسة ثم بعد ذلك تزايدت أدعاءات أخيه السلطان أحمد وأخذت أفكار كبار الأناضول تتغير وتميل إلى جهته فخاف السلطان نتيجة ذلك ودبر حيلة لإطفاء نار هذه الثورة الداخلية فأمر بقتل جميع إخوته وأولاد إخوته وأقاربه الذين صرح لهم قبلاً بالإقامة في بروسة وكانوا كثيرين وبعد قتلهم خاف أخوه قور قود وأرسل للسلطان تنازلاً عن جميع حقوقه ومدعياته ولكنه مع ذلك قتل بإغراء بعض أصحاب الغايات ولما وصل للسلطان أحمد خبر هذه الحوادث خاف على نفسه ولم يجد طريقة للتخلص سوى كونه توجه بنفسه إلى الاستانة والتجأ لمرحمة أخيه ومع ذلك قتله السلطان خوفاً منه في المستقبل وكان للأمير أحمد هذا ولدان التجأ أحدهما بعد قتل أبيهما وهو الأمير مراد إلى بلاد العجم عند الشاه إسماعيل الصفوى مؤسس الدولة الصفوية والتجأ الآخر وهو الأمير علاء الدين إلى الملك الأشرف قانصوه الغوري ملك مصر ولما طلبهما منهما امتنعا عن تسليمهما فكان ذلك داعية لوقوع الحرب بينه وبين هذين الملكين.

حرب إيران 920هـ:

قد كان الشاه إسماعيل الصفوي يجتهد كثيراً في إيجاد القلاقل والاضطرابات في داخلية الدولة العثمانية فبث لذلك بذور الفساد في جميع الجهات المتاخمة له منها ولهذا رأى السلطان سليم أن من الضروري جداً استئصال بذور هذا الفساد ولما بلغه أن كثيراً من رعايا الحومة العثمانية تمذهب بمذهب الشيعة على أيدي دراويش القزل باش الذي بثهم الشاه إسماعيل بالجهات أمر بحصرهم وتعدادهم في السر فبلغوا أربعين ألفا أو نحوها وقصده في ذلك أخذ الاحتياطات اللازمة ليمكنه تجنب ما عساه أن يحدثوه بداخليه البلاد إذا اشتبكت الدولة في حرب أجنبية.

ثم عقد السلطان بمدينة أدرنة مجلساً جمع إليه جميع الوزراء والقوّاد وبعد مداولات استمرت طويلاً أقروا جميعاً على إعلان الحرب على الشاه إسماعيل ثم خرج السلطان من أدرنة 920هـ قاصداً استانبول فأقام بها أياماً ثم ترك ابنه الأمير سليمان نائباً عنه بتلك المدينة وانتقل إلى مدينة إسكدار وبعد أن تمت لديه الاستعدادات خرج من إسكدار قاصداً بلاد العجم وبينما هو يسير في الطريق إذ قبضت جنودهعلى جاسوس إيراني ولما أتوا به في حضرة السلطان أمر بإطلاق سراحه وأعطاه مكتوباً يتضمن إعلان الحرب إلى الشاه إسماعيل وما زال الجيش العثماني يتقدم من مدينة إلى مدينة حتى وصل إلى سيواس وهناك استعرضه السلطان وأمر بإحصائه فبلغ 140000. جندي ترك منه40000. للمحافظة بين سيواس وقيصرية.

وتقدّم هو بالباقي، عند ذلك أخذ محمد خان حاكم جهات دياربكر في تخريب المزارع وهدم القرى ببلاد كردستان ثم انكمش بجيوشه داخل بلاد العجم وكذا الشاه إسماعيل لم يتجاسر على الظهور أمام العثمانيين ولم يجاوب أيضاً على الكتابين اللذين أرسلهما له السلطان تباعاً ثم لما تقدمت الجيوش العثمانية في صحارى بلاد الفرس اعتراهم الضجر واستولى عليهم الملل وأخذوا يتكلمون فيما بينهم بأن هذه المحاربة لا نتيجة منها ولما بلغ السلطان تذمر الجنود خاف سوء العاقبة فقبض على بعض أصحاب الجراءة منهم وقتلهم إرهاباً للغير وأمر بالتقدم إلى مدينة تبريز وعندما وصلوا إلى مدينة طراجان إذ باليكجرية فوضوا خيامهم بغتة وأخذوا في إطلاق بنادقهم على خيمة السلطان عند ذلك ركب السلطان وخلفه وزراؤه ونادى في الجنود قائلاً من أراد النوم على بساط الراحة في بيته فليرجع ومن أراد ملاقاة الأعداء في ساحة الوغي فليأت معي وإن أحببتم جميعكم العودة فلكم ذلك وأنا أتقدّم بمفردي ولم يكد يتم كلامه حتى أشار الجنود بأجمعهم بعلامة الطاعة والانقياد.

وبعد ذلك بأيام أتى جواب الشاه إسماعيل رداً لمكاتيب السلطان الثلاثة ومعه كأس به نوع معجون فأجابه السلطان في مقابلة تعريفه هذا بأن أرسل له كسوة من لباس النساء يحرضه بذلك على الخروج إلى حربه وفي آخر الأمر خرج الشاه إسماعيل بجنوده حتى أشرف على طليعة العثمانيين التي كان على قيادتها شهسوار زاده علي بك وعلي بك ابن ميخال وغيرهما ثم تلاقى الجيشان بصحراء جالديران عند ذلك أخذ العثمانيون في تعبية جنودهم على الطريقة المتبعة إذ ذاك في جيوشهم ووقف السلطان خلف الجنود في مكان يشرف منه على ميدان القتال ومعه وزراؤه وهم هرسك زاده أحمد باشا وأحمد باشا ابن دوقه كين ومصطفى باشا وجعل الجنود المدافع خلف ظهورهم ليخفوها عن أعين الفرس ووضعوا أمامهم عربات النقل والجمال وقد كان الجيشان في العدد سواء إلا إننا لوا اعتبرنا ما أصاب العثمانيين من الضعف الذي استولى عليهم من السير مدّة أشهر وسط بلاد قاحلة وصحار مقفرة لقلنا أنهم أضغف حسا ومعنى من أعدائهم.

وقد كان جيش الإيرانيين مؤلفاً جميعه من الخيالة ومنهم فرق تلبس الزرد وفرق من طوائف الفداوية المشهورين وكان بمعية الشاه كثير من الأمراء والأعيان والمشايخ وغيرهم ولم يكن بجيشهم أسلحة نارية ولما استعد الشاه للمحاربة قسم جيشه إلى فرقتين جعل إحداهما تحت رياسته والأخرى تحت رياسة أشهر قوّاده ثم أغار بفرقته على الجناح الأيسر لجيش العثمانيين المؤلف من عساكر الرومللي فهزمهم وقتل منهم كثيراً من ضمنهم رئيسهم حسن باش ولما أرادت الفرقة الأخرى الهجوم على الجناح الأيمن قابلها العثمانيون بجنان ثابت وأعملوا مدافعهم قصدوها بعد أن ألحقوا بها خسائر جمة ثم تقدّموا إلى قلب الجيش فبددوا شمله وقتلوا منه مقتلة عظيمة عند ذلك ولى الفرس الأدبار واستولى العثمانيون على مضاربهم وما كان معهم من الذخائر والأدوات وجرح الشاه إسماعيل فسقط عن جواده وكاد يقع في قبضة العثمانيين لولا أن أغاثه اثنان من مماليكه ووقعت خيمته وحرمه وخزائن أمواله في قبضة العثمانيين وقتل في ذلك اليوم من الفرس أربعة عشر أميراً ومن العثمانيين أربعة عشر من أمراء السناجق غير ما قتل من جنود الطرفين.

وفي اليوم الثاني من هذا الانتصار تقدّم الجيش العثماني يقصد تبرير فدخلها ظافراً ولما كان في نية السلطان تمضية فصل الشتاء بمدينة أذربيجان والعودة في السنة المقبلة لتعقب الشاه وإزالة بناء الدولة الصفوية من الأساس لم يمكث بتبرير غير ثمانية أيام تفرّج في أثنائها على آثار تلك المدينة وصلى الجمعة بجامعها الأعظم وخطب له باسمه على منبره وعند وصول السلطان إلى مشتاقره باغ أخذ في محاسبة جنوده وقوّاده فقتل منهم من استحق القتل عقاباً وكافأ من استحق المكافأة جزاء وكانت هذه المحاربة سبباً في أفول نجم الشاه إسماعيل بالمرة.

yacine414
2011-03-18, 15:55
استيلاء العثمانيين على مصر 922هـ 923هـ:

قد سبق ذكر الفتور في العلاقات الذي حدث بين ملوك الجراكسة حكام الديار المصرية والشامية وبين السلطان محمد خان الفاتح وما تسبب عن ذلك من الحروب التي قامت بينهم وبين السلطان بايزيد خان وتوسط فيها العلماء وملك تونس حقناً للدماء حتى أصلحوا ذات البين إلا أنه لما كانت حكومة ذي القدرية هي الحد الفاصل بين مصر والدولة العثمانية وكانت مركزاً للفتن والدسائس اهتم السلطان بإزالة حكومتها وقتل أمرائها فوقع هذا العمل عند الملك الأشرف قانصوه الغوري موقعاً سيئاً وطلب من السلطان الترضية عن ذلك بأن تستمر الخطبة في الأقليم المذكور باسم قانصور فجاوبه السلطان على مكتوبه بألفاظ التهديد والوعيد وبعث له برأس الأمير علاء الدولة آخر أمراء بلاد ذي القدرية.

فقام الغوري لذلك وقعد وعزم على الأخذ بالثأر وأخبر بذلك محالفة الشاه إسماعيل الذي أخذ في إضرام نار التحريض في قلبه مشجعاً له على محاربة آل عثمان وأعدا إياه بالمساعدات فأخذ السلطان الغوري في جمع الجنود والإكثار من العدة والسلاح على حد قول المثل: استعد بالسلاح إن أردت الصلح والصلاح.

وفي سنة922 هـ جهز السلطان جيوشه مظهراً أنه يريد الحملة على بلاد إيران مع أنه في الحقيقة مصمم على فتح بلاد مصر ثم خرج الوزير الأعظم خادم سنان باشا طليعة بجيش مؤلف من أربعين ألف مقاتل واتجه إلى قيصرية ومنها إلى ديار بكر ثم قام السلطان بعده بجيش عظيم يبلغ مائة ألف وخمسين ألف مقاتل ومعه المدافع الكثيرة والعدد الوافرة وأرسل المولى ركن الدين قاضي عسكر الرومللي مع قره جه باشا من طرفه إلى سلطان مصر ليقفوا على حالته ونواياه وكان قبل خروجه ترك على مدينة أدرنة ولده الأمير سليمان وعلى إستانبول الوزير بري باشا وعلى بروسة هرسك زاده أحمد باشا وأوصاهم بالمحافظة على الأمن وسير أيضاً اسطولاً عظيماً للذهب إلى مدينة الإسكندرية تحت قيادة القبودان جعفر بك.

وكان السلطان الغوري يتوجس شراً من استعدادات السلطان وقد قوى عنده هذا الفكر خصوصاً حينما وصلت الأساطيل العثمانية إلى مياه الإسكندرية عند ذلك اهتم بالاستعدادات الحربية وخرج بجيش عظيم إلى مدينة حلب مترقباً ما سيحصل ثم بث العيون في كل مكان ليأتوه بالأخبار وأخذ أيضاً في مخابرة أوزون حسن والشاه وإسماعيل المقهورين ليتفقوا جميعاً على الإغارة على البلاد العثمانية وغير ذلك وبينما الغوري بحلب إذ قدم عليه سفير السلطان فأمر بالقبض عليهما وكبلهما بالقيود وألقاهما في السجن وبعد أيام أخلى سبيلهما وطيب خاطرهما وردهما إلى بلادهما.

وبينما هما في الطريق قابلا الجيش العثماني بمكان يقال له بوجاق دره ولما أخبرا السلطان بما حصل لهما وما شاهداه أمر جيشه بالاتجاه نحو الجنوب لأنه كان يروي يقصد في أول الأمر التنكيل بالشاه إسماعيل ثم يقصد مصر بعد ذلك فانحدرت جيوش نحو مصر ولما وصل إلى مدينة عينتاب أتاه واليها المصري المدعو يونس بك طالباً الأمان فأمنه وجعله دليلاً وما زال يقطع الفيافي والقفار حتى وصل إلى مرج دابق القريب من حلب في 26رجب سنة 922 أغسطس 1516م وتلاقت عساكره مع عساكر الغوري وبعد مناوشات بقيت أياماً حصلت بين الطرفين محاربة عظيمة انجلت عن هزيمة المصريين هزيمة منكرة وقتل قانصوه وكثير من أمرائه واغتنم السلطان سليم جميع أمواله وذخائره ثم دخلت الجنود العثمانية مدينة حلب فاغتنمت جميع ما بها من النقود والأشياء النفيسة ثم بعدها استولى السلطان على حماة وحمص ودخل دمشق الشام بكل سهولة وانقادت لسلطانه جميع مشايخ العرب والدروز.

وبعد أن مكث ببلاد الشام نحو أربعة شهور للنظر في أحوالها استمر سائراً نحو الجنوب وفتح في طريقه قلعة القدس الشريفة وغزة واستصحب معه وإليها جانبرك الغزالي ثم عقد مجلساً من القواد والأمراء فاستقر رأيهم على التقدم لفتح بلاد مصر ولما وصل إلى صحراء السويس بلغه أن طومان باي الذي تبوّأ تخت مصر بعد قانصوه الغوري وكان ولاه عليها قبل سفره يهتم بتجهيز الجيوش وإعداد العدد لصده عن دخول مصر فأرسل له السلطان بأن يكف عن ذلك وهو يبقيه على الديار المصرية بشروط منها الإقرار بالتابعية العثمانية وضرب السكة باسم السلطان وكذا تكون الخطبة فلم يقبل وفي يوم 29 ذي الحجة من السنة المذكورة تقابل مع جنود طومان باي قريباً من الخانقاه بمكان يدعي الريدانية وحصلت معركة شديدة انهزم فيها عساكر طومان باي بعد أن أظهروا من الفروسية والشجاعة ما لا يوصف مع عدم حيازتهم للأسلحة النارية وأسر المصريون سنان باشا فقتله طومان باي ببركة الحج وكذا قتل من أمراء العثمانيين في هذه الواقعة محمود بك ابن رمضان ويونس بك والي عينتان المتقدم وغيرهما.

وبعد قتل طومان باي دخل السلطان سليم القاهرة عاصمة الديار المصرية وكان قبل ذلك يقيم هو وجنوده بجزيرة الروضة 923هـ ثم أنه رحل إلى الإسكندرية في طائفة من جنوده وأبقى بها حامية تحت قيادة جعفر بك وأسطولاً لحماية البلاد من تلك الجهات ثم عاد إلى القاهرة مهتماً بتنظيم أمورها والنظر فيما تحتاجه.

انتقال الخلافة الإسلامية لسلاطين آل عثمان 922هـ:

لقد كان فتح الدولة العلية لبلاد مصر ودخول هذه البلاد المشهورة من القديم بالثروة وحسن الموقع في عداد الولايات العثمانية موجباً للفوائد العظيمة مالية كانت أو سياسية ومن حسن حظ السلطان سليم أنه في أثناء إقامته بمصر حضر ابن أبي البركات شريف مكة المكرمة وقدم له بيده مفاتيح الحرمين الشريفين طائعاً مختاراً وهنأه بالفتح بالنيابة عن والده وصارت الخطب التي تتلى بالمساجد في أيام الجمع والأعياد بعد فتح حلب يذكر فيها السلطان بعنوان خادم الحرمين الشريفين وأنه عند عودته إلى القسطنطينية أخذ معه المتوكل على الله آخر الخلفاء العباسيين بمصر وتنازل له المتوكل عن الخلافة الإسلامية فانضمت من وقتئذ الخلافة الإسلامية الكبرى للسلطنة العظيمة العثمانية وأنه في أثناء إقامة السلطان بمصر قدم له الرئيس بارباروس خير الدين الطاعة وبذلك صارت بلاد البر بر معدودة ضمن إلا يالات العثمانية.

وفاته:

وفي سنة 926 هـ خرج بجيش عظيم كامل العدد والعدد يقصد مدينة أدرنة فمات بالطريق.

ولقد كان رحمه الله من أكبر السلاطين وأعظمهم همة وأوفرهم عقلاً وأسدهم رأيا وأثبتهم جناناً وأعلمهم وأقدرهم وأمضاهم عزيمة شديد الشكيمة وكان يستدل من أطواره وحركاته تحقيق أقصى أمانى موسى بن نصير وعبد الرحمن الغافقي من المجاهدين السابقين من إدخال البحر المتوسط الأبيض في دائرة الإسلام وضم الممالك الإسلامية المتفرقة إلى رأي واحد ووجهة متحدة ولو أمد الله في أجله لكان حقق هذه الأماني الشريفة وكان يقول الشعر بالبحر الأحمر بواسطة ترعة تمر من برزخ السويس كالتي فتحت حديثاً لولا أن وزراءه ثنوا عزمه عن هذا الأمر وكان قصده منه إرسال الأساطيل بحراً لقتال سلطان المغول ببلاد الهند وهو من سلالة تيمور لنك مقابلة لما فعله بالعثمانيين.

السلطان الغازي سليمان خان القانوني 929-974هـ:

كانت ولادة هذا السلطان العظيم والملك الجليل الذي بلغت الدولة العثمانية في حكمة أعلى درجات الشرف والكمال سنة900 هـ ولما وصله خبر موت أبيه سراً لأن الوزراء وأرباب الدولة كانوا أخفوا موته لئلا يثور اليكجرية قام مسرعاً من إقليم صاروخان إلى أن دخل استانبول وقابله أرباب الدولة والجنود على اختلاف طبقاتها بالتهليل والترحيب وطلبوا منه الانعام بالهدايا المعتاد توزيعها عند جلوس السلاطين، ولما جرت رسوم المقابلات وفد عليه جميع الأمراء والوزراء والقواد والأعيان وكانوا يعزونه بموت والده ويسلمون عليه بالسلطنة والخلافة وبعد أيام من جلوسه أتت جثة أبيه فاحتفل بدفنها احتفالاً عظيماً وأمر بأن يشيد عليها الجامع الشهير اللآن وهو من أعظم جوامع إستانبول ولما صعد على تخت الخلافة أخذ في سَنِّ القوانين والنظامات الكافلة بتمكين بنيان الدولة والتفت أيضاً إلى تنظيم الجيوش وتقوية أساطيل البحر الأسود والبحر المتوسط الأبيض.

ولما علم والي الشام جانبرد الغزالي بموت السلطان ظنّ أن ذلك فرصة مناسبة لتحقيق أمانيه فأثار فتنة واستولى على قلعة دمشق وغيرها وراسل خير بك عامل مصر على الانضمام معه مسهلاً عليه أمر الفوز لارتباك السلطنة كدعواه وبُعْد دار الخلافة عنهما فجاوبه خير بك بالمراوغة وأرسل مكاتيب الغزالي إلى السلطان فعّين السلطان الوزير فرهاد باشا بجيش وحاربه حتى تمكن من ردعه ثم قبض عليه وقتله 927هـ وأرسل رأسه إلى الاستانة وتعين مكانه إياس باشا والياً على بلاد الشام ثم أمر السلطان فردها باشا بالذهاب إلى الحدود الشرقية لمقابلة جيوش الشاه إسماعيل وصدهم عن شنّ الغارات.

وفي تلك الأثناء أرسل السلطان سليمان مأموراً مخصوصاً من طرفه لمقابلة ملك المجر لتسوية بعض المسائل الموقوفة بين المملكتين ولإخباره بارتقاء السلطان على كرسي السلطنة، فلما وصل هذا المأمور قتله ملك المجر فساء هذا الأمر السلطان وأمر جيوش الرومللي بالاستعداد ثم شكل منهم جيشاً تحت قيادة الوزير أحمد باشا ثم خرج السلطان مع معظم الجيش من مدينة أدرنة وأمر يالي بك بغزو بلاد كرواسيا أو الحزوات وخسرو بك محافظ سمندرة بحصار بلغراد ومحمد بك بن ميخال بغزو جهات ترانسل فانيا ثم فتح أحمد باشا قلعة بكوردلن واستولى بيرى باشا الصدر الأعظم على قلعة زميني وضم جهات سرم بالقوّة إلى الممالك العثمانية وألقى السلطان بنفسه الحصار على بلغراد وبعد أن حاصرها نحو شهرين ونصف وخرب أسوارها بالألغام استولى عليها عنوة 927 هـ .

ولما دخلها صلى الجمعة بإحدى كنائسها التي حوّلت فيما بعد إلى مسجد وقد كانت هذه المدينة أقوى حصن للمجر مانع لتقدم العثمانيين إلى ما وراء نهر الدانوب ثم أعلن السلطان ملوك أوروبا بهذا الفتح ولما تم فتحها ألحق بسنجقية سمندرة وصارت فيما بعد تابعة لولاية بوسنة وفي تلك الأثناء استولى العثمانيون أيضاً على قلاع (اسلانقمش وقونك وأيق وأبرشوه) من بلاد المجر ثم عاد السلطان إلى دار الخلافة غانماً ظافراً.

وبعد عودته إلى استانبول أرسل إليه رؤساء جمهوريتي النبادقة وراغوزة يهنئانه بالفتح وأرسل إليه أيضاً وسيلى قيصر الروس يهنئه ويعرض عليه عقد معاهدة دفاعية وهجومية بين المملكتين وذلك على يد مدير قصره المدعو جان موزوروف وكان يحمل صورة تلك المعادهة فلم يقبل السلطان ذلك.

وفي سنة 928 هـ أمضيت بين الدولة العثمانية وجمهورية البنادقة معاهدة تجارية تؤيد المعاهدات السابقة على يد سفيرها المدعو مارقو ممون وزيد عليها أن قنصل الجمهورية أي وكيلها بإستانبول يغير كل ثلاث سنوات وأن يكون له الحق في نظر أمر تركات رعيته وأن يرسل من طرفه ترجماناً لحضور المرافعة التي تقام ضدّ رعايا حكومته أمام المحاكم العثمانية وأن يكون المبلغ الذي تدفعه إلى الدولة نظير احتلالها جزيرتي قبرس وزنظة عشرة آلاف دوكا عن الأولى وخمسمائة عن الثانية ولهذه والمعاهد أهمية عظمى لأنها أس الامتيازات الأجنبية ببلاد الدولة العثمانية.

فتح جزيرة رودس 929هـ:

لما انتشر خير التجهيزات المذكورة وما عزم عليه السلطان خافت فرسان ردوس سوء العاقبة فأسرع رئيسهم المدعو ويليه دوليل أدم De Villiers de l'lle-Adam وأرسل سفراء من قبل إلى الباب العالي بأنه مستعد لدفع جزية سنوية للدولة قاصداً بذلك تحويل السلطان عن نيته حتى يتيسر لأوروباً إمداده إلا أن السلطان طلب منه إخلاء الجزيرة وأن يأخذ معه كافة أمواله وكل من يريد الهجرة ولما لم يقبل أقعلت الأساطيل تحمل الجنود ومدافع الحصار الضخمة 928هـ وكانت الدوننما مركبة من 300 سفينة حربية و 400 سفينة نقلية تحت قيادة القبودان ييلان مصطفى باشا وبها 1000مقاتل تحت قيادة الوزير الثاني داماد مصطفى باشا ثم خرج السلطان بجيش عظيم براً قاصداً قرضة مرمريس الواقعة بساحل الأناضول تجاه جزيرة رودس للإمداد والوقوف على حركات التجريدة.

وفي اليوم الرابع من شهر شعبان من السنة المذكورة وصلت الأساطيل إلى ساحل الجزيرة المذكورة أمام المكان المسمى الآن جم باغجه ولأجل إشغال أهالي رودس حتى تخرج العساكر بالسهولة أخذت السفن تمر أمام قلعتها الحصينة ذهاباً وجيئة فأطلق عليها المحافظون قنابل كالأمطار ولكن لم تصب السفن بشيء منها القربها من الساحل ثم رست مع باقي السفن في فرضة أو كوزبورنو الواقعة غربي الجزيرة وأخرجت المهمات والذخائر ومدافع الحصار ثم شرع القائد عند ذلك في ترتيب نظام الحصار حول مدينة رودس وبينما كان مصطفى باشا يحاصر المدينة وصل السلطان براً مع الجيش إلى فرضة مرمريس وذهبت السفن إليه فنقلته مع الجيش إلى الجزيرة وبعد أن شاهد حصونها شرع في ترتيب أمر الحصار بنفسه.

ولما رأى متانة القلاع التي شيدها فرسان الجزيرة حول مدينتهم وما أظهروه من الشجاعة والإقدام في أمر الدفاع أصدر الأوامر المحتمة بتشديد الحصار براً وبحراً ومداومة الهجوم واستعمال المدافع الجسمية وغير ذلك من الترتيبات ومع هذا فقد استمر الحصان مدة سبعة شهور متوالية ولما رأى الفرسان أن التضييق عليهم وتخريب قلاعهم أضرا بهم وعلموا أن السلطان لا يرجع عن منازلتهم إلا بالاستيلاء على المدينة، سيّما وأنه هو القائم بنفسه على قيادة جيوشه وأن ليس في إمكان أوروبا إمدادهم بادروا بالخضوح وطلبوا تسليم المدينة للسلطان فعند ذلك أصدر الأوامر للأساطيل والجيوش بالكف عن الحرب وأرسل إليهم زغرجي باشا رئيس اليكجرية لعقد شروط التسليم.

وفي تلك الأثناء وصلت سفن من أوروبا لمساعدة الفرسان فلما رأوها ظنوا أنهم تقووا بها وصار في إمكانهم صد أبطال العثمانيين فعادوا للمدافعة والمقاومة فأمر السلطان بزيادة التضييق والأكثار من الهجوم عليهم فلم يفلحوا فيما ظنوه بل صار لهم ضغثا على إبالة لأنهم بعد أن خسروا خسائر عظيمة عادوا وطلبوا الأمان من السلطان فأمنهم وأتى رئيسهم فلاري آدام بنفسه إلى خيمة السلطان لعقد شروط التسليم التي كان من ضمنها التصريح لكافة أمراء الفرسان المذكورين ومن تبعهم بمبارحة الجزيرة وأن يأخذوا أمتعتهم وأسلحتهم الخصوصية فقط وغير ذلك ولما تمّ عقد الشروط استولى السلطان على قلاع المدينة المذكورة في يوم 7 صفر سنة 929هـ 1522 م واحتلتها جنوده أما فرسان القديس يوحنا فإنهم ذهبوا إلى جزيرة مالطة وأمن السلطان الأهالي وصرح لهم بمعاطاة أعمالهم وإجراء رسوم دينهم بكمال الحرية.

ولما كان السلطان مشتغلاً بفتح رودس اتخذ لويس الثاني ملك المجر ذلك فرصة وتعدي على حدود الدولة بالروسللي فقاومته جنود نكيولي وسمندرة فلما عاد السلطان وبلغه هذا الخبر صمم على محاربة المجر فأرسل جيشاً مركباً من 300 ألف مقاتل تحت قيادة الصدر الأعظم إبراهيم باشا 932هـ 1526م وأسطولاً مركباً من 800 سفينة مشحونة بالذخائر والعدد إلى نهر الطونة ثم خرج السلطان بنفسه حتى وصل إلى جهة سرم بعد أن عبر نهر صاوه على جسر ودخل الصدر بجيشه بلاد المجر وفتح جملة بلاد منها راجه و أرادين و أبلوق و أرك و غراغوريجه و جرويك و برقاص و ديمتروقجه و توكاى و يوادخ و برا جه و دوكن و صوتين و بقوار و أرداد وغيرها ثم تقابل مع جيش مجري مؤلف من 150 ألف مقاتل يقوده لويز الثاني ملك المجر بنفسه في صحراء مهاج Mohacs وانتشب بينهما القتال وفي أثنائه وصل السلطان الغازي مع جموعه فأخذ قيادة الجيش بنفسه فتقوّت بذلك قلوب العثمانيين وتضاعفت شجاعتهم الفطرية خصوصاً لما نادى السلطان فيهم مشجعاً حاثاً محرضاً واعداً متوعداً فلم يمض على ذلك غير القليل حتى انهزم المجريون مع من كان انضم إليهم من جيوش الكرواسيين مساعديهم.

وبينما كان لويز الثاني يولي الأدبار ساخت قوائم فرسه في غدير فوقع وقعة شديدة كان فيها حتفه ومات من جنوده في هذه الواقعة أكثر من عشرين ألف جندي وبعد قليل استولى السلطان على مدينة بودين (بوده) تخت مملكة المجر بلا حرب وأمر فنقل منها جملة آثار قديمة إلى الإستانة العلية ثم بعد ذلك استولى على مدينة واردين وفتح قلاع بشته بست وزجدين وباجقه وتتل وباج وسيتا وبانقه و ببرلك و قميني و فلك حاجي وعدة جهات من جنوبي تلك المملكة ثم قفل راجعاً إلى استانبول منصوراً ظاهراً.

yacine414
2011-03-18, 15:56
محاصرة ويانة:

لما لم يكتف السلطان باسترداد بودين واقعاً دجان زابولي على تختها أراد أن يظهر لفريدينند وشرلكان ما عليه العثمانيون من القوّة والاقتدار فصمم على محاصرة مدينة ويانة المسماة في التواريخ القديمة العثمانية باسم بج ولما سمع فردينند بعزم السلطان أخذ في جمع الجنود واستمد شرلكان واستعد لصد العثمانيين الذين لما وصلوا إلى جهات استرغون بلغهم أنّ فردبنند لما لم يتمكن من جمع القوّة الكافية للمدافعة ترك عاصمته وانسحب إلى الجهة الأخرى من مملكته فتفرق العثمانيون فرقاً عديدة أخذت في النهب والتخريب والإغارة حتى وصلت في العشرين من شهر محرم من السنة المذكورة إلى مدينة ويانة وهناك نصبوا خيامهم وحطوا رحالهم واستعدوا لإلقاء الحصار عليها.

ولم يكن بتلك المدينة للنمساويين سنة 20 ألف جندي 72معهم مدفعاً أما جيش العثمانيين فكان يتألف من 120ألف مقاتل معهم 400 مدفع ثم حصل بين العثمانيين والنمساويين نحو عشر وقائع كان النصر فيها جميعها للعثمانيين ولما رأى السلطان أن العدوّ كف عن القتال وما عاد يخرج من المدينة كالسابق وأن فصل الشتاء قد أقبل وأنه لم يجلب معه مدافع الحصار العظيمة لأن مجيئه لم يكن القصد منه الاستيلاء على ويانة التي لا يمكن فتحها إلا بالمدافع الضخمة قرر العودة إلى استانبول للأسباب المذكورة وفي تلك الأثناء أتى مأمور من عند النمساويين للمكالمة في الصلح مخبراً بأن دولة النمسا تتعهد بالامتناع بعد ذلك عن المداخلة في أحوال المجر ثم أطلق سراح الأسرى من الجانبين وعاد السلطان إلى الاستانة وقد تحمل الجيش مشقة عظيمة عند الرجوع لحلول فصل الشتاء 936هـ .

آل خير الدين وأصلهم وحوادثهم:

أعلم أن أصل هذه العائلة من صحراء آجه بالأناضول كان والدهم من عساكر السياهي انتقل إلى جزيرة مديللي بعد فتحها صحبة الجيش المحافظ واتخذها موطنا له ورزق هناك بأربعة أولاد وهم إسحاق وأورج وخضر وإلياس ولما وصلوا إلى سن الرشد اشتغل أحدهم وهو إسحاق بالتجارة واشتغل الثلاثة الباقون بالأسفار البحرية للكسب والغنيمة فكان خضر يتردد بالأسفار زمن السلطان بايزيد على سواحل مروة وسلانيك وكان أوروج وأخوه إلياس يتردد أن على السفر إلى مصر وبر الشام فصادفا مرة في بعض أسفارهما سفنا لقرصان رودس قبل فتحها فحصل بينهما وبين هذه السفن محاربات دموية قتل فيها إلياس وأسر اوروج .

فلما بلغ الأمير قورقود ابن السلطان بايزيد وهو حاكم القرمان تلك الحادثة تداخل في الأمر حتى تمكن من إطلاق أوروج الذي صمم على الأخذ بالثار من أعدائه واستأذن الأمير المشار إليه في الخروج فأمده بسفينة ذات ستة وثلاثين مقذافاً وكان السير بالبحر الأبيض المتوسط في الوقت المذكور محفوفاً بالأخطار لتعرض سفن القرصان للمراكب التجارية ولعدم الأمنية كانت السفن التجارية مضطرة لأن تكون دائماً مجهزة بالآلات الحربية.

ثم تقابل مع أخيه خضر بالقرب من جزيرة جربة واتفقا مع الأمير محمد الحفصى سلطان تونس على أن يتنازل لهما عن قلعة حلق الوادي ليجعلاها مركزاً لها ويكفيانه بذلك شر أعدائه ويقاسمانه في كافة الغنائم التي يستوليان عليها ولما قبل منهما ذلك أخذا يتجولان بسواحل أوروبا للغزو والغنيمة ولما انضم إليهما بعد ذلك أخوهما إسحاق الذي كان يشتغل بالتجارة كثرت مراكبهم وطار ذكرهم وعلا اسمهم في البحار وقد امتلك المذكورون بمشال أفريقية مدن جيجلي والجزائر وشرشيل وتنس وتلمسان وبجاية وصاروا حكاماً عليها ثم اتحد الاسبانيول مع التلمسانيين بقصد الإيقاع بالبارباروسيين المذكورين وبعد أن حاصروهم ستة شهور بتلمسان حصاراً شديداً استشهداً الأخوان المذكوران فبقى أخوهم خضر بعد ذلك صاحب المدن التي بقيت لهم من المدن المذكورة يحكمها مستقلاً فحاز هناك وبسواحل أوروبا شهرة عظيمة وذكراً مهيباً حتى كان الافرنج يخوفون بذكره أطفالهم.

محاربة كورفز البحرية الشهيرة:

لما أقلعت الدوننما السلطانية من استانكوي ووصلت إلى اغريبوزلحق بها أسطول صالح بك المذكور وبعد أن أخذت ما يلزمها من الماء والذخيرة وتركت ما معها من السفن الضخمة أقلعت قاصدة الجزائر السبعة وبوصولها إلى متون رست بها وهناك علم خير الدين باشا أن أساطيل الدول المتحدة مجتمعة أمام بره ويزه تحاصرها وكانوا شددوا عليها لحصار فأرسل صالح بك بإسطوله إلى تلك الجهة للاكتشاف ولما وصل الأسطول المذكور إلى جزيرة زانطة شاهد فرقة بحرية من سفن الأعداء آخذة في التقديم نحو الشاطئ ولما وصل إلى جزيرة باكسو وشاهد الأعداء تموج العلم العثماني تركوا يره ويز ورجعوا إلى جزيرة كورفو.

أما خير الدين باشا فإنه بعد أن أخذ ما يكفيه من المياه من بلدة حلوميج قصد كفالونيا وأنزل فيها بعض جنوده وتقدم نحو ميناء يره ويرة مظهراً للأعداء سطوة العثمانيين وتلاقى بأسطول صالح بك ثم قوى قلعة يره ويزه ووضع فيها ذخائر حربية كثيرة وزاد في حاميتها من عساكر الدوننما ثم أخذ يراقب أحوال دوننما الأعداء المجتمعة بخليج كورفو مقدراً قوتها ثم عرض ما رآه من ذلك على السلطان.

وفي غرة جمادى الأولى من سنة945هـ 1538 م أقبلت دوننما الأعداء تحت قيادة أندريا دور باتجاه ره ويزه وألقت مراسيها أمام جزيرة سنتماورو البعيدة عن موقع دوننما العثمانيين بأربعة أميال وكانت هذه الدوننما الجسيمة مركبة من 52 سفينة للأمبراطور شارلكان و70سفينة للبنادقة وكانت تحت قيادة الأميرال كا يلوو 30 سفينة للباباو 10 سفن لقرصان مالطة و 80 سفينة لاسبانيا وبعض سفن أخرى للحكومات الأخرى البحرية أما الدوننما العثمانية فكانت مركبة من 140سفينة ما بين صغيرة وكبيرة فقط.

وبعد أن تداول خير الدين باشا مع جميع رؤساء سفنه وفرقه طويلا وكان من أشهرهم مراد رئيس وطورغود وكوزلجه وصالح رئيس أجمعوا على قتال الأعداء بلا توان ولما أقبل الليل قصد العدو أن يخرج إلى البر قسما من العساكر ولذلك أراد إشغال العثمانيين عن التصدي له بمحاولة إحراق أساطيلهم أو بعضها إلا أنه لتيقظ العثمانيين لم يتمكن الأعداء من نوال مقصدهم ثم بعد يومين أرسل العدو جملة من سفنه من نوع الغالي فأتت ووقفت أمام مضيق يره ويزه ناشرة قلوعها وأخذت في إطلاق المدافع على الدوننما العثمانية فغضب العثمانيون من هذه التعديات وفارت دماؤهم.

وأمر خير الدين باشا قائدهم بدق طبول الحرب ثم خرج بالدوننما خارج المينا بعد أن رفعت أعلامها واصطفت على بعد ثمانية أميال منها على هيئة حربية ثم أمر خير الدين باشا السفن التي صارت على مرمى نيران المدافع أن تهجم على العدو بعد أن تطلق عليه الثلاثة مدافع الموجودة في مقدم كل منها وكانت نيران الأعداء شديدة ثم تمكنت فرقة من السفن الأربعين التي كان عينها خير الدين باشا للهجوم ودخلت وسط دوننما العدو قبل الغروب بعد أن تمكنت بقوّة مدافعها من تفريق سفنه إلى قسمين ثم بعد قليل تشتت السفن التي قدرت على التحرك من سفن الأعداء شذر مذر بحالة سيئة وكان دخول الليل فرصة عظيمة للعدو حيث تمكن بعض سفنه من الهرب إلا أن العثمانيين اقتفوا أثرهم.

وفي اليوم التالي صاحباً دارت الدوننما العثمانية خلف جزيرة أياماورو وتقابلت مع سفن العدو ثانية بميناء اينجيرفها جمتها ولما لم يتمكن العدو من الفرار لسكون الريح صف سفنه على هيئة حربية وانتشب القتال باطلاق المدافع وكانت السفن الجسمية الحربية التي من نوع الغالون هي والتي من نوع القارك في المقدمة أما باقي السفن الصغيرة فكانت في الخلف تتربص هناك حتى متى وجدت فرضه هجمت على الجهة المراد مهاجمتها كل ذلك بمقتضى فن الحرب البحري في العصر المذكور وبهذه التشكيلات تمكن الأمير اندريادوريا من مقاومة العثمانيين زمناً طويلاً ولكون سرعة سفن الغالون والقارك بطيئة كحركتها كانت مقذوفات مدافعها الضخمة لا تذهب إلى مسافة طويلة وبذلك كانت أقل سرعة وحركة من أغربة العثمانيين التي كانت مقذوفات مدافعهم ترمي إلى مسافات أبعد بكثير من مدافع العدو ولهذا استولت الحيرة على الأميرال المذكور ولم يدر ما يصنع.

فاتفق عند ذلك الأميرال أندريادوريا مع أميرال البنادقة وصنعا حركة حربية قدماً بها سفن الغالي إلى الإمام لتنجو سفنهم الجسيمة المذكورة ولما شاهد خير الدين باشا هذه الحركة قابلهما بفرقة من أساطيله فخافا سوء العقابة والتزما الرجوع خلف غلايينهم وأغربتهم وصمم في هذه الحالة اندريادوريا على الهجوم على العثمانيين من الخلف ليحصرهم بين الغلابين والأغربة وسفنه الخفيفة إلا أن خير الدين لم يترك له وقتاً لانفاذ هذا التربير حيث انقض عليه سريعاً بأساطيل الجناحين ثم هجم عليه حتى اضطره للقهقرى وهجم أيضاً على السفن الخفيفة المحمية خلف الغالونات فتحير الأميرال أندريادوريا من هذه الحركة التي لم تكن تخطر بباله أصلاً ولذلك التزم الفرار من ميدان الحرب بما لدية من الأغربة السريعة تاركاً كافة السفن الجسيمة فاستولى العثمانيون على أغلبها وغرق الكثير منها وأحرق خير الدين باشا ما لا يصلح من بينها.

ولما كانت مناورة خير الدين هذه كدرس مفيد في علم الحرب البحري استعملها أمير الات الدولة الإنكليزية في محارباتهم البحرية كالأميرال رودني والأميرال جرفس سنت وينسنت والأميرال نيلسون وغيرهم فكانت كافلة لهم بالانتصارات العديدة والظفر في كل حروبهم البحرية وعقب هذا الانتصار أنعم السلطان سليمان على خير الدين باشا بلقب غازي.

ولما ارتدت باقي الأساطيل بالخيبة أراد قوادها أن لا يرجعوا إلى بلادهم إلا باكتساب نصر ولو جزئي يحط عنهم بعض ما لصق بهم من أدران العار فعرجوا على قلعة نوه الواقعة في ساحل ولاية هرسك وحاصروها براً وبحراً ولم يتمكن أمير تلك الولاية المسمى يالي بك من تخليصها من الحصار فسلمت إليهم عنوة وقتلوا جميع حاميتها من المسلمين ولما بلغ السلطان خبر ذلك أصدر الأوامر بالتجريد عليهم لردها من يدهم فأسرع خسرو باشا والي الرومللي بجيشه وحاصرها في فصل الربيع ولما وصلت الدوننما مع القبودان باشا بحراً تمكنوا من استخلاصها 946 هـ ثم فتح قلعة تيرة من يد البنادقة واهتم جنرال البنادقة الذي بقلعة زاره من ردها فعاد خائباً.

وقبل وفاة جان زابولي ملك المجرالذي كان تحت حماية الدولة العثمانية المتزوج بالأميرة إيزابيلة بنت ملك بولونيا كان جعل ولده الذي له منها المدعو استيفان ولي عهده إلا أن فردينند ملك بوهيميا طلب من الملكة إيزابيلة تسليم المملكة إليه حسب المعادهدلا التي اتفق عليها مع زوجها قبل وفاته وعرض على إيزابيله إقليم ترانسل انيا وهو الأردل تحكمه مع ابنها المذكور فلم تقبل وعدت ذلك منه تعدباً على حقها فأرسل فردينند عند ذلك جيشاً المحاربة المجر.

ولما رأت إيزابيلة أنها غير قادرة على مقاومته أرسلت رسولًا إلى السلطان سليمان ومعهم جزية سنتين تلتمس منه المساعدة والإمداد فأرسل جيشاً تحت قيادة الوزير صقوللي محمد باشا وخسر وباشا بكلر بك الرومللي ثم أرسل الأساطيل العثمانية تحت قيادة خير الدين باشا للمحافظة على جزائر بحر سفيد ثم خرج السلطان بنفسه إلى بلغراد ليدرك جيشه عند اللزوم وليكون أقرب إلى ميدان القتال ه ولما اقترب السلطان من مدينة بودين أرسل له الوزير يخبره بظفره على الإعداد نصراً مبيناً ثم تقدم السلطان فرحا حتى وصل بودين.

وفي سنة ه م لما تعدى شارلكان على فرنسيس الأوّل ملك فرانسا طلب هذا نجدة من السلطنة العثمانية فأرسل له السلطان دوننما مشكلة من مائة سفينة حربية تحت قيادة خير الدين بالشا لمساعدة العمارة الفرنساوية التي كانت تحت قيادة دون انغيان وكانت مركبة من أربعين سفينة حربية في محاربات نيس وسواحل إسبانيا وفتحت للفرنساويين جملة حصون وسلمتها لهم ولما حل زمن الشتاء عادت العمارتان الفرنساوية والعثمانية إلى ميناطولون لتمضية فصل الشتاء بها حسب العادة.

وفي أثناء إقامتهما بتلك المدينة كان خير الدين باشا كلما زار أوقابل ضباط البحرية لا مهم على إهمالهم أمر سفنهم وكان الأميرال الفرنساوي دوق انغيان يسمع هذه الاعتراضات بأذن صاغية من هذا البطل الشهير ويحلها محلها من الاعتبار وقد قد أرشد الفرنساويين بذلك إلى جملة تحسينات بحرية.

yacine414
2011-03-18, 15:57
محاربات العثمانيين ببحر الهند

اعلم أنه بينما كانت الدولة العثمانية مشتغلة بالمحاربات البحرية والبرية المستمرة مع البنادقة وإسبانيا والدول المتفقة معهما في البحر الأبيض المتوسط كان البرتغاليون يمدون فتوحاتهم بسواحل الهند ذاهبين إليها من طريق رأس عشم الخير بجنوبي أفريقية وكانوا استولوا على كثير من البلاد الكائنة على السواحل المذكورة وصاروا ينقلون منها بسفنهم تجارة هذه البلاد إلى بلادهم بولاد أوروبا مارين بالطريق المذكور وبعد أن كانت التجارة الهندية والصينية تنقل من هاته البلاد إلى ثغر السويس ومنه إلى الإسكندرية ومنها إلى أوروبا في البحر المتوسط الأبيض بواسطة السفن التجارية العثمانية وغيرها من سفن الدول المتحابة.

كانت أعمال البرتغاليين التي ذكرناها سبباً لتعطيل المنافع والتجارة العثمانية فأصدر السلطان الأوامر المشدّدة إلى وزيره الذي اشتهر وقتئذ بالشجاعة وحسن التدبير وهو الخادم سليمان باشا والى مصر بتجهيز الأساطيل اللازمة في البحر الأحمر لإرسال الحملة التي صمم السلطان على إرسالها لمحاربة البرتغال بجهات الهند وتأمين طرق التجارة وأرسل لذلك من الاستانة سليمان رئيس وكان أشهر رجال عصره معرفة بالملاحة والبحرية لمساعدة سليمان باشا في هذه المأمورية فتمكن الاثنان بما بذلاه من النشاط من تجهيز وتشييد جملة سفائن في فرضة السويس 944هـ 1537م .

وفي خلال ذلك قام هما يون شاه ملك الهند يقصد محوملوك الطوائف الذين بأطراف بلاده ولما هدد بها درشاه ملك كجرات سنة 943هـ أرسل هذا من طرفه سفيراً إلى السلطان سليمان يطلب نجدته فكانت هذهالمسألة وسيلة أخرى لتنقيذ ما صمم عليه السلطان من إرسال الجيوش والأساطيل إلى بلاد الهند.

ولما تمت التجهيزات أقلع سليمان باشا من السويس بعمارة مؤلفة من ثمانين سفينة تحت قيادة سليمان رئيس بها عشرين ألف جندي ولما وصلت هذه السفن إلى عدن سنة 945هـ استدعى سليمان باشا أميرها المدعو عامر بن داود فقبض عليه وصلبه في سارية من سواري السفن بعد أن كان وعده بالأمان وبذلك استولى على إمارة عدن بلا حرب وأبقى فيها بعض الجنود ونصب عليها بهرام بك أحد أمراء الجنود العثمانية محافظاً.

ثم أقلع منها قاصداً سواحل الهند فوصلها بعد أيام ولما أرسى على ساحل كجرات بلغه أن بهادرشاه الذي كان طلب مساعدة الدولة تصالح مع خصمه بعد أن تحاربا مراراً وكانت الأساطيل البرتغالية تسلطت على ثغور كجرات واستولت على فرضة ديووما جاورها من البلاد ومات في الحرب بهادرشاه وخلفه الملك محمود في مملكته وكان هادن البورتغاليين.

ثم إن سليمان باشا الخادم أخرج الجيوش إلى البر بعد أن اتحد مع الملك محمود وأخذ يقاتل البرتغاليين حتى استولى منهم على قلعتي كوله وكات وقتل منهم أكثر من ألف محارب ثم شرع يحاصر فرضة ديو براً وبحراً وتمكن بعد زمن من الاستيلاء على قلاعها الأمامية إلا أن مقاومة محافظها البرتقالي المدعوا أنطوان وما أظهره من الجسارة والإقدام في المدافعة عن القلاع الداخلية أعلمه أن الاستيلاء عليها لا يمكن نواله بسهولة سيما وأنه لما رأى أن ذخيرة العساكر قاربت الفراغ طلب من الملك محمود إمداده بالذخيرة غير أن الملك محمود كان يخاف أن يصيبه منه ما أصاب أمير عدن فلم يلتفت إليه بل صالح البرتغاليين فالتزم سليمان باشا عند ذلك برفع الحصار عن الفرضة المذكورة والعودة إلى السويس.

وقد لام صاحب تاريخ الخبر الصحيح سليمان باشا الخادم على فعلته بأمير عدن لأنها كانت سبباً في ضياع الفوائد التي اكتسبها في سفرته هذه بالبلاد الهندية وبعد عودة الأساطيل والجيوش إلى عدن حضر أمير بلاد الشحر وقدم خضوعه للسلطنة فقبل الباشا منه ذلك وأمنه وذخلت تلك الجهات ضمن الأملاك العثمانية ثم مر على سواحل اليمن وأخضعها وولى عليها مصطفى باشا ابن بيقلي محمد باشا.

التجريدة الثانية البحرية ببحر الهند:

قد علمت مما سبق أن الخادم سليمان باشا استولى على مدينة عدن أثناء ذهابه بالحملة الأولى ولما كان هذا الاستيلاء لم يحصل بوجهه الشرعي لقتل أميرها المدعو عامر بن داود ظلماً وعدواناً ثارت الأهالي خصوصاً أقاربه على الحاكم الذي تعين لمحافظتها واتفقوا مع البرتقاليين وساعدوهم على تسليم المدينة لهم ولما علمت الدولة بذلك سيما وأن نجاحها في التجريدة الأولى لم يأت بالفائدة المطلوبة أرسلت في سنة 959هـ 1551 م عمارة أخرى من البحر الأحمر تحت قيادة المدعو بيري رئيس مؤلفة من ثلاثين سفينة بين أغربة وشواني وغلايين.

وقد تمكن هذا القبودان من استرداد عدن والاستيلاء بعد ذلك على مدينة مسقط وجزيرة هرمز ودراخت الواقعتين عند مدخل الخليج الفارسي ليجعلهما نقطتين يلتجأ إليهما عند الحاجة ثم أقلع يريد البصرة وهناك بلغه أن اسطول البرتغال آت لمحاربته ولما كانت أساطيله ينقص منها بعض الأدوات والآلات تركها بالبصرة وعاد بغرابين إلى مصر.

ثم عين السلطان مراد بك قبودانا على إسطول مصر فقصد البصرة بعمارة عظيمة وبعد أن ترك بها سبعين سفينة خرج بإسطول مؤلف من 17 سفينة وبوصوله إلى مضيق هرمز تقابل مع البرتقاليين ولما انتشب القتال بينهما انتصر البرتقاليون وقتل من أساطيل العثمانيين كثير من قوادها عند ذلك اضطر مراد بك إلى الرجوع إلى مدينة البصرة ثم عين السلطان البحري الشهير والفلكي الخبير سيد علي رئيس قائداً للأساطيل المصرية 960هـ .

وكان لهذا الرئيس اطلاع تام على بحار الهند وخواصها وله في ذلك تأليف معتبر منها كتابه الذي سماه "بالمحيط" وصف فيه بحار الهند وصفاً مدققاً وقد تمرن على الغزوات البحرية مع خير الدين باشا الشهير ولما وصل إلى البصرة ورتب أساطيله ووضع فيها ما يلزم من القواد والبحارة أقلع حتى وصل إلى جهات هرمز لمنازلة البورتغاليين هناك وكانت سفنهم ثلاثة أمثال سفنه ومع ذلك فقد انتصر عليهم نصراً مبيناً وأغرق من سفنهم عدداً كثيراً ثم خرجت عليه أنواء عظيمة أتلفت بعض سفنه وألقت بالبعض الآخر على سواحل بلاد الهند فساءت حالته وضعف أمره وخاف قواد السفن الباقية من زوابع البحر المحيط الهندي فأرسى بها على سواحل كجيرات وخرج من بقي بها من الجنود إلى البر وسلم السفن وأدواتها إلى الملك أحمد ملك كجيرات ثم عاد بنحو الخمسين فقط من أتباعه بين رئيس ومرؤس مارين بالبلاد الهندية وبلاد العجم حتى وصلوا إلى الأراضي العثمانية بعد أن صادفوا من الأهوال والمشقات مالا يوصف ذكرها في رحلته المسماة بمرآة الممالك التي كتبها بعد عودته وبعد ذلك صارت الأساطيل العثمانية تتردد على بحار الهند وتنازل البرتغاليين حتى أضعفت سلطتهم وكان لها في ذلك الوقت القدح المعلى في سلوك البحار.

المحاربة مع مملكة إيران:

أعلم أنه في سنة 955هـ التجأ أخو الشاه طهما سب المدعو القاص ميرز إلي السلطان مستجيراً به من ظلم أخيه وتعديه على حقوقه الشرعية فتأثر السلطان من ذلك وكان ينتظر سبباً مسوغاً لقتال العجم وبعد أن جهز الجيش خرج به قاصداً تلك البلاد وما زال سائراً منصوراً حتى وصل إلى مدينة تبريز وعند عودته استرد مدينة وان التي كان الأعجام استولوا عليها ولما كان أهل الكرج يظهرون الخصومة للدولة العثمانية انتهز السلطان أيضاً فرصة وجوده بتلك الجهات وأرسل وزيره الثاني قره أحمد باشا بالقوّة الكافية فأخضع بلادهم وأدخلها ضمن الأملاك العثمانية وبعد خروج العثمانيين من بلاد العجم تقدم ملكهم طهماسب الذي لم يتجاسر على الوقوف أمام العثمانيين في المرة الأولى وأخذ في شن الغارة على جهات موش وعاد لجواز وأخلاط وغيرها فجرد السلطان لذلك جيشاً كثيفاً جعل عليه وزيره الأعظم رستم باشا.

مساعدة السلطان الملك فرنسا:

لما وقعت العداوة والشحناء بين فرنسيس الأول ملك فرنسا وشرلكان امبراطور ألمانيا وملك إسبانبا استنجد ملك فرنسا ثانية بالسلطان سليمان طالباً إمداده لردع خصمه القوي فأمر السلطان وهو يحارب العجم طورغودبك المعروف عند الفرنج باسم (Dragut) بالسفر صحبة العمارة البحرية لمساعدة فرنسا فتوجه هذا القائد الشهير بالإسطول العثماني ومعه العدد الكافي من الجنود 960هـ 1553م واتحد مع القبودان بولان المتقدم الذكر رئيس أساطيل فرنسا وحاربا الإسبانيول وانتصرا على كثير من سفنهم وفتحا عدة قلاع ومدن ساحلية أضيفت إلى أملاك فرانسا ثم خلّص طورغود نحو سبعة آلاف أسير من المسلمين كانوا لدى الإسبانيول في قلعة بشتيا (Bestia) من أعمال قورسقه وغير ذلك ثم حصل بينه وبين قائد أساطيل الفرنسويين خلاف فعاد إلى استانبول وأحسن السلطان عليه برتبة بكلر بك الجزائر مكافأة له.

محاربة جربة الشهيرة:

خرج بياله باشا 966سنة بعمارة حربية مؤلفة من 88 سفينة وتقابل في مياه سبيانجه بسفينة طليانية فقبض عليها ولما استنطق طائفتها علم منهم أنه لما زادت الدولة العثمانية قوّتها البحرية في سواحل بلاد الجزائر ومالطة خافت طائفة فرسان مالطة واستغاثت بأوروبا والتمست من حكومتها البحرية إمدادهم بالأساطيل فتداولت تلك الحكومات في الأمر ثم أقروا وأعموماً على مهاجمة العثمانيين فنقل بياله باشا هذا الخبر إلى السلطان الذي اهتم بالأمر غاية الاهتمام وأرسل من إستانبول اثنتي عشرة سفينة لتقوية العمارة العثمانية على أعدائها وأمره السلطان بالتربص في سواحل الأرنؤد لاستطلاع أحوال العدوّ وتقوية حصون تلك البلاد فقام بباله باشا بتنفيذ هذا الأمر كما يجب ثم عاد بالعمارة في الشتاء إلى خليج إستانبول.

وبعد وصوله بقليل ورد خبر من بكلر بك طرابلس الغرب طورغود باشا ينبئ بأنه بعد عودة الدوننما العثمانية من البحر المتوسط الأبيض حضرت أساطيل الدول المتحدة إلى جزيرة جربة وأخذت في إقامة الاستحكامات بقصد الاستعداد للهجوم على طرابلس الغرب في أول الربيع وبناء على ذلك صدرت أوامر السلطان ببناء وتجهيز السفن للسفر وقام بياله باشا بمباشرة وتنفيذ هذه الأوامر وصار يراقب دار الصناعة باستانبول وكليبولي بنفسه حتى تمكن بعد قليل من بناء 120 سفينة.

وفي اليوم الثامن من شهر رجب سنة 967هـ 1560 م أبحر بياله بالأساطيل المذكورة وما زال يجد في السير حتى وصل إلى جزائر قيون حيث تلاقى مع السفينة التي أرسلها طورغود باشا حاملة أخباره وبعد أن اطلع على ما تحمله من المكاتيب أخذ في السير وفي تلك الأثناء قبضت فرقة العمارة التي تحت قيادة أولوج على رئيس وكانت في المقدمة على سفينة حربية للأعداء بقرب متون وعلم من طائفتها التي وقعت بيد العثمانيين أقوال مطابقة تماماً لما كان أخبر به طورغود باشا أي أن دوننمات الدول المتفقة تقصد الهجوم أولاً على طرابلس الغرب ثم اجتمع بياله باشا بفرقتي مصطفى بك حاكم مديللي وقورداوغلي أحمد بك بك رودس بمياه متون المذكورة وسار الجميع يقصدون طرابلس الغرب.

وفي يوم 18شعبان سنة 967هـ 1560 م تحركت الأساطيل العثمانية عند الفجر وما زالت تتقدم نحو الجزيرة حتى شاهد الاسطولان بعضهما عند ذلك أخذ الطرفان في التعبية والتصفيف ثم ابتدأت السفن العثمانية بإطلاق مدافعها المشهورة بسرعتها حتى دمرت للأعداء جملة سفن وتعطلت جملة غالونات عن الحركة فتوقفت عن إطلاق نيرانها فانتهز العثمانيون هذه الفرصة وتقدمت فرقة من أسطولهم حتى دخلت وسط صفوف سفائن العدوّ وفرقتهم إلى شطرين وبذلك التجأ من الجناح الأيمن14 سفينة إلى مينا جربة وخرجت السفن التي كانت تحت قيادة اندريادوريا إلى عرض البحر فترك بياله باشا عند ذلك فرقة من أساطيله في جربة وخرج هو بباقي السفن لتعقب العدو وما زال يطارده حتى استولى منه على سبع وعشرين غليونا وعشرين شانية إلا أن غالبها غرق مما أصابه من المقذوفات وفر الأميرال إندريادوريا تاركاً في قبضة العثمانيين كثيراً من أمراء أوروبا وبرنساتها.

وفي يوم دخول الأساطيل العثمانية الاستانة أشرف عليها السلطان من قصر مطل على البحر وكان دعا الأمراء العظماء والسفراء لهذا الاحتفال فدخلت الأساطيل رافعة أعلام النصر تلوح على وجوه قوادها علامات الشجاعة والفوز تجرّ خلفها ما استولت عليه من سفن الأعداء حاملة ما غنمته من الغنائم النفيسة فكان لذلك منظر من أحسن المناظر وأبهجها وكان قبودان الأساطيل العثمانية علق العلم الإسبانيولي في وسط السارية كما يكون ذلك في حالة الحزن دلالة على ما لحق الإسبانيول ومحالفيهم من القهر والنكال وأصعد الدون الوارو وغيره من القواد والأسرى إلى أعلى مكان بمؤخر السفينة (كمبانا) ومرت الأساطيل على هذه الحالة عند ذلك قام سفير فردينند إمبراطور ألمانيا وهنأ السلطان على الانتصار العظيم فأجابه السلطان بقوله: إذا افتكر الإنسان في أن هذا التوفيق العظيم قد ساقه إلينا الباري جل وعلا بألطافه الإلهية فلا داعي إذن للغرور أو التفاخر .

محاصرة جزيرة مالطة:

لما رأت الدولة العثمانية أن فرسان مالطة أو طائفة القديس يوحنا الذين توطنوا بهذه الجزيرة لا زالوا يظهرون التعدي والعداوة على سفنها ورعاياها وكثيراً ما كانوا يساعدون إسبانيا وباقي الحكومات البحرية الأوروباوية في جميع محارباتها مع الدولة العثمانية، وجه السلطان سليمان القانوني عليهم في شتاء سنة 971هـ 1564 م الأساطيل بعد أن شحنها بما يلزم من العدد والعدد وعين الوزير الرابع مصطفى باشا سردارا على الجيش وبياله باشا فاتح جربة قائداً عاماً للأساطيل وأمر أيضاً طورغود باشا بمرافقة الحملة بما معه من الجنود البرية.

وفي أواخر شعبان سنة 972هـ 1565 م وصلت الأساطيل إلى الجزيرة المذكورة وأخرجت العساكر والمهمات في جزيرة سريغو وعسكرالجيش بجوار نهير بالمكان المدعو بستان بك كل ذلك ولم يبد فرسان الطائفة مقاومة ثم هجمت فرقة من خيالة تلك الطائفة يبلغ عددها ثمانمائة جندي على العساكر العثمانية وانتشب بينهما القتال وبعد قليل ولت تلك الفرقة الأدبار بعد أن تركت كثيراً من قتلاها وجرحاها.

ثم حاصر العثمانيون المدينة من ناحية سنت ألمو جاعلين أعمالهم على قلعتي سان ميشيل وسان أنجلو وكانتا على غاية من المنعة ولما كانت مقذوفات مدافعهما قوية سريعة التزمت العساكر العثمانية بالقهقري وفي تلك الأثناء أصيب القائد الشهير طورغود باشا بجرح بليغ ثم عاود العثمانيون الهجوم مراراً من جهة سنت التي كانت اتخذتها العساكر العثمانية موقعاً مستحكماً لها بناء على إشارة سردارها المذكور وكانت من رأي بياله باشا وطورغود باشا الاستيلاء على المدينة قبل مهاجمة القلاع فلم يوافقهما السردار على هذا الرأي وقد نجم عن الاختلاف في الرأي عدم النجاح وضياع فائدة المهاجمات والمحاصرات ولما توفي طورغود باشا من جرحه ورجح القواد عدم النجاح استقر رأيهم على مبارحة الجزيرة وتركها لوقت آخر ثم عادت الأساطيل العثمانية إلى استانبول بعد أن فقدت كثيراً من الجنود وبعد عودة الأساطيل بمدّة قليلة توفي الوزير الأعظم علي باشا ووجه مسند الوزارة إلى الوزير الثاني صوقللي محمد باشا الشهير.

وفاته:

كان اعترى السلطان الضعف والهزال لتقدّمه في السن حتى أنه أوصى بالسلطنة من بعده لابنه سليم وكانت وفاته بداء النقرس وله من العمر 76 سنة وأخفى الوزير الأعظم صوقللي محمد باشا وفاته شفقة على الجيوش لئلا يفشلوا ويذهب ريحهم وأمر رئيس الأطباء بتحنيط جثته وبعد تمام الفتح أخذت العساكر في ترميم القلعة وإصلاحها وبعث الوزير الأعظم المذكور كور إلي السلطان سليم يدعوه إلى سكدوار وكان يومئذ على إمارة كوتاهية فلما وصله الخبر قام مسرعاً حتى وصل إلى دار الخلافة على حين غفلة من أهلها وجلس على سرير الملك وبعد أن تمت له البيعة واطمأن الناس قصد سكدوار مكان الجنود فأقام ببلغراد حتى وافته هناك ثم حل نعش والده على عجلة إلى الاستانة حيث واروه التراب.

وكان سلطاناً رفيع القدر حازماً موصوفاً بالحكمة والإقدام وقد سنّ عدّة قوانين جديدة نظم بها السلطنة فقوى شأنها وسياستها ولهذا لقب بالقانوني وقسم الدولة إلى عدّة أيالات جعل في كل أيالة منها فرقة من الجنود للمحافظة عليها ورتب نظامات وتنسيقات جديدة لضبط العسكرية ووضع منوالاً جديداً لإيراد الدولة ومصروفها فتحسنت أحوالها حتى بلغت درجة لم تنلها من قبل ولا من بعد.

وكان رحمه الله تعالى محباً للعمارة والمباني جدّد المساجد وشيد المدارس والقلاع وأوقف أوقافاً كثيرة في أكثر جهات المملكة وخصص وظائف للمدرسين والطلبة: ورتب لهم المرتبات من الأوقاف وجدّد عمارة الحجرة النبوية 935هـ وأرسل منبراً من الرخام النقي إلى مكة 996هـ لا يزال بها للآن وله مآثر يعجز عن حصرها القلم وهو بالاختصار من أعظم وأشهر ملوك آل عثمان.

yacine414
2011-03-18, 15:58
السلطان سليم الثاني ابن السلطان سليمان خان 974-982هـ

لما توفي السلطان سليمان القانوني أمام قلعة سكدوار كما ذكرنا أخفى صوقللي محمد باشا الوزير الأعظم خبر وفاته مخافة حدوث ما يكدّر الأمن العام بالمملكة وأرسل مكتوباً خاصاً إلى السلطان سليم الثاني بكوتاهيه يخبره بذلك عن يد رجل من أمنائه يدعى حسن جاويش ولما وصله المكتوب بعد ثمانية أيام أقبل مسرعاً صحبة حاشيته حتى وصل إلى دار الخلافة يوم 9 ربيع أوّل سنة 974هـ وجلس على تخت أجداده وكان سنه إذ ذاك 45سنة وبعد أن بايعه شيخ الإسلام أبو السعود أفندي واسكندر باشا وكان نائباً عن السلطان سليمان في غيبته والعلماء والوزراء والأمراء والأعيان زار أضرحة أجداده ثم توجه إلى بلغراد فقابل الوزير الأعظم وكانت الأعمال الحربية متوقفة بسبب دخول فصل الشتاء وهناك بايعه الجيش وباقي الأمراء.

ولما طلبت اليكجرية منه العطايا المعتادة عند الجلوس أبى ذلك عليهم وردعهم فأظهروا عند عودتهم التذمر وأتوا كثيراً من قبائح الأعمال حتى التزم الوزراء بأن يتوسطوا لدى السلطان فأمر بأن يصرف لهم بعض تلك العطايا وعدهم بما بقي إلى عودته إلى إستانبول فلم يزدهم ذلك إلا عتوّا وإفساداً ووقاحةً حتى أن الوزير الثاني برتو باشا لما أراد نصيحتهم قبضوا عليه وقتلوه وأهانوا أيضاً فرهاد باشا وأخيراً أشار الوزير الأعظم وباقي الأمراء على السلطان بأن يُمنيهم هو بنفسه فسكن اضطرابهم نوعاً وبعد أن صرف لهم المقدار الباقي بعد العودة تمكن الصدر الأعظم من معاقبة من تمرّد منهم وبذلك ارتدع الباقون عن غواياتهم وكان سبب تأخير الصرف فراغ خزينة الدولة وعدم ورود الإيرادات من النواحي وقد راجت بعد ذلك وتحسنت حالتها بعد وصول القبودان بياله باشا بالأساطيل من سواحل إيطاليا.

وفي أوائل جلوس هذا السلطان عصته عرب البصرة وخرجوا تحت قيادة أحد مشايخهم المدعو ابن عليان فجهز عليهم العساكر الكافية وأرسلها تحت قيادة سكندر باشا بكلر بك ديار بكر وخرج لحربهم أيضاً جانبولادبك بعساكر حلب وأورفا بحرافي في خمسمائة وخمسين سفينة في نهر الفرات وبعد وقائع عديدة تمكن العثمانيون من إخضاع تلك القبائل وأذعن ابن عليان المذكور لدفع فريضة سنوية إلى خزانة البصرة قدرها 15000من الذهب 975هـ .

وفي السنة التالية سارت الجيوش تحت قيادة سنان باشا والي مصر لإتمام فتح بلاد اليمن وقهر ثوارها وطرد المتغلبين من البرتغال عليها وبعد عدّة وقائع انتصروا على المتغلبين والمتمردين وأخرجوا البرتقاليين منها وملكوا صنعاء واعترف سلطانها الشريف مطهر بن شرف الدين يحيى بالحكومة العثمانية ثم عين سنان باشا عليها أحد القوّاد المسمى عثمان باشا والياً ثم عاد سنان باشا ظافراً.

فتح جزيرة قبرس:

كانت جزيرة قبرس تابعة للبنادقة وكثيراً ما حدث من أهلها ما يخالف المعاهدات كتعرّض سفنها للسفينة التي كانت تقل دفتر دار مصر غير تعدّيات سفن قرصانها على السفن التجارية العثمانية في سواحل مصر وسورية وفينيقية وما سبق منها مدّة ولاية هذا السلطان على كوتاهية عندما كان ولي عهد واغتصابها خيوله والأشياء التي كان ابتاعها لنفسه من مصر ولم يتمكن من استردادها منهم إلا بعد مشاق جمة فلما صعد على كرسي السلطنة وحدث من سكان هذه الجزيرة ما حدث صمم على إخضاعها خصوصاً وأنها كانت من قبل للمسلمين من عهد خلفاء بني أمية فجرد عليها الجنود وأفتى بجواز ذلك شيخ الإسلام أبو السعود أفندي.

وفي 15 ذي الحجة من سنة 977هـ 1570 م أقلعت الأساطيل العثمانية وكانت مركبة من 360 سفينة تحت قيادة القبودان الأعظم مؤذن زاده علي باشا وكان بها عساكر الأناضول والرومللي وأكثر بكوات الصناجق ونحو 5000 من الانكشارية تحت قيادة السردار الوزير لالا مصطفى باشا وأمر السلطان وزيره الثالث بياله باشا بمحاصرة الجزيرة بالسفن الحربية لقطع الإمدادات الخارجية عنها ثم وصلت الأساطيل والعساكر إلى ليمان طوزلة من الجزيرة المذكورة واستقرت آراء القوّاد على حصار قلعة لفقوشه (Nicosie) أوّلاً أذهى قاعدة الجزيرة بعد حصارها أياماً دخلوها عنوة وقتلوا كثيراً من سكانها ولما شاهد أهل كرينه (Gtrima) ذلك خافوا وسلموا بدون قتال.

ثم حاصروا قلعة ماغوسه (Famagoustie) وكانت من أمنع الحصون وأصعب المعاقل ولما اشتدّ الحال بالمحصورين أرسلوا يستنجدون ملوك أوروبا فلما لم يغثهم أحد سلموا بالأمان ودخل العثمانيون ماغوسه وغنموا منها غنائم كثيرة ورحل كثير من أهل الجزيرة عنها ثم إن بياله باشا ترك قسماً من العمارة للمحافظة على السفن الثقيلة الراسية في المينا السابق ذكرها وأقلع بالباقي إلى سواحل الشام لنقل العساكر الآتية من حلب مدداً للعساكر العثمانية وبعد تمام الفتح عاد بياله باشا بالغنائم إلى إستانبول لدخول فصل الشتاء ولإصلاح بعد السفن وتجهيزها وبصحبته القبودان علي باشا وترك بالجزيرة أربعين سفينة تحت قيادة عرب أحمد بك بك رودس.

وبقي بالجزيرة أيضاً السردار مصطفى باشا لفتح ما بقي من قلاعها وفي خلال محاصرة باقي المدن خرج براغادينو البندقي صاحب قبرس بملابسه الارجوانية وأتى إلى العسكر وقابل السردار وتطاول عليه بألفاظ خشنة ولما كان أمر بقتل أسرى العثمانيين قبل أن يسلم، أمر السردار أيضاً بإخراج من بالسفن من أسرى الإفرنج وقتلهم بحضوره ثم أمر به فقتل هو أيضاً.

محاربة أينة بختي المشهورة بواقعة لابانتو:

لما دخل فصل الربيع من سنة 9هـ خرجت العمارة العثمانية من خليج إستانبول وكانت مركبة من سفينة حربية تحت قيادة القبودان علي باشا وبها السردار الثاني برتو باشا حاملة مأكولات وذخائر حربية لعساكر قبرس وبعد أن أخرجتها عادت إلى مينا مرمريس المقابلة لجزيرة رودس لمراقبة مراكب العدوّ التي أشيع أنها ستحضر للجهات المذكورة ولما تم افتتاح جزيرة قبرس سافرت الأساطيل إلى كريد والتحق بها أثناء سفرها أسطول باي الجزائر أولوج علي باشا وكان مؤلفاً من عشرين سفينة حربية ثم ذهب الجميع إلى سواحل ألبانيا ثم هاجمت العمارة جزيرتي كورفووكفالونيا (Cphalonie) وكانتا للبنادقة وأخربتهما واستولت على مدينتي أولكون (Dulcigno) وباد (Antivari) وبعد أن أقامت العمارة بتلك الجهات زمناً لتوطيد الأمن وتقوية دعائم السكينة ولم تصادف للأعداء سفناً عادت فدخلت جون اينة بختي ولحلول زمن الشتاء تفرّق بعض ملاحي السفن وكثير من الانكشارية التي بها فحدث من ذلك نقص في عساكر وطوائف السفن.

وقد كانت أساطيل الدول المتحدة في ذلك الوقت الآتية لمساعدة البنادقة مجتمعة بمينا مسيني وكانت مؤلفة كما يأتي فكانت أساطيل إسبانيا وعددها70 تحت قيادة الأميرال دون جوان وأساطيل البابا تحت قيادة الأميرال مارك إنطوان مركبة من 12سفينة وأسطول صقلية تحت قيادة الأميرال جاندوكورد مركب من ثمان سفن وعمارة البنادقة تحت قيادة الأميرال ونبيرو مركبة من 108سفن وأسطول نابولي مركب من 32سفينة وأسطول مالطة مركب من ست سفائن وأسطول فرنسا مركب من ثلاث سفائن فيكون عدد الجميع سفينة وكانت القيادة العامة لأكبر الأميرالات وهو دونجوان أميرال إسبانيا المتقدّم وكان من سفن البنادقة ست سفائن من نوع الغالي مدافعها كبيرة بالنسبة لحجمها ذات عيار كبير وأما سفن الاسبانيول فهي وإن كانت جسيمة قوية جيدة الآلات والأسلحة إلا أنه لم يكن معها ماعونات كالبنادقة.

وفي 7جمادي الأولى من سنة 979هـ لما ظهرت عمارة العدوّ المذكور أمام خليج أينه بختي عقد القبودان الأكبر مؤذن زاده علي باشا مجلساً مؤلفاً من كل من برتو باشا السردار وباي الجزائر أولوج علي باشا وباي طرابلس الغرب جعفر باشا وخير الدين باشا زاده حسن باشا ومن نحو خمسة عشر من بكوات صناجق السواحل وبعد أن تداولوا اتفق الجميع على وجوب المدافعة والمحاربة وهم داخل الخليج لتساعدهم القلاع بنيرانها للنقص الموجود بين عساكر السفن ولقلة الأدوات اللازمة لها فلم يقبل القبودان منهم ذلك الرأي بل خالفهم فيه مخالفة كلية ليظهر جسارته مع أنه لم يسبق له رئاسة وقائع بحرية مهمة.

ولما كان هو صاحب الرئاسة العمومية التزم أعضاء المجلس موافقته ظاهراً ثم تقدم إليه أولوج علي باشا وكان أرسخ منه قدما في الفنون الحربية البحرية وقال له: إننا إذا خرجنا بالعمارة لمحاربة الأعداء يلزمنا أن نقابلها على بعد من البر لتتمكن السفن من إجراء حركاتها بالسهولة وهو رأى صائب خصوصاً لسفن الشراع التي يلزمها ميدان واسع للدوران فلم يقبل القبودان منه هذا الرأي أيضاً.

وفي اليوم العاشر من الشهر المذكور أصدر القبودان باشا أوامره لعموم أساطيل العمارة فخرجت قبل الزوال من داخل الخليج المذكور وكانت عمارة الدول المتحدة راسية بجوار جزيرة كارزولاري الكائنة في مدخل جون باتراس الواقع شمالي بلاد مورة وبعد أن عبى العثمانيون أساطيلهم على الشكل الحربي المعلوم إذ ذاك واصطفت أيضاً أساطيل المتحدين وأخذ كل من الفريقين في تشجيع جنوده وقوّاده تقدمت العمارتان نحو بعضهما ولما تقاربتا خرحج من وسط العمارة المتحدة من جانبي سفينة الأميرال جوان السفينتان الراكب فيهما ونبيرو وكولونه وكانا رئيسين لفرقة العمارة وعرضا أنفسهما على أمراء العمارة العثمانية فقابلتهم العمارة العثمانية بالمثل وخرج كل من سفينتي برتو باشا القبودان علي باشا من وسط العمارة العثمانية ليظهر للعدوّ ومكانهما.

وكانت هذه الحركة غير صائبة لأن دون جوان لما رأى جسارة قومندان العمارة العثمانية اتخذ مناورة أخرى للاحتراس من حركتها وكان القبودان العثماني غافلاً عن هذه المناورة لأن دون جوان قدّم الست ماعونات التي كانت في قلب عمارته وهي المجعولة كقلاع عوامة إلى المقدمة وأخر باقي سفائن الفرق خلف الست ماعونات التي ذكرت فابتدأ القبودان باشا بالحملة عليها ولما كان أولوج علي باشا مشاهداً حركة العدوّ نادى على القبودان باشا بترك المواعين وأن يأمر بالحملة على سفن الجناحين فلم يقبل منه ذلك قائلاً لا أقبل على نفسي إن يقال أن العمارة العثمانية هربت من أمام سفن الأعداء فكان هذا الخطأ سبباً في ضياع كثير من السفن العثمانية لأن المواعين المذكورة قامت بخدمة عظيمة لعمارة العدوّ فكانت كمتراس لها أمام سفائن العثمانيين.

ومع ذلك فإن السفن العثمانية لم تتأخر لشدّة النيران بل تمكنت من مضايقة العدوّ من الجناحين وحملت على خط حربه وتغلبت إلى أن دخلت وسط سفنه ثم حملت سفينة قبودان باشا على سفينة دون جوان المذكور فحضرت سفائن بعض الأمراء لمساعدة أميرالهم فتقدمت سفينتان من فرقة القبودان باشا وحملتا على سفائن الأمراء التي تقدمت فكان لهذه السفن في القتال منظر يهول من يراه وقد امتد الحرب ساعتين أصيب في خلالهما علي باشا القبودان عندما كان يبحث عن دون جوان وفي الأثناء تقدم المركيز زانطة كروس بفرقته الاحتياطية واستولى على سفينة قبودان باشا وكان مطرحاً على ظهرها فقطع رأسه من جسده وعلقها على (السران الخسبة الموضوعة عرضاً بالسارية) ولما رأت السفن العثمانية القريبة رأس قبودانها حصل عندها اضطراب شديد تسبب منه انهزام الجناح الأيمن.

أما الجناح الآخر فكان فيه أولوج علي باشا منصوراً بفرقته على فرقة جان أندريا وكان تمكن من تشتيت مراكبه واستولى على 15 سفينة من سفن البنادقة ومالطة وقطع بنفسه رأس جاندو كوردو أميرال مسيني ومزق شمل الفرقة التي كانت معه أيضاً أما فرقة البنادقة التي كانت أمام الجناح الأيمن للعثمانيين رئاسة الأميرال بارياريغو خسرت خسائر جسيمة ومات فيها الأميرال بارياريغو المذكور وخسرت مراكب العثمانيين التي كانت في قلب الفرقة في الجناح الأيمن خسائر بليغة أيضاً.

ولما شاهد أولوج علي باشا قمندان الجناح الآخر قتل القبودان باشا وأن الدوننما العثمانية قد لحقتها الخسائر العظيمة أخذ الأربعين سفينة التي كانت بمعيته وسحب السفن التي استولى عليها من سفن العدوّ وخرج بها إلى وسط البحر بعدما كسر خط حرب الفرقة التي كانت تحاول منعه عن الخروج أما باقي السفن التي خلصت من الجناح الأيمن ومن فرقة الوسط فاقتربت من الساحل وهناك غرزها قوّادها في الرمال لا يتمكن العدوّ من الاستيلاء عليها وقد ضاع للعثمانيين في هذه المحاربة مائتا سفينة حربية منها 92 غرقت والباقي غنمه العدوّ وتقاسمته الأساطيل المتحدة وقتل بهذه الواقعة من الجنود العثمانية نحو 20000بين جنود وقوّاد.

yacine414
2011-03-18, 16:00
صيرورة تونس ولاية عثمانية:

سبق ذكر الحروب التي جرت بين خير الدين باشا بارباروس والسلطان حسن الحفصي والتجاء السلطان حسن لشارلكان إمبراطور إسبانيا ثم تنازله عن بعض الجهات للإسبانيول الذين ردوه إلى نخته وكان الإسبانيول بنوا قلعة متينة في ممر حلق الوادي وعينوا لها أربعة من المحافظين وبعد مدّة توفي السلطان حسن المذكور وخلفه ولده السلطان حميد ولما كان ظالماً عاتياً كأبيه نفرت منه الأمة وكاتبت القبودان قلنج علي باشا مذ كان والياً على الجزائر واتفقوا معه سراً على خلع السلطان حميد وكان القبودان المذكور أطلع الدولة على هذا الأمر فأمدّته بالسفن والجنود وأمرته بفتح تونس فحمل على تونس وهرب بالسلطان حميد كأبيه إلى الإسبانيول وعينت الدولة جعفر باشا والياً لتونس وأبقت معه الجنود الكافية ولكن بقيت قلعة حلق الوادي المذكورة بيد الإسبانيول.

ولما حضر الأميرال دون جوان سنة 881هـ بأسطوله المركب من 150سفينة وحاصر تونس التزم جعفر باشا بالرجوع إلى مدينة القيروان لعدم قدرته على المقاومة لقلة جنوده فعاد السلطان حميد عند ذلك لكرسيه وشرع يعامل الأهالي بالقساوة انتقاماً منهم على ما فعلوه معه ولما رأى الإسبانيول أنه يسعى في نقض الشروط التي بينهم وبينه أحضروا أخاه محمداً وكان محبوساً في مسيني من أعمال صقلية وأجلسوه على التخت مكانه فقبض على أخيه وحبسه وألزمه مساعدوه أيضاً التوقيع على معاهدة من ضمنها أن يكون تحت حماية إسبانيا وأن يحتل بلاده ثمانية آلاف من جنود إسبانيا لحمايتها وغير ذلك من الشروط.

ولما علم السلطان سليم بما فعله الإسبانيول صمم على فتح تونس كما قلناه وعين الوزير سنان باشا سردار لجيشها وفي 23 محرم سنة 982هـ 1574 م أقلعت العمارة العثمانية من إستانبول وكانت مركبة من 26سفينة حربية و 15ماعونة و15 غليوناً تحت قيادة القبودان قلنج علي باشا قاصدة مياه تونس ومرت في طريقها بايطاليا فغزت جملة قلاع وبلاد منها ومن جزيرة صقلية لمساعدتهما أعداء الدولة عليها في كل وقت وبذلك انتشر خبر قدوم الدوننما العمثانية عند دول أوروبا.

وفي تلك الأثناء كان استولى طورغود باشا على طرابلس الغرب ويقال إن عمارة سنان باشا مرت بها عند ذهابها لتونس وساعدته على فتحها وفي أوائل ربيع الأول من السنة المذكورة وصل سنان باشا إلى تونس وأخرج عساكره إلى البر بلا ممانع ثم أخذ في محاصرة قلعة حلق الوادي ولم يستول عليها إلا بعد مضي33 يوماً من حصارها وقتل من حاميتها نحو ستة آلاف جندي وأسر ألفين وغنم منها خمسمائة مدفع وكثيراً من آلات الحرب.

ولما رأى أن إزالة تلك القلعة أصوب من بقائها أمر فوضعوا تحتها ثلاثين لغماً من البارود ودمروها تدميراً وبعد استيلائه على باقي الاستحكامات دخل بالجنود المدينة في رمضان من تلك السنة ونادى في الناس بالأمان فهدأ روعهم وعادوا إلى أعمالهم وأقيمت الخطبة باسم السلطان وضربت السكة باسمه أيضاً وعين أحد القواد محافظاً عليها وأبقى معه قوة كافية لحفظها بعد أن رتب الحكومة وجعل لها ما يناسب من القوانين وصارت تونس من وقتئذ أيالة عثمانية ودخلت في عداد الوجاقات كالجزائر وطرابلس الغرب ثم عاد هو وقلنج علي باشا بالعمارة إلى دار الخلافةومعهم ما اكتسبوه من الغنائم ولما وصلوا رحب السلطان بهم وكافأه وكافة من كان معهم من الجنود.

وفاته:

وكانت وفاة هذا السلطان في سنة 982هـ وعمره اثنتان وخمسون سنة وسبب وفاته أنه أنشأحماماً بقصره وأحكمه وأبدع فيه غاية الإبداع حتى صار لا مثيل له وبينما هو يمشي فيه اذ زلقت قدمه فسقط سقطة عظيمة مرض منها أياماً ثم توفي وكان أوصى بالملك لولده الأكبر السلطان مرادخان الثالث.

وكان رحمه الله شهماً شجاعاً زكياً تقياً محباً للصالحين ضاعف مرتبات الحرمين الشريفين وشيد مسجداً في أدرنة 981هـ وكان محباً للعمارة صنع جسراً جسيماً في قصبة جكمجة وأصلح جامع أياصوفية ولم يكن حصل به إصلاح من تاريخ إنشائه وكان تخرب من الزلازل وأضاف إليه جملة مبان.

السلطان الغازي مرادخان الثالث ابن السلطان سليم الثاني 982-1003

لما توفي السلطان سليم كان ابنه السلطان مراد بمدينة مغنيسيا والياً عليها فأخفى الصدر الأعظم خبر موت السلطان أحد عشر يوماً إلى أن حضر وجلس على تخت أجداده وكان عمره وقتئذ عشرين سنة وبعد دفن أبيه في تربته المخصوصة صرف للجنود عطايا الجلوس المعتادة وقدرها 110000 . من الذهب فمنع بذلك الاضطرابات التي كانت تحدث عادة إذا تأخر صرف تلك الهبات.

واقعة وادي السبيل 983هـ:

اعلم أنه في السنة الثانية من جلوس السلطان مراد جهز دون سبستيان ملك البرتغال حملة قوية ظاهرها مساعدة عم أمير فاس الشريف محمد المتوكل السعدي ونقل الجيوش بالأساطيل العديدة إلى بلاد فاس. فعندها استنجد الشريف عبد الله بالسلطان مراداً فأمر السلطان رمضان باشا بكلر بك الجزائر بالأخذ بناصره بالقوّة بعد أن يتوسط في الصلح أولًا ليمنع إراقة الدماء ولما لم تفلح مساعي الوالي المذكور في التوفيق بين المتخاصمين تلاقى جيش والي الجزائر ومن انضم إليه من شيعة عبد الملك بجيش سبستيان ومحالفه الشريف محمد المتوكل وبعد قتال شديد دار بين الطرفين هزم جيش سبستيان ومحالفه وقتل سبستيان.

الحملة على بلاد العجم:

لما قامت الثورات في بلاد العجم بين أولاد العائلة الملوكية عقب وفاة الشاه طهماسب كتب خسرو باشا والي أرضروم إلى الدولة يعلمها بالحاصل في بلاد العجم ويحرضها على فتحها فعين السلطان لالا مصطفى باشا فاتح قبرس وسر عسكر الشرق قائداً لهذه الحملة فلما وصل إلى أرضروم بالعساكر تقدم إلى حدود العجم وحاربهم بجوار قلعة جلدير وقهر قائدهم طوقان خان وبعد ذلك فتحت الجيوش العثمانية كرجستان ثم دخلت تفليس وتعين جعفر باشا محافظاً لقلعتها.

وسنة 987هـ ساقت العجم أربع فرق لإعادة البلاد التي فتحتها الدولة فقابلهم عثمان باشا ابن أوزتيمور وردهم على أعقابهم خاسرين وفي هذه السنة تعين لالا مصطفى باشا المذكور صدراً أعظم بدلاً عن صوقللي محمد باشا الذي جلس في دست الوزارة 15 سنة خدم فيها الدولة والملة بالصداقة والأمانة مما خلد له أجمل الذكر وأحسن السيرة.

محاربات النمسا 1001-1015هـ:

لما تمردت طائفة اليكجرية وقرع الاختلال أبواب الدولة رأى الوزراء أن من حسن السياسة إشغال العساكر بالمحاربات ثم الالتفات إلى تقرير الأحوال وتسكين الأعمال فأوعزوا إلى حسن باشا والي بلاد البوشناق بشن الغارة على بلاد النمسا لمساعدة ملكهم رودلف الثاني أمة المجر إلا أنه لما تقدّم جيش حسن باشا ببلاد كرواسيا وقع في كمين للنمساويين فقتل هو وغالب عسكره ولم ينج منهم إلا القليل ولما بلغ هذا الخبر الدولة العثمانية أخذ الوزراء يتذاكرون في الديوان العالي فيما إذا كان الواجب الانتقام من دولة النمسا بإعلان الحرب عليها أم لا وكان رأي كثير من الوزراء تجنب الحرب لما فيه من الارتباك حتى إن الشيخ سعد الدين أفندي معلم السلطان قال في ذلك المجلس: إني أكتب تاريخاً للدولة العلية وصلت فيه إلى هذا العصر وأريد أن أجعل خاتمته قولي أن أحد عبيد السلطان أخذ ابن أخي شاه العجم وأحضره بين يديه وأن ملك النمسا عجل بدفع الجزية عن سنتين آتيتين.

وبذلك كان يرجح جانب الصلح غير أن سنان باشا وهو الصدر الأعظم فاتح بلاد اليمن لما كان يحسد فرهاد باشا على ما ناله من الشأن والشهرة في حرب العجم أراد أن يفوقه شهرة فرجح جانب الحرب وقال مخاطباً لسعد الدين يمكنك أن تختم الوقائع بقولك: إن أحد مماليك السلطان قبض على ابن أخي شاه العجم وأخذه رهينة وقبض مملوك آخر على ملك النمسا وأحضره بين يدي السلطان وبمثل ذلك من أقوال الغرور وفتح باب الحرب مكفراً كل من خالفه في رأيه هذا وأمر في الحال بناء على أمر السلطان بسرعة التجهيزات وكان الفصل شتاء ثم تحرك الجيش إلى أن ركز أعلامه بمدينة بلغراد ولما كان حرب النمسا هذا قد طالت مدته وامتدت أيامه أكثر من حرب العجم بحيث لم ينته إلا في زمن السلطان أحمد الأول 1015م بمعاهدة زيدوه تروك (Sitovatorok) رأينا من المناسب الكلام على ما كان له من النتائج مدة هذا السلطان.

وفاته:

وقد كانت وفاة هذا السلطان سنة 1003هـ وعمره خمسون سنة ويروى أنه لإنهماكه الزائد بالنساء خلف مائة ولد وخمسة عشر ولداً كان له اشتغال ومشاركة ببعض العلوم وله شعر بليغ بالعربية والفارسية والتركية وكان يميل إلى علم التصوف محباً للعلماء تقياً وفي زمنه تطرق الخلل إلى نظامات وقوانين الدولة.

السلطان محمد خان الثالث ابن السلطان مرادخان الثالث 1003-1012هـ

لما مات السلطان مرادخان كان ولده السلطان محمد بمغنيسيا والياً لما حضر جلس على تخت أجداده بلا منازع وعمره إذ ذاك 29سنة ولما تمت له البيعة كان أول أمر اهتم به أن أمر بقتل جميع إخوته الذكور وكانوا تسعة عشرة أميراً وكان لأبيه عشر نساء حبالى فأمر بإغراقهن في البحر ثم التفت إلى أتباع السراي السلطانية فشتت شملهم وحل نظامهم وكان يقصد بذلك استئصال الفتنة والوساوس حسبما وصل إليه عقله وأشار به عليه أخصاؤه وغير أيضاً الوزراء فعين فرهاد باشا للصدارة وخليل باشا قبودانا للبحرية بدلاً عن سنان باشا.

yacine414
2011-03-18, 16:01
محاربات النمسا:

قد سبق ذكر حوادث الحرب التي اشتعلت نيرانها بين الدولة والنمسا وعصيان ميخائيل بك أمير الأفلاق وسجسموند ملك الأردل ولما رأت الدولة استفحال أمر ميخائيل المذكور سيرت عليه جيشاً تحت قيادة سنان باشا الكبيرة وعينت ابنه محمد باشا قائداً لجيوش المجر لصد النمساويين عن التقدم ومع ذلك فلم تأت هذه الاستعدادات بفائدة لأن ميخائيل تقدم منصوراً واستولى على قلعتي بكرش (Bucharest) وترغووشته (Tergovist) بعد أن قتل حاميتهما وكان العثمانيون اهتموا بتحصينهما تحصيناً جيداً وفي أثناء رجوع الجيش العثماني كمن له جيش من جيوش الأفلاق في الطريق وخرح عليه فجأة فبدد نظامه وهزمه هزيمة منكرة ومن جهة أخرى فإن الجيش الذي كان خرج لصد عساكر النمسا قهر وغلب لجهل قواده واستولى النمساويون على قلعة استرغون1004 هـ .

ولما وقعت هذه الهزيمات بجيش السلطنة العثمانية رأى الوزراء وأرباب الدولة أن ذلك مخل بشأنها ووقارها سيما وأن العساكر العثمانية التي دوخت جيوش أوروبا مدّة قرون لا يتأتى لها الآن التغلب على أميراً فلاقي صغير فالح سنان باشا الصدر الأعظم وسعد الدين أفندي شيخ الإسلام على السلطان وحرضاه على الخروج إلى الحرب بنفسه فقبل وأمر بالاستعدادات وقبل خروجه من إستانبول توفي سنان باشا وتولى الصدارة مكانه إبراهيم باشا وكان متهماً بالمداخلة في قتل فرهادباشا وبغير ذلك مما يشين بمقامه ولما وصل الجيش السلطاني إلى بلغراد صار يقصد قلعة أكرى (Erlau) وبعد أن حاصرها نحو عشرين يوماً تم له الاستيلاء عليها 1005م .

ولما علم ملك النمسا مكسيميليان وسيجسموند ملك الأردل بخروج السلطان إلى الحرب بنفسه جمعا عسكريهما وزحفا لملاقاة الجنود العثمانية ثم وقع بين الطرفين محاربة عظيمة بالمكان المدعو خاج أوه (Kerestez) سنة 1005هـ 1596 م وقد استمر القتال طول النهار ولم تخرج جنود المتفقين من استحكاماتهم لقتال العثمانيين بل كانوا يراقبون حركات الجيوش العثمانية ثم انتهزوا فرصة في الجيش العثماني وخرجوا عليه على حين غفلة فاخترقوا صفوفه وبددوا جموعه وفرّ معظم الجيش وتقدمت خيالة الأعداء حتى صارت على مقربة من خيمة السلطان عند ذلك قابلهم خدام الخيمة وحراسها وقاوموهم أشد المقاومة.

وأخذ الأمراء يعملون الحيلة في خلاص السلطان من هذه الورطة إلا أن الشيخ سعد الدين أفندي شيخ الإسلام أخذ يحرض السلطان والأمراء على الصبر والثبات الواجبين في هذا الوقت وأنهما سبب الفوز والنجاة ويشجع الوزراء حتى فاضت قلوبهم حمية وامتلأت أبدانهم جسارة ومقاومة أما الأعداء فإنهم اغتروا بما نالوه من النصرة وأخذوا في تعقب الفارين فكمن لهم قائد المقدمة جغاله زاده سنان باشا واسعتد السلطان فيمن معه من الجنود وحصروهم في وسطهم وأعملوا فيهم السيف والنار حتى أبادوهم عن آخرهم تقريباً وانقلب الحال عليهم من الغلبة إلى الهزيمة.

ثم عاد بعد ذلك السلطان إلى استنابول غانماً منصوراً قال إبراهيم أفندي في تاريخه وكان حاضراً في تلك الواقعة: أنه لو أمضت العساكر العثمانية شتاء ذلك العام بالحدود ثم تقدمت في الربيع لكان أمكنها افتتاح مدينة فينّا وكانت تمكنت الدولة من عقد مصالحة كما تحب إلا أن عودة السلطان إلى إستانبول جعل للنمسا الوقت الكافي للاستعداد وملافاة ما خسرته في الهزيمة المذكورة.

واقعة قنيجة الشهيرة:

أنه بعد حدوث الحوادث السابق ذكرها اضطر الصدر الأعظم إبراهيم باشا المذكور لقيادة الجيوش بنفسه وكان هذا الوزير سافل الأخلاق من ذوي المطامع والأغراض إلا أنه كان جسوراً ذا لياقة واقتدار فتقدم بالجيوش سنة 1008هـ وفتح قلعة قنيجة (Kanescha) وهي من أشهر وأحصن قلاع بلاد النمسا وتقدم أيضاً سر عسكر الطونة كوزلجة محمود باشا وهزم جيوش ميخائيل بك هزيمة تامة بعد أن قاوم عساكر الدولة وتمرد عليها مدّة خمس سنوات.

ولما رأى الشاه عباس ملك إيران 1012هـ اشتغال الدولة بمحاربات النمسا نقض معاهدة الصلح كان عقدها مع فرهاد باشا 998هـ وقصد استرداد مقاطعات آزربيجان وشيروان فأعلن الحرب سنة 1012 على الدولة ثم تقدّم واستولى على تبريز من زنجير قزان علي باشا ثم أغار على جهات روان.

وفاته:

وفي خلال ذلك توفي السلطان محمد خان الثالث ولم يتجاوز سنه 37 سنة وكان رحمه الله سلطاناً عظيم القدر عالي الهمة مظفراً في وقائعه تقياً محباً للعدل والإنصاف يميل إلى العلماء والصلحاء محباً للعلوم والصنائع راغباً في ترقية أسبابها ورواج سوقها وكان عادلاً مستقيماً غير أن طول زمن الحروب مع دولة النمسا أوجب اشتغاله بها وعدم الاهتمام بغيرها.

السلطان أحمد خان الأول ابن السلطان محمد الثالث 1012-1026هـ:

جلس هذا السلطان على تخت السلطنة بعد وفاة والده ولم يكن له من العمر إذ ذاك غير 14سنة ولم يجلس أحد قبله من سلاطين آل عثمان على التخت في هذا السن وكانت أحوال الدولة في ارتباك شديد لاشتغالها بحروب النمسا بأوروبا وبحروب الشاه عباس وغيرهما من أصحاب الثورات الداخلية بآسيا وكان أوّل شيء اهتم به بعد قبضه على الأحكام إتمام ما كان شرع فيه والده من التجهيزات الحربية بناء على ما أشار به وزراءه.

بقية حروب النمسا:

أعلم أنه لما تمت المعدّات الحربية المذكورة عين السلطان لالا محمد باشا للصدارة العظمى وسرداراً عاماً للجيوش التي سافرت لحرب النمسا وكان هذا الصدر من قوّاد الجيوش بدار الحرب منذ انتشابها بين الدولتين، لهذا كانت له معرفة تامة بتلك الجهات سيما وأنه يتصف بالمهارة العسكرية والشهامة الحربية ولما سافر بالجيوش العثمانية أهتم أوّلاً بتقوية الجنود النازلة بقلاع الحدود ثم تقدّم وحاصر قلعة استرغون فتمكن من استردادها وكانت هذه المدينة وقعت في يد الأعداء منذ ما كان هو محافظاً عليها ولذلك داخله السرور باستردادها.

ولما كانت إمارات الأفلاق وبغدان والأردل في خصومة وحرب مع الدولة العثمانية من أوّل قيام هذا الحرب وكانت هذه الممالك الثلاث تخدم بذلك مصلحة النمسا وكان اعتراها الوهن والخراب مما ساقته الدولة العثمانية عليها من الجيوش العديدة ومما وطأ بلادها من عساكر التتار الآتية من بلاد القريم التمس البرنس بوجقاي (بوسكاي) الذي تولى بلاد الأردل بعد نكبة ميخائيل بك بعد موافقة أمراء ملته الصلح من الصدر الأعظم بمكاتيب أرسلها إليه وذلك لما رآه من الذل والخسارة التي أصابت الإمارات الثلاث أثناء هذه المحاربة فقبل الصدر الأعظم التماس البرنس وساق جنوده على قلاع بلاد الأردل لإخراج عساكر النمسا منها وافتتح مدينة إيوار وهي من قلاع الجسيمة.

حرب إيران:

قد علمت مما سبق أن شاه العجم نقض معاهدة الصلح التي بينه وبين الدولة واستولى على تبريز حين اشتغال الدولة بحرب النمسا ولما جلس السلطان أحمد عزل شغاله زاده سنان باشا من إمارة البحرية وعينه قائداً عاماً على جيوش بلاد الشرق وأمده بالجيوش والمعدات لصدّ العجم إلا أنه لم يتمكن من تخليص قلعة روان التي كانوا يحاصرونها ثم اضطر بعد ذلك إلى الرجوع إلى بلاد كردستان بجيشه في حالة سيئة وذلك لأن ضباط جيشه خالفوا أوامره وامتنعوا عن الرضوخ لرأيه الصائب وهو تمضية فصل الشتاء بجهة يقال لها قره باغ حتى إذا ما أقبل الفصل الموافق كانوا قريبين من دار الحرب.

وفي السنة التالية لما سافر يريد فتح تبريز تقابلت طليعة جيشه وكانت تحت قيادة صفر باشا محافظ أرضروم مع جيش الشاه عباس بجوار بلدة يقال لها سلماس ولما انتشب الحرب بينهما وكان الجيش العثماني لم يصل بعد أن انهزمت الطليعة تماماً وقتل قائدها فأثر هذا الانهزام في الجيش العثماني تأثيراً سيئاً وحل عزيمته وتفرق عنه أمراء الأكراد خصوصاً فتقهقر عند ذلك سنان باشا بمن بقي معه من الجنود القليلة إلى مدينة وان ومنها إلى ديار بكر فمات هناك حزناً على ما أصابه من الفشل.

yacine414
2011-03-18, 16:02
أحوال البحرية في الوقت المذكور:

لما تعين القبودان حافظ باشا لرئاسة البحرية في عهد هذا السلطان التفت نوعاً لإصلاح العمارة التي كان تقهقر شأنها تبعاً لتقهقر حالة الدولة ولما تمت معداتها أقلع بها سنة 1016من استانبول يريد ثغر الإسكندرية لإحضار ويركو بلاد مصر كما جرت العادة بذلك ولما عرج في طريقه على مدينة رودس عند ذهابه ترك بها بعض السفن إلى حين عودته ولما كانت طائفة هذه السفن قليلة لأن حافظ باشا المذكور كان أخذ معه معظمها هجمت عليها قرصان البحر فاستولوا عليها بمن فيها ولما عاد القبودان من مصر إلى الاستانة تكدر السلطان بما فعله ووبخه على ذلك ثم عزله وعين بدله على العمارة القبودان خليل باشا القيصري 1018هـ .

ولم يأت هذا القبودان بإصلاح جديد في أحوال العمارة لعدم التفات السلطان إليها في ذلك الوقت إلا أنه لما كثر عيث قرصان القوزاق بالبحر الأسود وأخذوا يشنون الغارة على سواحل بلاد الدولة ينهبون ويحرقون هاجت السكان وكتب الولاة إلى دار الخلافة ببث شكواهم فسافرت العمارة العثمانية إلى البحر الأسود وتمكنت من ملاشاة طائفة قرصان القوازق ثم عادت إلى استانبول وقد روى بعضهم إن العمارة العثمانية لما خرجت لطرد قرصان القوازق تحت قيادة حافظ خليل باشا صادفت صعوبات جمة لعظم سفنها وخفة سفن القرصان التي أرعبت الشواطئ وأزعجت التجار حتى ضواحي البوسفور وفي هذا الوقت كانت دول أوروبا التفتت إلى تقوية وتحسين السفن وتغيير أشكالها وتسليحها بأسلحة أكثر وأضخم مما كان بها.

وكان في مقدمة هذه الدول إسبانيا وإنكلترة وأنشأت الأولى منهما سفينة عظيمة تدعى فيليب 1591م ذات ثلاث طبقات بها من المدافع سبعة وستون وأنشأت الثانية سفينة عظيمة سمتها برش 1610م كان طولها 114 قدماً وعرضها قدما بها من المدافع ثمانية وستون وبعد قليل اقتدى باقي دول أوروبا بهاتين الدولتين وقوّت أساطيلها وبحريتها ومما يذكر أيضاً في هذا الوقت أن أسماء السفن الحربية تغيرت من غالي وغليون وغراب وشانية وغيرها إلى قرويت وفرقاطة وقباق.

وفاته:

وكانت وفاة هذا السلطان في سنة 1026هـ وهو الرابع عشر من سلاطين آل عثمان العظام تولى السلطنة وعمره أربع عشرة سنة وجلس على التخت أربع عشرة سنة وقد كان صالحاً يميل إلى العلماء والسادات خيراً وكان عزم لشغفه بأمر بيت الله الحرام على أن يكسوه بالذهب والفضة فمنعه المفتي محمد بن سعد الدين من ذلك فجعل للكعبة ثلاث مناطق من الفضة المحلاة بالذهب صوناً لها من الهدم وكساها هي والحجرة النبوية والأضرحة بأفخر المخيشات المقصبة وعمر مسجد البيعة قرب عقبة مني وأصلح جملة جهات بمكة وأوقف من قرب مصر وقفاً على خدام الحرمين الشريفين وفي سنة 1024هـ أرسل حجرين من ألماس للحجرة النبوية قيمتها ثمانون ألف ليرة وأبدل شبابيك الحجرة وجعلها من الفضة المحلاة بالذهب وأخذ الشبابيك القديمة ووضعها في مدفنه بالاستانة تبركاً.





السلطان مصطفى الأول ابن السلطان محمد خان 1026-1027هـ

لما توفي السلطان أحمد بايع الوزراء والأمراء السلطان مصطفى قياماً بحق الوصية وكان عمره لا يتجاوز العشرين سنة إلا أنه لما كان أمضى أيامه قبل ذلك في حالة حجر وممنوعاً عن مخالطة الناس مسجوناً داخل القصر لا يسمع ولا يرى شيئاً مما يحصل بالدولة ظهرت عليه علامات عدم القدرة بشؤون الدولة بمجرد جلوسه على التخت وأخذ يبدد أموال الخزينة بطرق صبيانية ولذلك كثر القيل والقال بين الناس حتى خيف حدوث اضطراب عام داخلي ولم يكن مضى على حكمه ثلاثة شهور وعشرة أيام حتى تقدم مصطفى أغا دار السعادة وقبض عليه وسجنه بمكان داخل السراي في يوم صدور الفتوى من شيخ الإسلام بخلعه وبويع لأكبر أولاد السلطان أحمد المتوفي.



السلطان عثمان خان الثاني ابن السلطان أحمد الأول 1027-1032هـ

جلس هذا السلطان وكان سنة أصغر من سن سابقة لا يتجاوز 13سنة إلا أنه كانت تلوح عليه علامات الشجاعة والإقدام لنباهته وجودة قريحته وفي أول حكمه أرسلت الدولة السفراء إلى كافة الجهات وعقدت معاهدات الصلح مع فرنسا وأكثر الدول الأوروباوية وسوت أيضاً مسألة بوهيميا مع إمبراطور ألمانيا لأن هذا الإقليم لما كان عصى عليه طلب أهله من الدولة حمايتهم وبما بذله وزراء الدولة من المساعي تحسنت علاقات الإقليم المذكورة مع الإمبراطورية الإلمانية وفي السنة الأولى من حكم هذا السلطان عاد القبودان جلبي علي باشا بالدوننما من البحر الأبيض ومعه ست سفن للقرصان اغتنمها مدة سفره وأكثر من مائتي أسير من أجناس مختلفة ومقدار عظيم من الغنائم ولما عرض على السلطان ما فعله في سفرته هذه من يوم خروجه إلى وقت مجيئه كما هي العادة أنعم عليه وقربه إليه.

ولما كانت أحوال العجم لا زالت تستدعي اهتمام الدولة لسعي ملكها في بث الدسائس وإقلاق الراحة جردت الدولة سنة 1027جيشاً عظيماً تحت قيادة خليل باشا الصدر الأعظم لمحاربة العجم ولما التقى بجيوش الشاه عباس حدثت بينهما معركة انتهت بانتصار العثمانيين انتصاراً باهراً واستخلصوا من الأعجام الجهات التي كانوا اختلسوها من الدولة العثمانية أثناء الوقائع والاختلالات الماضية مثل تبريز وغيرها.

وقبل الشاه عباس تجديد أمر الصلح على أساس مصالحة نصوح باشا وكان السلطان عثمان يرى أن كل الفخر في ظلال السيوف فاجتهد في تنظيم القوة البرية والبحرية والإكثار منهما ومداومة الحروب والغزوات وقد ساعدته المقادير لإتمام بعض أغراضه، من ذلك وهو أن ملك بلاد الأردل كان يرغب في توسيع نطاق ملكه من أقاليم النمسا ولما اطلع السلطان على مرغوبه حسن له الإغارة على بلاد النمسا وسهل عليه فتح عاصمتهم فأصدر السلطان الأوامر بتجهيز الجيوش لمحاربة بولونيا أولاً.

ثم قبل أن يبارح استانبول أمر بأخيه الأمير محمد فقتل اتباعاً للقاعدة القبيحة التي سنها بعض السلاطين خوفاً من أن يخرج عليه أثناء غيبته وأصدر أمراً بتقليل اختصاصات مفتي استانبول ونزع منه ما كان له من السلطة في تعيين وعزل الموظفين وجعل وظيفته قاصرة على الإفتاء ليس إلا مخافة أن يصيبه منه ما أصاب سلفه من العزل إلا أنه لما كان الحذر لا يمنع القدر لم يأت الأمر كما كان يبتغي كما ستعلم.

وبعد هذه الترتيبات خرج بجيش مؤلف من 300 ألف مقاتل وانضم إليه جانيك كراي خان القريم وبتلن غابور أمير الأردل وأمير المملكتين وما زال هذا الجيش يسير بنظام حتى نزل أمام مدينة شوكزم أوخوتين (Ch) ثم تلاقى بجيش البولونيين وكان يرأسه القائد (ولنا) أحد مشاهير قوادهم وكان متحصناً في هذه المدينة وبعد أن هاجمه العثمانيون عدّة مرات ارتدوا عنه بلا فائدة لتمرد الانكشارية وطلبهم الكف عن القتال واتفق أن طلب البولونيون أيضاً الصلح لموت قائدهم المذكور وغيره من ضباطهم في القتال فعقد الصلح بين الطرفين وبعد التوقيع على شروطه التي لم يستفد منها العثمانيون أدنى فائدة عاد السلطان إلى استانبول 1029هـ .

ومن حوادث تلك السنة أن اشتدّ البرد جدّاً حتى جمد البوسفور وصار الناس يعبرون على البحر من استانبول إلى أسكدار.

ولما عاد السلطان عين الدفتر دار مصطفى باشا قبودانا للدوننما العثمانية وعزم على السفر إلى بلاد الشام ومصر وشاع أنه متوجه من هناك لتأدية فريضة الحج ولما كان يسعى في تدمير وجاق الانكشارية لما ظهر منهم من التوقف والتمرد في محاربة بولونيا وزيادة طغيانهم وكونهم أصبحوا أصحاب العقد والحل في الدولة هاجوا وماجوا لما بلغهم نية السلطان على الحج وألزموا المفتي بإخراج فتوى مضمونها أن السلاطين لا يتكلفون الحج وبعثوا للسلطان بعض الشيوخ يعلمونه بالمركز الحرج الذي بات فيه فلم يلتفت إلى أقوالهم بل هدّدهم وقال وهو في غضبه: إنني سأدمر وجاق هؤلاء المردة الملاعين فلما عادوا وأخبروهم بما حصل هاجوا هياجاً كبيراً ونادى أحدهم بالسلطان مصطفى وتبعه الباقون ثم هجموا دفعة واحدة على السراي وأخرجوا السلطان مصطفى من حبسه وعند ذلك خاف السلطان وندم على ما فعل وأراد أن يسلم للعصاة دلاور باشا الصدر الأعظم وسليمان أغا أغاي السراي فلم يرضوا بذلك وقال لهم العلماء: إن السلطان مصطفى مسلوب العقل ولا تجوز مبايعته فهجموا على العلماء أيضاً وألزموهم البيعة له وأخيراً قبضوا على السلطان عثمان وأخذوه ماشياً بكل احتقار حتى أوصلوه إلى بعض الثكنات العسكرية وحبسوه فيها 1031هـ ثم نقلوه إلى قلعة يدي قله ولم يكتفوا بخلعه بل قتلوه بأمر داود باشا الذي تقلد الصدارة في أثناء ذلك ولما زاد لهيب الثورة تجمع كثيرون من أهل الفساد وصاروا يقتلون كل من خالفهم وبنهبون خزائن الذولة ثم قامت طائفة تطالب بدم السلطان عثمان المقتول ظلماً فقتلوا داود باشا وكل الذين لهم يد في قتله.

yacine414
2011-03-18, 16:04
عصيان أباظة باشا:

لما انتشر خبر قتل السلطان عثمان قام أبازه باشا بكلر بك أرضروم مطالباً بثأره واجتمع عليه نحو ثلاثين ألفاً من الأتباع وصار يقتل من يقابله في طريقه من السباهية واليكجرية إلى أن وصل سيواس وألزم بعض أمراء تلك الأطراف بالإنضمام إليه وأخذ يخرب البلاد ويقتل العباد وينادي بأنه سيدخل استانبول وينتقم من كافة طبقات الجنود فهال الدولة أمره وخافت امتداد نفوذه واجتهد الوزراء في توقيف حركته فلم يوفقوا حتى إن السلطان عزل لذلك أربعة من الصدور في مدّة ثلاثة شهور وكان ملك الروسيا أرسل سفيراً إلى الدولة في ذلك الوقت يطلب عقد اتحاد معها ولمحاربة بولونيا ومحو استقلالها فلم تتمكن الدولة من المفاوضة معه بالنسبة لارتباك الأحوال وأخيراً لما رأى رجال الدولة وقواد الجيوش سوء الحالة ندموا على ما حصل منهم من الموافقة على خلع السلطان عثمان وقتله وصمموا على خلع السطان مصطفى ثانية ولما علم السلطان بذلك بادر فخلع نفسه بعد أن حكم سنة وشهرين 14ذي 1032 هـ القعدة وبويع لابن أخيه السلطان مراد الرابع أما السلطان مصطفى فإنه سجن إلى أن مات وعمره 16 سنة.

السلطان مرادخان الرابع ابن السلطان أحمد خان الأول 1032-1049

محاربة العجم وثورة أبازه باشا:

جلس هذا السلطان على التخت وعمره 14سنة ولما علم أن الصدر الأعظم كمنكش علي باشا أخفى عليه خبر سقوط بغداد في يد العجم عده خائناً وعزله وعين بدله جركس محمد باشا، أول شيء أجراه هذا الصدر أنه توجه بجيش جرار لإطفاء ثورة أبازه باشا وبعد واقعتين حصلت بينهما تمكن الوزير من تشتيت شمل جموع أبازه باشا واستأمن من كثير من قواده وبعد ذلك أرسل أبازه باشا يلتمس العفو من السلطان فعفا عنه وجعل بكلر بك أرضروم كما كان 1034هـ .

ولما خمدت نيران هذه الفتنة من جهات أرضروم وسيواس أخذ الصدر المذكور يجهز الجيوش بعد عودته إلى توقات لاستراد بغداد إلا أنه مات بعد عودته بقليل ولما وجه مسند الصدارة إلى حافظ أحمد اشا جهز جيشاً بديار بكر يبلغ عشرين ألف مقاتل ثم سار به وحاصر بغداد وانتشب القتال ودام أياماً ولما طال الحصار وسئمت العساكر وأخذوا يهزأون بحافظ باشا لأنه قال لهم: إن مفاتيح بغداد في جيبه ثم تآمروا عليه وعزلوه وحبسوه في قلعة خارج بغداد وأقاموا عليهم مراد باشا ثم عزلوه هو أيضاً وأرجعوا حافظ أحمد باشا ثم قاموا عليه أيضاً يريدون قتله وأخيراً اتفقوا معه ثم نهض بهم راجعاً عن حصار بغداد بعد أن دفن في الأرض ما كان بجيشه من المدافع وآلات الحصار وأرسل الشاه عباس خلفه فرقة من الجنود تتعقبه فعاد إليها وأوقع بها ثم قتل مراد باشا لأنه السبب في تحريك طوائف السياهية وتمردهم ثم تقدم إلى الموصل وأقام به حتى أتاه السلطان بالتقدم إلى حلب حيث يصله المددو بعد ذلك عزل حافظ باشا ووجهت الصدارة إلى خليل باشا.

ولما عاد حافظ باشا مهزوماً تقدّمت الأعجام واستولت على قلعة أخسخه وحاصروا قارص ولما وصل الصدر الجديد خليل باشا مركز الجيش بتوقات عين أبازه باشا والي أرضروم المتقدم الذكر لاسترداد أخسخه إلا أنه بينما كان يستعد للسفر أتى أمر بتعيين قائد آخر بدله يدعي حسين باشا فحنق لذلك أبازه باشا وداخله الخوف واحتال حتى اغتال حسين باشا وأتباعه شاقاً عصا الطاعة ثم تحصن في أرضروم وأتى الصدر خليل باشا وحاصره إلا أنه لم يتمكن من عمل شيء لنقص ذخائره الحربية ولما توفي خليل باشا بعد ذلك ولي الصدارة خسروباشا ولما كان من رجال اليكجرية ومن ذوي التدبير والشدّة تمكن من تنظيم الجيوش قمع من تمرد منها وبعد أن أصلح ذات البين بين شريف مكة ووالي اليمن ووالي مصر قاد جيشاً يبلغ 150000مقاتل وتقدّم لحصار بغداد وأرسل وهو في الطريق جيشاً مع جعفر باشا بكلر بك قارص فهزم جيش العجم الذي كان يقصد مساعدة أبازه باشا ثم أخضع أبازه باشا 1038هـ ولما حاصر الصدر المذكور بغداد لم يتمكن من فتحها فعاد إلى الموصل وهناك صنع وليمة لبعض طوائف الجنود ولما اجتمعوا خرج عليهم من أكمنهم لهم فقتلوهم لأنهم السبب في عدم نجاح حصار بغداد ثم طلب الإمداد من الدولة لإعادة حصار بغداد.

وبعد حوادث طويلة مات الشاه عباس بعد أن حكم 43 سنة فأرسل حفيده الشاه صفين الذي جلس مكانه جيشاً عجمياً يبلغ 40 ألف مقاتل تحت قيادة زينل خان للمحافظة على الحدود فقابله الصدر الأعظم وباشا وهزمه أمام قلعة مهربان وقتل من الإيرانيين30 ألف نفس واستأمن من زينل خان بمن معه إلا أنه قتل أيضاً وهرب الشاه وأغار الصدر الأعظم خسروباشا على جهات همذان ودركزين ونهاوند 1040هـ وبينما كان يقصد مهاجمة أصفهان مقر الدولة الصفوية أتاه مرسوم السلطان بالعودة إلى حصار بغداد ولما كان يستعد لإنفاذ الأمر عزل من الصدارة وولي مكانه الصدر الأسبق حافظ أحمد باشا 1041هـ .

سفر السلطان إلى آذربيجان وفتح روان:

لما كانت سوق الحرب قائمة بين الدولة ومملكة العجم منذ زمن طويل لم تنقطع وإن كانت توقفت في بعض الأحيان أي عقب موت الشاه عباس للأسباب السابق ذكرها صمم السلطان على قيادة الجيش بنفسه لفتح بغداد واستعدّ للحملة على العراق إلا أنه حوّل بعد ذلك عزمه وأراد فتح مدينة روان فقصدها 1044هـ بعد أن ترك بيرام باشا للمحافظة على دار الخلافة وفي أثناء ذهابه قتل كثيراً من الأمراء الجلالية الذين تحقق له ارتكابهم المفاسد والتعديات ثم تقدم وفتح روان وكان قصده تمضية فصل الشتاء في حدود العجم ثم يقصد أصفهان في الربيع إلا أنه أصيب بالنقرس في ركبتيه فعاد إلى الاستانة وترك مرتضى باشا للمحافظة على روان وأخذ معه خان روان المدعو أميركون وكان استسلم للدولة 1045هـ .

ولما أقبل الشتاء جمع الشاه جيشاً وحاصر روان واستردّها بعد حصار جرح فيه مرتضى باشا جرحاً بليغاً مات به ولما كان الصدر الأعظم محمد باشا بالجيش في أرضروم ولم يمدّ مرتضى باشا قصداً كما ظهر من التحقيقات التي أجريت بعد ذلك لكراهية الصدر لمرتضى باشا عزل الصدر المذكور وولي مكانه بيرام باشا 1046هـ .

استرداد بغداد:

لما كانت مدينة بغداد من المراكز المهمة التي يجب أن تكون في يد الدولة وكان السلطان صمم على استردادها بنفسه ولم يصرفه عنه إلا فتح مدينة روان أمر سنة 1047 هـ بالتجهيزات ثم قصد العراق على رأس جيش يبلغ مائة ألف مقاتل ورافقه شيخ الإسلام يحيى أفندي والقبودان قره مصطفى باشا وقبض وهو في الطريق على رجل كان يدعى المهدوية ويسمى بالشيخ كامل وقتله بعد أن أفتى له العلماء وأراح من بدعته العباد ولما وصل إلى الموصل قدم عليه سفراء من قبل ملك الهند شهاب الدين جهان شاه وأعلموه أن ملكهم سيهجم على بلاد العجم من جهات قندهار ثم بعد أيام توفي الصدر الأعظم بيرام باشا فتولى الصدارة طيار محمد باشا ولما قرب السلطان من حدود العجم كان انضم إلى جيشه جميع الجنودالمعسكرة ببلاد الأناضول حتى بلغ جيشه فيما قيل 300 ألف مقاتل.

ثم وصل الجيش أخيراً إلى بغداد بعد خروجه بمائة يوم وسبعة وتسعين يوماً وفي الحال أحاطت العساكر بأطرافها وكان الشاه لما بلغه تقدّم الجيش السلطاني أتى من تبريز بالجيوش والتقى بعساكر الدولة على شاطئ الدجلة فقاتلوه قتالًا شديداً ثم هزموه هزيمة منكرة ثم شددوا الحصار على بغداد وسلطوا المدافع على الأبراج وكانت مائتي برج فخربت وهدمت كثيراً منها وأمر المهندسون بعمل لغم عظيم وملؤه بالبارود ولما أطلقوه هدم جانباً عظيماً من الأسوار فلما رأى أهل بغداد ما دهمهم بعثوا إلى الشاه بأنهم سيضطرون إلى التسليم إن لم ينجدهم فبعث الشاه إلى السلطان في طلب الصلح فلم يقبل منه ثم شدّد الحصار وأكثر من الهجوم ليلاً ونهاراً حتى قتل الصدر الأعظم وبعد مضي أربعين يوماً من حصار المدينة استأمن محافظها بكتاش خان فدخلها الفاتحون يوم الجمعة الثامن من شعبان سنة 1048هـ وقتلوا في ذلك اليوم من العجم أكثر من عشرين ألفاً وأسروا كثيراً منرؤسائهم.

ولما كان مرض النقرس يشتد بالسلطان ترك أمر الصلح والحرب بيد الصدر الأعظم قره مصطفى باشا الذي تولى بعد محمد باشا ورجع هو إلى دار السلطنة سالماً غانماً منصوراً وكان لدخوله فيها احتفال عظيم وكان معه خمسون من خانات العجم بملابسهم مكبلين بالسلاسل وكان حاملاً بيده حزمة من الأسلحة مشتملاً جلد نمر كما فعل اسكندر الأكبر حينما فتح مدينة بابل وبعد عودة السلطان طلب شاه العجم الصلح من الصدر الأعظم وأرسل لذلك سفراء على شرط أن تستولي الدولة على بغداد وترد لإيران مدينة روان وبعد أن نقل الصدر هذه الشروط إلى السلطان وتبودلت المخابرة فيها بين الطرفين تمّ أمر الصلح وأمضيت شروطه 1049هـ 1631م .

وفاته:

ثم اشتد المرض بالسلطان فعاجلته الوفاة في السادس عشر من شوّال من السنة المذكورة وكان رحمه الله عاقلاً ثاقب الرأي شجاعاً له قوّة يفوق بها أعظم الأبطال حتى لقبه المؤرخون باسكندر الثاني وكان على جانب عظيم من الاقتدار والهمة قبض مع صغر سنه على زمام الإدارة وهي على ما هي عليه من الاختلال فأحسنها وقهر المفسدين وقمع العصاة واستأصل الطغاة من جنود اليكجرية الذين قتلوا أخاه ومدحته الشعراء وقد لقب هذا السلطان بمؤسس الدولة الثاني لأنه أحياها بعد السقوط ونشرها بعد الحشر بسبب تلك الثورات وأكثر من الفتوحات وأصلح حال ماليتها حتى أمست في يسر وسن لها النظامات العادلة والقوانين الموافقة.

السلطان إبراهيم خان ابن السلطان أحمد خان الأول 1049-1058هـ:

لما لم يترك السلطان مراد خان الرابع من يرث تخت السلطنة بعده من صلب آل عثمان إلا السلطان إبراهيم جلس هذا على التخت بعد وفاة السلطان أحمد وكان عمره إذ ذاك 25 سنة وأقيمت له حفلة المبايعة على الطريقة القديمة ووزعت عطايا الجلوس على أربابها.

وقد زاد اختلاطه بالنساء كثيراً بمجرد جلوسه إكثاراً للذرية حتى أدى به الأمر أن هام بهن شغفاً ولازم الحرم فصار لا يخرج منه وقد أثر ذلك على صحته فأصبح نحيلاً ضئيلاً ولهذا حاز نساء السراي السلطانية نفوذاً عظيماً وتداخلن في أمور الدولة بأجمعها وبمساعيهن وصل رجل يدعى حسين أفندي ويعرف بخواجه جنجي إلى رتبة قاضي العسكر في زمن وجيز وصار يتداخل في كل أمور الدولة إلا أن الصدر الأعظم قره مصطفى باشا لما كان من أصحاب الدراية لم ترج لدية هذه الأعمال المفسدة وبمساعيه تمكن من قطع دابر هؤلاء الأشقياء 1053هـ وتمكن أيضاً من تسوية مسألة المسكوكات وكانت من المسائل المهمة أحدثت ارتباكاً في أحوال الدولة.

وفي سنة 1050هـ سعى هذا الوزير حتى جدّد المعاهدات مع الدول الأوروباوية وكل ذلك بمشاورة ومساعدة والة السلطان المسماة ماهيكر سلطانة وسوّى المعارضات التي حدثت بخصوص حدود النمساء والمجر على حالة ترضي الطرفين ثم أتت الجزية من بلاد الأردل وراغوزة والهدايا من الروسيا والعجم على يد السفراء فراجت الأحوال ولما كان استعمال التبغ لا يزال ممنوعاً لما أفتى به بعض العلماء ولما أحدثه من الأضرار شدّد هذا الصدر في هذا المنع حتى إنه لشدّة التضييق والجزاء على مستعمله قالوا إن أكل الأفيون واستعمال السعوط راجت سوقهما في جهات غلطة.

وفي سنة 1051هـ قبض على الأشقياء الذين حرقوا كنيسة بروسة وعاقبهم أشدّ العقاب وبعث بقوّة عسكرية إلى ولاية بغداد لردع العربان الذين أخذوا في قطع الطريق ونهب القرى فأعاد النظام والسكينة بالولاية المذكورة.

ابتداء محاربة جزيرة كريد 1055هـ:

لما رأت الدولة العثمانية أنه صار في قبضتها معظم سواحل البحر الأبيض المتوسط وخصوصاً سواحل أفريقية رأت أن من الضروري فتح جزيرة كريد لحفظ وحراسة مستملكاتها وسواحلها لأن موقع الجزيرة الجغرافي يستدعي الاهتمام بذلك فأخذت تتخير الأوقات وتنتهز الفرص وبينما كانت ألمانيا وأوربا مشتغلة بحروبها بخصوص مسألة البروتستانت اتفق أنه في سنة 1054هـ 1644 م تعدت بعض سفن قرصان مالطة وقبضت على سفينة عثمانية تجارية كان بها حجاج وبينهم سنبل أغا أغاي دار السعادة ولما وصلت سفن القرصان المذكورة إلى جزيرة كريد تقاسم أصحابها ما بها من الأسلاب مع حاكمها ليدافع عنهم وبعد أن أقاموا مدّة في هذه الجزيرة ارتحلوا عنها إلى جزيرة مالطة وأخذوا معهم تلك السفينة.

هذا ولما علم السلطان بهذا الخبر غضب جداً على هذه التعديات وأصدر أمره في الحال لجميع دور الصناعات ببذل الاهتمام في بناء السفن وإصلاحها لتقوية الدوننما وأمر الولايات بتجهيز الجيوش وعين القبودان يوسف باشا الذي تقلد رياسة البحرية 1054هـ بعد أبي بكر باشا سرداراً على الجيوش أيضاً وبعد أن استعرض هذا القائد جنود البحرية في نظارة البحرية وزعهم على السفن 1055هـ 1645 م ثم أقلع بالدوننما وكانت مشكلة من 150سفينة حربية بها نحو مائة وخمسين ألف قنطار من البارود ونحو خمسين ألف من مقذوفات الحديد وخمسين مدفعاً للحصار وغير ذلك من الآلات الحربية الأخرى.

ولما خرجت هذه العمارة من الدردنيل توجه منها تسعون سفينة لمينا سلانيك وستون سفينة لمينا جشمه لتأخذ منهما العساكر التي كانت استعدت بالجهتين المذكورتين واكترت العمارة أيضاً خمسين سفينة تجارية لحمل الأرزاق والمهمات وبعد ذلك قصدت هذه السفن جميعها مينا ناوراين للسفر منها إلى مالطة بعد أن التحق بها أساطيل طرابلس الغرب وكانت ثمانية تحت قيادة حاكم طرابلس عبدالرحمن باشا وبوصولهم جميعاً إلى مينا ناوارين أخذوا المياه اللازمة لهم ثم دعا السردار كافة الأمراء وقرأ عليهم الفرمان السلطاني الآمر بالسفر إلى كريد لأجل فتحها ثم أبحرت العمارة قاصدة تلك الجهة إلى أن وصلت إلى ساحلها وأنزلت الجيوش في مكان يدعى غرامبوسة ثم وصلت الجيوش بعد يومين قرب بلدة خانية وبقيت على بعد أربعة أميال منها بين ساحل كريد وجزيرة أيا تودوري (Theodoro) ثم ألقت مراسيها وخرج منها كو ك حسن باشا بكلر بك الرومللي بعساكره وكل من مراد أغا كتخداي اليكجرية ومن معه من الجنود بمهماتهم وعددهم وعسكروا بشاطئ نهير بلاطانية واستولت الدوننما على القلعتين الموجودتين بجزيرة تودوري المذكورة ثم حاصرت الجيوش قلعة خانية الشهيرة من كل جانب إلى أن استولت عليها بعد خمسين يوماً من حصارها وذلك في 29جمادى الآخرة سنة 1055هـ 1645 م .

وبعد مضي أربعة عشر يوماً من افتتاحها حضرت عمارة البنادقة لما عملوا بمجيء العثمانيين تحت قيادة الأميرال العام يارونيمو موروزوني (Morozini) فمرت أمام القلعة المذكورة ثم دخلت مينا سودة وهو أكبر ثغر في جزيرة كريد وبعد أن جمع الأميرال المذكور كافة سفن البنادقة الموجودة بمياه الجزيرة المذكورة في مركز واحد خرج بها وأتى أمام خانية وكانت السفن الكبيرة من الدوننما العثمانية مستقبلة بجوار جزيرة أيا تودوري وكانت الصغيرة في مينا خانية وكان البنادقة طلبوا مساعدة أوروبا فلم تجبهم لقيام الحروب بين ممالكها وأرسل لهم أهل مالطة عشرين سفينة وأمدهم الفرنسويون بالنقود سراً مخافة الإخلال بالمعاهدات التي بينهم وبين العثمانيين ولما أراد سردار الجيش إخراج الدوننما في صباح اليوم المذكور لمحاربة البنادقة اتفق قيام زوبعة قوية جلبت أضراراً عظيمة بعمارة البنادقة فانهزمت بقدون قتال وبينما هي تسير صادفها في الطريق غلايين من الدوننما العثمانية فاشتبك القتال بينهما وبعد قتال عنيف أسر البنادقة غليوناً واحداً وتمكن الاثنان من الهرب.

ولما ازدادت الاضطرابات بالآستانة وكان منبعها في الحقيقة ضباط اليكجرية أراد السلطان الفتك بهم في ليلة زفاف إحدى بناته على الصدر الأعظم لانتقادهم أعماله وميلهم المستمر إلى المداخلة في أعمال الدولة ولما عملوا ما عزم السلطان عليه أجمعوا آراءهم وتآمروا على عزله وانضم إليهم بعض العلماء وأثاروا اليكجرية و السياهية فتم لهم خلعه وسجنوه وولوا ابنه محمد خان الرابع إلا أنه بعد أيام من عزل السلطان إبراهيم تذمر السياهية وأظهروا عدم ارتياحهم من السلطان الجديد لصغر سنه وهموا بإقعاد السلطان إبراهيم على كرسي الخلافة ثانية فخشى عند ذلك رؤساء العصابة التي عزلته من أن يبطش بهم إن عاد وصمموا على قتله ثم ذهبوا إلى السراي ومعهم الجلاد قره علي فقتله خنقاً 1058 هـ وقد كان هذا السلطان غير ميال إلى الحرب إلا أنه كان شديد المحافظة على كرامة الدولة لا يغتفر لمن يمسها بسوء أصلاً.

السلطان محمد خان الرابع ابن السلطان إبراهيم خان 1058-1099هـ:

تولى هذا السلطان وعمره سبع سنوات وكان أكبر إخوته ولما تقلد السيف وأقيمت له الرسوم المعتادة وصرفت للجنود ما جرت به العادة من الأموال أخذ ينظر في الأعمال بمساعدة وزرائه فقتله عدّة من رؤساء الفتن مثل جنجي خواجه وأضرابه وقد صودرت أموال هذا الرجل فبلغت ألفي ألف من الذهب وكانت الأحوال مختلة لقيام الجنود بالإفساد في كل جهة وخلعهم طاعة أولياء أمورهم وقتل الصدر الأعظم صوفي محمد باشا من الجنود الثائرة نحو ثلاثمائة ومع ذلك فلم يرتدعوا ثم عزله السلطان وسلم خاتم الصدارة إلى قره مراد أغا اليكجرية فجمع هذا هيئة جديدة من ضباط اليكجرية واشترك معهم في إدارة شؤون الدولة ولما ظهر له أنه لا يمكنه إدارة الأمور استعفى وتولى ولاية بودين ووجهت الصدارة إلى ملك أحمد باشا 1060هـ .

ومع تعاقب عزل وتنصيب الصدور ولم تحصل فائدة بل كانت الثورات متوالية تارة من اليكجرية وتارة من السياهية وطوراً من الأهالي وقد تداخلت جدّة السلطان المسماة ماهييكر في إدارة الدولة وكانت هذه السيدة من أفاضل النساء عقلاً وتدبيراً وكانت رأت حكم أربعة من السلاطين فاكتسبت عقلاً وتجربة وقد أعانت كثيراً على إصلاح الأحوال ثم سعوا في حقها حتى قتلوها وقتل معها كثير من ضباط اليكجرية والكبراء وأحيلت مشيخة الإسلام إلى شيخ الإسلام الأسبق أبي سعيد أفندي ثم عزل الصدر الأعظم وتولى بعده كورجي محمد باشا ولم يلبث أياماً حتى خلفه طرخونجي أحمد باشا 1062هـ .

yacine414
2011-03-18, 16:05
أحوال البحرية في المدة المذكورة :

اعلم أنه بما كانت عليه الدولة في هذه المدّة من الاختلال وفساد الإدارة والأحكام انتهزم البنادقة فرصة ذلك وأرسلوا عمارة لتهديد مضيق الدردنيل ولما أتت هذه العمارة حصل بينها وبين العثمانيين عدّة وقائع يأتي ذكرها ولما رأت الدولة أن سفن البنادقة قوية وجسيمة وأن معظم سفنها هي صغيرة أصدرت الأوامر مدة صدارة صوفي محمد باشا إلى دار الصناعة بالمبادرة فيبناء وتشييد سفن كبيرة من نوع الغليون لتكون العمارة على الدرجة الكافية من القوّة فشرعت دور الصناعة في العمل وأرسلت الدولة أيضاً مبلغاً من المال لاوجاقات ولايات المغرب لتجهيز أساطيلها وإحضارها في فصل الربيع لإتمام فتح كريد ثم في سنة 1058هـ 1648م أقلعت العمارة العثمانية قاصدة جزيرة كريد تحت قيادة القبودان وينق أحمد باشا وكانت مؤلفة من ستة غلايين وخمسة وستين غراباً ومعها ما يلزم من الذخائر والأدوات.

ولما وصل خبر قيامها لعمارة البنادقة أقبلت سريعاً إلى بوغاز الدردنيل ورست بقرب المكان المدعو كفز الكائن بالبوغاز فالتقت بها الدوننما العثمانية المذكورة حين خروجها وحصلت بينهما محاربة قوية تمكنت الدوننما العثمانية في آخرها من الخروج إلى البحر الأبيض المتوسط ثم تقابلت العمارتان ثانية ولما صارتا بالقرب من بعضهما أخذتا في إطلاق المدافع مدّة على غير طائل ثم انسحبت عمارة البنادقة إلى جهة أيمروز (Imbros) أما الدوننما العثمانية فإنها رست تحت قلعة فوجه (Foggia-Nova) وفي صباح اليوم التالي حملت عمارة البنادقة على العمارة الثعمانية بغتة فقابلها القبودان العام ببعض سفنه وانتشب بينهما الحرب ثم حملت إحدى سفن العدوّ على سفينته ولكن العساكر صدتها ودخلت إلى سفينة العدوّ تقتل جنودها وبينما هي تجاهد في ذ لك إذ أشعل أحد ملاحي سفينة البنادقة النار في مخزن البارود فتكسر غليون العدوّ وطار قطعاً في الهواء وأثر ذلك على السفينة العثمانية التي كان خلف سفينة القبودان باشا فغرقت.

محاربة نقشة البحرية:

لما تم تسليح الدوننما وتجهيزها أقلعت من استانبول ثم عبرت مضيق جزيرة ساقز (Chios) حيث التحق بها سفن البكوات ثم قامت بجميع ملحقاتها قاصدة جزيرة كريد وبمرورها على جزيرة نقشة (Naxia) تلاقت مع دوننما العدوّ في الممر الواقع بين جزيرة دكر منلك (Milo) وجزيرة بوليقاورو (Policandro) وكانت مركبة من ستين غليوناً ثم وقع الحرب بين الطرفين وامتد من الصباح إلى المساء وكان قاصراً على إطلاق المدافع من الجانبين بشدة بحيث أضر بالطرفين ولما أقبل المساء انسحب حسام بك زاده علي باشا ودخل في ليمان نقشة وأمضى الليل هناك يصلح ما لحقه التلف من سفنه وأخذ المياه العذبة اللازمة وفي الصباح خرج بالعمارة وكان خروجه بهيئة غير منتظمة فقابلته دوننما العدوّ بإطلاق المدافع واشتبك القتال بينهما ثانياً.

ثم قسم القبودان باشا العمارة إلى قسمين وضع الأول تحت قومندانية كتخدا الترسانة وقاد الثاني بنفسه ثم هاجم العدوّ من الجانبين واشتد الحرب بينهما وتقاربت السفن من بعضها إلا أن الملاحين الذين كانوا بسفن العثمانيين لم يكونوا يشبهون من كان منهم مع خير الدين باشا بارباروس أو مع يياله باشا المشهور بل كانوا من المتشردين الإغمار الذين لم يخوضوا بحار المعامع ويتدربوا على أعمال الوقائع فلهذا لما هجم القبودان على الأعداء لم يجد بجانبه سوى عشر سفن فقط وتأخر الباقي إلى الخلف تاركين القبودان وسط النيران أما فرقة كتخدا دار الصناعة فإنها لم تتجاسر بالكلية على الهجوم بل ولت الإدبار وعند ذلك ارتبك القبودان في أمره وضاع رشده فتقدم أحد القواد المدعو بوصله جي أوغلو وتوسط النيران وربط سفينة القبودان بسفينته وأخرجها سالمة أما سفن كتخدا دار الصناعة الجبان وباقي سفن اليكجرية التي هربت فإنها بقيت تتفرج من بعيد على القتال.

فتكدر القبودان باشا من هذه الحالة كدراً لا مزيد عليه وكتب في الحال الأوامر الأكيدة إلى قواد السفن يأمرهم بالعودة إلى قتال العدوّ ويخوفهم عاقبة الامتناع ولما شاهد اليكجرية الزوارق قابلة تحمل الأوامر وعلموا مقتضياتها بداهة ملؤوا بنادقهم ووجهوها نحو حملة تلك الأوامر قائلين إن ليس منهم من يخاطر بنفسه إلى هذه الدرجة ويلقيها في الهلاك وبذلك لم يمكن تبليغ تلك الأوامر لأربابها.

وقد نشأ عن هذه الحالة التعيسة تعطيل سفن الجبجية وبعض الغلايين عن الحركة لما أصابها من التلف واحترق الغليون الكبير الذي كان بناه الوزير الأعظم وغليون آخر مشحون بالعساكر ولم يقبل البكوات أيضاً الهجوم على الأعداء ثم هجم الأعداء على سفن المعطلة وقتلوا جميع من بها واستولوا عليها وما زال أحمد باشا بكلر بك الرومللي المذكورة يقاتل الأعداء بغليون واحد فقط إلى أن قتل في الواقعة واستولى الأعداء على غليونه بمن فيه وقصد سفينتان من سفن اليكجرية البر وخرج من بهما فأحرقهما الأعداء وقبضوا على غالب من كان بهما وقتلوهم عن آخرهم.

ولما رأى القبودان باشا أن لا فائدة في البقاء أخذ ما بقي من السفن وفرّ إلى جزيرة رودس والتحق به هناك باقي السفن التي كانت تفرّقت عنه ثم عقد مجلساً حربياً بسفينته لمحاكمة كل من تمرد أو أخطأ أو قصر في واجباته من العمال وفرض على كل ما يناسبه من العقاب وكان منهم كتخدا الترسانة المذكور الذي كان تولى رياسة أحد قسمي الأساطيل كما سبق وكان الحكم عليه بالتجريد من الدرجات وحلق لحيته وكان هذا الأمر في الوقت المذكور من الإهانات العظيمة وجعله مع طائفة الفورسة التي تعمل بالمقاذيف ثم بعث تقريراً مفصلاً عن ذلك كله إلى استانبول وتعين قورد جلبي كتخدا للترسانة مكانه ثم أقلعت الدوننما من رودس إلى كريد لتسليم ما بها من الأرزاق والذخائر إلى سردار الجيوش ثم عادت إلى الآستانة.

واقعة بشيكة الشهيرة:

اعلم إنه في 21جمادى الآخرة من سنة 1064هـ 1654 م صدر مرسوم سلطاني للقبودان مراد باشا بأن يتوجه بالدوننما إلى كريد ولما أراد العبور من بوغاز الدردنيل وجد في ساحل خليج بشيكة (Beshika) عمارة البنادقة وكانت مركبة من 26غليوناً فتربص القبودان في البوغاز إلى أن وصلته أربعة غلايين تونسية وسفن البكوات وبعد أن انضمت إلى أساطيله واستعرضها عزم على الهجوم على عمارة الأعداء وعباها على الكيفية الآتية فجعل الغلايين الحاملة لعساكر الأيالات وسفن البكوات في الجناح الأيمن وجعل غلايين طرابلس الغرب وغلايين الدولة العثمانية في الجناح الأيسر وجعل المواعين والأغربة التي بها اليكجرية في القلب.

ثم تقدم بالجميع هاجماً على سفن البنادقة الذين لم تحصل منهم أدنى حركة حربية ارتكاناً على ما نالوه قبل ذلك من الانتصارات العديدة على أساطيل العثمانيين ولم يشعروا إلا والمراكب العثمانية محدقة بهم من كل صوب والتصقت بسفنهم فاعترتهم الحيرة والاندهاش الكلي وحمل غليون أمين قبودان القاسم باشا على أحد غلايين البنادقة فضبطه من أوّل هجمة وضبط غزاة طرابلس الضرب غليوناً آخر من العدوّ وهجمت إحدى المواعين على غليون ثالث ولما كادت تستولي عليه أشعل جنوده النيران في مخزن بارودة فتفرقع ووقع معظم عساكره في البحر فالتقط جنود العثمانيين من منهم على قيد الحياة وأسروه واشتعلت النيران بغليون رابع وقبض العساكر العثمانية الذين كانوا تحت قيادة محمد قبودان الإسكندري على غليون خامس ولما صعدوا فيه أشعل أحد طائفته النار بباروده فطار مع مركب محمد قبودان الإسكندري المذكور لأنه كان ملاصقاً له والتقط العثمانيون من كان على قيد الحياة من جنودهما.

وقبض العثمانيون أيضاً على ثلاثة غلايين أخرى وعند ذلك نشر أميرال البنادقة قلوعه وكانت الريح تهب بشدّة والتجأ إلى الفرار وتبعه بقية السفن إلى جزيرة إيمروز وكانت خسارة البنادقة ثمانية غلايين بمن فيها غنم العثمانيون خمسة منها واحترق ثلاثة وكان بالسفن التي غنمها العثمانيون ثمانمائة أسير منهم ابن الجنرال نيقو وكاتب سره وكان الجنرال قتل في الحرب.

ثم إن الدوننما العثمانية انتقلت أمام بوغجه أطه في ليمان بو يراز وهناك دفن العثمانيون موتاهم ثم بعث القبودان الكتخدا قره كوز محمد أفندي إلى استانبول لإخبار الدولة بذلك رسمياً وطلب ما يحتاجه من ذخائر وجنود وأدوات ولما بلغ هذا الرسول رسالته أنعم عليه السلطان وأمر بالإسراع في إنجاز مطلوبه وبعد أن وصل إلى العمارة ما يلزمها أقلعت قاصدة جزيرة ساقز وهناك انضم إليها أحد عشر غليوناً من أسطول طرابلس الغرب ثم سافرت إلى جهة أغريبوز ثم وصل إلى الحكومة العثمانية خير حاصله أنه لما بلغ جمهورية البنادقة انهزام عمارتها كما سبق أرسلت إليها 18غالياً و 28غليوناً لتقويتها وأنها حضرت إلى جزائر الأرخبيل أما العثمانيون فإنهم ذهبوا إلى جزيرة استنديل وكانت بيد البنادقة وأخرجوا فيها فرقة من جنودهم فعاثوا بالجزيرة ثلاثة أيام ثم عادوا غانمين إلى سفنهم.

ولما بلغ القبودان باشا أن دوننما البنادقة بجزيرة دكر منلك (Milo) أقلع إليها وهاجمها ثاني يوم وصوله قرب كوجك دكر منلك (Anti-Milo) وكانت سفن العدوّ على غاية ما يكون من الاحتراز من مهاجمة العثمانيين لها ولهذا استمر الترامي بالمدافع بينهما من بعيد ولاشتداد الريح ومخالفته لم تتمكن الأساطيل العثمانية من القرب من سفن العدو ولهذابقيت طول النهار ترمي بالمدافع ولما أسبل الليل سدوله انفصل الدوننمنان عن بعضهما وعاد القبودان باشا إلى ساقز وترك الغلايين والسفن الجسيمة في جهة فوجه وخصص خمسين غليوناً تسير حول سواحل الرومللي ثم ذهبت تلك الغلايين إلى جزيرة أغريبوز واستمرت في جهات الأرخبيل مدة لم تصادف دوننما العدوّ ولا سفن القرصان أما القبودان باشا فإنه ذهب إلى كريد حيث تلاقى مع السردار العثماني.

ثم مر بجزيرة رودس ثم قصد أزمير وبعد أن أمضى بها عيد الفطر رخص لأمراء أساطيل الغرب وللبكوات بالعودة إلى بلادهم وعاد هو إلى دار الخلافة ومعه الغنائم والأسرى فرحب به السلطان وأنعم عليه والتمس من السلطان إبقاء طواقم السفن وعساكرها على ما هي عليه حيث كان المعتاد أن يوزعوها في فصل الشتاء فأجيب طلبه ونتج عن ذلك تحسينات مهمة في العمارةواكتسب ملاحوها وعساكرها مهارة تذكر.

محاربة كفز البحرية:

لما علمت الدولة بحضور دوننما البنادقة إلى جهات البوغز أمرت القبودان مصطفى باشا الأرنؤدي بالخروج بالدوننما وكان تولى رياسة البحرية بعد مراد باشا فخرج في أوائل شعبان من سنة 1065هـ 1655 م فوجد عمارة البنادقة أمام كفز فأراد مهاجمة الغلايين الأمامية منها إلا أن سكون الريح لم يمكن غلايينه من الحركة بالأشرعة وساقها التيار قسراً إلى ساحل الرومللي فاشتبك بين الطرفين الحرب بالمدافع من وقت الزوال إلى الغروب وكانت أتلاف الطرفين كثيرة حتى تغطي سطح البحر بقطع السفن وقد أظهر كثير من العثمانيين في هذه الواقعة تجلداً وصبراً جديراً بالذكر وأغرق العثمانيون للبنادقة غليونين وفقد العثمانيون تسع سفن ثم أخذ القبودان الدوننما وذهب إلى ساقز وذهب البنادقة إلى جزيرة دكر منلك ولما بلغ القبودان باشا أن البنادقة حاصروا جزيرة نقشة للاستيلاء عليها قصدها بعمارته فهرب العدوّ وخاف لقاءه وقد عد المؤرّخون هذه الجسارة للقبودان تعويضاً لخسائره التي فقدها ف ي الواقعة السالفة.

ثورة أبازة حسن باشا 1068هـ:

بينما كانت الدولة مشتغلة بحرب البنادقة لطردهم من بوغاز الدردنيل كما سبق قام أبازه حسن باشا وأصله من أبناء السياهي بثورة عظيمة بجهات الأناضول والتف عليه نحو خمسة عشر من الباشوات المعزولين وغيرهم وجملة من عساكر السياهي الذين فروا من عقاب الوزير الشهير كويرلي محمد باشا وطلب هذا الخارج من الدولة عزل الوزير المذكور من الصدارة ومعاقبته وتوجيهها إلى طيار زاده أحمد باشا وكان من حزبه ثم أخذت شيعة هؤلاء الأشقياء تتزايد يوماً عن يوم حتى ارتعب الوزراء والسلطان منهم ثم جهز السلطان عليهم جيشاً جعل عليه مرتضى باشا والى ديار بكر وطلب الصدر الأعظم وكان ببلاد الأردل إلى أدرنة للمفاوضة معه ثم انضم كنعان باشا والي بروسة للثائرين ثم تقدّمت الجنود وكسرت الثوار وأرجعتهم إلى قونية بعد أن خسروا خسائر عظيمة.

وتتابعت الفتاوى الشرعية من جانب شيخ الإسلام للثوار بالنصائح المؤثرة فترك كثير منهم طريق الشقاوة والتجؤا إلى الجيش السلطاني فضعف أمر الثوار جدّاً حتى التزم أبازه حسن باشا بالتسليم إلى مرتضى باشا بمدينة حلب بعد أن أمنه على نفسه وعلى جميع أتباعه إلا أنه لم يوف له بالعهد بل قتله هو ورؤساء الثورة 1096هـ ثم أتى السلطان إلى بروسة وعين إسماعيل باشا النائب عنه بإسلامبول قائداً عاماً على الأناضول لقطع دابر ما بقي من أشقياء الجلالية فتمكن من ذلك.

yacine414
2011-03-18, 16:08
وقائع حدود الدولة الشمالية:

اعلم إنه في هذه الفترة 1069هـ كانت نيران الحرب مشتعلة بين ملك يولونيا ميخائيل وشارل غوستاف ملك السويد الذي طلب من الدولة أن تتحد معه على محاربة ويلونيا وإدخالها تحت حماية السلطان بالفعل فلم يقبل السلطان ذلك ثم لما بلغ السلطان آن راكوكسي أمير ترانسلفانيا الأول أمير الإفلاق اتحدا مع ملك السويد على محاربة يولونيا أمر بعزلهما وعين مخنة بك (Mihne) الرومي الأصل أميراً على الإفلاق إلا أن راكوكسي لم يمتثل للأمر وقابله بالعصيان واستظهر على جيش للعثمانيين بالقرب من ليا (Lippa).

ثم تعين القبودان كوسه على باشا سر عسكراً على الجيوش فتقدم بها وقهر أمير الأردل المذكور مع ابن راكوكسي وكان من المتفقين معه وعين بارقجاي أقوشي (أشانيوس بركسي) قرالا على الأردل وخرب مدينة ترغو ويشتة التي كانت لذلك العهد دار إمارة الإفلاق وشيد نحو عشرين بلدة أخرى ولما كانت هذه الوقائع التي جرت بالمملكتين والأردل حصلت في حدود المجر وتولد منها بعض مضايقات لحكومة النمسا طلبت على يد سفيرها باستانبول تسويتها فلم يقبل منه بل تقدم السر عسكر كوسة علي باشا المذكور واسترد قلعة وارات (Grosswardein) وكانت استولت عليها النمسا من الدولة من مدة 1071هـ .

وبعد سنة من ذلك عينت الدولة أبافي ميخائيل قرالا على الأردل وكان من أمرائها وهو آخر قرال نصبته الدولة بمعرفتها على تلك البلاد وقد استمر جالساً على تختها مدة عشرين سنة وبعد محاصرة ويانة خلفه ابنه وفي تلك الأثناء قبضت الدولة على بعض أوراق استدلت منها على أن دولة فرانسا تداخلت سراً المساعدة البنادقة للدفاع عن جزيرة كريد وأمدتها بالسلاح وكانت تلك الأوراق مرسلة إلى المسيو دي لاهي سفيرها باستانبول فوقعت في يد الصدر كويرلي محمد باشا 1070هـ فقبضت الدولة على ابن سفير فرانسا لمخالفة وقعت منه وألقته بالسجن مدة سنة من الزمان.

ثم توفي كويرلي محمد باشا بمدينة أدرنة في 6ربيع أول سنة 1072هـ وسنه 80 سنة ولقد كان من أمهر رجال السياسة وأصدقهم وأصحهم نظراً وعقلاً خدم الدولة خدامات جليلة وتمكن من طرد البنادقة من اليوغاز وجدد به القلاع وأصلح أمور الداخلية وحارب الحروب الطويلة ولما مات ولى السلطان ابنه فاضل أحمد باشا مكانه وسنه عشرون سنة وكان والده أوصاه بما يلزم ورسم له خطة السير وكان هذا الوزير كأبيه ذكاء ومهارة سلك مسكله بناء على وصيته.

محاربات النمسا وفتح أيوار وواقعة سان غوتار:

قد كانت النمسا لما تجاوزت حدودها وتداخلت في أحوال بلاد ترانسلفانيا ولت عليها من قبلها أميراً يدعى كميانوس (Komeny) بعد أن ولت الدولة عليها ميخائيل أبافي فتقدّم السر عسكر كوسة علي باشا وهزم كميانوس وقتله وأخرج جيوش النمسا من داخلية الأيالة المذكورة وطلب من الدولة تكليف النمسا بهدم قلعة زه رينوار التي شيدها الأمبراطور ليو يولد الثاني وأن لا تقبل مقترحات دولة النمسا وجمهورية البنادقة في أمر الصلح ولما توقفت النمسا أعلنت عليها الدولة الحرب.

وأخذت في سنة 1073 هـ 1662م تسير عليها الجيوش وأتى السلطان أدرنة وقلد الصدر الأعظم أحمد باشا وظيفة القيادة العامة وسيره على رأس جيش يبلغ 120000جندي فتقدم به على طريق أوسك وبودين وأسترغون حتى وصل إلى قلعة أيوار (Nouhensel) وضرب عليها الحصار وكان العثمانيون فتحوا هذه القلعة سابقاً سنة 1012هـ ثم عادت للنمسا وبينما العثمانيون يحاصرون المدينة المذكورة أتتهم نجدة عظيمة تحت قيادة ابن خان القريم أحمد كراي تبلغ ألف جندي ونحو عشرين ألفاً من القوزاق وبعد ما شددوا الحصار على القلعة شهراً كاملاً التزمت بالتسليم فدخلها الوزير فاتحاً 1074هـ .

ثم بعد ذلك أقام على نهر الطونة جسراً من جهة أسترغون وعبر بالجيوش وتلاقي مع جيش النمساويين الذي كان أتى لقتاله تحت قيادة الجنرال مونتيكوكولي (Montecuculli) وهزمه وأسر منه ثمانين ألف أسير وغنم غنائم لا تحصى فاندهش لهذه الأخبار أمبراطور النمسا حيث رأى جيوش العثمانيين انتشرت في بلاده بإقليمي مورا فيا وسيليزبا وفتحوا نويغراد (Novigrad) وأطرافها.

وكان اندهاشه هذه المرة عظيماً أكثر مما اندهش منه أسلافه من قبل مدة السلطان سليمان القانوني الذي وطئ بلادهم المرار العديدة وذلك لأنه كان يظن أن قوّة العثمانيين قد انحطت في أوروبا لما اعترى دولتهم من الفتن والاختلالات الداخلية منذ نصف القرن الماضي أي منذ معاهدة زيدوه توروك السابق ذكرها ولما خاف الأمبراطور من تقدم العثمانيين واستيلائهم على أوروبا طلب من البابا إسكندر وساطته في دعوة لويز الرابع عشر ملك فرانسا لينضم إليه ويحاربا العثمانيين معاً فأسرع البابا في الوساطة ودعا ملك فرانسا الذي لبى الدعوة وأرسل قوّة عسكرية تحت قيادة الكونت دي كوليني (Coligny).

وفي خلال ذلك عاد الصدر الأعظم إلى مشتى بلغراد وأذن لقرال الأردل وأميري المملكتين بالانصراف إلى إماراتهم وقبل مضي فصل الشتاء حاصر الجنرال زريني الملقب في التواريخ العثمانية بالخازوق الحديدي قلعة قنيثره ولما بلغ الصدر هذا الخبر وكان ببلغراد استعد في الحال وكان الفصل شتاء وجمع الجنود من مشاتيها وزحف على قنيثره فخاف الجنرال زريني (Zriny) ملاقاته وترك الحصار ثم تقدمت الجنود العثمانية نحو حصون زه رينوار الواقع الخلاف عليها واستولت عليه ثم هدمتها وعند عبورها نهر مور (Morr) واشتباكها مع العدو هزمته وقتل في الواقعة الجنرال أستروزي (Strezzi) قائد الجيوش النمساوية.

فقطع أمبراطور النمسا عند ذلك العشم من الانتصار وأرسل إلى الصدر سفيراً يطلب الصلح طبقاً لمعاهدة زيدوه توروك التي عقدت مع قبوجي مراد باشا وتعهد بدفع جزية قدرها ثلاثون ألفاً من الذهب إلا أن الصدر الأعظم ماطله وتقدم نحو قلعة يانيق يريد فتحها وبينما كانت الجنود العثمانية تعبر نهير راب (Raab) تقابلت مع جيش للنمسا يقوده القائد العام الجنرال مونتيكو كولي السابق وبعد واقعة دموية شديدة استمرت يوماً بتمامه 1075هـ لم يثبت فيها هذا القائد الشهير بل تقهقر أمام الجنود العثمانية الذين فقدوا في هذا اليوم العصيب نحو عشرة آلاف جندي وكان يساعد جيش النمسا في هذه الواقعة القونت كوليني (Coligny) مع ستة آلاف من الفرنسويين أرسلهم ملك فرانسا لمساعدة النمسا وكانت هذه المساعدة سبباً لحدوث النفور الآتي ذكره بين فرانسا والدولة العثمانية وتسمى هذه الواقعة بواقعة سان غوتار نسبة إلى الكنيسة التي حصلت الواقعة بقربها ثم جمع الصدر بقية جنوده في قصبة واسوار (Vasvar) حيث عقدت شروط الصلح بين الدولتين 1075هـ وكان من مقتضاها أن النمسا لا تتداخل في أمر بلاد الأردل فيما بعد وتعترف بإمارة أبافي ميخائيل عليها وأن تهدم قلعة زه رينوار ولا تصلح بعد ذلك وأن تدفع 200000غرش غرامة وأن تبقى قلعتي أيوار ونويغراد للدولة العثمانية وأن تبقى أربع مقاطعات من بلاد المجر للدولة العثمانية وأن تراعى العهود السابقة المعقودة بين الطرفين.

محاربة يولونيا ومعاهدة بوجاش 1083هـ

لما قام النزاع والشقاق بين القوزاق المشهورين باسم صاري قامش النازلين في ديار أوقرين وبين قوزاق زايوروغ المتوطنين بين مدينة أوزي (Otchacov) وفم نهر بوغ وطلب كل منهم المساعدة والحماية من خان القريم دخلت أخيراً قوزاق صاري قامش في حمى السلطنة السنية وبذلك امتدت أملاك الدولة في تلك الجهات فاحتج ميخائيل ملك يولونيا على ذلك مدعياً أن ولاية أوقرين (Ukrain) هي من بلاده وإن دور وشنقو أمير القوزاق المذكورين (Dorozensko) من الذين يفسدون في الحدود ثم جرد عليه يريد حربه فعدت الدولة ذلك إجحافًا بحقوقها وأعلنت الحرب على بولونيا في أوائل سنة1083 هـ .

وخرج السلطان بنفسه مع الجيش وعبر نهر الطونة من جهة إيساقجي وما زال يتقدم حتى وصل إلى بلاد لهستان يولونيا عن طريق خوتين (Chokzim) وحاصر قلعة قامنيجه (Kaminiee) وفتحها ثم دخل بجيشه في أيالة ويودوليا واستولى على مدينتي إيلبو (Lemberg) ولوبلن (Lublen) المشهورتين وعل جميع ما يتبعهما من الدساكر وعاثت بهما الجنود العثمانية كالعادة المتبعة إذ ذاك فطلب قرال بولونيا المذكور الصلح بشرط أن يترك ولاية أوقرين للقوزاق وإقليم ودوليا للدولة وأن يدفع جزية سنوية قدرها من الذهب فقبل السلطان منه ذلك وأمضيت به معاهدة 1083 هـ 1672 م في بوجاش (Busacs).

ثم عاد السلطان إلى أدرنة وأمر سليم كراي خان القريم بالعودة إلى بلاده وكان يصحبه في هذا الحرب ولما مات أمير يولونيا المذكور وانتخبوا بدله حنا سوبيسكي ولم يف بشروط المعاهدة المذكورة اشتعلت نار الحرب ثانية بين الطرفين وامتدت إلى سنة 1087 هـ وكانت سجالاً وكانت بلاد خوتين وقامنيجه وأيالتي يودوليا وأوقرين تقع في يد التتار والعثمانيين تارة وفي يد اليولونيين أخرى ثم توسط سليم كراي خان القريم في الصلح أخيراً وتجددت معاهدة بوجاش بعد أن حذفت منها المادة المختصة بدفع الجزية.

yacine414
2011-03-18, 16:09
السلطان سليمان خان الثاني ابن السلطان إبراهيم خان 1099-1102هـ

استمرار الفتن والارتباكات:

بويع هذا السلطان بالخلافة بعد أخيه وعمره 47 سنة وبمجرد جلوسه أمر بصرف هبات الجلوس على أربابها قبل سكون الاضطراب بين الجنود بفكرة إن ذكر يسكن الثائرة وقد كانت أحوال الدولة في ارتباك بمحاربات النمسا والبنادقة من جهة وثورات اليكجريةالمتزايدة في داخل عاصمة الدولة من الجهة الأخرى وبلغت الجراءة والوقاحة عند هؤلاء الجنود حتى إنهم صاروا يتداخلون في أمور الدولة فيولون من أرادوا ويعزلون من أرادوا.

ولما كان فاضل مصطفى باشا القائمقام يسعى في تسكين الاضطراب بكل جهده أرادوا التخلص منه فعينوه محافظاً لبوغاز الدردنيل ونفوا شيخ الإسلام دباغ زاده محمد أفندي وعينوا يكن عثمان باشا سر عسكراً على الرومللي وقتلوا الصدر الأعظم سياوش باشا ونهبوا منزله ولما ارتقى إسماعيل باشا المرعشي لمنصب الصدارة بعده بذل غاية مجهوده في إعادة النظام وتسكين الاضطراب بمساعدة أهالي استانبول الذين تسلحوا وهاجموا اليكجرية وقتلوا منهم جملة فسكن اضطرابهم ولزموا حدهم نوعاً وفي خلال ذلك عادت الدوننما إلى استانبول ودخل الخليج بالرسم المعتاد وخلع السلطان على ضباطها الخلع النفيسة وتعين القبودان باشا محافظاً لأغريبوز وخلفه في رياسة البحرية القبودان قلايلي أحمد باشا وقاد الدوننما لمياه أغريبوز ثم عاد.

وكانت النمسا انتهزت فرصة وقوع الاضطرابات المذكورة وأغارت بجيوشها على حدود الدولة واستولت على قلعة أكري وأيوار وأستوني بلغراد وواردين ثم دخلت بلغراد بدون مقاومة تذكر وعند ذلك طلب الصدر الصلح من النمسا فلم تجبه فعزل وخلفه تكفور طاغلي مصطفى باشا ثم خلفه عرب رجب باشا ولم يتمكن رجال الدولة من منع النمسا عن التقدم وقد استولت على قلاع سمندرة ونيش وودين ثم تقدم جندها من جهات أسكوب وشهركوي إلى صوفية واستولت البنادقة أيضاً على أتينة من أعمال اليونان وعلى حوالي بنالوقة وأبزورنيك من أعمال بوسنة.

ولما كانت هذه الأحوال موجبة للضعف وناشئة عن عدم كفاءة المأمورين عقد السلطان مجلساً في أدرنة للمداولة فيما يلزم عمله ووجهت الصدارة إلى كويرلي زاده مصطفى باشا 1100 هـ ولقد كان هذا الوزير ورث من أبيه وجده المهارة الحربية والسياسة معاً فلهذا تكللت مساعيه بالنجاح وتمكن من تخليص الدولة من الحالة السيئة التي وصلت إليها.

نجاح كويرلي فاضل مصطفى باشا:

لما استلم هذا الوزير زمام الإدارة شمر عن ساعد الجد فأظهر ما فطر عليه من الحزم والفطانة وصرف متأخرات الجنود والموظفين ثم التفت إلى الأحوال الداخلية فأحسن نظامها وقوي بنيانها ثم جهز جيشاً عظيماً قاده بنفسه وتقدم به من شهر كوي فاستردنيش ووددين وسمندرة وبلغراد وطارد النمساويين حتى أبعدهم إلى الضفة الأخرى من الطونة وفي تلك الأثناء ساق الروسيون جيشاً عظيماً على بلاد القريم فقابلهم سليم كراي خان بجيشه وهزمهم عند برزخ أورقبو Pere cop) ( وهزمت فرقة جركس أحمد باشا الذي أرسل إلى بلاد الأردل برفقة توكلي بك جيوش النمسا في الجهة المذكورة.

وتمكن قو ه خليل باشا الذي تعين واليالمورة من استمالة الروم الذين كانوا يكرهون إدارة البنادقة الكاتوليك واستخلص أولونية وغيرها وقد كانت هذه البشائر من الأسباب التي أنعشت القلوب وقوّت الأمل وشجعت الجنود وفي سنة 1102 هـ توفي السلطان سليمان خان الثاني بأدرنة من مرض اعتراه وكان رحمه الله حليماً تقياً سعيد الطالع تمكن في زمن قليل من إعادة مجد الدولة في أعين أوروبا بعد أن اعتراه الضعف لجهل الوزراء السابقين بأمور السياسة والإدارة.

السلطان أحمد خان الثاني ابن السلطان إبراهيم خان1102-1106هـ

واقعة صلانقمين ومقتل الصدر فاضل مصطفى باشا:

لما جلس هذا السلطان عل تخت أجداده كان سنه 50 سنة فأجريت له رسوم التولية بأدرنة وأرسل الفرمانات إلى الجيوش المحاربة ببقاء الصدر الأعظم فاضل مصطفى باشا وباقي الوزراء في مناصبهم وكان الصدر تقدم لملاقاة عساكر النمسا وبعد وصوله إلى بلغراد عبر نهر صاوا على جسر ثم تلاقى مع جيوش الأعداء الذين كانوا تقدموا من وارادين تحت قيادة الجنرال لويز دي باد بمكان يقال له صلانقمين (Salankemen) فهاجمهم بشدة والتحم الفريقان وأزاح العثمانيون أخصامهم من مواقفهم وتقدموا حتى ضربوا قلب الجيش وبينما كان طائر النصر يرفرف على رؤس العثمانيين إذ أصيب الوزير برصاصة كان فيها حتفه ولما شاع خبر وفاته بين العساكر تقهقرت وتفرقت 25 ذي القعدة 1102 م .

وتقرر بين الأمراء انتخاب أقدم الوزراء ليكون قائداً عاماً فانتخبوا خليل باشا الذي تمكن من إرجاع الجيش بحالة منتظمة إلى بلغراد وخسر النمساويون في ذلك اليوم خسائر كبيرة توازي خسائر العثمانيين إن لم تزد عليها وكان لهم على بعد ست ساعات من محل الواقعة المذكورة أساطيل كثيرة في نهر الطونة فهاجمتها الدوننما العثمانية وأحرقتها عن آخرها ولما بلغ السلطان خبر وفاة الصدر تكدر لذلك ووجه مسند الصدارة لعربه جي علي باشا والسر عسكرية لخليل باشا وأخذت الدولة في إعداد الجيوش وتجنيد الجنود لعزمها على مناصبة العدو القتال.

أما البنادقة فإنهم لما لم يتمكنوا من زعزعة مقام العثمانيين بجزيرة كريد مع ما بذلوه من المساعي وما نالوه من الانتصارات فترت همتهم حتى إن القبودان البندقي لما لم ير نجدة من وطنه سلم1103 هـ قلعة قرابوسة (Carabusa) من أعمال كريد للوزير علي باشا محافظ خانية بنفس شروط تسليم مدينة قندية. وفي سنة 1104 هـ خرج القبودان يوسف باشا الذي تعين لرياسة البحر في السنة السابقة بباقي الغلايين و الأغربة إلى البحر الأبيض كالمعتاد. وصدرت الأوامر بجمع الجنود في أدرنة وتعين عليها بيقلي مصطفى باشا سرداراً ثم قصد روسجق وأمر السلطان أيضاً سليم كراي خان القريم بالانضمام إلى الجيش العثماني لمحاربة النمسا ببلاد الأردل فلما علم القائد النمساوي بذلك رفع الحصار عن مدينة بلغراد وتركها راجعاً ولما بلغ خان القريم خبر رجوعه عن بلغراد اقتفى أثره وفتح قلعتي طمشوار وكيوله ومن الحوادث التي حدثت في زمن هذا السلطان ظهور ثورة ببلاد الشام فأرسلت الدولة جيشاً لإطفائها وحدوث حريق باستانبول جهة أيازمه قبوسي امتد إلى أون قبان وآت يازار وكان جسيماً أحرقت فيه عدة منازل ومبان وجامع السلطان سليمان 1104 وكان الجيش السلطاني حاصر 1105 سنة واردين واستولى جيش بوسنه على قلعة غبله من يد البنادقة وشتت شمل جيشهم في تلك الأطراف ودخل جيش التتار إلى بلاد الأردل وشتت شمل عساكر النمسا.

ولما كانت حكومة البنادقة غير قادرة على محاربة العثمانيين بمفردها وكثيراً ما ساعدها البابا بضم بعض دول أوروبا إليها وكانت دول أوروبا لا تمكنها حالتها كل وقت من مساعدتها انضم إليها هذه المرة البابا وأهالي مالطة وأرسل الكل أساطيلهم بها جنودهم فأنزلوها بجزيرة ساقز سنة 1106هـ1694م فأمر السلطان بجمع العساكر من كافة الجهات وتجهيز الدوننما وإنشاء مراكب جديدة بغاية السرعة لتقوية العمارة وقد تم ذلك في فصل الشتاء.

ثم اشتكى بعضهم القبودان يوسف باشا بأنه كان بالعمارة في بحر الأرخبيل وقت استيلاء البنادقة ومساعديهم على جزيرة ساقز وكان في إمكانه المدافعة عنها إلا أنه لم يفعل ولما حاكمته الدولة وجدت للشكوى بعض الحقيقة فعزلته عن رياسة البحرية ونفته إلى قلعة مديللي وتعين الوزير عموجه زاده حسين باشا وكان محافظاً لقلعة سد البحر بالدردنيل قبوداناً للدونما وقد أظهر اهتماماً زائداً بأمرها وفي تلك الأثناء اشتد المرض بالسلطان فتوفي بأدرنة ودفن بجامعه الذي شيده قرب باغجه قيوسي 1106 .

السلطان مصطفى خان الثاني ابن السلطان محمد الرابع1106- 1115هـ:

بويع له بالخلافة يوم وفاة السلطان أحمد وكان سنه 22 سنة وفي اليوم الثاني من جلوسه أصدر فرماناً شديد العبارة مضمونه إن الحالة التي وصلت إليها الدولة من الضعف مدة أسلافه الذين رقدوا على بساط الراحة والدعة أدت لحصول الخلل في النظامات والإدارة وإنه سيقبض بيده على زمام الأعمال مستطلعاً الحركات والسكنات وإنه ترأس بنفسه على الجنود في ميدان القتال وما مثال ذلك من الترتيبات والتدبيرات المفيدة ثم أمر بالتجهيزات الحربية براً وبحراً ولما طلبت اليكجرية منه إنعامات الجلوس كالعادة نبههم إلى عسر المالية وضنك الأحوال ووعدهم بمطلوبهم بعد النصر فقبلوا ثم ساق معظمهم إلى ميادين القتال وأمر بسرعة الحركة لإعادة جزيرة ساقز.

حرب ساقز:

لا أشمر السلطان مصطفى الثاني عن ساعد الجدّ وعزم على السير في طريق الحزم ليرجع للدولة مقامها السابق وشرفها القديم ويسترد ما استولى عليه أعداؤها من أملاكها أمر العمارة فأقلعت من استانبول وكانت مركبة من عشرين غليوناً و 24 غراباً تحت قيادة عموجه زاده القبودان حسين باشا ومعه حسين باشا الجزائري الملقب عند الفرنج ميزه مورتو بوظيفة نائب عنه بطرونه ومعهما العدد الكافي من الجنود وبعد مضي ثلاثة أيام من خروج العمارة صادفت قرب جزيرة قيون أطه (Spalmatori) عمارة البنادقة تقودها سفن السحب لسكون الريح وقتئذ وكانت مؤلفة من عشرين غليوناً وست ماعونات عند ذلك أمر القبودان باشا ستة عشر غليوناً بالحملة على غلايين البنادقة المذكورة وخصص الأربعة غلايين الباقية للهجوم على مواعينهم.

وأمر قوّاد السفن بدقة الملاحظة والانتباه وإجراء الحركات الحربية بكل نظام وترتيب وتروّ ثم حمل القبودان ميزه مورتو على غليون أميرال البنادقة وأطلق عليه مدافع الجنب الأبانده مرة واحدة فتعطل من ذلك بعض مدافعه وطارت قطع من أخشابه فأصابت أكثر من مائة نفس من طائفته ووقع الهرج والاضطراب بين من في الغليون المذكور وفي الحال اقتربت منه سفينة رئيس يدعى عبدالفتاح وألقت عليه أقمشة مغموسة بالزفت والنفط والقطران ياغلي بجاوره من مدافعها فأصابت مؤخره فالتهب في الحال ولم تتمكن عساكره من إخماد النيرن فزاد ويلهم وعظم عويلهم وأراد غليون آخر من سفن البنادقة أن يمدّ له يد المساعدة إلا أنه لم يكد يقرب مه حتى عمت النار أرجاءه ووصلت إلى جبخانته فطار الغليونان في الجوّ صعداً.

أما عساكرهما فمنهم من قتل ومنهم من ألقى نفسه في البحر فقبض عليه العثمانيون وحملت المركب التي كان يقودها عبدالقادر باشا زاده على ماعونات العدو وقويت عليها وعطلت مدافعها ثم التحم الفريقان واشتد بينهما القتال بالأسلحة البيضاء وتصاعد دخان المدافع فكسا الجوّ حلة سوداء وأظلم المكان بعد الضياء بحيث صار لا يمكن أن السفن ترى بعضها أصلاً وأخيراً لم يسع العدوّ إلا الانسحاب من مياه الحرب بما بقي معه من سفنه وفرّ هارباً والتجأ إلى مينا تيرفيل واستمرّت هذه المحاربة من ضحوة النهار إلى الغروب.

وغرق من سفن العدوّ عدة غلايين وانكسر منها عدة أيضاً وكانت خسائر الدوننما العثمانية قليلة جداً ففرح الجنود وتشجعوا ثم سار القبودان باشاً فائزاً منصوراً إلى أن وصل إلى ساحل الأناضول فأرسى هناك وصمم على إعادة الكرة على العدوّ لزيادة الإيقاع به فأمر بالاستعداد ثم قام بالدوننما في اليوم الرابع من رجب من السنة المذكورة ولما قرب من ساقز ورآه العدوّ مقبلاً سار نحوه إلى خارج المينا ومعه ستة وعشرون غليوناً وقبل أن يشتبك الطرفان في القتال جعل العثمانيون عمارتهم على الترتيب الآتي وهو أن القبودان باشا جعل نائبه بستة غلايين عند أوّل مضيق ساقز فوق الريح وجعل ما بقي من السفن تحت الريح.

وبعد أن أخذت كل سفينة موقعها اشتعلت نيران الحرب بينهما وقذفت المدافع من فوهاتها المقذوفات العظيمة فوجم العدوّ لذلك وعلم أن لا طاقة له بالوقوف بسفنه بين نارين شديدتين وليس في إمكانه أيضاً المقاومة أمام هذه التعبية العجيبة فالتزم أن يدخل الغلايين التي تعطلت إلى داخل الميناء ثم ولى هارباً بما بقي معه منها وعددها أربعة عشر وأخذت العمارة العثمانية مع ذلك في تعقب البنادقة وإطلاق المدافع عليهم ورمت سفينة آشجمي زاده محمد قبودان مقذوفات على غليون للبنادقة فأصابت مخزن باروده وكان يحمل 25 مدفعاً فتفرقع لوقته وتبدد في الجوّ قطعاً.

أما الأربعة الغلايين التي تعينت لمحاربة الماعونات في مبدإ الأمر فقد فازت فوزاً مبيناً ولما عطلت ما كان أمامها من سفن البنادقة قبضت عليها وعلى جميع من كان بها بكل سهولة وقد تكبد البنادقة في هذه الواقعة خسائر شتى وهربت باقي سفنهم ودخلت سفن الأميرال مينا ساقز وأنزلت في قلعتها خمسمائة خيال ولما دخلت الدوننما العثمانية ساقز لم تجد فيها للعدوّ أثراً وصادفت في البوغاز إحدى المواعين المعطلة المشحونة بالذخائر فاستولت عليها بمن فيها وكان بها 16 مدفعاً من النحاس وستة هوانات وخمسة آلاف بندقية وكثير من المهمات والذخائر والجبخانات و 280 جندي.

ولما استولت الدوننما على القلعة والمينا وجدت بها أيضاً أربع مراكب للسحب وأربعة غلايين كبيرة مشحونة بالأسلحة ودخل العساكر المدينة ولم يتعرّضوا لأحد بسوء مطلقاً فقابلهم السكان بالترحاب وقد اغتنمت الجيوش العثمانية ما استجد بالقلعة من الأدوات وكانت 16 مدفعاً وثمانين ألف مقذوف وكثيراً من المهمات والجبخانات وغيرها ولما انتهت المحاربة وأنزل بساقز الحامية الكافية من العساكر الذين نقلوا من جشمة بساحل الأناضول عادت الدوننما ظافرة إلى الآستانة فسر السلطان من القبودان حسين باشا ورقاه إلى مسند القائمقامية وخلفه على رياسة البحرية القبودان ميزه مورتو حسين باشا وقد اهتم من يوم توليته في إنشاء السفن الحربية وإصلاحها لتقوية الدوننما وأتقن آلاتها ولوازمها وانتخب لها العدد الكافي من الملاحين وأرباب الفن ثم أكثر من التدريبات والتمرينات حتى صير طوائف السفن على غاية من الاستعداد والمهارة والاجتهاد في الفنون الحربية البحرية.

محاربات النمسا وهزيمة زانتا 1109 هـ:

اعلم إنه بعد الانتصار البحري المذكور واسترداد ساقز قاد السلطان بنفسه الأوردي الهمايوني سنة 1107هـ 1695 م وعبر به نهر الطونة فوصل إلى يانجوه وعسكر في صحراء طمشوار واستولى على قلعة لييوه (Lippa) وجميع ما بها من الذخائر والمهمات وانتصر في واقعة لوغوس (Lugos) الدموية وقتل قائد جيش النمسا الجنرال وتران(veterani) بعد أن شتت شمل جيشه وأسره ثم عاد الجيش بعد ذلك لتمضية الشتاء في بلغراد وسار السلطان إلى القسطنطينية فائزاً منصوراً إلا أن هذه الهزيمة المذكورة لم تكن بالقاضية على النمساويين لأنهم أعادوا الكرة على الحدود العثمانية ثانية 1108 هـ 1686 م .

وحاصروا طمشوار بجيوش عديدة فتقدم السلطان بالجيش وردهم عن القلعة المذكورة وقهر للنمساويين جيشاً عظيماً كان مجتمعاً في مضيق بتلك الأطرال تحت قيادة منتخب ساكن فريدريك قرب مدينة أولاش (Olasch) وكانت هذه النصرة الثانية سبباً لبث روح الشجاعة والإقدام في الجنود العثمانية ثم عاد السلطان إلى أدرنة بعد أن قوى طمشوار وأكثر من بناء القلاع بالحدود ثم اهتم في تحسين وإصلاح الأمور العسكرية والملكية.

وكان الروس أثناء هذه الحروب حاصروا مدينة أزاق (Azov) 1107هـ فقاومتهم جيوش خان القريم والحامية العثمانية هناك وتغلبوا عليهم وطردوهم وقتلوا منهم نحو ثلاثين ألف جندي إلا أن بطرس الأول قيصر الروس عاد بجيش كثيف يتجاوز 60 ألف جندي 1108هـ وحاصرها ثانية.

ولما كانت الدولة مشتغلة بالحروب القائمة بجهات مورة والمجر و يولونيا وبوسنة لم تتمكن من نجدة تلك المدينة فتم له الاستيلاء عليها وجعلها ثغراً له على البحر الأسود لأن قبائل القوزاق كانت حائلاً بين البحر وبين الروس.

وفي سنة 1109 هـ قاد السلطان الجيش بنفسه لمحاربة النمسا ولما وصل بلغراد عقد مجلساً للمداولة فاستقر الرأي على أن يسير الجيش إلى جهة طمشوار كما سار في العامين السابقين ثم عبر الجيش الطونة إلى يانجوه وتقدم حتى وصل إلى مدينة زانتا (Zenta) الواقعة على نهر تيس ونصبوا هناك جسراً ليعبروا إلى الضفة الأخرى وبينما الجيش آخذ في العبور إذ هاجمه القائد النمساوي العام البرنس أوين دي سافوا الشهير (Eugne de Savoie) ولما اصطدم الجيشان انكسر الجسر فانقسمت القوة العثمانية إلى قسمين وضعف أمرها وظهرت عليها علامات الهزيمة وكان القتال عنيفاً.

ومات من العمثانيين عدد عظيم بين أنفار وقواد منهم الصدر الأعظم الماس محمد باشا ووالي الأناضول مصرلي زاده إبراهيم باشا ومحافظ طمشوار جعفر باشا ووالي أذنه أطنه فضلى باشا واغاة الينكجرية بالطه زاده محمود باشا وعشرة من البكوات ونحو خمسة عشر ألفاً من الجنود بين قتيل وغريق ولولا وجود السلطان بالضفة الأخرى لوقع أسيراً في يد الأعداء وبهذه الهزيمة ضاعت كافة قلاع بلاد المجر من العثمانيين 23 صفر 1109هـ واستولى النمساويون على بلاد بوسنة وغيرها ولما عاد السلطان وجه مسند الصدارة إلى كويريلي عموجه زاده حسين باشا.

معاهدة قارلوفجه 1110 هـ:

لما قبض الصدر الأعظم الجديد الذي هو من أولاد الوزير الشهير صاحب الأفكار العالية والآراء السديدة المرحوم كويريلي باشا الكبير على زمام الأحكام أخذ ينظم الإدارة ويدبر المصروفات والإيرادات فزادت بذلك الأموال في الخزينة وانتعشت الآمال وابتهجت الأحوال حتى تمكن من تجهيز جيش جديد بلغ خمسين ألفاً من الرجالة وأربعين ألفاً من الخيالة خلاف الطوبجية ثم تقدم به نحو بلغراد وتقابل مع البرنس أوجين المذكور بإقليم بوسنة واستظهر عليه حتى ألزمه الرجوع إلى ما وراء نهر صاوه (Save) تاركاً بلاد بوسنة.

وبينما كان السلطان مصطفى مصراً على استرداد جميع ما فقد من أملاك الدولة كان أمبراطور النمسا يميل جداً للصلح والمسالمة لما لحقه من الخسائر مدة الحروب الطويلة المذكورة ففتح باب المخابرات بين الدولتين وتداخل لويز الرابع عشر ملك فرانسا وأراد أن يدخل الدولة العثمانية في معاهدة ريسويك (Ryswyck) التي أمضيت في 20 سبتمبر سنة 1697 بين فرانسا من جهة والنمسا وإسبانيا وإنكلترة وهولاندة من جهة أخرى وهي المعاهدة التي أرجع بها لإسبانيا ما كانت فقدته من أملاكها فلم تقبل الدولة لتعصب دول أوروبا عليها وسعيهم في محو نفوذها.

والحاصل إنه بعد مخابرات استغرقت مدة طويلة قبلت دول النمسا والروسيا والبنادقة و يولونيا شروط معاهدة قارلوقجه المذكورة (Carlowitz) قطعياً مع الدولة 1110 هـ 1699 م وتم بذلك الصلح وكان أهم شروطه مهادنة النمسا لمدة عشرين سنة وأن يبقى للدولة العلية ولاية طمشوار (Temeswar) المعروفة ببانات وتأخذ النمسا بلاد الأردل وما استولت عليه من بلاد المجر وعلى ذلك تكون الحدود بين الطرفين أنهار ماروش وتيس والطونة وصاوة ومهانة مع دولة يولونيا لمدة عشرين سنة أيضاً.

وإن ترد للدولة العثمانية البلاد التي استولت عليها من بغدان وتبقى الحدود القديمة على ما كانت عليه ويعاد ل يولونيا إقليمي يودوليا وأوقرين وقامنيجه وتعفى من الجزية التي كانت تدفعها لخان التتار وأن تتنازل الدولة العثمانية للبنادقة عن شبه جزيرة مورة وأقليم دالماسيا وأن تعفى النمسا وغيرها مما كانت تدفعه للدولة العثمانية ولما كان مرخص الروسيا غير حائز للثقة التامة عقدت معه متاركة لمدة ثلاث سنين تحت شرط بقاء قلعة أزاق بيد الروس ثم تأيدت هذه المتاركة فيما بعد بينهما 1113 هـ وبعد ذلك استمرة هذه المهادنات حتى صارت صلحاً دائماً بين الطرفين.

yacine414
2011-03-18, 16:10
اصلاحات داخلية:

إنه بعد أن تقررت مصالحة قارلو فجة بين العثمانيين ومن مر ذكرهم من دول أوروبا عاد السلطان من أدرنة إلى استانبول فقابل السفراء ثم أخذ ينظر فيما يقتضيه ملكه من التحسينات وأخذ الصدر الأعظم عموجه زاده حسين باشا في إصلاح الأحوال الداخلية التي أصابتها المضار من طول زمن الحروب المذكورة فرفع عن عاتق الأهالي ما عجزوا عن أدائه من الضرائب بعد أن قللها وقبض على كل المفسدين وأصحاب الدسائس والسوابق منبين الجيوش وأبادهم نفياً وقتلاً وأخذ في تشجيع الأهالي وحثهم على زيادة الاعتناء بالزراعة والصناعة إذ عليهما مدار تقدم البلاد.

وبينما كان الصدر يهتم في هذه الإصلاحات النافعة حدث بينه وبين شيخ الإسلام فيض الله أفندي اختلاف لأن فيض الله أفندي المذكور كان معلم السلطان قبل جلوسه على كرسي السلطنة وكان السلطان ولاه مسند المشيخة الإسلامية وصار يستشيره في كل الأمور فأغاظ ذلك الصدر لتداخل شيخ الإسلام في الأحوال السياسية التي ليست من تعلقات وظيفته أصلاً وكان القبودان ميزه مورتو حسين باشا مدة حياته يجتهد في التأليف بينه وبين الصدر ويزيل النفور من قلوبهما إلا أنه بعد وفاته استبد الشيخ في آرائه وأظهر العظمة فلم يتحمل الصدر ذلك وقدم استعفاءه 1114 هـ وأقام في ضيعة له منفرداً حتى مات بعد سبعة عشر يوماً ونقلت جثته إلى استانبول ودفن في مدرسته المشهورة.

واقعة أدرنة 1115هـ:

اعلم إنه بعد أن استقال الصدر حسين باشا وجه السلطان مسند الصدارة إلى دال طبان مصطفى باشا الذي التزم السير على الخطة التي يرسمها له شيخ الإسلام المذكور ولما كان هذا الصدر يميل من طبيعته للحرب والقتال في الوقت الذي كانت الدولة فيه في أشد الاحتياج للمسالمة والراحة بعد الحروب الطويلة لتلتفت لإصلاح أحوالها الداخلية اختلت بذلك أحوال السياسة وارتبكت العلاقات الخارجية حتى خيف على روابط السلم أن تنقطع ثم عزل وقتل لما تحقق للسلطان وبقية الوزراء أنه بخطته هذه يوقع الدولة فيما تخافه من الحروب.

ولما كان الوزير المذكور من مشاهير الأبطال وقع اضطراب وشغب بسبب ذلك بين صنوف الجنود وتعين للصدار رامي محمد باشا وكان مرخصاً للدولة في صلح قارلوفجة وكان عالماً بالأمور الإدارية والأحوال السياسية وقد تمكن بمساعدة محاميه شيخ الإسلام من تحسين الأحوال وإصلاحها إلا أن شيخ الإسلام لما كان يميل إلى التغلب والتحكم في كافة الأمور والصدر يريد مراعاة حقوق مقامه أخذ يفكر في منع تسلط الشيخ المذكور الذي لما أحس بذلك أشعل نار الفتنة حتى استفحل أمر الهياج بين الجنود وكان السلطان في ذلك الوقت بأدرنة لتولعه بالقنص كأبيه ثم انتهت الفتنة بقتل شيخ الإسلام فيض الله أفندي المذكور.

ولما بلغ السلطان مصطفى أنهم يريدون خلعه دخل على أخيه أحمد خان وأعلمه بالأمر وتنازل له عن كرسي السلطنة في 9 ربيع الأوّل سنة 1112 هـ ثم مات بعد مائة وأربعين يوماً وكان شجاعاً يميل إلى الاقتداء بجده السلطان سليمان في الفتوحات حضر بنفسه ثلاث غزوات مهمة وكان فطناً شفوقاً عادلاً محباً للعلماء والعلوم والمعارف ولما كانت هذه الواقعة حدثت باستانبول وقصد أربابها مدينة أدرنة للإفساد بها دعيت بواقعة أدرنة.

السلطان أحمد خان الثالث ابن السلطان محمد خان الرابع 1115-1143هـ:

لما تبوّأ هذا السلطان التخت العثماني بعد تنازل أخيه له كان عمره ثلاثين سنة واستمرت الفتنة في أوّل حكمه ولم يتمكن من إخمادها وبقيت نحو ستة أسابيع وقتل فيها أكبر أولاد شيخ الإسلام فيض الله أفندي المقتول ثم نفوا باقي عائلته إلى قبرس وخرب الثائرون جملة منازل وقتلوا جاليق أحمد باشا أغاة اليكجرية وكان نال رتبة الوزارة وعزلوا الصدر الجديد قوانوز أحمد باشا وشيخ الإسلام إمام محمد أفندي وغيرها لتساهل السلطان لهم خوفاً على مركز السلطنة من أن يكون ألعوبة في يد أرباب الغايات وما زالت عوامل الثورة قائمة حتى تمكن السلطان ووزراؤه من نفي بعض أرباب المفاسد فهدأت الأحوال نوعاً.

وبينما كانت الاضطرابات بالآستانة تعدت عربان الحجاز على قوافل الحجاج بالنهب والقتل فاهتمت الدولة بتأديبهم وسيرت عليهم العساكر من طرابلس الشام وبيروت وجبل عجلون والقدس فأوقعت بهم وعادت الأمنية إلى ربوعها وأبقت الدولة الشريف سعد شريفاً لمكة المكرمة كما كان مع قيام الأدلة على اشتراكه مع العرب 1116 هـ ولما رأت الدولة سعي دولة الروسيا في مد نفوذها بجهات البحر الأسود شيدت بباطوم وبغداد جك وطمرق قلاعاً لحماية البلاد الآسيوية وعزل السلطان الصدر داماد أحمد باشا لخلاف وقع بينه وبين أوزون سليمان أغا أغادار السعادة وقد اهتم هذا الصدر كثيراً بنافع الإصلاحات فنظم دار الصناعة وأكثر من إنشاء المدارس والمعامل وغيرها وخلفه في الصدارة قلايلي قوز أحمد باشا فلم يلبث بها طويلاً.

بطرس الأكبر وشارل الثاني عشر وبالطه جي محمد باشا وواقعة بروت

اعلم أنه من يوم أن تبوّأ السلطان أحمد الثالث التخت والحروب قائمة بين دولة السويد ودولة الروسيا ولما دخل شارل الثاني عشر المعروف عند العثمانيين بتيمور باش رأس الحديد بجيشه الجسيم في بلاد الرسوم وانتصر عليهم في واقعة ناروا (Narva) وقهر جيوش الساقسون واليولونيين المتفقين واستولى على بلدتي لمبرغ ووارسوفا ونصب أحد ضباطه المدعو أستانسلاس ولهجنكي (Stanislas Leczinski) أميراً على اللهستان ثم اقتفى أثر ملكها السابق أغست الثاني (Auguste II de Saxe) حتى أغار على ساكسونيا واضطره إلى طلب الصلح والتنازل عن دعواه في مملكة اللهستان.

وكانت دولة الروسيا من منذ معاهدة قارلوفجه أخذت تبني قلاعاً في بحر أزاق وحدود أوزي وبندر وتشيد سفناً لأنها كانت تنوي الضرر للدولة العثماينة وغفلت الدولة عن مراقبة حركاتها مراقبة شديدة دقيقة لاستصغار العثمانيين شأن هذا العدوّ الجديد وكانت الدولة لما وقعت الحرب بين شارل وبطرس افتكرت أن شارل ربما قام بتنفيذ ما يجب عليها هي من إضعاف شأ الروسيا وأرسلت له يوسف باشا محافظ باباطاغ ووالي أوزي يشجعه على دوام القتال ويعده بأن الدولة أمرت خان القريم بمساعدته متى دخلت عساكره داخل بلاد الروسيا ويروي أيضاً أنها كانت تريد أن تعقد معه اتفاقية سرية مبنية على الهجوم والدفاع لولا معارضة الصدر الأعظم جورليلي علي باشا الذي كان يرغب التمسك بشروط المعاهدة الصلحية المعقودة بين الدولة والروسيا وخير البقاء على الحيادة مدة المحاربات المذكورة.

ثم لما انتصر بطرس الأكبر على شارل الثاني عشر في ملحمة بلطاوة (Poltawa) وانهزم مجروحاً التجأ للممالك العثمانية 1121 هـ 1709 م وتوسط له يوسف باشا المتقدم الذكر حتى تحصل على رخصة من السلطان تجيز لشارل الإقامة بمدينة بندر ولما تعدت فرسان الروسيا الذين كانوا يتعقبونه حدود الدولة من جهة أوزي وبغدان وكانت الروسيا أدخلت تحت سلطتها جميع القوزاق وهددت الحدود السلطانية بما شيدته من الحصون والمعاقل وكانت دائبة على إثارة أهالي المملكتين على العثمانيين عدت الدولة كل ذلك من الأسباب الشرعية لمحاربة الروسيا وسجنت سفيرها في قلعة يدي قله كالمعتاد لأن هذه العادة في الوقت المذكور كانت بمثابة أخذ السفير رهينة حتى تخرج تجار العثمانيين ورعاياهم من أراضي الدولة المراد محاربتها.

ثم أعلنت الدولة الحرب على بطرس الأكبر1122 هـ وتقدم الصدر الأعظم بالطه جي محمد باشا يقود جيشاً عظيماً يزيد عن مائة ألف مقاتل إلى جهة الطونة في أوائل سنة1123 هـ ولما عبر مضيق إيساقجي وخرج إلى صحراء قارتال بلغه خبر وصول جيش الروس وعدده أربعون ألف جندي من جهة حدود البغدان فتقدم الجيش العثماني وأحاط بجيش الروس بقرب قرية قالجي في المستنقعات الكائنة بجانب نهر بروت حتى أضحى بطرس الأكبر بجيشه في قبضة العثمانيين ونفد منهم الزاد والذخيرة وقطعوا الأمل من النجاة إلا بالاستسلام.

ولولا إن زوجته كاترينا تداركت الأمر بفطنتها وحيلتها لكان قضى على الروس سياسياً وذلك إنها عمدت إلى ما معها من المجوهرات والنفائس وما مع من برفقتها من الأميرات والوصائف فجمعتها وأرسلتها إلى الصدر الأعظم بالطه جي محمد باشا فتقبلها منها لخسة نفسه ودناءة أصله وأفرج عن الجيش وعقد معهم صلحاً من شروطه تنازلهم عن قلعة أزاق بما فيها من المدافع والآلات للدولة وأن يهدموا جميع القلاع التي شيدوها حديثاً في حدود الدولة وأن لا يتداخلوا فيما بعد في أحوال القوزاق وأن لا يتعرضوا لشارل الثاني عشر عند عودته إلى وطنه.

وهذا الصلح وإن كان صلحاً مجيداً يناسب مقام العثمانيين إلا أنه كان أكثر فائدة للروس لأنه خلصهم من ورطة لو وقعوا بها لما كانت تقوم لهم بعدها قائمة وتسمى هذه المعاهدة بمعاهدة فلكزن (Falksen) ولما سمع شارل ملك السويد بما فعله بالطه جي باشا اغتاظ جداً واجتهد في أعلام السلطان بخيانته ويقال إنه لما لام الصدر على عدم قبضه على بطرس الأكبر قال معتذراً من الذين كان يحكم بلاده بالنيابة عنه وليس من الصواب أن يكون كل الملوك خارج بلادهم.

وبعد التصديق على المعاهدة المذكورة 1122 هـ 1711 م استولى العثمانيون على قلعة أزاق بلا قتال ثم إن ملك السويد ورجاله اشتكوا للسلطان مما فعله الوزير بلطه جي محمد باشا وكيف إنه أخذ الرشوة من كترينه وأطلق السراح لجيش الروس وقد صادق خان القريم على أقوال ملك السويد المذكورة وثبتت هذه الأقوال حينما توقف مأموراوالروسيا عن تنفيذ بعض بنود المعاهدة المذكورة فعزل الوزير بلطه جي محمد باشا ونفي إلى ليمنى وأحيل مسند الصدارة على يوسف باشا ولما رأى السلطان منه استحساناً للمعاهدة التي عقدها بلطه جي باشا عزله وولى مكانه سليمان باشا واستعد السلطان بنفسه لمحاربة الروسيا فقصد أدرنة في الشتاء وعزل الصدر لأنه لم يوافقه على الحروب ونصب بدله القبودان خواجه إبراهيم باشا 1124 هـ وأصله قبودان غليون ونال القبودانية بعد حاجي محمد باشا ثم تداخلت دولتا إنكلترا وهولاندة في حسم الخلاف الذي بين الروسيا والدولة لأن الحرب يضر بمصالحهما التجارية وانتهى الأمر بعقد معاهدة أدرنة1125 هـ 1713م .

وكان من مقتضاها أن تنازلت الروسيا عن كافة ما لها من الأراضي على البحر الأسود بحيث لم يبق لها عليه ولا مينا واحدة ورفع عن عاتقها نظير ذلك المبلغ الذي كانت تدفعه سنوياً لخانات القريم وعزل سليمان باشا من القبودانية ووجهت إلى خواجه سليمان باشا ووجهت الصدارة العظمى للداماد علي باشا بعد عزل خواجه إبراهيم باشا لجهله بالأمور السياسية ثم إن شارل لما لم يتحصل على مرغوبه عاد إلى بلاده ثانية بعد أن أقام بأراضي الدولة ست سنوات.

حالة البحرية في الوقت المذكور:

إن النظامات التي كان أدخلها في البحرية ميزه مورتو حسين باشا عادت على الدوننما بالنجاح والفلاح وصيرتها قوية مهيبة ووصلت إلى درجة عظيمة من الاتقان والانتظام حتى أوقعت الرعب في قلوب الأعداء ولما تعين جانم خواجه محمد باشا1126هـ قبوداناً عاماً للدوننما تلقى الضباط والأفراد عموماً تعينه بالسرور والانشراح لأنه أول قبودان عام تخريج من الوجاقات البحرية ولما كان السلطان شديد الغيرة على إرجاع ما كان للدولة من البلاد أراد استرداد جزيرة مورة وكان البنادقة استولوا عليها كما سبق وتأيد حكمهم لها بمعاهدة قارلوفجه.

وفي مدة الحروب المتقدمة كانت الدولة مهتمة بتقوية أساطيلها كاهتمامها في تنظيم جيوشها وتقوية قلاعها وكانت دار الصناعة تبني ثلاثة غلايين كبيرة ولما كملت احتفلوا بإنزالها في البحر احتفالاً شائقاً حضره السلطان بنفسه وخلع على الصدر الأعظم والقبودان باشا ومدحهما على اهتمامها 1122 هـ .

ثم أرسلت الدولة أسطولاً مؤلفاً من ثمان سفن حربية للمحافظة على جزائر الأرخبيل من تعديات البنادقة خصوصاً وقد قبض هذا الأسطول على فرقاطة ابن مانيات أحد مشاهير قرصان البحر وكان بها نحو ستين شخصاً وبذلك عادالا من نوعاً إلى تلك الجهات لكثرة تعدى هذا الشقي على سفن التجارة العثمانية ثم عاد القبودان إلى استانبول وبعد عودته باشر بناء عدة سفن من النوع الخفيف لتكون صحبة العمارة عند استرداد مدينة أزاق من الروسيين ولما تمت التجهيزات خرجت العمارة 1123هـ 1711 م وكانت مركبة من22 قطيرة من قطائر أمراء البحرية و27 غليوناً و60 فرقاطة و120 سفينة خفيفة لنقل المهمات ومائة صندل من النوع المسمى قانجه باش وبروليق وغيرها فكان الجميع360 سفينة بها نحو ثلاثين ألف مقاتل تحت قيادة الحاج محمد باشا ومع ذلك فإن الدولة استولت على المدينة المذكورة بموجب معاهدة يروت السابق ذكرها بلا احتياج لحركات حربية وبعد ذلك أبحر أسطول مركب من ثمانية غلايين تحت قيادة خواجه إبراهيم باشا للمحافظة على سواحل الدولة في البحر الأبيض المتوسط.

حرب البنادقة واسترداد مورة:

لما كانت الدولة العلية لا يقر لها قراراً إلا باسترداد موره لما في تملكها من المنافع السياسية والتجارية واهتمام السلطان بهذا الأمر كثيراً أرسلت سنة 1127 هـ 1715 م دوننما مركبة من ثلاثين غليوناً وأربعين غراباً يقودها القبودان العام جانم خواجه محمد باشا وكانت العساكر البرية في تلك الأطراف يقودها الصدر الأعظم داماد علي باشا ولما وصلت العمارة إلى سلانيك استأذن القبودان الصدر الأعظم في فتح جزيرة إستنديل (Tinos) :

فلما صرح له ذهب وحاصرها من كل جانب وبعد قليل من الزمن استولى عليها وطرد حامية البنادقة منها وكانت هذه الجزيرة في قبضة البنادقة مدة أربعة قرون تقريباً وكثيراً ما حاولت الأساطيل العثمانية افتتاحها فلم يتيسر لها فلما افتتحوها هذه المرة فرحوا واستبشروا وقويت آمالهم ثم تقدم الجيش البري تحت قيادة السردار المذكور وحاصر قلعة أنايولي وساعدته الدوننما بحراً فتم له الاستيلاء عليها بعد أن مكث على حصارها ثمانية أيام وما زالت الجنود العثمانية بعد ذلك تتقدم غانمة منصورة حتى أخضعت مدن متون وقرون وكردوس (Corinthes) وغيرها في زمن يسير وفتحت العمارة جزيرة جوقه (Serigo) بحيث لم يمض إلا القليل من الزمن حتى استردت الدولة شبه جزيرة مورة مع ملحقاتها من الجزائر وأسست فيها إدارة منتظمة كما كانت قبل تعدي البنادقة عليها هذا.

وقد أمرت الدولة الوزير محمد باشا محافظ قلعة خانية وأزميرلي علي باشا محافظ قلعة قندية من جزيرة كريد بالاستيلاء على قلعة سودة وأسبر لونغه وكورا بوزه وكانت لا تزال باقية تحت يد البنادقة بالجزيرة المذكورة من حين فتح قندية وقد تمكن القائدان المذكوران من تنفيذ ما عهد إليهما تماماً ومن ذلك الوقت صارت كريد بأجمعها تابعة للدولة العثمانية وزال من تلك الأطراف ما كان يأتيه قرصان البنادقة من المفاسد والأضرار بالأرواح والأموال إذ كانت تلك الجهات مركزاً لأعمالهم ومأوى لمفاسدهم ولما عادت الراحة والطمأنينة إلى هاتيك المعالم والمعاهد وانقشعت غياهب المظالم قفلت الدوننما عائدة إلى استانبول وذهب الصدر الأعظم إلى أدرنة لمقابلة السلطان.

وقائع النمسا ومحاصرة كورفو ومحاربة وارداين:

لما عاد الصدر الأعظم شهيد على باشا من مورة اهتم كثيراً في إصلاح الأمور الداخلية بينما كان يجهز أسطولاً وجيشاً لفتح جزيرة كورفو وفي تلك الأثناء كانت انتهت الحروب التي حدثت بسبب وراثة الملك بإسبانيا وعقد الأمبراطور شارل السادس أمبراطور ألمانيا مع ملك فرانسا لويس الرابع عشر معاهدة وإرشتاد 1125 هـ ولهذا أمكن لجمهورية البنادقة الاستغاثة بإمبراطور ألمانية المذكور لأنه المحامي عن معاهدة كارلوفجه ولما عزم على الأخذ بناصرها بعث إلى الدولة العثمانية يطلب منها أن ترسل معتمداً مرخصاً من قبلها إلى حدود المجر للمفاوضة معه في مسألة البنادقة وأن تكف عن القتال وترد للبنادقة ما أخذته منهم وقال إذا لم ترسل الدولة معتمدها وتقبل ما ذكر فهو لا يتأخر عن إشهار الحرب عليها ولما وصل رسول الأمبراطور جمع السلطان الوزراء والعظماء للمشاورة فأقروا على رفض مقترحات الأمبراطور وأمر السلطان ببذل الجهد في الاستعدادات الحربية لاسترداد ما أخذته النمسا قبلاً من الجهات وأخرج الدوننما إلى البحر ولما استعرضها سر من استعدادها.

وفي سنة 1128 هـ أقلع القبودان إبراهيم باشا بأسطول الطونة وكان مؤلفاً 15 من غاليته 25وفرقاطة وعشرة زوارق من النوع المسمى قانجه باش وثمانية أباريق ثم أعلنت الدولة الحرب على النمسا وأمر السلطان سر عسكر مورة قره مصطفى باشا والقبودان باشا بمحاصرة جزيرة كورفو وهي المكان الوحيد الباقي للبنادقة بتلك الأطراف ثم تقدّمت الجيوش العثمانية نحو قلعة وارادين وابتدأت المناوشات الحربية بين الجندين وتجاوزت الجنود العثمانية مدينة قارلوفجه (Carlowitz) ولما وصلت إلى وارادين مع الصدر الأعظم فاجأتها الجنود النمساوية تحت قيادة البرنس أوجين دوسافوا وحدثت بينهما واقعة شديدة قتل فيها الصدر الأعظم علي باشا وبعض القواد وانهزم الجيش العثماني تاركاً ميدان القتال ولهذا صدر الأمر بعد ذلك للعساكر الذين كانوا على حصار كورفو بتركها ولما عادت العساكر المنهزمة إلى بلغراد تقدمت جيوش النمسا وفتحت مدينة طمشوار من يد محافظها الحاج مصطفى باشا واستولت على أكثر إقليم البغدان 1129 هـ وتولي الصدارة خليل باشا محافظ بلغراد ثم وصلت جيوش النمسا وحاصرت بلغراد ولما تقهقر الصدر الجديد استولت الأعداء أيضاً على بلغراد 1717م .

yacine414
2011-03-18, 16:11
وقائع العجم:

لما أصيبت الدولة الصفوية بالضعف والانحطاط ومال آخر ملوكها الشاه حسين الصفوي إلى الجور والظلم في حق أهل السنة الخاضعين لحكمه استغاثت القبائل السنية النازلة في جهات القوقاز وشروان بالخلافة الإسلامية وشقت كذلك قبائل الأفغان النازلة بالحدود الشرقية من إيران عصا الطاعة وقام رئيسهم محمود خان ابن الرئيس الأمير أويس عل رأس جيش ودخل مملكة إيران وحاصر أصفهان وفتحها وأسر الشاه حسين1134 هـ .

ثم قام الشاه طهماسب ابن الشاه حسين المذكور ببلاد قزوين واستقل بحكومتها إلا أنه لما لم يكن حائزاً لوسائل الملك تمكنت قبائل الأفغان من تثبيت قدمهم في شرقي إيران وانفصلوا عنها فأفل نجم السلطنة الصفوية وعند ذلك أرادت السلطنة العثمانية الاستفادة مما هو حاصل بتلك البلاد وساقت جيوشها ففتحت بلاد كردستان وكرجستان واستولى الوزير حسن باشا والي بغداد وكويريلي زاده عبد الله باشا والي وان على جهات كرمانشاه رودلان وخوي بالسهولة 1135 هـ .

فقام بطرس الأكبر عند ذلك يطلب لنفسه نصيباً من ميراث الدولة الصفوية واجتاز بجيوشه جبال القوقاز التي كانت حداً لبلاده من جهة الجنوب واحتل طاغستان وقلاع دربند وباكو الغربية ثم عقد اتفاقاً مع الشاه طهماسب المذكور مآله أن عساكر الروس تطرد الأفغانيين من إيران بشرط أن يتنازل له عن بحر الخزر وكيلان ومازندران واستراباد ولهذا كادت الحروب تقع بين بطرس الأكبر والدولة العثمانية ولما علم أمبراطور الروسية أن ليس في إمكانه مقاومة الجيوش العثمانية إذا انتشب الحرب جعل المسيو دوبوا (Dubois) سفير فرانسا في الآستانة واسطة بينه وبين الدولة العثمانية لمنع الخلاف الحاصل فقبل السفير ذلك وبذل همته ومساعيه حتى تمكن من إزالة الخلاف الواقع بين الدولتين وعقدت بينهما معاهدة 1136 هـ .

ومن شروطها أن تمتلك الدولة العثمانية ودولة الروسية كل ما احتلته جيوشهما من بلاد العجم وبذلك زال الخلاف إلا أنه بعد وفاة بطرس 1137 هـ وقيام زوجته كاترينة عقدت مع النمسا اتفاقية فالتزمت الدولة أن تقوي حصونها الشرقية التي خصتها من هذه المقاسمة فأمرت قوادها وجنودها بالتقدم تحت قيادة الوزير الأعظم إبراهيم باشا الذي تمكن في ثلاث سنوات من فتح بلاد همذان وروان وتبريز وأردبيل ولوريستان وقره باغ ومراغه وكنجة وأرمية وغيرها قال مؤرخو العثمانيين أن هذه الفتوحات على كثرتها لم تكن موجبة لارتفاع شأن الدولة العثمانية وفخرها بل أحدثت قلاقل ومنازعات أضرت بها كثيراً لأن الإيرانيين لم يقبلوا أن تقسم بلادهم أصلاً ويرموا بالنذالة والجبن كغيرهم من الأمم فقاموا كرجل واحد لرد ما خسروه ومع كل ذلك لم يمكنهم بما اتصفوا به من الشجاعة والإقدام صد العثمانيين ثم استمرت المنازعات حاصلة بين الشاه أشرف الأفغاني والشاه طهماسب السلساني وعقد الشاه أشرف مع الدولة العثمانية معاهدة 1141 هـ قصد بها تقرير حكمه كان من شروطها تنازله عن جميع البلاد التي امتلكها العثمانيون من مملكة إيران نظير اعترافها له بالحكم على مملكة إيران.

ثم بعد وفاة الشاه أشرف وانفراد الشاه طهماسب بملك إيران طمع في رد بلاده فتقدم بجيش إلى كرمان شاه 1143 هـ 1720 م وفي هذا الوقت نسب اليكجرية إلى الصدر الأعظم الداماد إبراهيم باشا الإهمال والخيانة فثاروا ورفعوا علم العصيان وقام رجل من الأوجاقلية يدعى باترون خليل مع نحو العشرين من أمثاله ونهب الأسواق وقصد السراي وطلب من السلطان عن لسان الأوجاقات قتل الصدر الأعظم داماد إبراهيم باشا وأعوانه مصل صهره رئيس البحر مصطفى باشا القيودان المدعو قيماق أو أتلمجي وصهره الثاني كتخدا محمد باشا وتمكنوا من دخول السراي وفتكوا بهم وألقوا جئتهم في البحر أما شيخ الإسلام عبد الله أفندي فعزل ونفى ولم تقتصر الفتنة على ذلك بل امتدت حتى خلع السلطان أحمد خان الثالث وجلس ابن أخيه السلطان محمود خان الأول مكانه في 15 ربيع أول سنة 1143هـ وبقي السلطان أحمد معزولاً إلى أن انتقل إلى الدار الآخرة 1149 هـ .

وكان من الصالحين محباً للجهاد وإقامة الحق ومن التجديدات المفيدة التي حصلت في أيام السلطان أحمد إنشاء المطبعة لأول مرة بالممالك العثمانية وكان إنشاؤها بمدينة إسكدار وسبب ذلك أن الدولة لما أرسلت جلبي محمد أفندي سفيراً عنها إلى باريس كما تقدّم أخذ معه ولده محمد سعيد أفندي وهو الذي ترقى لمسند الصدارة مدة السلطان عثمان خان الثالث ولما رأى رواج فن الطباعة وكثرة المطبوعات بتلك البلاد مال لنقل المطبعة لبلاده وعند عودته إلى استانبول تكلم مع أحد رجال الدولة المدعو إبراهيم أفندي المجري 1139 هـ ثم نالا إذناً بإيجاد المطبعة بمدينة إسكدار وكان فتحها رسمياً وتعيين بعض العلماء لتصحيح مطبوعاتها سنة 1141 هـ .

وأول ما طبع بها من الكتب ترجمة صحاح الجوهري وغيره من كتب التاريخ والأدب فانتشرت بذلك المعارف واستطلعت الأمة وقائع ماضيها فاتسعت أذهانها ومالت إلى الاقتداء بمدينة أوروبا ونبغ بعد ذلك كثير من رجال السياسة والعلم بما وقفوا عليه من أحوال سياسة الدول المعاصرة لهم ولما استحسن الناس المطبعة لما فيها من التسهيلات والمزايا العظيمة في نشر العلوم والمؤلفات النفيسة صدرت الفتوى من شيخ الإسلام عبد الله أفندي اليكيشهري بجواز إيجادها بناء على سؤال وجه إليه ومن التحسينات أيضاً أن التفت الصدر الأعظم داماد إبراهيم باشا لترقية الصنائع الداخلية فأوجد معامل الأقمشة والكاغد وغيرها وأنشأ المدارس والكتبخانات ونظم فرقة مخصوصة لإطفاء الحريق وبنى كثيراً من المنازل والمنتزهات بجهات البوغاز خصوصاً ونبغ في عصر هذا السلطان عدة من مشاهير الشعراء والكتاب.

السلطان محمود خان الأول ابن السلطان مصطفى خان الثاني 1143-1168هـ:

تبوأ تخت الخلافة بعد خلع عمه وعمره إذ ذاك 35 سنة وكانت الأحوال مضطربة بثورة اليكجرية والعجم تهدّد حدود الدولة الشرقية ولما جلس وجه مسند الصدارة العظمى إلى طوال عثمان باشا ورياسة البحرية إلى جاهين محمد باشا فأخذا الوزير الجديد يهتم في إطفاء لهيب الثورة فقتل ونفى نحو خمسة عشر ألف نفس من الثوار وبذلك عادة السكينة إلى ربوعها.

حروب العجم:

بعد أن سكنت الاضطرابات وركدت زوابع الفتن الداخلية واستقر الأمن التفتت الدولة إلى الاهتمام بحروب إيران وأخذت تجهز الجيوش ثم تقدم سر عسكر الشرق والي بغداد أحمد باشا لمنازلة العجم ولما تقدّم طهماسب شاه لاسترداده همذان قابلته الجيوش العثمانية بصحراء قوريجان وحصلت بينهما مقتلة عظيمة انتصر فيها العثمانيون وفتح علي باشا ابن الحكيم أرمية وتبريز 1144 هـ .

ولما يئس طهماسب من نوال ما يبتغيه طلب الصلح فعقد معه السر عسكر أحمد باشا معاهدة من شروطها رد ولايتي تبريز وهمذان إلى الشاه وبقاء روان وشروان للدولة ولما علم السلطان بما فعله السر عسكر المذكور غضب جدّاً عليه لإقدامه على ذلك من نفسه ولأنه كان في إمكانه أن لا يترك للعجم شيئاً ما دامت العساكر العثمانية هي الغالبة فعزله هو وباقي الوزراء وعين للصدارة حكيم أوغلي علي باشا وللبحرية عبدي باشا ولكنه توفي بعد مدّة قصيرة وأعيد جانم خواجه محمد باشا للقبودانية العامة ثم إن نادر علي خان أحد أمراء لعجم وجد وسيلة لإبراز ما في ضميره وطعن في حق من كان السبب في عقد هذه المعاهدة وأجلس الشاه عباس الثالث مكان الشاه طهماسب واستقل هو بلقب وكيل الشاه ثم جمع الجموع وهاجم العراق وحاصر بغداد ولما بلغ الدولة خبر ذلك أرسلت جيشاً عظيماً تحت قيادة الصدر الأسبق طويال عثمان باشا فردهم عن بغداد مقهورين ورجع نادر علي خان مجروحاً إلى همذان1146 هـ .

إلا أنه عاد في هذه السنة فجمع الجموع وتجاوز الحدود العثمانية وانقض على جيوشها وكان السر عسكر طو ال عثمان باشا مريضاً في خيمته فلم يقدر على تولي القيادة العامة ولم يحسنها من أنابه عنه فتقهقرت الجيوش العثمانية وقتل السر عكسر المذكور وتشتت الجيش1146 هـ ثم ساقت الدولة في السنة التالية جيشاً آخر تحت قيادة كويريلي زاده عبد الله باشا فانكسر أيضاً وقتل بجوار روانه في واقعاة أربه جايي1148هـ وبذلك انتقلت جميع البلاد التي كانت فتحتها الدولة من إيران إليها ثانية وجلس نادر علي شاه على تخت العجم وثبتت قواعد سلطنته وطلبت الدولة الصلح وبعد المداولة تمّ الاتفاق بينهما في تفليس1149 هـ 1736 م على شرط إرجاع الحدود القديمة إلى ما كانت عليه في مدّة السلطان مراد الرابع.

حرب الروسيا والنمسا ومعاهدة بلغراد

لما انكشفت نيات الروسيا بخصوص ويلونيا والعجم للدولة العثمانية واتفق موت أوغوست الثاني ملك يولونيا وصار ملكها السابق إستانسلاس مرتبطاً مع لويس الخامس عشر لزواجه بابنته سعت حكومة فرانسا لدى أمراء يولونيا حتى انتخبوه ملكاً عليهم كما كان 1146 هـ .

إلا أن النمسا والروسيا انتخبتا أوغست الثالث منتخب ساقسونيا ولم يراعيا أميال الأهالي في ذلك واستعملت أمبراطورة الروسيا أنا أيوانونا الكبرياء والجبروت في هذه المسألة فقامت فرانسا وأشهرت الحرب بخصوص يولونيا على الروسيا والنمسا وأوعزت إلى سفيرها بالآستانة الماركيزدي ويلنوف (Villeneuve) بأن يسعى جهده لحمل الدولة العثمانية على الاشتراك مع فرنسا في هذا الحرب وزودّته بالتعليمات التي من مقتضاها أن امتداد نفوذ الروسيا مضر بمستقبل الدولة العثمانية وكان الصدر حكيم أوغلي علي باشا من الواقفين على سر سياسة الروسيا وشديد ميلها للفتح فأظهر عظيم المخالفة لأعمال الروسيا حتى التزم الباب العالي إعلان الحرب على الروسيا ولما استشعرت النمسا بمساعي فرنسا لدى الدولة العثمانية خافت من ضياع النتيجة في مسألة يولونيا وأسرعت إلى مصالحة فرنسا وعقدت معها معاهدة في ويانة1148 هـ 1735 م .

فكفت يدها عنها بذلك ثم اشتركت مع الروسيا لمحاربة الدولة العثمانية وحسنت لها إظهار العداء للعثمانيين فقامت الروسيا في أواخر حرب إيران 1148 هـ ومنعت قيلان كراي خان القريم وجيوشه من المرور من مملكتي داغستان وقبارطاي عند ذهابه لإمداد جهات شروان مدعية إن المملكتين المذكورتين هما من أملاكها ولا يحق لدولة أخرى العبور منهما بغير رضاها ولما احتجت الدولة على ذلك أخذ سفير الروسيا في استانبول المسيو نبلويه ف يقيم الأدلة على صحة دعوى دولته فلم تقبل منه الدولة قولاً ولما تم الصلح مع إيران تعين السلحدار محمد باشا للصدارة وفي خلال ذلك ساقت الروسيا جيشاً عظيماً تحت قيادة الفلدمارشال مونيخ وحاصرت فرقة منه قلعة أزاق ودخلت فرقة أخرى من برزخ أورقيو وهددت بلاد القريم وهاجمت فرقة ثالثة قلعة قيلبرون (Kilburn).

وعند ذلك اضطرت الدولة العثمانية لإعلان الحرب على الروسيا وسار الصدر الأعظم الجديد بالجيوش لقيادة أوردي بابا طاغ ولما لم تكن دولة النمسا على قدم الاستعداد للحرب قصد شارل السادس أمبراطورها تأخير الدولة عما شرعت فيه من التجهيزات بإطالة زمن المخابرات حتى يتمكن من التجهيزات وأوعز إلى المسيو طلمان سفيره في استانبول بالوساطة لإزالة الشقاق حقناً للدماء فأخذ يتخابر مع الصدر الأعظم في بابا طاغ ويماطله مدّة شهر من الزمان وفي أثنائها ساقت النمسا جيوشها على قلعة نيش وشهركوي ودخلت عساكرها بلاد بوسنة ثم تقدّمت الجيوش العثمانية بعد ذلك وحاربت النمساويين في ولاية بوسنة وشتت شملهم في الوقائع التي حصلت في سنة 1149هـ و 1150هـ و 1151هـ واسترد كويريلي حافظ أحمد باشا جهات نيش وشهروي ثم عاد مظفراً إلى بلغراد وهزم سر عسكر ويدين عوض محمد باشا بمساعدة القائدين السابق ذكرهما جيشاً ثالثاً للنمساويين كان يتقدّم على ويدين وأحرق العثمانيون لهم سبع مراكب حربية في البحر تجاه قلعة اليزابيت ثم عبرت الجيوش العثمانية نهر الطونة واستولوا على أراضي يانجوه وحوالي مهاديه (Mohaia) وأقليم بانات أو طمشوار واغتنمت كافة مدافع ومهمات النمساويين وفتح الصدر الأعظم يكن محمد باشا أورسوه (Orsova) وفتح الإسلام وقلعة أطه وسمندرة على التووالى 1150هـ .

وعند ذلك التزمت النمسا أن تطلب الصلح 1158هـ 1738 م وتوسط سفراء فرانسا وهولاندة والسويد في ذلك وفي تلك الأثناء انتصرت اليوش العثمانية أيضاً في واقعة كروسكا (Krozka) على قائد جيوش النمساويين القونت والليس (Wallis) 1152هـ وحاصرت استوار ولو احتاط الصدر الأعظم للأمر قليلًا لكان أسر جيش الأعداء بتمامه وفي السنة المذكورة هزمت الجيوش العثمانية أيضاً جيوش الروسيا بقرب شاطئ نهر بروت وجهة أورقيو و ودخلت الدوننما العثمانية إلى البحر الأسود تحتى قيادة القيودان سليمان باشا الذي خلف لاز على باشا المتوفى سنة 1150هـ .

وانتصرت على الأسطول الروسي في بحر أزاق وكانت هذه الانتصارات من أعظم الأسبابا للوصول إلى الصلح الذي انتهى بمعاهدة بلغراد في شهر جمادى الآخرة سنة 1152هـ 1739 م وأن تسلم أوستوريا بلغراد وكذا جمع البلاد الواقعة على الضفة اليمنى من نهري صاوه والطونة وهي التي كانت استولت عليها بمعاهد بساروقجه وأن ترد إلى الدول العثمانية أراضي أوارسوه والبلاد المسماة بالأفلاق النمساوية وأن تترك الدولة العثمانية للنمسا المواقع التي كانت استولت عليها من جهات بانجوه وطمشوار وإن يكون الصلح لمدة 27 سنة أما الروسيا فقد تعهدت أمبراطورتها أنا أيوانونا بهدم قلعة أزاق وأن لا يكون لها فيما بعد مراكب حربية ولا تجارية بالبحر الأسود وبحر أزاق معاً وأن تعيد للدولة كل مافتحته من البلاد دوان تنقل تجارتها على سفن أجنبية وبعد هذا الصلح أبرمت الدولة العثمانية معاهدة هجومية ودفاعية مع السويد ضد الروسيا بتوسط سفير فرانسا المسيو ويلنوف (Villeneuve) وكذا تجددت معاهدة تجارية مع حكومة السيسليتين وجددت الدولة مع فرانسا سنة 1153هـ 1741 م المعاهدات التجارية ومنحتها بعض تسهيلات جديدة تجارية وفي سنة1154 هـ 1741 م .

لما توفى شارل السادس أمبراطور النمسا وألمانيا خلفته ابتنه مارية تريزة وقامت فرانسا واتحدت مع بعض دول أوروبا على محاربة هذه الملكة وتقسيم أملاكها للعداوة الكائنة بين ملوك فرانسا والعائلة الحاكمة بالنمسا وسعي فرانسا دائماً في إضعاف النمسا وهدم أركانها ولذلك قامت بين فرانسا والنمسا المحاربة المعروفة بحرب الوراثة في النمسا واستمرت زمناً وانتهت بفوز النمسا.

ولما وقعت الحروب بين المملكتين أخذت فرانسا ومحالفوها في تحريض الدولة العثمانية على محاربة النمسا ووعدتها باحتلال بلاد المجر وغيرها حتى ترجع إلى الحالة التي كانت عليها في زمن السلطان سليمان القانوني ويمكنها بعد ذلك أن تعرقل مساعي الروسيا المجتهدة في مد نفوذها المضر بالدولة ولو انصاعت الدولة لهذه الأقوال لعادت عليها بالفائدة إلا أن السلطان محمود لم يقبل تغيير مسلكه السلمي بل استمر متمسكاً بمعاهدة الصلح مظهر النمسا ميله وودّه.

yacine414
2011-03-18, 16:12
أحوال البحرية في العهد المذكور :

لما جلس السلطان محمود خان الأول على سرير السلطنة أصدر أمره إلى دار الصناعة بتقوية الدوننما العثمانية وإنشاء سفن جديدة فشيدت ثلاث سفن من نوع الأوج انبارلي وأمر أيضاً بأن يوضع للسفن أسماء تعرف بها السهولة تمييزها عن بعضها وكانت السفن العثمانية لغاية زمن هذا السلطان لا تسمى بأسماء مخصوصة بل تدعى بأسماء قبوداناتها فسمى الغليون الذي تم بناؤه سنة 1162هـ باسم بر بحري والذي تم بناؤه سنة 1161هـ بناصر بحري واستمرت دار الصناعة بعد ذلك تسمى سفنها الحربية بأسماء مخصوصة.

وفي مدة حرب العجم الأخيرة تولى رياسة البحرية أربعة قبودانات على التعاقب الأول شهسوارزاده مصطفى باشا ثم خلفه راتب أحمد باشا ثم خلفه صاري مصطفى باشا ثانية ثم خلفه صوغان يمز محمود باشا.

وفي سنة 1162هـ ساقت الدولة عمارتها إلى البحر الأبيض المتوسط تحت قيادة صوغان يمز محمود باشا المذكور ولما توفي تعين بدله طررق محمد باشا فقاد الدوننما وحارب سفن القرصان وخلص منهم كثيراً من أسرى الإسلام عندما كانوا يحاولون الالتجاء إلى بلاد إيطاليا ولما عاد بالدوننما إلى استانبول عزل وخلفه ملك محمد باشا فسافر بالدوننما إلى البحر الأبيض مرتين.

وفي سنة 1164هـ قامت الأكراد على بعضهم ولكن بالحكمة التي استعملتها رجال الدولة سكنت الفتنة وعادت الطمأنينة بينهم ثم بعد ذلك حصل اختلاف بين أشراف مكة وهو أنه لما ولي محمدبن عبدالله بن سعيد الإمارة بعد أبيه المتوفى اختلف مع عمه مسعود 1145هـ وقامت بينهما حروب يطول شرحها وبعد أن تم الصلح بينهما 1151هـ بتوسط الأشراف عاد الخلاف إلى ما كان وعرضت الشكوى على الدولة فأصلحت بينهما.

واعلم أن معاهدة اكس لاشابيل فتحت لأوروبا عصر صلاح ورفاهية وانتشرت التجارة واتسع نطاقها وساد السلام في أوروبا حتى صار من الإمكان الظن بدوام هذا الصلح إلى الأبد وقد أثرت هذه الحالة السلمية بالممالك العثمانية أيضاً فاستفادت منها حيث اهتم السلطان ووزراؤه في إيجاد ما به الراحة العمومية وأسباب العمران وقد بقيت الحالة على ذلك مدة نحو تسع .

وفاته:

وبينما كان السلطان عائداً من صلاة الجمعة على جواده مات فجأة عند دخوله في باب السراي 1168هـ. .

وكان يتصف بالثبات في الأعمال والأقوال وسلطنته التي استمرت نحو 1168هـ سنة معدودة في تاريخ العثمانيين من أجل الأيام وأبهى العصور ومن كثرة تردد سفرائه على مدينة باريس ومن مكالماتهم ومحادثاتهم الكثيرة مع السفراء المقيمين بالآستانة اكتسب رجال الدولة معلومات سياسية مهمة حتى إن بعضهم لما قال مسند الصدارة العظمى كان على علم تام ومعرفة جيدة بالأحوال السياسية العمومية ولذلك عد مؤرخو العثمانيين عصره أفخر عصر ترقت فيه المعارف السياسية لدى العثمانيين.

ولما كانت أفكار هذا السلطان تميل لنشر المعارف والمدنية أنشأ بالآستانة فقط أربع كتبخانات وجعل بكل واحدة منها دروساً عمومية وكان مرعى الخاطر معظماً لدى معاصريه من الملوك وفي عصره اشتهر الحاج بشير أغا أغا دار السعادة وزاد نفوذه ولما كان من العقلاء وأصحاب الرأي والتدبير اتخذه السلطان مستشاراً خاصاً وخلفه في السلطنة أخوه السلطان عثمان خان.

السلطان عثمان خان الثالث ابن السلطان مصطفى الثاني : 1168-1171هـ

جلس هذا السلطان على سرير السلطنة وعمره 58 سنة وقلد السيف بجامع أبي أيوب الأنصاري كالعادة وأتته سفراء أوروبا للتهنئة وحكم ثلاث سنوات فقط لم يحدث بها حروب ولا منازعات خارجية لالتزامه جانب السلم وتفضيله السكينة واهتم في إصلاح الداخلية وأبعد كثيراً من حاشية السراي الذين اشتهروا بخلق الدسائس وتعكير صفاء الأمن منعاً للقلاقل وأصدر أمراً بمنع كل ما يخالف الشرع الشريف حتى إنه منع الحريمات من التجول في الطرق بهيئة تبرج.

وفي السنة الثانية من سلطنته قامت فتنة بين اللاتين والروم في كنيسة بيت لحم تسبب عنها بعض مشاكل خارجية فاهتم بتسويتها ونفى متره بول الكنيسة المذكورة وفي السنة الأولى من حكمه عزل ثلاثة صدور وهم كوسه ماهر مصطفى باشا وحكيم أوغلي علي باشا ونايلي عبد الله باشا ثم بيقلي علي باشا.

وفي سنة 1169هـ أيضاً غير الوزارة فوجهت الصدارة إلى سعيد محمد باشا وهو الذي أسس المطبعة عند عودته من باريس كما سبق، ثم قتل لأسباب خفية وخلفه كوسه ماهر مصطفى باشا ثانية وتعين على البحرية أحد أمرائها القبوذان قره باغلي سليمان باشا ثم التفت السلطان إلى الحرب البحري الحاصل بين سفن وجاقات الغرب وبين سفائن حكومة نابولي فحسمها بالطرق السلمية ولما ثارت بعض قبائل الأكراد وتحصن بعضهم في قلاع موش و بتليس و ملاس و كرد و مونشان وجه عليهم والي أرضروم فسكن الاضطرابات ولما شقت اليكجرية في بلغراد عصا الطاعة وعاثوا في الأرض فساداً حتى التزم كو ريلي زاده أحمد باشا أن يترك المدينة ساق السلطان عليهم الجنود حتى ردهم إلى الطاعة.

وقبض في سنة 1170هـ على قره عثمان أوغلى الذي أخل بالراحة في سنجقية أيدين وقتله وأخذت الحكومة أمواله وبعد ذلك عزل الصدر الأعظم وخلفه محمد راغب باشا صاحب الآراء السديدة والسياسة الشهيرة وهذا الوزير هو الذي باشر تحرير معاهدة بلغراد مذ كان بوظيفة مكتوبجي فزاد بذلك اطلاعاً على سياسة أوروبا وكان قبل ذلك من مندوبي الدولة في عقد المتاركة مع العجم.

وتولى مصر وبغداد ومع ما قام به هذا الوزير من الخدم الجليلة سعى في حقه أغا دار السعادة أبو وقوف أحمد آغا حتى عزل وقد نجاه الله من القتل بوفاة السلطان الذي توفي فجأة يوم 16 صفر سنة 1171هـ وكان يميل إلى السلم وتم في أيامه بناء المسجد الجامع العظيم الذي ابتدأ في تشييده أخوه السلطان محمود خان وسماه نور عثمانية وفي أول جلوسه ابتدأت في أوروبا الحرب المسماة بحرب السبع سنوات الشهيرة.

السلطان مصطفى خان الثالث ابن السلطان أحمد الثالث:1171-1187

جلس هذا السلطان على تخت الخلافة وعمره اثنتان وأربعون وكان له اطلاع على الخلل الموجود بإدارة الدولة فأبقى الوزير الشهير فوجه راغب في الصدارة للياقته وسعة اطلاعه وقد اجتهد هذا الصدر في تسكين ثورة عرب الشام الذين أخلوا بالأمن لتعدياتهم على قوافل الحجاج وكان هذا السلطان يميل إلى محاربة الروسيا لعلمه ما تنويه للممالك العثمانية من الإضرار.

ولكن لما كان الصدر محمد راغب باشا يعلم جيداً الفرق الموجود بين جيوش أوروبا التي سارت شوطاً بعيداً في التعليمات والانتظامات وبين جيوش اليكجرية الذي جعلوا عدم الإطاعة والتمرد قانوناً لهم أخذ ينصح السلطان في تأخير تنفيذ نواياه حتى يتمم التنسيقات والتنظيمات المراد إدخالها بالجيش العثماني وتمكن هذا الصدر بمهارته من عقد اتفاق مع حكومة بروسيا الجديدة لتساعد الدولة عند الحاجة على النمسا والروسيا.

وقد كان هذا الوزير يهتم أيضاً بتوسيع نطاق التجارة البحرية والبرية فلهذا كتب تقريراً يرغب به فتح خليج لإيصال نهر الدجلة ببوغاز الآستانة وأن تستعمل الأنهار الطبيعية مجرى له ليسهل نقل الغلال من الولايات إلى دار الخلافة ويساعد على نشر التجارة إلا أن المنية عاجلته قبل الشروع في مقصوده 1176هـ .

وقد كان وحيد زمانه في الشعر والأدب والفلسفة ومدحه المؤرخون كثيراً وعجبوا بغيرته ومعارفه ولقبه المؤرخ واصف أفندي بصدر الوزراء وسلطان الشعراء والإنسان الكامل وهو صاحب الكتاب الشهير المسمى بسفينة الراغب وخلفه في الصدارة توقيعي حامد حمزة باشا ثم خلفه كوسه مصطفى باهر باشا 1177هـ ثم بعد سنة تولاها محسن زاده محمد باشا 1178هـ .

yacine414
2011-03-18, 16:13
حرب روسيا :

اعلم أنه في خلال تلك المدة قامت كترينه زوجة بطرس الثالث حفيد بطرس الأكبر وخلعت زوجها من ملك الروسيا وجلست هي مكانه على كرسي المملكة عقب قتله ثم لما توفي أوغست الثاني ملك بولونيا أخذت تسعى في تعديل القانون الأساسي لهذه المملكة لتنصب عليها عشيقها ستانسلاس بونياتوسكي فقام حينئذ حزب الاستقلال الملي في بولونيا وطلب المساعدة من إنكلترا وفرانسا ولما قطع الأمل من مساعدتهما لإيقاف ما كانت كترينه الثانية تنويه لهم من المضار وعينت بونياتوسكي بالقوة استمد الحزب المذكور الحماية من الدولة العثمانية 1187هـ لحفظ بلاده من تعديات الروسيا.

وكانت الدولة الفرنساوية تحرض الدولة العثمانية وتحثها على إعلان الحرب على الروسيا لأن مداخلة كترينه في أحوال بولونيا مضر بسياستها وكان الصدر محسن زاده محمد باشا يمانع ذلك كثيراً لأنه يرى أن من المفيد تأجيل مخاصمة الروسيا حتى يتمم تحصين المعاقل والحصون والقلاع التي بحدود الدولة وشحنها بالمهمات والذخائر الكافية فعارضه في ذلك بقية الوزراء ولم يستحسنوا رأيه ولهذا عزل من منصبه وتولى مكانه سلحدار ماهر حمزة باشا 1182هـ .

وكان من الذين يميلون لإعلان الحرب على الروسيا وأمر فقبضوا على سفير الروسيا أو برشقوف وسجنوه في يدي قلة كالعادة المتبعة وأرسلت الدولة أمراً لكريم كراي خان القريم بفتح باب الخصام فاستند على بعض أعمال أتتها الروسيا مخالفة للمعاهدات وذلك أن بعض فرق القوزاق دخلت مدينة بلطه تتعقب بعض البولونيين واستولت على المدينة وذبحت السكان فساغ حينئذ لأمير القريم ردهم بالقوة فوطىء أرض الروسيا وعاد غانمماً منصوراً ومعه نحو 25 ألف أسير.

وبينما كان يستعد لإغارة أخرى عاجلته منيته وقام من منصبه دولتكراي خان وأغار على بلاد الروسيا فوجهت عليه قوة وبذلك فتح باب الحرب ثم تقدمت الجيوش العثمانية تحت قيادة الصدر الأعظم وقد كانت الأحوال في الدولة سيئة جدا إذ ذاك مالية فارغة وجيش خائر القوى من طول المحاربات وأساطيل ضعيفة وليس بين رجال الدولة من الأكفاء ما يشبهون كو رلي أو غيره من الصدور المشاهير.

والحاصل أن الدولة لم تقدم على حرب قبل ذلك وحالتها الضعف والاختلال وزيادة عن ذلك فإن كثيراً من جهات آسيا لم يكن يعترف للسلطان بالتابعية إلا بالاسم فقط وكانت جهات لبنان وسوريا في حالة تشبه الاستقلال التام ولم تكن الدولة تجبي من تلك الجهات خراجاً إلا النزر اليسير وإن جبته فبشق الأنفس وسبب ذلك عدم تمكنها من الالتفات إلى إدخال هذه البلاد ضمن دائرة النفوذ الفعلي لما هي فيه من الاشتباك في الحروب ولخيانة العمال ومد يدهم لأخذ الرشوة من الجهة الأخرى.

واقعة جشمة البحرية وهزيمة قرتال :

اعلم أن الروسيا كانت أرسلت قبل أن تجرّد عليها الدولة كثيراً من أتباعها التحريك اليونان والصرب والجبل الأسود وغيره من الجهات التي يكثر بها العنصر النصراني الأرثوذوكسي خصوصاً للقيام بالثورة لتوقع الدولة في ارتباك داخلي وتصيبها بجرح دام باطني تضطر بسببه أن تضمده بإحدى يديها وتدافع باليد الأخرى ومن الغريب أن الروسيا استعملت هذه الوسيلة في كل محارباتها مع الدولة وصادفت فيها نجاحاً وكان عمالها يهبون السكان الهبات الوافرة ويمنونهم بكل ما يرتاحون إليه وقد نجحت في ذلك أولاً.

إلا أن الدولة أرسلت الجنود فأوقعوا بالثوار في كل الجهات تقريباً ومع ذلك فإن الدولة اضطرت لأن تبقي بالجهات المذكورة حامية كثيرة لردعها متى تمرّدت ولما لم يكن لدولة الروسيا وقتئذ بحرية بالبحر الأسود يمكنها بها منازلة الأساطيل العثمانية بالبحر المذكور أرسلت من بحر بلطيق عمارة قوية وتداركت بعض سفائن حربية من إنكلترة والفلمنك والبنادقة واستأجرت ضباطاً وأنفار لخدمتها ثم دخلت هذه العمارة من مضيق جبل طارق إلى البحر الأبيض المتوسط تحت قيادة الأميرال ألكسندر أورلوف ومرت هذه الأباطيل أولاً بسواحل مورة وأمدت الثوار بأسلحة ونقود وشجعت رئيسي الثوار هناك وهما باباس أوغلي وبناخي ولما علمت الدولة بذلك عينت محسن زاده محمد باشا سردارا على جيش مورة وأمدّته بجنود جديدة فتمكن هذا القائد من تسكين الاضطراب والقبض على الأشقياء ولكن بعد خسائر كثيرة.

وفي 20 صفر سنة 1184هـ أقلعت الدوننما أقلعت الدوننما العثمانية من خليج دار الخلافة تحت قيادة القبودان حسام الدين باشا إلى البحر الأبيض المتوسط وكانت مركبة من 39 سفينة مختلفة النوع والقدر ولما وصلت إلى ساقر رست في مكان مناسب قريب من ساحل الأناضول ثم تلاقت مع الدوننما الروسية التي تحت قيادة الأميرال أورلوف المذكور وكانت تؤلف من عشرة غلابين وعشر فرقاطات وبعض سفن صغيرة ولما وقعت الحرب بينهما كانت الدوننما العثمانية هي الغالبة في أول الأمر لما بذله القبوذان الثاني حسين باشا الجزائري من المهارة وأساليب القتال البحري المتنوعة التي أبقت له في تاريخ البحرية العثمانية ذكراً حميداً وكان من باب الاحتياط أرسل قبل الاشتباك في الحرب فرقة لإنشاء الاستحكامات في البر ثم حمل بغليونه على غليون الأميرال وضايقه ولما كاد يستولي عليه ألقى الأميرال الروسي المذكور النار بمخزن البارود وبعد أن تركه وانتقل إلى غليون آخر ولما تفرقع الغليون الروسي أصيب حسين باشا بعدّة جراحات وقتل كثير ممن كان معه.

وأخرج القبودان إلى البر لتضميد جروحه ولما احترقت سفينة الأميرال الروسي أمر جعفر بك الربان القواد بادخال سفن الدوننما إلى مينا جشمه ولما كان التجاء الدوننما العثمانية إلى تلك المينا ليس من الصواب في شيء لأنه يصيرها غير قادرة على أي عمل لصغر المينا أتى حسين باشا رغماً عن آلام جراحه وتكلم مع القبودان العام حسام الدين باشا وأنذره بأن بقاء السفن داخل هذا الثغر ينجم عنه ضياعها بتمامها فلم يستصوب القبودان نصيحته ولم يصغ لرأيه الصائب وأحجم عن الخروج إلى عرض البحر فنجم من ذلك ضياع الدوننما كما ستعلمه وذلك أنه كان بين الضباط الذين استأجرتهم الروسيا ثلاثة من الإنكليز كان أحدهم المسمى الفنستون (Elphinstone) أركان حرب للأميرال الروسي.

ولما رأى الدوننما العثمانية دخلت مينا جشمه أشار على الأميرال بمحاصرة مضيق المينا لمنعها من الخروج ثم رتب السفن التي وكل إليها تنفيذ هذا الأمر حسبما أشار به الضابط المذكور وبعد أن أخذت السفن مواقعها ووقفت على شكل خط حرب أخذت في إطلاق المدافع وتولى الضابط الإنكليزي الثاني المدعو غراغ حركة طوبجية عموم الدوننما الروسية واشتغل الثالث المسمى داغدل بتوجيه الحراقات على الدوننما العثمانية التي وقعت بين نيران المدافع ونيران الحراقات على حين لم تكن سفنها قادرة على المدافعة لعدم إمكانها إتيان أي حركة حربية لضيق المينا كما سبق فاحترقت جميعها خلا فرقاطتين بكل واحدة أربعون مدفعاً وخمسة مراكب صغيرة كانت تمكنت من الخروج من بين تلك النيران.

ومع ذلك فإن الدوننما الروسية قبضت عليها فيما بعد وقال المؤرخ الجرماني شيلوز عن هذه الواقعة إن هذا الانتصار الذي ناله الروسيون لم يكن إلا من حسن تدبير الضباط الثلاثة المذكورين ولما وصل خبر هذه النصرة إلى الإمبراطورة كترينه الثالثة فرحت جداً ولقبت الأميرال بلقب جشمسكي تذكار الانتصار هذا وبعد الانتصار ألح الفنستون الإنكليزي على الأميرال الروسي بالمرور بالدوننما من جناق قلعة قوة واقتدارا حتى يدخل القسطنطينية فلم يقدم الأميرال على هذا الأمر الخطر أولاً ثم ارتد خائباً فيما بعد كما سيأتي لأن الدولة العثمانية كانت استقدمت من الرومللي مولدواني علي باشا وأرسلته صحبة الجنرال البارون دي توط الفرنساوي المذكور لتقوية حصون وقلاع البوغاز وتشييد بعض قلاع جديدة أخرى هناك.

ولما وصل الباشا المذكور ورأى أن مأموريته تحتاج لوقت طويل أمر فدهنوا خارج القلاع بالجير لتظهر للرائي كأنه صار إصلاحها وبإرشاد الجنرال توط شيدوا قلعتين بساحل الأناضول ومثلهما بساحل الرومللي لمنع سفن العدو من العبور فشيدوا وسلحوا بالمدافع حتى أنه لما أراد الأميرال أورلوف فيما بعد العبور من بوغاز الدردنيل حصل لسفنه من ضرب أول قلعة من القلاع المذكورة ضرر جسيم فاضطرّ للعدول عن مقصوده وذهب إلى جزيرة ليمنى وحاصر قلعتها واستولى عليها.

هذا أما حسين باشا الجزائري فإنه لما التأمت جراحه وعاد إلى الآستانة طلب من الصدر الأعظم التصريح له باسترداد جزيرة ليمنى وقال له إني لاأرغب أخذ مراكب حربية لذلك بل فقط أرجو التصريح لي بجمع بعض الأهالي ولما صرح له الصدر بذلك جمع من أهالي الآستانة نحو أربعة آلاف نفر وسلحهم بالبنادق ثم سافر بهم سريعاً.

ولما بلغ سفير فرانسا هذا الخبر قابل الصدر وقال له أن ما صنعه حسين باشا الاسترداد قلعة ليمنى لا يجدي نفعاً كلية وأرى أن الأوفق عدم إلقاء العساكر في الهلاك بلا ثمرة فقال له الوزير إنني على يقين من أن ما فعله حسين باشا غير مطابق للفنون الحربية غير أنه إن نجح فقد حصل المقصود وإلا فتكون الحكومة قد ارتاحت من أربعة آلاف نفس من الذين يقلقون الراحة.

أما حسين باشا فإنه توجه تواً إلى الجزيرة المذكورة وأخرج جيشه الصغير إلى البر بزوارق وصنادل استأجرها من الأهالي هناك بدون أن يشعر به الأعداء ثم هجم على الروس بغتة في صباح يوم 10 أكتوبر من السنة المذكورة فأوقع بهم ولما لم يقدروا على المقاومة ولوا الإدبار ونزلوا في السفن فاستردا الجزيرة بذلك وقد خاب الروس أيضاً وارتدوا بالخسارة عندما أرادوا الهجوم على طرابزون وكرجستان.

ولما وصلت هذه الأخبار إلى استانبول سكن جاش الأهالي نوعاً وارتفع الرعب الذي حل بقلوبهم مما فعله الروس وذاع صيت حسين باشا الجزائري واشتهر اسمه ولهج العالم بامتداحه لحسن مهارته ولذلك تعين قبوداناً عاماً للدوننما ومحافظاً لمضيق جنق قلعة ولا يفوت القراء أنه لو كان قومندان الدوننما التي ضاعت في جشمه اقتدى بأقواله وعمل بآرائه لما كانت حوصرت وضاعت بأسرها كما قدمنا.

ولما استلم حسين باشا باشا زمام البحرية أخذ في إصلاح السفن الموجودة بدار الصناعة ثم ضم إليها بعض الغلايين ونحو عشرين سفينة للسحب وكون من مجموع ذلك عمارة ثم أذن له السلطان بالذهاب بها إلى جزيرة ليمنى وهناك التقى بعمارة الأميرال أورلوف ووقع الحرب بينهما مدة ولما شاهد الأميرال الروسي أنه لايمكنه الثبات أمامه وتيقن أنه لو استمر على المحاربة ربما ضاعت منه عمارته ولى الأدبار منهزماً.

ضياع بلاد القديم : 1185هـ

اعلم أنه في خلال استيلاء الروس على طورله المعروفة أيضاً بمنحدر دينستر وعلى بغدان والإفلاق ساقت الروسيا جيشاً تحت قيادة البرنس دولغوروكي (Dolgorouki) على القريم إلا أن سر عسكر القريم السلحدار إبراهيم باشا تمكن من صده وقهقرته عند برزخ أورقبو 1184هـ ولما لم يمكن للروس دخول القريم أخذت حكومتهم تبث بين الأهالي الفتن وتحرضهم على الثورة بواسطة عمال السوء كقولهم للأهالي إنكم أنتم التتار سلالة جنكيزخان الشهير بعد أن كنتم أسياد البلاد وحكامها تتمتعون بحكومة مستقلة صرتم عبيد الآل عثمان يستبدون عليكم ويتصرفون فيكم كيف شاؤوا ومتى شاؤوا فإذا اتفقتم مع الروس ساعدوكم على نوالي الاستقلال وأعادوا لكم ما فقدتموه من المجد الأثيل فانصاع قوم لهذه التحريضات الفاسدة التي أخذت تنتشر بين الأهالي فأحدثت أثراً سيئاً وحلت من العزائم قوة وهدت من العصبية ركناً حتى إن الروسيا لما وجهت على القريم تجريدة أخرى وتصدى لها السر عسكر المذكور عند أورقبو لم يتمكن من صدها مع ما بذله من المساعي والثبات ولم يصدق سليم كراي في الدفاع كالسابق فاستولى الروس على البلاد المذكورة .1185هـ.

وفي خلال ذلك توسطت أوستريا والبروسيا في الصلح ولما تهادن الطرفان ابتدأت المذاكرة أولاً في فوكشان من بلاد الإفلاق (Focksany) وتعين من قبل الدولة رئيس الكتاب عبد الرزاق أفندي ومن قبل الروسيا أوبرشقوف واجتمعا في بكرش أي بخارست وعقدا مجلساً لتقرير أمر الصلح 1186هـ-1773م .

وكان أساس المذاكرة التي قدمتها الروسيا استقلال القريم وإن تستولي هي على قلعتي كرتش ويكي قلعة الواقعتين في مدخل بحر أزاق وأن تكون الملاحة حرة لسفن الروسيا التجارية في جميع فرض الدولة والبحر الأسود وأن يكون لها حق حماية المسيحيين الأورثودكس في بلاد الدولة فرفضت الدولة هذه الشروط لإجحافها بحقوقها.

واستأنف الطرفان القتال وتقدم الجنرال رومانزوف بجنوده وقاد الصدر الأعظم محسن زاده محمد باشا الذي ولى الصدارة سنة 1185هـ جيوش الطونة 1186هـ وانتصر على الروس بجوار بزارجق ووارنة وصدهم أيضاً على باشا الداغستاني أمام روسجق وهزمهم سر عسكر سلسترة الغازي عثمان باشا هزيم منكرة قتل فيها منهم تسعة آلاف جندي واغتنم العثمانيون جميع مدافعهم وذخائرهم وأسروا الجنرال رينين وجرح الجنرال واسيمان جرحاً بليغاً مات به وعند تقهقر الروس قتلوا في طريقهم جميع أهالي قره صو وبازارجق لخلوهما من الجنود.

أما تتار القريم فإنهم بعد أن وافقوا الروس عادوا وطلبوا الحماية من الدولة العثمانية التي عينت دولتكراي خان الأسبق وجنيكلي حاجي على باشا لاسترداد القريم ثم عاد العثمانيون إليهم ففروا سريعا.

قال هامر في تاريخه أنه لما فر الروس من بازارجق ودخلها العثمانيون وجدوا اللحم في القدور على النار وهذا يدل على الرعب الذي وقع في قلوبهم من الجيوش العثمانية.

وفاته:

وبينما كان السلطان مصطفى الثالث مصمماً على قيادة الجيوش بنفسه فاجأته الوفاة 1187هـ-1773م وكان رحمه الله من أعاظم الملوك الذين أداروا أمور السلطنة بالجد والإقدام وكان فعالاً يتصرف في الأمور بحكمة مهتماً بجمع المال والرجال والمهمات للدفاع عن بلاده محباً للعلم والعلماء يميل إلى العمارية أنشأ جامع أيازمه في اسكدارولاله لي ووقف عليهما الأوقاف الوافرة وأصلح جامع السلطان محمد الفاتح لأنه كان تهدم بزلزلة وله غير ذلك من الآثار.

yacine414
2011-03-18, 16:34
السلطان عبد الحميد خان الأول ابن السلطان أحمد الثالث:1187-1203هـ

جلس على تخت الخلافة العثمانية بعد أخيه وعمره خمسون سنة ولم ينعم بعطايا الجلوس عقب تقليده السيف كالمعتاد لعسر المالية واحتياج الدولة للأموال لتصرفها في حرب الروسيا وأبقى الصدر والوزراء في مراكزهم وقد انتهزت الروسيا فرصة موت السلطان وجلوس أخيه هذا وأرسلت الجنرال سواروف (Souwarow) مع جيش عرمرم إمداداً لجيش القائد العام المارشال رومانزوف ليزحف به على تخت الخلافة فأمر السلطان عند ذلك بتيسير الجيوش وتقدّم بها الصدر الأعظم محسن زاده محمد باشا وكانت الروس اجتازت نهر الطونة وقصدت وارنة فتلاقت مع الطليعة التي أرسلها الصدر من شمنى مع أغاة اليكجرية يكن محمد باشا ورئيس الكتاب عبد الرزاق باهر أفندي في جهة يقال لها قوزليجه.

وبعد حرب طويل انهزمت الطليعة المذكورة فاضطرب الجيش الذي مع الصدر وداخله الخوف ثم بعد قليل ظهرت طلائع جيش رومانزوف وكان استولى على كافة المواقع المهمة التي في طريق وارنة وتقهقرت جميع الجيوش العثمانية مظهرة التمرد والعصيان حتى لم يبق بمعسكر الصدر سوى اثني عشر ألف مقاتل ولما كان لا يصح القتال بجنود هذه صفتهم التزم الصدر الأعظم عند ذلك أن يطلب من المارشال رومانزوف (Romanzoff) توقيف القتال للمكالمة في الصلح وأرسل من جانبه مرخصين وهماً أحمد رسمي أفندي من الديوان الهمايوني ورئيس الكتاب إبراهيم أفندي إلى قصبة كوجك قينارجه من بلاد البلغار وفي ظرف ثمان ساعات تقررت شروط الصلح وأمضيت المعاهدة .1188هـ-1774م

وشروطها استقلال تاتار القريم وقوبان وبوجاق وبقاء ما يتعلق بامور الدين من خصائص الخلافة وترك يكي قلعة وقلعة كيرج وقلعة أزاق وأراضيها والبلاد الواقعة بين أوزي (Dnieper) وآق صو (Bug) وقلعة كلبورن (Kilburn) للروسيا وينجلي الروس عن بلاد كرجستان ومكريليه (Minglie) والمملكتين وبوجاق (Bessarabie) وتكون الحدود بين المملكتين نهر آق صو المذكور وإن تطلق للروسيا حربة الملاحة والتجارة بالبحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط وأن تدفع الدولة العثمانية 15000 كيسة تضمينات حربية وتخرج الروسيا أساطيلها الموجودة بالبحر الأبيض المتوسط وتعيد للدولة الجزائر التي استولت عليها.

وأن يزاد امتياز بلاد المملكتين ويتأكد ويصير مبادلة الأسرى بين الطرفين وقد فتح البند السابع من هذه المصالحة ميداناً واسعاً للدسائس الروسية حيث منحهم حق حماية الدين النصراني وكنائسه ومن ذلك نتجت حرب سنة 1854م كما سيأتي وأن تعترف الدولة أيضاً بتقسيم بولونيا.

وقد التزمت الدولة بقبول ذلك اتباعاً لقاعدة الحكم لمن غلب وانتهت الحرب ونالت الروسيا أمانيها ولما كانت هذه الحروب وغيرها سببها مملكة اللهستان اتفقت مملكة بروسيا والروسيا والنمسا على تجزئتها بينهم 1186هـ-1772م وهذا هو التقسيم الأول الذي أعلن لملك بولونيا في 18 سبتمبر من السنة المذكورة.

محاربة الدولة لروسيا والنمسا 1201هـ:

لما استولت الروسيا على بلاد القريم عدت الدولة ذلك تعدياً عليها لمخالفته معاهدة فينارجه القاضية باستقلال القريم استقلالاً تاماً وهاجت عليها الأمة وكبر عليها الأمر فأخذت تخابر باقي الدول الأوروباوية لإيقاف الروسيا عند حدها وفي تلك الأثناء عزل سبعة صدور وأخيراً وجهت الصدارة لقوجه يوسف باشا الشهير 1201هـ وكان من أصحاب الحمية والغيرة والإقدام وهو وإن كان أمياً إلا أنه كان يستعين بأفكار أصحاب الآراء السديدة ويميل إليها وكان من الذين يريدون محاربة الروسيا التي لم تكتف بالاستيلاء على بلاد القريم بل إنها أرسلت سنة 1197هـ جيشاً وفتحت بعض جهات وتقاسمت بولونيا 1782م مع النمسا وبروسيا.

ثم استمرت المخابرات السياسية بين الدول الأوروباوية والدولة العثمانية لحل الخلاف بصورة سلمية ثم سعت فرانسا وكانت مشتغلة وقتئذ بالحرب مع إنكلترة بخصوص استقلال أمريكا بواسطة سفيرها بالآستانة لمنع الدولة من التوسط في الحرب لأنها لاتعود عليها إلا بالخسائر لأن كترينه كانت تستعد للحرب من زمن سيما وإنها أبرمت مع النمسا معاهدة سرية عند مقابلتها مع الإمبراطور يوسف الثاني في مدينة كرسون (Kherson) 1784م وكان من مقتضاها الاتفاق على محاربة الدولة العلية وإن تساعد النمسا الروسيا على إنشاء مملكة في حدودها تكون حاجزاً بينها وبين الدولة العثمانية وتكون هذه المملكة من أقاليم الإفلاق والبغدان وبسارابيا وتعين لها حكمدارا أورثودوكسيا.

ثم تقسم بلاد الدولة بينهما في أوروبا وقد تأكدت أخبار الاتفاقية المذكورة في المحافل السياسية واستفحل أمر تعدي الروسيا خصوصاً عندما أخذت تحصن ميناسواتبول وتبنى دار صناعة عظيمة في ثغر كرسون وتشكل عمارة بحرية بما شيدته من السفن الحربية الجديدة الطرز في البحر الأسود ورأى الصدر الأعظم إن هذه الإجراآت هي تهديد واضح للسلطنة العثمانية وأخذ السفير الإنكليزي يحرض الدولة على إعلان الحرب على الروسيا ويؤكد لها استعداد دولته لمساعدتها بجميع سفنها وإنها تسعى لدى بولونيا والسويد حتى تجعلهما يعلنان الحرب على الروسيا.

فأرسلت الدولة بلاغاً إلى سفير الروسيا بالآستانة المسيو بولجاقوف تطلب منه مخابرة دولته في تسليم موروكرداتو أمير الإفلاق الذي التجأ إليها بعد أن شق عصا الطاعة وأن تتنازل عن حماية بلاد الكرج لأنها معدودة من أملاك الدولة وأن تعزل بعض القناصل الذين يهيجون الأهالي وأن يكون للدولة قناصل في ثغور البحر الأسود وأن يكون لها فيما بعد الحق في تفتيش السفن التجارية الروسية التي تمر من البوسفور والدردنيل.

ولما رفض السفير هذه الطلبات بأمر دولته قبضت الدولة عليه حسب المعتاد وسجنته في يدي قلة 1201هـ-1787م وأعلنت الحرب على الروسيا وكانت فرانسا تميل لسياسة الروسيا سراً أما دولة الأسوج وأهالي بولونيا وبروسيا فإنهم تعاهدوا مع الدولة لمساعدتها فكان غوستاف الثالث ملك السويد يريد انتهاز فرصة وقوع الحرب بين العثمانيين والروسيا ليعيد لبلاده ما أخذته الروسيا منها.

ولما كان مقام الجنرال بوتمكين غير متين في القريم أشار على الإمبراطورة كترينه بترك هذه البلاد خوفاً من سوء العاقبة لقلة المعدات الحربية والجنود لديه فلم تقبل الإمبراطورة ما عرضه الجنرال بل أمرته بالتقدّم نحو مدينتي بندرو أوزي لأخذهما فسار وحاصر أوزي ولما كانت النمسا حليفة للروسيا كما سبق أعلنت الحرب على الدولة أيضاً ولما حضر الغازي حسين باشا الجزائري القبودان العام من مأموريته إلى استانبول خطأ الصدر لإعلانه الحرب في هذا الوقت وقبح رأيه لأن الدولة كانت في حالة لا يمكنها معها مباشرة محاربة عظيمة كهذه سيما وأنه قد اشتهر اتفاق الدولتين معاً وهما الروسيا والنمسا على منازلتها.

ثم إن الصدر قاد الجيش بنفسه وتقدم لملاقاة جيوش الروسيا والنمسا 1202هـ-1787م وفي خلال ذلك أتت الإمبراطورة كترينة بذاتها إلى القريم مع جيشها وأتى الإمبراطور يوسف الثاني بجيش إلى حدود الدولة من جهة بلغراد ثم دارت رحى الحرب واستلم القبودان حسين باشا الجزائري قيادة الدوننما العثمانية ولما لم يكن لديه الوقت الكافي لمداركة النقص الموجود بالسفن جمع إليه كافة ربابين المراكب حتى غص بهم المكان وقام فيهم خطيباً مشجعاً منهضاً هممهم واعداً متوعداً ثم فرقهم على السفن.

محاربة أوزي البحرية :

لما صدر الأمر للأساطيل العثمانية سافرت قاصدة أوزي فوصلتها في السنة المذكورة واستقبلت أمامها ثم وجه القبودان باشا مراكبه الصغيرة الحربية القادرة على إجراء حركاتها البحرية بين الشعاب الصخرية وفي المياه القليلة العمق لمحاربة دوننما الروسيا المشكلة من صالات ومراكب صغيرة وكانت واقفة أمام رأس قيل ولما وقعت الحرب بينهما غرق للروسيين صال فيه مائة جندي وغرقت شالوية صغيرة للعثمانيين وكان بها سبعة عشر جندياً ثم بعد مضى أيام حملت العمارتان المذكورتان على بعضها فارتدت العمارة الروسية بعد أن تكبدت خسائر جسيمة بخلاف العمارة العثمانية فإنه لم يصبها ضرر يذكر.

ثم حصل هجوم ثالث وكانت سفن الروسيا اقتربت من الساحل بعد أن وضعت بين الشعاب الصخرية علامات لسهولة مرور سفنها الباقية وحملت المراكب العثمانية عليها وبينما كان العثمانيون يهتمون بطرد عساكر الروس من رأس قيل المذكور هجم عليهم الجنرال سواروف (Souvarof)بجيشه وبعد مقاومة شديدة ارتدت العساكر العثمانية بخسائر عظيمة ونزلت إلى السفن وسلطت القلعة التي أنشأها الروسيون برأس قيل نيرانها على العثمانيين الذين عند عودتهم وجدوا أن الروسيين نزعوا تلك العلامات من فوق الصخور وبهذه المكيدة لم يمكن للسفن العثمانية الاهتداء للطريق فشحطت فوق تلك الشعاب الصخرية وانهالت عليها نيران القلعة فدمرت غالبها.

ثم أتى البرنس ناسوسجن (Nassau - Siegen) من نيقولايف ببعض سفن صغيرة من نوع البومبات والغامبوت والصنادل وهاجم بها المراكب العثمانية الصغيرة المذكورة ووقعت محاربة قوية قتل فيها كثير من العثمانيين وغرق فيها بعض مراكب للروسيين وقد تمكنت بعض شالويات العمارة العثمانية من إنقاذ كثير من بحارة الصنادل المرتطمة وضاع للعثمانيين بالمكان المذكور جميع مراكب الأسطول الخفيفة ولما شاهد القبودان باشا ذلك أمر بإبقاء الخمسة مراكب الصغيرة التي نجت وقام بالدوننما إلى جزيرة بيره زن ليبعث من هناك من يوصل الأخبار إلى استانبول.

محاربة بيلان اطه البحرية:

إنه بعد الواقعة المذكورة حضرت في العاشر من شهر ذي القعدة من السنة المذكورة مركب من مراكب القره قول العثماني وأخبرت القبودان باشا أن دوننما الروسيا قامت من مينا سواستوبول قاصدة جزيرة بيلان فأقلع في الحال لمقابلة هذه الدوننما التي لم يسبق لها الظهور في البحر الأسود مطلقاً وسبب ذلك أن البرنس ناسوسجن لما تولى قيادة أساطيل الروسيا بعد واقعة أوزى البسابقة أحب منازلة العثمانيين.

ولما رأى القبودان الغازي حسين باشا مجيء الدوننما الروسية أخذ يصف أساطيله وأرسل البطرونه باشا وسفن الصناجيق وخمسة غلالايين لمقابلة العدوّ بجوار ثييلان اطه Serpent المذكورة ورتب سفنه ترتيباً حربياً وضع ثمانية غلايين تحت قيادة كل رئيس من رؤساء سفن الصناجق وأمرهم أن لا يفارق بعضهم بعضاً ثم تقدم الطرفان ولم تفتر همة القبودان العثماني عن الضرب والنزال بل تقدم بشجاعته وبسالته المعلومتين وأطلق مدافعه على سفائن العدوّ فأتلفت منها كثير من فرقاطات العدوّ من مدافع العثمانيين وظهر على الروس والعجز والخذلان كل ذلك قبل وصول ما تأخر من سفن العثمانيين.

ولما رأى الأميرال الروسي قوة العثمانيين ومهارتهم فر بما بقي معه من السفن فتعقبه العثمانيون حتى سواستبول والتجأ إلى ميناها محتميا بقلاعها وبعد أن حاصرت العمارة العثمانية سواحل تلك الجهات عدّة أيام عاد بها القبودان باشا إلى مينا سنه Sulina عند مدخل نهر الطونة وعند وصوله شكل مجلساً حربياً لمحاكمة الذين أظهروا الجبن والخيانة في هذه المحاربة فحكم عليهم بجزاآت قوية عقوبة لهم وعبرة لأقرانهم وطلب من الدولة مكافأة من أحسنوا الخدمة وسمى الغليون الذي أخذ من الروس في هذه الواقعة باسم خداويريد أي عطية الله.

ثم حاكم عمر قبودان الكريدلي وحكم عليه بالصلب على طرف سران مركبه السران طرف عود الشراع القائم على السارية .

والخلاصة أن القيودان باشا وأن اكان فقد سفن الدوننما الخفيفة في واقعة أوزي كما سبق إلا أنه انتصر على دوننما الروسية الجسيمة وعطل قواها بحيث اضطرها لأن لا تتصدّى بعد لمقابلة العثمانيين وبعد محاربة جزيرة بيلان هذه اهتم الغازي حسين باشا بإصلاح ما أصابه التلف من سفن العمارة وطلب إرسال عساكر بدل الذين ماتوا أو جرحوا وبعض مراكب حربية خفيفة أما الجنرال سواروف فكان شيد في خلال ذلك جملة استحكامات من جهة قيل برون وهاجمت الدوننما الروسية الخفيفة التي حضرت من نيقولايف تحت قيادة البرنس ناسو سجن قلعة أوزي وكانت تحت يد العثمانيين وكتب حسين باشا المذكور لاستانبول بأن ليس في إمكانه إمداد القلعة المذكورة قبل أن تصله السفن الخفيفة.

ولما قرب فصل الشتاء وكان معظم سفن الدوننما محتاجاً للإصلاح عاد إلى استانبول بعد أن تمكن من إمداد القلعة المذكورة بخمسة آلاف جندي بمهماتهم الحربية وذخائرهم السفرية وبينما كان القبودان باشا مشتغلاً بمحاربات الروسية تقدّم الصدر الأعظم بالجيوش إلى أدرنة وأحيل أمر الدفاع عن جهات الطونة على سر عسكر مدينة إسماعيل الصدر السابق شاهين علي باشا ولما تعذر تقدّم جيش الصدر الأعظم إلى ودين أرسل بعض الفرق لإمداد قومندانات أوزي وخوتين وبندر.

وكانت النمسا قد شيدت استحكامات في مضيق مهادية لمحاصرة بلغراد ثم عبر الصدر قوجه يوسف باشا بجيوشه الظنونة من جهتي ودين وبلغراد واستولى على بوغاز مهادية بعد أن قهر جيوش الإمبراطور وكاد يأخذه أسيراً وأخضع جميع جهات يانجوه واستولى على نحو ثمانين مدفعاً وعلى كثير من الآلات والأدوات الحربية 1203 هـ .

ولما رأى الإمبراطور هزيمة جنوده عاود ترك على جيشه الجنرال لورين وبينما كانت الجيوش العثمانية منصورة على النمسا كانت الروسيا منصورة على العمارة العثمانية كما تقدم ثم تقدّمت بجيوشها واستولت على بلاد بغدان وعلى كثير من القلاع والحصون كل ذلك ولم تبد دولة من دول أوروبا التي وعدت الدولة بالمساعدة اعتراضاً أو مساعدة وتكدر عموم الأهالي من المسلمين وتأثر السلطان جدّاً حتى أنه لم يمكث بعد ذلك طويلاً حيث توفي 12يوم رجب سنة 1203هـ-1789 م .

وجلس بعهد ابن أخيه السلطان سليم خان الثالث وكان رحمه الله متصفاً بالتقوى والورع شفوقاً على الرعية ميالاً إلى إصلاح أمور الدولة حتى أنه كثيراً ما كان يحرض الوزراء على ذلك ويساعدهم بما يصل إليه الإمكان إذ ذاك.

السلطان سليم الثالث ابن السلطان مصطفى خان الثالث 1203-1222هـ:

جلس هذا السلطان على التخت وعمره عشرون سنة وفي أوّل جلوسه وجه همته إلى إصلاح حال العساكر وتقوية العمارة البحرية وأمر بجميع الجيوش من كافة الولايات فاجتمع لديه في وقت قريب نحو150000 مقاتل في مدينة صوفية وكانت الأحوال السياسية مضطربة والحروب قائمة بين الدولة والروسية كما تقدّم ذكره ومع اهتمام السلطان بذلك كان اليأس استولى على الجنود وترك كثير منهم النقط التي عهد إليهم حراستها.

yacine414
2011-03-18, 16:35
حركة الأساطيل في الوقت المذكور:

إنه بعد أن أتم القبودان حسين باشا إصلاح سفن الأساطيل وأنجز لوازمها بحيث أصبحت الدوننما كاملة الأدوات والآلات عزل عن رياسة البحرية وعين بدله حسين باشا الكريدلي وتعين هو سر عسكراً على أوردي سلستره وقد نسب بعض المؤرخين عزله عن رياسة العمارة للخسارة التي لحقت بالدوننما الخفيفة وتأخره عن إمداد قلعة أوزى وعودته بالدوننما قبل الميعاد المعين مع علمه بما كانت عليه الأحوال في البحر الأسود وزاد مؤرخو عصره مثل واصف وغيره أن عزله كان لأسباب أخرى نسبوها إليه ولكنها غير حقيقة وإنما كان عزله عن الدوننما للتغييرات التي تحدث عادة عند جلوس كل سلطان جديد.

وكان أعظم وزراء ذلك العهد قام بعدة خدم مهم أبقت له بين أعمال الوزراء ذكراً حميداً وقال المرحوم الشهير جودت باشا في تاريخه عن الدولة العثمانية أن حسين باشا المذكور بعد تعيينه سر عسكر السلستره خدم هناك خدماً ابيضت بها صحف تاريخه وكانت درة في إكليل أيامه المضائة وأزمانه السابقة ثم ارتقى إلى وظيفة الصدارة العظمى ثم اغتالته المنية فجأة 1204هـ ولو كان للباشا المذكور غير الأعمال الحسنة لما توظف في هذه الوظيفة السامية بل لما كان تعين بوظيفة أخرى بعد عزله عن الأساطيل على الغالب.

محاربة نخل برون البحرية:

إنه في أواسط رجب من سنة 1203هـ-1789م خرج القبودان حسين باشا المذكور بالدوننما وكانت مشكلة من خمسين سفينة بين كبيرة وصغيرة إلى البحر الأسود ولما وصلت إلى ثغر سنة SUlina تركت به ما معها من السفن الصغيرة ثم أقلعت تقصد كيرج Kerch الكائنة بقرب نخل برون وهناك تقابلت مع الدوننما الروسية وكانت مركبة من خمس غلايين و فرقاطة ولما اشتبك القتال بين الطرفين تمكن طوبجيه العثمانيين من تعطيل أربع فرقاطات روسية ومع ذلك فلا زالت الحرب قائمة بإطلاق المدافع مدة سبع ساعات متوالية ولم يمنعها إلا دخول الليل وكانت الخسائر من الطرفين عظيمة وفرّ الروس ليلاً إلى ميناء كفه Kaffa فعادت الأساطيل العثمانية إلى ثغر سنة ثانية التي خرجت منه.

وبعد أن أصلحت من شأنها خرجت في أواخر ذي القعدة من السنة المذكورة لاقتفاء أثر العدو وبمياه هوجه بك أو أوديسا وهناك أخبرتها سفينة عثمانية من سفن القره قول أنها رأت الدوننما الروسية المشكلة من سبع وثلاثين سفينة حربية قامت من جهة رأس قيل وهي تقصد هذه الجهة فأخذت الدوننما العثمانية حذرها وكانت الرياح إذ ذاك شديدة تهب من الجنوب الشرقي فكانت تسوق مراكب العدو وتساعدها بقدر ما كانت معاكسة لسفن العثمانيين المواجهة لها فأمر لذلك القبودان العثماني سفنه بنشر الشراعات والابتعاد عن الشاطىء.

وقبل الزوال ببرهة صغيرة تقابل الدوننمتان وابتدأت بينهما الحرب بإطلاق المدافع وقد أحدثت سفينة القبودان العثماني ببعض سفن الروس خسائر وافرة فقد الروس فرقاطتين ولما أقبل الظلام افترق الدوننمتان عن بعضهما وقامت في الليل زوبعة شديدة اضطرّت سفن الروسيا لترك ميدان القتال واستقبلت في مكان قريب أما الدوننما العثمانية فأنها تفرّقت عن بعضها وبقي القبودان الثاني بسفينته في معترك القتال بمفرده وعند الصباح هجمت عليه سفن الروسيا واحتاطت به من كل جهة ومع ذلك فخوفاً من أن يرمى بالجبن استمرّ يقاتل بمفرده بكل جهد وشرف حتى آخر رمق من الحياة.

ثم مضى شهيد الصداقة والإخلاص ومات غالب من كان معه من الجنود وعند ذلك أضرم أحد رجال تلك السفينة النار في مخزن بارودها فاحترقت وطارت قطعاً وأغرقت السفينة الروسية التي بجانبها وكانت الدوننما العثمانية ظهرت في تلك الأثناء وأرادت نجدة سفينة القبودان إلا أنه لم يمكنها ذلك لبعد المسافة ومخالفة الريح لها ولما رأت ما وقع لهذه السفينة كبر عليها ذلك وتوجه بها القبودان إلى جهة كليغراد واستقبل قريباً من الساحل وأرسل خبر وقائع هذه المحاربة للآستانة والتمس التصريح بعودة الدوننما لاحتياج معظم سفنها للإصلاح فلما أجيب طلبه أقلع إلى الآستانة.

التنظيمات الداخلية :

لما جلس السلطان سليم الثالث على تخت السلطنة أظهر ميلاً شديداً ورغبة زائدة في إصلاح أحوال الدولة وإنهاضها من ورطتها بإدخال عناصر الترقي والتمدن الحديث فأخذ في إخراج الدولة من عزلتها العقيمة وإدخالها ضمن دائرة التجديدات المفيدة والتحسينات المهمة التي حصلت بأوروبا وهو عمل من أشدّ الأعمال خطراً وأصعبها سيما في بلاد لم تشرف ولو بعض إشراف على المدنية الأوروباوية فلم يوفق لذلك لأمر يعمله الله وكانت نتيجة مسعاه أن خلع وقتل.

وكان أول أعماله أن أظهر الرحمة والشفقة والكرم واجتهد في تعميم العدالة بالمحاكم وقد قابل كثير من الأهالي هذه الأعمال بالفرح والمسرة خصوصاً وإن قعود سلطان شاب نشيط متصف بشريف الخصال ومحمود الفعال على سرير الخلافة جعل الأمة تبتهج وتتعشم خيراً في المستقبل ولما تم الصلح بين الدولة والنمسا عين للقبودانية العامة كوجك حسين باشا وكان من أعظم الرجال الذين تولوا المناصب في الدولة وقد أثنى عليه ومدحه كثير من رجال أوروبا وكان من أوائل أعماله طرد عمال الروس من جهات بحار اليونان والبحر الأبيض المتوسط وتحصين الحدود وتسليح قلاعها وشحنها بالعساكر والمعدات الحربية واستخدم أيضاً عدّة مهندسين من السويد وفرانسا ووجه عنايته لتقوية العمارة وترتيب مدرسة البحرية والطوبجية ووظف بها ضباطاً من الفرنساويين وأمر بطبع عدّة مؤلفات معتبرة في الفنن الحربية والرياضية وإنشاء دار كتب بها أربعمائة مؤلف من أحسن المؤلفات العسكرية الفرنساوية.

وأمر أيضاً بإدخال بعض دروس اللغة الفرنساوية بالمدرستين المذكورتين بأمره شيدت عدّة مبان كثيرة وأساطيل حربية على الطراز الجديد وغيرت مقذوفاتها فجعلت على الطراز الروسي وسن للبحرية عدّة قوانين ونظامات مضبوطة جعل بها لكل سفينة قبوداناً خاصاً وجعل للسفن الصغيرة ضباطاً صغيرين ومنع عزل الضباط ما لم يصدر منهم ما يوجب عزلهم وعين شروط توظيف الضباط وترقيهم في الوظائف فجعله بحسب الأقدمية والاستعداد وزاد في مرتبات الضباط .

وقسم دار الصناعة إلى مخازن للمهمات وورش للصنائع بحيث صير كل مأمور مكلفاً بعمل خاص لا يتعداه لغيره وسن قانوناً خاصاً للمرتبات والعلوفات فصار كل نفر من الجنود يأخذ تعيين ستة شهور على الأقل دفعة واحدة وجعل للعساكر الحق في ترك بعض هذه التعيينات لعائلاتهم بحيث لم تأت سنة إلا وكان للدولة عمارة قوية منظمة تشتمل على أضخم السفن وأمتنها وأقوى المدافع وأحدثها وغير ذلك من الإصلاحات العديدة.

ولما رأت فرانسا اهتمام الدولة بإدخال الاختراعات العسكرية بين جيوشها أحضر سفيرها المسيو أوبيرد وبايت (Aubert du Bayets) عند مجئيه إلى استانبول عدة من مهندسي الفرنساويين وضباطهم ومعلميهم لكل الأسلحة وجلب أيضاً عساكر وصناعاً للمدافع وحتى بعض المدافع مركبة على عجلها وبهذه العناصر شكلت الدولة طائفة مركبة من ثمانمائة من الطوبجية ونظمت فرقة أيضاً من الخيالة سلحوها وعلموها على الطراز الأوروبي وأوجدت أيضاً أورطة من البيادة فكانت هذه الطوائف جرثومة للعسكر الجديد 1211هـ-1796 م الذي جعل تحت قيادة إنكليز مصطفى باشا وأصله ضابط انكليزي.

وكان الروسيون ينظرون لهذه التجديدات بعين الحسد والغيظ فكانوا يسعون جهدهم في إيجاد الأسباب للإخلال بمعاهدة ياش المذكورة وبينما كان السلطان ووزيره يجتهدان في ترقية شأن النظامات إذ ثار أحد ضباط الجنود المدعو بازوند أوغلى عثمان أغاو بعد أن التف عليه كثير من أمثاله تمكن من طرد والي بودين وضبط حوالي تلك المدينة 1212هـ فجردت عليه الدولة جيشاً تحت قيادة القبودان كوجك حسين باشا وبعد عدّة وقائع كان الحرب فيها سجالاً بين الطرفين انتصر القبودان باشا ثم عفا السلطان عن بازوند أوغلي المذكور وعينه محافظاً لودين.

وأخذ السلطان بعد ذلك يدخل الإصلاحات الجديدة في كافة فروع الإدارة ولكن الصدر الأعظم حافظ إسماعيل باشا الذي خلف يوسف ضيا باشا كان يظهرانه ممن يميلون للتنظيمات الجديدة ويقدرونها قدرها إلا أنه كان يكرهها في الباطن فاكتسبت بذلك الطائفة المخالفة لها قوة وحدث من ذلك واقعة أدرنة الآتية وسببها إن الدولة أرادت بث التنظيمات الملكية والعسكرية بجهات الرومللي فأرسلت لذلك والي قونية عبد الرحمن باشا المشهور بالقاضي وأمرته في الظاهر بالتنكيل بأشقياء الصرب وفي الباطن بالقيام بإجراء الإصلاحات كما رسمتها له .

ولما بلغ أعيان الرومللي ذلك توجسوا خيفة واتفقوا جميعاً واجتمعوا في أدرنة لمنعه بالقوة فلما أشيع خبر ذلك أشارت رجال الدولة بلزوم عودة الباشا المذكور وكانوا غير مصيبين في رأيهم فأعادوه إلى ولايته وعند ذلك تفرقت أعضاء تلك العصابة إلى بلادهم وقد اشتهرت هذه الواقعة في التاريخ العثماني بواقعة أدرنة الثانية.

حملة نابليون بونابارت على الديار المصرية 1213هـ:

لما أرادت الجمهورية الفرنسوية الاستيلاء على مصر لمعاكسة التجارة الإنجليزية بجهات الهند أوعزت إلى نابوليون بونابرت بالاستعداد لذلك وأن يكون هذا الأمر في السر خوفاً من اطلاع انجلترة عليه فقابل هذا الأمر بالسرور والارتياح لأنه هو الذي حرض مجلس الأمة على ذلك وبيّن له فوائد هذا المشروع العظيم.

ولما أخذ نابليون يجهز الأساطيل البحرية في ترسانة طولون تطلعت الدول عموماً وشخصت بأنظارها إليه لمعرفة الجهة التي يقصدها بهذه العمارة العظيمة ولما علموا أن ترسانة طولون تستخدم أناساً لهم إلمام بالعربية علموا أن مقصده من هذه الاستعدادات الإغارة على الأقطار المصرية سيما وإن حركات الوكيل السياسي الفرنساوي بالآستانة كانت تؤيد ذلك فالتزمت الدولة العلية بمداركة الأمر باتفاقها مع الدول المعادية لفرانسا المناظرة لها في حب الاستعمار.

ولما خرجت الدوننما الفرنساوية من طولون 1798 م كان أول أعمالها في طريقها مهاجمة جزيرة مالطة والاستيلاء عليها وفي تلك الأثناء كان القبودان العثماني شرمت بك الكريدي الذي عينته الدولة بفرقة من العمارة لمراقبة حركات دوننما فرانسا أرسل مكتوباً أخبر فيه بأن نابليون بونابارت لم يقصد بهذه الحركة مع جسامة عمارته وقوّتها فتح جزيرة مالطة فقط بل إنه جعلها في طريقه محطاً لقواه ومن المحتمل أنه بعد ذلك يهاجم الأقطار المصرية.

وقد كانت حالة الدولة في ذلك الوقت مرتبكة جداً للاضطرابات الداخلية واجتهاد اليونان والصرب في نوال استقلالهم وعصيان حكام الأقاليم مما جعل أوروبا تعتقدان في ذلك محو السلطنة العثمانية أما انكلترة فإنها انتهزت فرصة حركة نابليون على الديار المصرية ومالت إلى الدولة العلية بكليتها ساعية في قطع العلائق القديمة الموجودة بين الباب العالي وفرانسا ولم يتمكن القائم بأعمال فرانسا إذ ذاك بالآستانة وهو الموسيور روفين (Ruffin) من إقناع الباب العالي بشيء يجعله يرفض نصائح انكلترة.

فقرر الوزراء إعلان الحرب على فرانسا وقبض على روفين المذكور وسجن كالعادة بقلعة يدي قلة وخرب العثمانيون مخازن التجارة الفرنساوية التي ببلاد اليونان وسورية والأناضول وقبضوا على تجارهم الذين بأزمير وبيروت وغيرهما ولما بلغ انكلترة قيام العمارة الفرنساوية من طولون أرسلت سفينة جسيمة تحت قيادة الأميرال نلسون لمراقبة حركاتها ونظر ما يكون من أمرها وما يحدث عن شأنها وعندما استولت الدوننما الفرنساوية على مالطة التي هي النقطة المهمة الوحيدة في وسط البحر الأبيض المتوسط والتي تعتبرها الدول البحرية مركزاً للتجارة اندهشت انكلترا لذلك.

ولما بلغ الدولة العثمانية قيام الدوننما الانجليزية أصدرت أوامرها لجميع ولاياتها بمساعدتها عند مرورها ومداركة ما يلزمها من المآكل والمشارب وخلافهما من سائر الحوائج وفي 12 محرم سنة 1798 م مر الأميرال نلسون بعمارة على ميناء الاسكندرية يبحث عن العمارة الفرنساوية فلما لم يجدها أخبر حكام الاسكندرية بخروج مراكب الفرنسيس تقصد الديار المصرية وأعلمهم أنه مستعد لمساعدتهم فتوهموا أن ذلك خدعة من الانكليز فلم يعبؤا بقوله ثم بارحهم للبحث عن الفرنساويين بالسواحل السورية.

وفي اليوم السابع عشر من الشهر والسنة المذكورية وصلت الدوننما الفرنساوية إلى الاسكندرية وذهب القبودان إدريس قومندان الفرقاطة العثمانية المسماة عقاب بحري المعينة للتجوّل بالمياه المصرية إلى الدوننما الفرنساوية المذكورة ولما رآه نابليون قال له بنفسه إني لم أحضر لضرر أحد هنا وإنما أنا متوجه لتخليص الإقليم الهندي من أيدي الإنكليز أعدائنا وإني على فرض أنني عدوّ للدنيا بتمامها فإني محب للعثمانيين ولذلك أنصحكم بأن لا تتصدّوا للمدافعة إذ أنه لا يجوز ولا يتصوّر عقلاً أنكم تقاومون أربعمائة سفينة حربية فلما سمع منه القبودان هذا الخطاب لم يجاوبه بشيء أصلاً.

ولما علم نابليون بحضور الدوننما الإنكليزية قبله بثلاثة أيام بادر بإخراج عسكره إلى البر ولم يتجاسر على دخول الميناء لظنه أن قلاع الإسكندرية ربما كانت قادرة على المدافعة وأخرج في الليل خمسة آلاف جندي وهجم بهم صباحاً على المدينة فاستولى عليها بلا مقاومة تذكر.

ولما أخذت كل سفينة موقعها استقبل الأميرال نلسون بسفينته أمام سفينة الأميرال الفرنساوي المسماة أوريانت وهي من الأوج انبارلي ويسميها مؤرخو الشرق نصف الدنيا ولما رأى الفرنسويون أن حركة سفن الانكليز تمت بكل جسارة استولى عليهم الفزع والاضطراب وما كادت هذه الحركات تتمم حتى قامت الحرب بين الدوننمتين وأخذت السفن ترسل قنابلها من أفواه مدافعها على بعضها وكان بالدوننمتين ألفي مدفع تطلق طلقاً متتابعاً وتقذف قذفاً متوالياً فكانت أصواتها تدوي بالأفق بحيث يخال للسامع أن المساء انشقت والأرض خسفت والجبال نسفت.

وقد استمرت الحرب بهذه المثابة ساعتين من الزمان وفي نهايتهما أصيب الأميرال نلسون بجرح في رأسه فعصبها بمنديل ولما زال منه الاغماء عاد إلى موقعه الأول كما كان وقد قويت السفن الانكليزية على خصيمتها ودمرت منها عدّة ولم تأت الساعة الثامنة بعد الزوال إلا والنار قد اشتعلت بسفن الفرنساويين فصيرت ظلام الليل الحالك نهاراً وارتفع اللهب والدخان إلى عنان السماء وكان الأميرال برويس الفرنساوي أصيب بجرحين في الساعة الأولى من القتال وبينما كان ينزل من سطح الكمبانة إلى سطح الكويرتة أصابه مقذوف من مدافع الانكليز فشطره شطرين.

وكذلك أصيب القمادور الفرنساوي المسمى كازابيانكا (Casabianca) بجروح هائلة مات بسببها في الحال وقد أتلفت مدافع الانكليز كثيراً من سفن الفرنساويين وكسرت سواريها وشراعاتها وألحقت بها الخسائر الفادحة من كل نوع.

ولما احترقت السفينة أوريان المذكورة ووصلت النار إلى مخزن بارودها تفرقعت وطارت قطعاً في الجو ولما شاهد نلسون ذلك أمر بحارته بتخليص بحارة الفرنسويين فلم يمكن إلا تخليص البعض منهم وكانت خسائر الفرنساويين في هذه الواقعة لا تدخل تحت حصر واستولى الانكليز منهم على تسعة غلايين وتمكن غليون وفرقاطتان وأربع سفن من نوع القرويت من الهرب أما باقي سفن العمارة فإنها احترقت بتمامها ولما وصل خبر احتراق الدوننما الفرنسوية ومحاصرة الإنكليز للاسكندرية إلى معسكر الفرنساويين بمصر حصل به اضطراب زائد وخوف شديد.

ولما علمت الدولة ما أصاب الفرنساويين في أبي قير أرسلت تهنىء الأميرال نلسون وتشكره على عمله ولما وردت تفصيلات واقعة أبي قير من انكلترة لوكيلها السياسي بالآستانة وأبلغها للباب العالي ألبسته الدولة فروة سمور فاخرة طبق عوائدها وأحسنت على الأميرال نلسون بعقد جوهر ثمين وأرسلت ألفي ليرة عثمانية لتوزع على جنود الدوننما الانكليز ولما وصل العقد الجوهر إلى الأميرال نلسون صور نفسه وهو لابسه وقدّم تلك الصورة إلى السلطان ولا تزال هذه الصورة محفوظة إلى الآن ضمن أمتعة الخزينة العثمانية وقد طبعت جريدة الغرافيك الإنجليزية هذه الصورة بأحد أعداده سنة 1789م.

وكانت فرانسا لما اتحدت مع النمسا قبل ذلك وأزالتا جمهورية البنادقة بمعاهدة كامبوفورميو 1212هـ-1797 م استولت على الجزائر السبع اليونانية الكائنة ببحر الأدرياتيك وعلى خمس جهات أيضاً بالساحل وهي برويزة و كومانيجه و برغه و نيجه و بوترينتو واستولت النمسا على عدّة جهات من ممالك البنادقة أيضاً فلما أغار الفرنساويون على البلاد المصرية وبعد واقعة أبي قير التي تقدّم ذكرها أمرت الدولة العثمانية والي يانية تبه دلنلي علي باشا بأن يسترد كافة الجهات المذكورة من يد فرانسا عقاباً لها على ما فعلته معها من الخيانة.

ولما تم الاتفاق بين الدولة العثمانية وسفير الروسيا مسيو طمارا وسفير انكلترة على منازلة الفرنسيس سوية شكلت الدولة أسطولاً خفيفاً مؤلفاً من سفن عثمانية وروسية جعلته تحت قيادة مرابط زادة حسين باشا الرودسي وأرسلته إلى مياه الاسكندرية لمهاجمة أسطول فرنسا الصغير الموجود بمينائها وكانت قبل ذلك بعثت فرقاطتين ليكونا مع الدوننما الانكليزية الموجودة بمياه الاسكندرية.

أما الدوننما الروسية فأقلعت مع الدوننما العثمانية المشكلة من سبع وثلاثين سفينة بعد أن اتفق قائدها قدري بك مع الأميرال الروسي أوكانوف على الحركات التي سيقومان بها في جزائر اليونان 1213هـ فلما وصلتا إلى مياه اليونان استولتا على جزيرة جوقة فقام أهالي جزيرة زانطة وكفالونية وقبضوا على عساكر الفرنساويين وسلموهم إلى تبه دلنلي علي باشا والي يانيه وتملكت بذلك الدولة هاتين الجزيرتين ثم قامت الدوننمتان المتحدتان إلى جزيرة كورفو وكان تبه دلنلي علي باشا تغلب في ذلك الوقت على الفرنساويين بقرب دلوينه وأرسل ولده مختار بك طليعة له يقود ستة آلاف من الخيالة وتقدم هو خلفه مع المشاة وهجم الاثنان على القوّة الفرنساوية التي كانت مجتمعة حول برويزة فتغلبا عليها وأسرا منها عدّة أسراء.

ولما علمت الدولة بذلك أنعمت على علي باشا برتبة الوزارة ثم استولت الدولة على قلاع برويزه وقوما نيجه وبوتربنتو أما قلعة بارغه فإنها قاومت نحو 14 سنة ثم استردتها الدولة أخيراً وكانت العمارتان المتحدتان استولتا أيضاً على جزيرة كورفو فعادت تلك المواقع جميعها إلى الدولة العثمانية كما كانت من قبل أما الجزائر اليونانية السبع فإنها جعلت تحت حماية الدولتين العثمانية والروسية وعقدت بذلك شروط بينهما 1215هـ-1801 م ولما طلب أهلها فيما بعد دخولهم تحت حماية الروسية وافقت الدولة العثمانية على ذلك حسبما اقتضته ظروف الأحوال.

تعدي نابليون على سوريا :

لما رأى نابليون أن مركزه أصبح مهدّداً بمصرا تفكر في أن في استيلائه على سوريا فرجا وقوّة سيماوان من استولى على إحدى البلادين لا بد له من الاستيلاء على ثانيتهما فخرج في رمضان من سنة 1213هـ-1799م بجيش عدده ثلاثة عشر ألف مقاتل واستولى على العريش ثم تقدّم واستولى على غزة بغير قتال وبعد أن حاصر يافا سبعة أيام استولى عليها وأسر منها ألفي عسكري من الأرنؤد الذين قاتلوا جيش الفرنساويين بشهامة غريبة فأمر نابليون بقتلهم جميعاً رمياً بالرصاص خارج البلد فكانوا يخرجونهم فرقة بعد فرقة للقتل ومن هذا الفعل الفظيع المخالف لقوانين الحرب والإنسانية يتأكد المطالع ما كانت عليه حالة الحروب في ذلك الوقت.

ثم تقدّم بجيشه إلى عكا وحاصرها براً وهدم أكثر بروجها واستحكاماتها بمدافعه وكان المدافع عن عكا أحمد باشا الجزار البطل الشهير وفي هذه الأثناء قبض الغليونان الانكليزيان المعينان لخفر سواحل الشام تحت قيادة الأميرال سدني سمث على سفينة فرنساوية تحمل كثيراً من المهمات الحربية لنابليون وسلمها لجنود عكا وكانت إعانة للجيوش العثمانية على أعدائهم ولما وصلت الامدادات للفرنسويين بعد أيام أمكنهم كسر جيش الشام بجهة جبل طابور الذي أتى لقتالهم وتمكنوا أيضاً من أن يمنعوا الامداد عن العثمانيين الذين بعكا ثم أخذوا يهاجمونها المرة بعد الأخرى حتى تمكنوا من الدخول فيها.

إلا أنهم لم يلبثوا برهة حتى قاومتهم الجنود العثمانية أشد المقاومة فتقهقر الفرنساويون من إمامهم تاركين مدافعهم ومعداتهم وفي خلال هذه الحوادث وصلت الدوننما العثمانية وكانت مركبة من سبعين سفينة حربية بها 12000 من الجنود النظامية تحت قومندانية مرابط زاده حسين باشا الرودسي وأخرجت ذلك الجيش وذخائره إمداداً لعكا ثم تقدّم هذا الجيش ورد جيش نابليون واقتفى العثمانيون بشجاعتهم أثره حتى متاريسه وهجمت الفرنساويون في هذه المحاصرة ثمان مرات وهجم العثمانيون عليهم ثلاث عشرة مرة وأظهرت عساكر الفريقين شجاعة غريبة وإقداماً عجيباً.

ثم اضطر نابليون للرجوع مكسوراً بجيوشه إلى جهة العريش بعد أن تلف منها في حصار عكا عشرة آلاف واقتفت العساكر العثمانية أثره حتى الحدود المصرية ثم أرسلت الدولة العثمانية إلى مصر جيشاً مركباً من عشرة آلاف مقاتل تحت قيادة كوسة مصطفى باشا ومعه دوننما عثمانية إلى أبي قير فخرج الجيش واستولى على القلعة ولما بلغ نابليون حضر بنفسه وهجم بعساكره على الجيش العثماني بغتة ومع كون العساكر العثمانية كان معهم المدافع الكافية والطوبجية المهرة إلا أنه لم يكن معهم فرسان لصد هجمات الأعداء.

ولذلك التزم مصطفى باشا أن يحفر خندقاً حول معسكره لحمايته من هجمات سواري الفرنساويين وقد تكرر الهجوم من نابليون وقاومه السر عسكر بجيشه بكل ثبات وقوّة وكانت مدافع الدوننما العثمانية تساعد الجيش بمقذوفاتها حتى اضطرّ نابليون لأن يرجع متقهقراً فخرجت العساكر العثمانية من خلف الخندق لتعقبهم وكان خروجهم بلا انتظام لأن قائدهم كان جرح فعادت خيالة نابليون عليهم ثانية وشتتوهم وتقدّموا إلى خيام المعسكر ودخلوا خيمة السر عسكر وكان مجروحاً كما تقدّم فأسروه وتوفي بعد سنة من أسره.

وفي سنة 1215هـ عادت الدوننما الروسية من البحر الأبيض المتوسط إلى الآستانة ودخلت البحر الأسود ولما كانت الدولة تخاف من أن نصرات الجيوش الفرنساوية ربما كانت سبباً لتمكين قدم الفرنسيس في مصر جهزت هي وانكلترة الأساطيل والجيوش لحسم المسألة المصرية فخرج القبودان حسين باشا بالدوننما ومعه قوّة عسكرية بعد أن اتفق مع الأميرال الانكليزي ثم أخرج الأميرال الانكليزي جيشاً في أبي قير مؤلفاً من خمسة عشر ألف مقال تحت قيادة الجنرال ابركرومبي (Ralph Abercromby) وتقدّم إلى الرحمانية وتقدّم السردار العثماني يوسف باشا من جهة الشرق يريد القاهرة فخرج الجنرال منو يريد قتال الإنكليز فانهزم والتجأ إلى الاسكندرية يريد التحصن بهات فقطع الانكليز سد أبي قير وهو السد المانع لمياه البحر من الإغارة على مصر فانحصر االجنرال منو بذلك في الاسكندرية والجنرال منو هذا هو الذي صار وكيلاً لنابليون بعد موت كليبر الذي قتله شخص يدعى سليمان الحلبي .

ثم تقدم الجيش الانكليزي والعثماني ودخلا القاهرة بعد أن حاصرا من بها من الفرنسيس الذين كانوا تحت قياد الجنرال بليار الذي لما رأى أنه لا يمكنه المقاومة عقد مع القائدين المذكورين شروط التسليم وأخلى المدينة ثم خرجت العساكر الفرنسوية من القاهرة وأقلعت بهم السفن من رشيد هذا أما منو فإنه بعد أن قاتل العثمانيين والانكليز في عدّة وقائع اضطرّ لأن يعقد صلحاً نهائياً مع الأميرال كيث (Keith) الانجليزي والصدر الأعظم يوسف باشا في 22 ربيع الثاني سنة 1216هـ وذهب إلى بلاده على سفن الانكليز وخرج الفرنساويون من الديار المصرية وهم يبكون حظهم.

وبعد أن أخلوا مصر وانسحبت جميع جيوشهم منها أقام الإنكليز سنة كاملة في ثغر الإسكندرية وكأنهم لما رأوا سرعة خروج الفرنسيس وضعضعة أحوال الدولة وحالة الديار المصرية هموا باحتلالها بدل الفرنسيس إلا أن الفرنسويين لما لاحظوا ذلك من مخرجيهم أخذت المخابرات السياسية تجري بينهم وبين الإنكليز والعثمانيين إلى أن خرج الانكليز أيضاً 1217هـ منتظرين فرصة أخرى أكثر مناسبة وفي 23 صفر سنة 1217هـ-1802م عقد نابليون بونابرت مع الباب العالي الصلح ليسترد مودته وليكون له ذخراً عند الحاجة وكان ذلك سبباً لوقوع النفور بين الإنكليز والفرنساويين لأنهم كانوا يودون بقاء تعكير السياسة بين العثمانيين والفرنساويين بالنظر لما أجراه نابليون بونابرت من المقاصد السياسية المضرة بالإنكليز.

الحرب مع الروسيا والدوننما الإنكليزية باستانبول 1221هـ:

لما عقد نابليون بونابارت معاهدة الصلح مع الدولة أرسل الجنرال سبستيان إلى الآستانة ليكون سفير الفرانسا وأوصاه قبل مبارحته باريز بأن يبذل كل مجهود ويسعى بجميع الوسائل لتحسين العلاقات بين الدولتين وإرجاعها لما كانت عليه قبل الحرب فبذل هذا السفير جهده واستعمل كل الوسائط حتى أعاد روابط الإلفة والمحبة بين الطرفين ولما كانت الدولة تود ذلك أيضاً لم يصادف السفير في طريقه عقبات أو موانع وفي تلك المدة خلعت الدولة أميري الافلاق والبغدان لانحيازهما إلى الروسيا وترويجهما سياستها ومقاصدها وعينت بدلهما من المخلصين لها 1221هـ-1806م فاغتاظت الروسيا من ذلك جداً.

وخشيت من تقرب فرانسا إلى الدولة وأهمها ذلك حتى أنها أرسلت جيوشها واحتلت الولايتين المذكورتين بلا إشهار حرب بدعوى أن عزل أميريهما مضر بسياستها جداً ولما عملت الدولة بدخول عساكر الروسيا في بندر وخوتين التزمت بإشهار الحرب عليها ولما كان الإنكليز يعلمون يقيناً أن دولة الروسيا هي الدولة القوية التي يمكنها مقاومة نابليون الذين كانوا يخشون سطوته جداً اجتهدوا في منع وقوع الحرب بين العثمانيين والروس على أن الدولة لم يكن غرضها من ذلك الإعلان إلا إبعاد جيوش الروسيا عن حدودها فقط.

وكانت الدولة العثمانية تسعى فى ذلك الوقت بكل نشاط لاستدامة الروابط والعلاقات الودية بينها وبين الدول الأخرى حتى إنها أجابت الدولة الإنكليزية لما أشارت عليها بخلع محمد علي باشا الكبير من ولاية مصر وتوليته على سلانيك إلا أن استرحام بقائه بمصر الذي طلبه العلماء وأشراف الأهالي من السلطان كان السبب في عدول الدولة عن ذلك وقد كانت الدولة لا تحب أن تبعد عنها دولة فرانسا لما اقتضته سياسة الوقت فلهذا السبب والسبب السابق انحرف الإنكليز عن العثمانيين واتحدوا مع الروسيا على حرب الدولة.

ولما لم تتمكن إنجلترة بواسطة سفيرها بالآستانة السير أربوثنوت (Arbuthnot) من جعل الباب العالي يعدل عن محالفة فرانسا أرسلت أسطولاً تحت قيادة الأميرال اللورد دوك ورث (Duck worth) إلى مضيق الدردنيل ولما كان السفير الإنجليزي حاد المزاج سريع التأثر تكدر من عدم نوال مرغوبه ونزل ليلاً بسفينة إنجليزية 1221هـ-1806م وهرب من الآستانة ولما علم رجال الدولة بفراره في اليوم التالي تأكدوا من قيام إنكلترة لمساعدة الروسيا ضدهم فازدادت المسألة ارتباكاً.

وقد كانت قلاع الدردنيل في حالة سيئة لا يمكنها مقاومة عمارة قوية كعمارة الإنكليز ومع ذلك فإن الدولة لم تهتم بإصلاحها وتقويتها رغماً عن أقوال سفير فرانسا ومن معه من ضباط الفرانسا وبين وكان المانع لها عن ذلك أقوال السفير الإنكليزي الذي كثيراً ما قال لمندوبي الدولة إن مسألة الخلاف الحاصلة بين الدولة والروسيا يمكن تسويتها بالصلح والسلم بدون احتياج لحرب ولذلك تم للسفير ما كان يقصده وهو تأخير تقوية الاستحكامات الأمر الضروري جداً في ذلك الوقت .

ولما رأت الدولة اشتداداً لحالة أرسلت الجنرال سباستيان ومعه ضباط من الفرانسا وبين غيرهم لينظر فيما يحتاجه تحصين البوغاز ويقدموا بذلك تقريراً مستوفياً إلى السلطان إلا أن الصدر الأعظم وغيره من الرجال وكذا القبوذان باشا لما كانوا يكرهون تداخل الأوروباويين في أعمال الدولة لم يهتموا بأمر التحصينات كما أمر السلطان.

أما سفير إنكلترة الذي فر من الآستانة فإنه تمكن من الوصول إلى جزيرة بوغجه اطه سالماً وهناك طلب من الدولة استمرار المخابرة وأرسل ترجمانه إلى جنق قلعة لذلك وأرسلت الدولة من قبلها من ينوب عنها وكان غرض السفير من هذه المخابرات أن أعمال الدولة يهملون عمل الاستحكامات التي تقرر إنشاؤها متى علموا بعود مخابرات الصلح وكانت الدوننما الإنكليزية تنتظر مساعدة الهواء والفرصة المناسبة لاجتياز الدردنيل ثم أرسلت الدولة عمارتها تحت قيادة القبودان الحاج صالح باشا لتقف في البوغاز تمنع سفن الإنجليز من عبوره متى أرادوا وكانت هذه العمارة مركبة من ست سفن.

وقد اتفق أن هبت رياح موافقة يوم عيد الأضحى من سنة 1221هـ-1806م عند الصبح فأقلع الأميرال الإنجليزي المذكور بأسطوله المركب من خمسة قباقات وفرقاطتين وحراقتين وقرويطين بها من المدافع 608 مدافع ودخل البوغاز وتمكن بلا أدنى مقاومة من المرور من أمام قلعتي قوم قيود وسد البحر لوجود كافة حفظة القلاع المذكورة بالجوامع لصلاة العيد ولما وصل الأسطول المذكور إلى قلعتي كليد بحر وجنق قلعة قابلته الدوننما العثمانية المذكورة بإطلاق المدافع فلم توقف سيره بل استمر مسرعاً ثم استقبل في ليمان بورغاز ثم حمل على الدوننما العثمانية ولم يكن بها إلا بعض الجنود لتغيب معظمهم يوم العيد ولما لم يمكن للعساكر البحرية الموجودة بتلك السفن القيام بمقاتلة الأعداء لقلتهم احترق للعثمانيين أربع سفائن واستولى الإنكليز على سفينتين ولم يسلم من الأسطول العثماني إلا إبريق حربي واحد تمكن من الهرب وقال بعض المؤرخين أنه لولا جبن القبودان باشا وسوء تصرفه لامكن للأساطيل العثمانية على مابها من الضعف قهر أساطيل الإنجليز سيما وقد كانت هي الغالبة في أول الأمر بحيث أنها أحدثت بالسفن الإنكليزية خسائر عظيمة.

ولما عاد الإبريق الحربي الذي هرب من المحاربة إلى الآستانة في اليوم الثالث من عيد الأضحى وأخبر قبودانه بما حصل هاجت الأفكار واضطربت الخواطر وعم القلق وصدرت الأوامر سريعاً بإقامة الاستحكامات حول الآستانة وفي ذلك اليوم وصل الأسطول الإنكليزي واستقبل بجانب جزائر الأمراء شرقي البوغاز وأرسل السفير الإنكليزي بلاغاً نهائياً للصدر الأعظم مشتملاً على المواد الآتية هي :

أولاً : أن يتحالف الباب العالي مع الروسيا وإنكلترة.

ثانياً : أن تسلم الدولة في الحال لإنكلترة سفن العمارة العثمانية استحكامات الدردنيل.

ثالثاً : أن تتنازل الدولة للروسيا عن إيالتي الافلاق والبغدان.

رابعاً : أن تطرد الجنرال سبستيان سفير فرانسا وأن تعلن الحرب على فرانسا وحدّد للإجابة على هذا البلاغ مدّة 24 ساعة.

فعقد الوزراء في الحال مجلساً وبعد المداولة أجابوا السفير برفض هذه المقتراحات رفضاً باتاً وباستعداد الدولة للمحاربة والمدافعة وقام الجنرال سباستيان بتكليف من الدولة بتنفيذ أمر الدفاع وبذل جميع الأهالي أيضاً من كل جنس ونوع نشاطاً وهمة عظيمتين في بناء الاستحكامات وتقويتها وكان وزراء الدولة يترددون كثيراً على هذه الاستحكامات لنظرها يومياً بل كل ساعة كما أن السلطان سليم خان كان يذهب بنفسه إليها ويشجع القائمين بإنشائها إلى أحكامها وإتقانها بحيث أنها تمت في زمن يسير وأصبح بها في اليوم الخامس نحو ألف ومائتي مدفع.

وفي أثناء هذه الاستعدادات عرض السيد علي بك الجزائري وكان رئيس بوابي الدائرة الخاصة على السلطان بأنه بماله من المعلومات البحرية يمكنه قهر العمارة الإنكليزية لو سلمت إليه قيادة العمارة العثمانية وهوّن على السلطان كثيراً أمر الأعداء فسر السلطان من أقواله وأصدر أمره بتعيينه قومندانا على الدوننما الراسية بخليج الآستانة وكانت مؤلفة من عشرين سفينة حربية مختلفة النوع والقدر فقادها ورسا بها أمام سراي بشكطاش.

ولما كان أهالي الآستانة قد امتلأت صدورهم غيظاً وحنقاً على تجاوز الإنكليز لهذا الحد سيما الجنود منهم تطوع منهم في يوم واحد أكثر من سبعة آلاف وخمسمائة شخص في البحرية وبعد أن قيدوا أسماءهم وزعوهم على السفن هذا أما القبودان باشا الذي أعدم الإنكليز عمارته فإنه بعد وصوله براعزل لإهماله وتعين بدله السيد علي بك المذكور ورقي إلى مسند الوزارة وأحيلت عليه ولاية الجزائر وقتل أيضاً فيضي أفندي محافظ بوغاز الدردنيل لتقصيره في أداء واجباته عند مرور الدوننما الإنكليزية من البوغاز وعينت الدولة بعض الضباط ومعهم نفر من مهندسي الفرنسويين لتقوية قلاع واستحكامات الدردنيل.

ولما بلغ أهالي البلاد المجاورة للآستانة مرور الدوننما الإنكليزية من البوغاز ومجيئها للآستانة حضر كثير من أعيانهم وحضر أيضاً سردار شيله أوزون حسن باشا مع جيشه ونزلوا بالدوننما استعداد للقتال وحضر كثير من أعيان الرومللي والأناضول لهذا القصد وعين قسم من عساكر فنار باغجه إلى جزيرة قنالي وأوقعوا بزوارق الإنكليز التي أتت للاستقاء منها وأسروا بعض الجنود وكان من بينهم ابن أميرال الدوننما الإنكليزية.

ولما بلغ السلطان خبر هذه الواقعة أنعم على أولئك الجنود ولذلك أخذ كثير من صيادي الأسماك يناوشون الجنود الإنكليزية التي كانت تتردد بزوارقها بين السفن وبعضها وأراد بعضهم منع الإنكلزي من الاستقاء من جزيرة قنالي فلم ينجح.

والحاصل أنه في مدة خمسة أيام من تاريخ وصول العمارة الإنكليزية تم عمل الاستحكامات بجهات سراي برون ويدي فله وقزقله وساحل قاضي كوى ووضعت فيها المدافع العديدة ولما استعد القبودان باشا الجديد المذكور أراد الهجوم على العمارة الإنكليزية فمنعه القواد وطلبوا منه أن يكون مدافعاً لا مهاجماً لما عليه العمارة الإنكليزية من الاستعداد وتدرب جنودها على القتال بخلاف الجنود العثمانية الحديثة العهد بالبحرية.

وفي تلك الأثناء كانت المخابرات مستمرة بين السفير الإنكليزي ورجال الدولة وأخيراً خفف الإنكليز طلباتهم وكانوا كلما قدموا طلباً رفضه العثمانيون ثم لما رأى ربان العمارة الإنكليزية أنه لايمكنه ضرب الآستانة لمنعتها وتحمس الأهالي والجنود وإن استحكامات الدردنيل جار تقويتها يومياً وخشي من أنه لو مضى الوقت على ذلك أصبح في مركز حرج أقلع في يوم الأحد الثاني والعشرين من ذي الحجة من السنة المذكورة ولما مر على جهات البوغاز وغيرها ورأى ما بها من القلاع الجديدة ثبت لديه ظنه وأنه صار عاجزاً عن عمل ما ولو تهديدياً ولذلك بادر بالخروج سالماً.

ولما رأى أهالي الآستانة عودة العمارة الإنكليزية بصفقة المغبون فرحوا وهللوا وكبروا ولما وصلت الدوننما الإنكليزية إلى جهة أكينلك القريبة من كليبولي مكثت بها يومين وتركت فيها السفينتين العثمانيتين اللتين استولت عليهما في واقعة البوغاز كما تقدم وفي أثناء مرورها من البوغاز أطلقت عليها بعض قلاعه الحديثة مدافعها فأحدثت بها خسائر كبيرة وأغرقت منها سفينتين من نوع القرويت وقتل من جنودها ستمائة نفر سيما وإن المدافع الجسيمة التي تركبت أخيراً في الاستحكامات كانت من عيار ثمانمائة ليبرة وبعد أن تخلصت العمارة الإنكليزية من تلك الشدة رست قريباً من جزيرة بوزجه اطه لتصلح ما لحقها من التلف.

وكانت الدوننما الروسية وصلت قبل ذلك بقليل إلى جزيرة بوغجه اطه تحت قيادة الأميرال سينياوين (Siniawin) ولما تقابلت مع الدوننما الإنكليزية عرض ربانها على الأميرال الإنكليزي أن يصحبه ليدخلا سوية من الدردنيل ويضر بالآستانة فلم يقبل الأميرال الإنكليزي أن يصحبه ليدخلا سوية من الدردنيل لعلمه أن ذلك أصبح بعيداً عليهما ثم استوليا على جزيرة بوزجه اطه المذكورة وصارا يصادران بسفنهما كل سفينة تجارية عثمانية.

ومما تقدم تعلم ما حازه العثمانيون من الفخر في هذا الدفاع العظيم وقيامهم كرجل للمدافعة عن استقلالهم الذي لعبت به أيدي الأجانب لعدم تبصرهم وتهاونهن وقد كان بقاء العمارة العثمانية مدافعة لا مهاجمة من أحكم الآراء وأصوب الأفكار لأننا قدمنا أن هذه الدوننما إنما كانت مشكلة من السفن الصغيرة وجنودها كانوا من أفراد الأهالي الذين لم يمارسوا الأعمال البحرية ولا عانوا الأحوال الحربية ولا أحكموا الفنون والنظامات العسكرية بل هم رعايا قادتهم الهمم الأبية والنخوة العلية لأن يصدموا بأنفسهم عدوّهم وأن يصطلوا حر المعمعة ويخوضوا عبابها بخلاف السفن الإنكليزية فكانت ذات قوة وضخامة وجسامة وأفرادها على معرفة تامة بالفنون البحرية وأساليب القتال.

yacine414
2011-03-18, 16:36
إطلاق العمارة الإنكليزية قنابلها على الإسكندرية :

علمت مما سبق أن العمارة الإنكليزية بقيت راسلة بجزيرة بوزجه اطه تهدّد الدردنيل وتقبض على سفن التجارة العثمانية وفي شهر محرم سنة 1222هـ أتتها نجدة قوية مؤلفة من إحدى وثلاثين سفينة بها سبعة آلاف مقاتل لأن الحكومة الإنكليزية أرادت محو ما لحقها من العار في مسألة استانبول هذه ولذلك أمرت أميرال هذه العمارة بالذهاب إلى مدينة الإسنكدرية واحتلالها فقام بما عهد إليه وأتى إلى الإسكندرية وبعد أن ضرب قلاعها ولم تكن شيئاً يذكر في يوم 10 محرم سنة 1222هـ-1807م أخرج العساكر من السفن بقصد الاستيلاء على البلاد المصرية تحت قيادة الجنرال فرازر (Fraser) ثم بعد بضعة أيام ذهبت فرقة من أولئك العساكر إلى رشيد لأخذها.

وقبل وصولها كان محافظ رشيد المدعو علي بك لما علم بسير الإنجليز نحوه استعد لقتالهم بما لديه من الجنود القليلين وأمر أهلها بالسكون والثبات والاختفاء حتى إذا أعطى إليهم الإشارة شنوا عند ذلك الإغارة فانصاعوا لأمره وامتثلوا لما قام بفكره وبذلك صارت الطرق والشوارع كالأطلال البلاقع ودخل الإنكليز بلا ممانع ولا مدفع فظنوا أن الديار قد خلت من قطائها والمدينة قد خلت من سكانها ولم يعملوا أن الأسود رابضة في آجامها وأطيار المنايا تغني على أفنانها ولما ألقوا عصا التسيار وتفرقوا في أكنافها للاستراحة من الأسفار.

لم تمض برهة حتى انسكب عليهم هطال من الليوث لا من الغيوث ودهمتهم الأبطال فاضطربت أفكارهم وبهتت أنظارهم وما زال أهالي البلد يلبسونهم حللاً حمراء من نسج السلاح ويفتكون بهم فتكاً ليس بعده صلاح حتى فرقوهم أيادي سباً وجعلوهم يمعنون فراراً وهرباً وقد أوقعوهم في خسائر عظيمة ومصائب جسيمة وأسروا منهم أعداداً وافرة أرسلوا بها إلى القاهرة ولما وصل الأسرى إلى المحروسة حصل لأهالي القطر المصري جسارة عظيمة وتقدم والي مصر وقتئذ وهو الهمام الشهير محمد علي باشا الكبير بقوة إلى دمنهور لمحاصرة الإنكليز بالإسكندرية.

ولما علم الباب العالي خبر استيلاء الإنكليز على الإسكندرية أعلن الحرب عليهم إلا أنه لما لم يمكنه إرسال قوة برية من الآستانة إلى الإسكندرية عن طريق البحر لوجود العمارة الروسية راسية أمام بوغاز الدردنيل ودوننما الإنكليز بسكندرية أصدر أمره إلى والي صيدا والي كنج يوسف باشا بأن يقوما بالقوى اللازمة من جهة سور بالمساعدة الحكومة المصرية على أنهمة محمد علي باشا والي مصر لم تكن تحتاج لهذه المساعدة بالكلية لأنه لما تقدّم نحو دمنهور كما أسلفنا وحاصر الإنكليز في الإسكندرية في أواخر جمادى الثانية من السنة المذكورة تحققوا عدم طاقتهم على المقام بها.

ولذلك طلبوا مخابرة محمد علي باشا في إخلائهم لها تحت شرط أن يعيد أسرارهم كما أنهم يعيدون إليه الأربع سفن والبحرية العثمانية الذين كانوا استولوا عليهم يوم استيلائهم على الاسكندرية فلما تم ذلك أخلوا الثغر في أواسط رجب من تلك السنة ولما كان قطع العلائق مع الدولة العثمانية يضر بسياتهم انسحبت سفنهم من البحر الأبيض المتوسط ومن بحر الأرخبيل.

ولما علم السيد علي قبودان باشا بسفر المراكب الإنكليزية خرج بالدوننما لمحاربة العمارة الروسية الراسية أمام البوغاز إلا أنه ارتد مقهوراً بعد أن أظهرت جنوده من الإقدام والشجاعة ما اعترف به الأعداء ومع ذلك فإن الخسائر الجسيمة التي أصابت أساطيل الروسيا اضطرها للذهاب إلى جزيرة كورفو.

صعود محمد علي باشا على ولاية مصر 1219هـ:

لما تعين القبودان كوجك حسين باشا بالدوننما السلطانية لإخراج الفرانساويين من مصر أرسل مكتوباً إلى جورباجي مدينة قواله حسين أغا بأن يرسل ما لديه من الجنود فأرسل حسين أغا المذكور العساكر وكانوا مائتي نفس مع صهره محمد علي أغا فأنزلهم القبودان باشا المذكور بالسفن وأقلع يريد مصر وبعد تمام الفتح بقيت بديار مصر أكثر الطوائف العسكرية التي توجهت إليها من بلاد الأرنؤد والرومللي ومن ضمنهم محمد علي أغا المذكور وكان يتصف بالذكاء الفطري والاستعداد الغريزي للرياسة وإدارة أعمال الحكومة فأخذ يفكر في ذلك وإخراج تصوراته من القوة إلى الفعل بكل احتياط ودقة.

وما زال يسعى بجد ونشاط حتى حصل على مزية كبيرة وساعدته فرص الزمان والمكان فلم يمض زمن طويل حتى نال منصب سر جشمه وبنوا له هذا المنصب صار رئيساً على عموم كبراء عساكر البأس بوزوق وكان والي مصر إذ ذاك قوجه خسرو باشا يهتم بتنظيم وترتيب الإيالة ويسعى في تخليص مصر من عساكر الباش بوزوق لما أتوه من الأعمال الشريرة ولما أخبر رؤساء هؤلاء الجنود بضرورة عودهم إلى بلادهم قبلوا وامتثلوا.

إلا أنه لما لم يصرف لهم علوفاتهم بالتمام أظهر العصيان وشقوا عصا الطاعة وقتلوا الدفتردار رجائي أفندي واضطر خسرو باشا إلى الفرار ولقد كانت هذه الواقعة مبدأ للضغينة والعداوة بين محمد علي باشا وخسرو باشا المذكور وبعد فرار خسرو باشا سعى محمد علي أغا في القبض على زمام الحكومة المصرية من جهة أخرى أخذ يقاتل حنود الكولمان بكل قوته وبينما هو يدأب في محو الشقاق والفساد لإعادة السكينة للبلاد المصرية نصبت الدولة خورشيد باشا والياً على الديار المصرية فحضر إليها هو وحاشيته.

ولما كانت الدولة تميل لخلاص البلاد المصرية من الكولمان أخذ خورشيد باشا يساعد أعمال محمد أغا ويشجعه على ذلك إلا أن الوالي المذكور لما وقف على مسلك محمد علي أغا الحقيقي تشبث في إخراجه من الديار المصرية وسعى له حتى أسندت إليه ولاية مدينة جدة مع رتبة الوزارة إلا أن عساكر الباشي بوزوق تعصبوا لمحمد علي وأظهروا العصيان ثانية وحاصروا خورشيد باشا في قلعة القاهرة .

ولما وصل خبر هذه الحادثة إلى الآستانة خاف السلطان ورجاله من استمرار الفتن بمصر فدبر الوزراء حيلة وهي أنهم جعلوا السلطان يصدر فرمانين أحدهما بإبقاء خورشيد باشا في مركزه والولاية على ديار مصر والثاني بتعيين محمد علي باشا والياً على مصر أيضاً وعين أحد رجاله المدعو صالح بك لتوصيل هذين الفرمانين وأمرته الدولة بأنه متى وصل القاهرة أظهر ما رآه موافقاً ومناسباً من الفرمانين حسب الظروف ولما وصل المأمور المذكور ورأى أن الأهالي يضادون خسرو باشا أظهر فرمان تولية محمد علي باشا وتلاه بالصفة الرسمية بحضور العلماء والأعيان والجنود وبذلك استتب الأمن وارتقى المرحوم محمد علي باشا على ملك مصر من ذلك اليوم بما أظهره من الحزم والجد والنشاط وبما وهبه الله من عظيم الصفات وحميد الخلال اللازمة لأعاظم الرجال وأكابر الأبطال وسنأتي على أخبار محمد علي باشا مفصلة بالجزء الثاني إن شاء الله تعالى.

الإصلاحات بالدولة ووقوع الفتنة 1222هـ:

اعلم أنه بينما كانت الحروب قائمة بين العثمانيين والروسيين دخل والي ولاية بوسنة بجيشه إلى إقليم الصرب ومنع ثائريه من الالتحاق بالجيش الروسي وفي سنة 1221هـ هزم قاسم باشا محافظ إسماعيل جيش الروسيا ومنعه من التقدّم وفي 26 محرم من سنة 1222هـ خرج القبودان السيد علي باشا بدوننما مؤلفة من سفينة حربية إلى بوغاز الدردنيل لمقابلة الدوننما الروسية التي كانت تحاصره تحت قيادة الأميرال سينياوين (Siniawin) فحمل عليها القبودان باشا المذكور في أواخر ربيع الثاني بدون احتراس واستعمل في هجمه الطريقة القديمة التي تستعملها سفن قرصان أوجاقات الغرب المخالفة لفن حرب الوقت المذكور فأسقط الريح سفنه خلف سفن العدوّ فتمكّن منه الأميرال الروسي وأسر سفينة وكيله أبي بكر بك وخرب وأحرق بعض السفن الأخرى فاضطر القبودان باشا للنجاة بباقي سفنه إلى داخل البوغاز.

ثم اتهم القائد الثالث شره مت بك شيرمرد وبعضاً من رؤساء السفن بالتقصير ليتخلص من العار وينجو من العقاب وقد كان وعفا عنه السلطان وأمر بقتل شره مت بك ومن نسب إليهم التقصير ظلماً مع أنهم ممن اشتهروا في خدمة الدولة بالصداقة.

ولما كانت سفن الروسيا أصابتها أيضاً خسائر جمة أقلع بها الأميرال إلى كورفو من جزر اليونان ليتمكن من إصلاحها وبذلك تخلص البوغاز من محاصرة الأساطيل الروسية وقد عدّ المرحوم جودت باشا ذلك انتصاراً لا انكساراً لهذا السبب ثم استعد الجيش السلطاني بصحراء داود باشا لملاقاة الأعداء وتعين خورشيد أحمد باشا سر عسكراً على جهة صوفية ووجهت إليه ولاية الرومللي ومحافظة مدينة نيش وتعين إدريس باشا محافظاً لواردين وولي الدين باشا لولاية موره.

وتعين محمد باشا الولاية قارص وأرسلت الدولة المهمات والجيوش إلى شاطىء الطونة تحت قيادة الصدر الأعظم مصطفى باشا حلبي ومصطفى باشا البيرقدار وكان المارشال ميكلوسون القائد العام الروسي قد زحف بجيش مؤلف من خمسين ألف مقاتل على مدينة بخارست ولما دارت رحى الحرب تمكن العثمانيون من منع الروس عن التقدّم على الأراضي العثمانية.

هذا وفي تلك الأثناء كان السلطان سليم يبذل الجهد في تنظيم العساكر على الطريقة الجديدة الأوروباوية لإلغاء وجاق اليكجرية.

ولما كانت هذه الإصلاحات من أكبر المصائب بالنسبة لليكجرية هاجوا وماجوا واعتصبوا في داخل استانبول وكان يساعدهم على أفكارهم العقيمة المضرة بحالة الدولة كثير من رجالها خلاف السواد الأعظم من الأهالي وكان عطاء الله أفندي شيخ الإسلام وكذا قائمقام الصدر الأعظم موافقين لأهل الثورة في الرأي يحرضانهم سراً حيث رسخ في أذهانهم أن النظام الجديد طريقة إفرنجية وإن من تشبه بقوم فهو منهم.

ولما قويت هذه الحجة الواهية في صدورهم قالوا جميعاً هيا بنا نلاشي النظام الجديد وننتقم من الوزراء الذين أفسدوا الدين بأفعالهم الشنيعة فأخذوا ينهبون ويقتلون وكان المفتي عطاء الله أفندي أعطاهم كشفاً بأسماء بعض كبار الدولة لقتلهم فأخذوا يتلونه ويفتشون على أولئك الرجال فوجدوا البعض منهم فقتلوه واختفى كثير.

وقيل إنهم قطعوا 17 رأساً من بين أكابر رجال الدولة ولم يقفوا عند هذا الحد بل صمموا على طلب السلطان سليم والقبض عليه لخلعه وصاروا يجاهرون بأقوال تهكمية كقولهم يا أيها السلطان المغشوش بهذه التعاليم أنسيت أنك أمير المؤمنين وعوضاً عن اتكالك على الله القادر العظيم الذي يبدّد بقدرته الجيوش الكثيرة أردت أن تشبه الإسلام بالكفار.

ومثل ذلك من الأقوال وأرسلوا شيخ الإسلام عطاء الله أفندي المذكور للسلطان سليم ليكلفه بالتنازل بلا مقاومة فدخل عليه متذللاً منخفض الرأس قائلاً يامولاي قد حضرت بين يديك برسالة محزنة أرجوك قبولها لتسكين الهيجان وليس يخفى على عظمتكم أن عموم العساكر اليكجرية نادوا باسم السلطان مصطفى ابن عمك سلطاناً عليهم ولا سبيل إلى المقاومة فالتسليم لأمر الله أوفق وأسلم من كل شيء فأظهر السلطان تجلداً ولم تبد عليه علامات الكدر من هذ الحديث بل قبل كلام الشيخ وتنازل عن السلطنة يوم 21 ربيع الأول من سنة 1222هـ-1807م وجلس بعده السلطان مصطفى خان.

وكان السلطان سليم رحمه الله سليم الطبع كريم الأخلاق محباً للمعارف والعلوم ونشرها في المملكة على الطريقة الأوروباوية الحديثة لأنه كان يعلم أنها هي الواسطة الكبرى لتأمين انتظام الحكومة وتكثير منابع الثروة والرفاهية.

السلطان مصطفى الرابع ابن السلطان عبد الحميد الأول1222 -1223هـ:

أحوال دار الخلافة:

جلس هذا السلطان على التخت وعمره 29 سنة ولما كانت أحوال العاصمة في اضطراب شديد سلك مسلكاً يخالف مسلك من سلفه لأن أصناف العساكر اضطرته لأن ينبذ الاصطلاحات الجديدة النافعة التي كانت أدخلت ويعيد الأصول والمراسيم والعوائد القديمة وبذلك تأخرت الدولة في طريق التقدّ نحو نصف قرن آخر.

وفي مدة حكمه القصيرة التي بلغت أربعة عشر شهراً كانت مداخلات الجنود الثائرة في إدارة الحكومة تتزايد يوماً عن يوم حتى أصبحت الحالة قريبة من الفوضى وقد اغتصب القائمقام موسى باشا أموال الذين قتلوا في الثورة.

ولما علم أمره أقبل من منصبه ونفى إلى بروسه وبعد عشرة أيام من ذلك عزل أيضاً شيخ الإسلام عطاء الله أفندي لتحريضه الثائرين على أفعالهم القبيحة فهاجت عند ذلك الجنود وتشيعوا له وأجلسوه في منصبه ثانية فطغى واستبد فازدادت الأحوال تكدرا وقد كان وصول خبر خلع السلطان سليم إلى إمبراطور فرانسا نابليون الأول وقت فوزه على قيصر الروسيا وعقده معه معاهدة تلسيت (Tilsitt) الشهيرة.

وتداخل نابليون في الصلح حتى عقدت هدنة بين الدولة العلية والروسيا ثم انسحبت الجيوش من حدود المملكتين وعادا الجيش السلطاني إلى أدرنه لأن تلك المهادنة صارت صلحاً دائمياً ثم إن نابليون غير بعد ذلك سياسته مع الدولة وتعاهد سراً مع الروسيا على تقسيم الممالك العثمانية بينهما بمعنى أن فرانسا تأخذ بوسنة والبانيا ويانيا وموره وتساليا ومقدونيا وتأخذ الروسيا الإفلاق والبغدان والبلغار والرومللي وتعطي الصرب للنمسا ولما شاع هذا الأمر أرسلت الدولة سفير إلى نابليون يدعى محب أفندي للمفاوضة معه واستطلاع نواياه نحوها.

موت السلطان سليم:

اعلم أن مصطفى باشا البيرقدار المتقدّم الذكر وإن كان أمياً إلاَّ أنه كان جريئاً جسوراً سليم العقل كريم الخلق ذا حمية ووطنية أظهر في حروب الروسيا الأخيرة من الشجاعة والإقدام ما جعله معدوداً من أعاظم الرجال وقد أنعم عليه السلطان برتبة الوزارة ووجه إليه ولاية سلسترة ولما كانت مقادير الرجال لاتقدّر قيمتها وقت الاختلالات والاضطرابات وكثيراً ما قاومهم الحساد وقع بينه وبين الصدر الأعظم جلبي مصطفى باشا نفور ثم تصالحا وعاد إلى روسجق ولما دعيا إلى استانبول امتنعا من مبايعة السلطان مصطفى وسعياً في إرجاع السلطان سليم إلى كرسيه ثانية لميلهما إلى سياسته ولما أحس السلطان مصطفى بذلك بعث أناساً فخنقوا السلطان سليم وأرسل آخرين لخنق أخيه الأمير محمود.

إلا أن مصطفى باشا البيرقدار تدارك الأمر وأرسل من طرفه أناساً أحضروا الأمير محمود عنده لحمايته من كل من يريد به شراً ونادوا في الحال بالسلطان سليم إلا أنهم لما علموا بموته أرسل مصطفى باشا في الحال جماعة من طرفه فقبضوا على السلطان مصطفى وخلعوه وأجلس السلطان محمود على كرسي السلطنة وسنه 24 سنة.

السلطان محمود الثاني ابن السلطان عبد الحميد1223-1255هـ:

صدارة البيرقدار وفتنة اليكجرية :

لما بويع السلطان محمود بالخلافة عين في الحال مصطفى باشا البيرقدار لمسند الوزارة وعرب زاده عارف أفندي للمشيخة الإسلامية ولما رأى ديوان الشورى أن بقاء السلطان مصطفى في قيد الحياة يكون سبباً للفتن والقلاقل التي أودت بالدولة إلى دركات الضعف أقروا على قتله فقتلوه خنقاً وكان ذلك على غير إرادة السلطان محمود ثم إن الصدر بحث عن جميع الأشخاص الذين لهم يد في قتل السلطان سليم وأعدمهم عن آخرهم ونفى شيخ الإسلام السابق عطاء الله أفندي ومن على شاكلته من قضاة العساكر.

ثم التفت إلى معانديه ونكل بهم فخلا له الجوّ وقبض على زمام السلطة وشكل الوزارة من رجال اشتهروا بالإخلاص والميل له ثم وجه همته لاستئصال المفاسد التي فشت بين طائفة اليكجرية وهو عمل من أصعب الأعمال وأشدها خطر لأنه كان السبب في فشل كثير من الوزراء قبله ولما عزم على ذلك عقد مجلساً حافلاً دعا إليه جميع الباشاوات والأعيان ولما كمل عددهم عرض عليهم ضرورة إصلاح فرق اليكجرية بشرط عدم ملاشاتها لأنهم صاروا إلى حالة سيئة من الاختلال والجهل بفنون الحرب.

وعرض لذلك عدة طرق من شأنها أن تعيد لهذا الجيش قوته السابقة ومهابته القديمة مستنداً في ذلك على ضرورة إنشاء جيش منظم يعادل جيش الأوروبا وبين ثم قال لم يعد عند أحد من التعظيم والتجلة لجيش اليكجرية المجيد قدر ما عندي له من ذلك وأنثى أفتخر بتبعيتي لهذا الجيش الذي إذا لم تلحقه عوامل التطرف المضرة ولم يغير النظامات التي سنها له حاجي بكتاش لصار لايقهر الآن كما كان في السابق وصارت الوظائف بدل أن تعطى حسب الاستحقاق والشجاعة صارت تباع وتشرى وأصبحت الثكنات مأوى للذين لامأوى ولا صناعة لهم أو للأنذال يفرون من الشغل.

وقد ساد الاختلال وعمت القبائح المخجلة جميع فرقهم ونسوا التمرينات التي حتمتها عليهم قوانين وأوامر السلطان سليمان وأن اليكجرية المستعملين في الحفظ والحراسة صاروا يبتذون أموال الرعية ونبذوا أمر الاشتغال بالمحافظة على الأمن ظهرياً وليست نتيجة ذلك إلا الجهل بالفنون العسكرية وعدم الانتظام حتى عدمت منفعة جيش كان مدة قرون الفخر للدولة والعز للملة بحيث كانت الدنيا تعد منه خوفاً.

وصار أعاظم العلماء والقضاة يدفعون أجور مخدوميهم من خزينة اليكجرية وكثيراً ما ترى عدّة جوامك ونفقات سرية تعطية لشخص واحدة لم تسبق له خدمة بين الجنود أصلاً أو لم يحمل السلاح للمدافعة عن الدين والدولة مطلقاً وقد أخذ ضباط اليكجرية يتعاملون معاملة مخجلة بيعاً وشراء في أوراق مرتبات الجنود بمساعدة بعض المرابين من اليهود بحيث أنهم يحرمون في الغالب بما يأخذونه من الربا لفاحش الجندي الغيور المحافظ على واجباته من المرتبات التي منحتها له الحكومة مكافأة لاتعابه وتأميناً لمعيشته وإن مولانا السلطان الذي يصرف همته ليعيد لهذه الدولة مجدها السابق وسطوتها القديمة يشعر أنه من المهم العودة للنظامات الحربية القديمة التي أعلت شأناً الدولة وقد كلفني بأن أبلغكم نواياه.

ثم عرض الوزير على الهيئة إجراء الأمور الآتية وهي :

أولا:ً إبادة عادة بيع الوظائف.

ثانياً : تكليف جميع اليكجرية الغير المتزوّجين بسكنى الثكنات.

ثالثاً : أن لا تدفع جامكية إلا لليكجرية الذين في الثكنات المؤدين للخدمة بالفعل.

رابعاً : أن يمنع بيع الجامكية مطلقاً إلا في أحوال خصوصية وإن من خالف ذلك يعاقب عقاباً شديداً.

خامساً : أن يضبط جدول المخصصات العمومي التي تدفع من خزينة اليكجرية.

سادساً : أن يجبر اليكجرية على إجراء التمرينات التي سنها السلطان سليمان وأن يكونوا خاضعين لنظام دقيق.

سابعاً : أن يؤمر في الحال باستعمال الأسلحة الجديدة والتعبية التي يستعملها الأوروباويون بين جميع الجنود العثمانية وهي أعمال إباحتها فتاوى المفتين.

ومع ذلك فإنه خوفاً من أن إلغاء هذه القبائح والاختلالات وإعادة النظام القديم مرة واحدة ربما أحدث عوائق مهمة أقر مولانا السلطان على أن ينتخب من بين اليكجرية الأقوياء ومن غيرهم من شبان المسلمين المقيدين في ديوان الجيش العدد الكافي لتنظيم فرقة لقتال الفرنج ويكون نظامها كنظام اليكجرية السابق ويكون لها في تمريناتها وترتيباتها في القتال وفي وجودها بالثكنات ما للجيوش الأوروباوية من النظام الذي جعله فن الحرب الحديث من الضروريات.

فأقر المجلس باتحاد الآراء على هذه الأفكار وصدّق عليها كتابة وأقرها شيخ الإسلام بلا صعوبة وخرجت بها الفتوى.

والحاصل أن الأحوال تمشت كما يحب البيرقدار ويشتهى.

استئناف الحرب بين الدولة والروسية :

وفي سنة 1225هـ-1810م خرجت الدوننما العثمانية إلى البحر الأسود وقبضت على سفينة روسية ولما وصلت إلى وارنة اضطر الجيش الروسي الذي كان يريد حصارها أن ينصرف عنها وبسبب ما كانت عليه أساطيل العثمانيين في ذلك الوقت من الاختلال والضعف كانت قرصان الروسية تتعرض لها في الطريق وتحاربها ثم عادت في فصل الخريف ولم تجر عملاً ما وفي سنة 1226هـ تعين قر محمد باشا قبودانا للدوننما وبموته تعين حسر ومحمد باشا وهو كرجي الأصل وخرج بالدوننما سنة 1227هـ إلى البحر الأسود وكانت العمارة الروسية تطوف حول شواطىء بلاد الكرج فبقيت الدوننما العثمانية تتردّد بين سواحل سينوب ومضيق البوسفور ولم تتعرض إحدى العمارتين للأخرى.

أعمال الجيش العثماني ومعاهدة بكرش 1227هـ:

كان القائد للجيوش العثمانية في هذا الحرب هو الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا تعين بعد وفاة البيرقدار مصطفى باشا فلم يمكنه منع العساكر الروسية من التقدّم فاستولوا على مدن إسماعيل وسلسترة وروسجق وجهات نيكوبولي وبزارجق وهزارغراد في سنتي 1225-1226هـ ولذلك اتهموا ضيا باشا بالتهاون فعزل وصودر ونفى إلى ديمتوقه ووجهت الصدارة إلى لاز أحمد باشا ولما قاد الجيوش الرومللي وكانت 65000 ألف مقاتل هاجم الروس 1227هـ وألزمهم القهقري وإخلاء روسجق بعد أن خربوها وأحرقوها وفي خلالها أرادت فرانسا التوسط في الصلح فرفض السلطان محمود مداخلتها لأنه غضب جداً من المعاهدة التي عقدها نابليون مع قيصر الروس إسكندر الأول في تلسيت.

وكان من بنودها المشاركة في تجزئة البلاد العثمانية كما تقدم واستمرت الدولة تحارب الروسيا على غير فائدة لهزيمة جيوشها وبينما كانت الحالة وخيمة العاقبة على الدولة من كل صوب إذ أتاها الله بالفرج فتعكر كأس السياسة بين نابليون الأول وبين دولة الروسيا لعدم قيامها بتنفيذ بعض شروط معاهدة تلسيت التي كان من مقتضاها أن الروسيا تعاكس وتمانع تجارة الإنجليز بغلق أبواب ثغورها عليها وإشهار عليها الحرب 1227هـ-1812م .

وسار بجيوش جرارة وقوة هائلة إلى بلاد الروسيا فالتزمت الروسيا عند ذلك أن تسحب أكثر جيوشها من الحدود العثمانية وسعت في مصالحة الدولة وعينت الدولة غالب أفندي كتخد الصدر الأعظم وغيره مندوبين عنها بعثتهم إلى مدينة بكرش أي بخارست وهناك عقدت المعاهدة المسماة بمعاهدة بكرش في 17 جمادى الثانية 1227هـ-1812م .

كانت موافقة جداً للدولة العثمانية بمقتضاها بقيت الإفلاق والبغدان تابعتين لها كما كانتا وكذا بلاد الصرب مع بعض امتيازات ولم تم الصلح وعادت الجيوش عادت العمارة العثمانية أيضاً إلى استانبول وقد اغتنم السلطان محمود الثاني فرصة الصلح وأخذ يهتم في تسكين الثورات القائمة بولايتي بغداد وأيدين وغيرهما وإتمام المشروعات الحسنة والتعليمات الجديدة التي كانت بدأ فيها السلطان سليم خان الثالث وأوقفه عن إتمامها ثورة اليكجرية وحرب الروسيا.

yacine414
2011-03-18, 16:37
حادثة ساقز:

إنه في يوم الثلاثاء 28 رمضان من سنة 1237هـ-1822 بينما كانت الدوننما العثمانية التي تحت قيادة نصوح زاده علي باشا راسية أمام جزيرة ساقز حضرت سفينة حربية رافعة راية نمساوية ورست بعيداً عن الدوننما ونزل قبودانها لزيارة القبودان باشا كالأصول البحرية فقابله في سفينته وفي أثناء محادثتهما معاً أخبر قبودان السفينة النمساوية القبودان باشا بعزمه على القيام غداً وبعد خروجه حضر بين يدي القبودان باشا التلامذة المهندسون الذين بسفينته وقالوا له أنهم مشتبهون في شكل وهيئة هذه السفينة النمساوية ويلتمسون أنه يأمر بكشف حقيقتها حسب أصول البحر وقواعده خصوصاً في أزمنة الحروب هذه فلم يلتفت لقولهم ولم يهتم به أصلاً.

وعند غروب ذلك اليوم أقلعت السفينة المذكورة بسرعة فوقع الشك عند جميع ضباط العمارة العثمانية لأن ربانها خالف بذلك ما قاله للقبودان باشا من قيامه في صباح اليوم التالي ولذلك قابلوا القبودان باشا وطلبوا منه الأمر باستعداد العمارة للمدافعة ليكونوا في أمن مما عساه أن يحدث من مكايد الأشقياء فقال لهم أنكم رجال خوافون لأن العدوّ إذا كان ناراً فلا يحرق إلا على قدره فسكتوا عند ذلك وتحققوا أن تلك السفينة لم تكن إلا يونانية محضة أتت لاختبار حالة العثمانيين ومعرفة موقع سفينة القبودان باشا وموقع بقية سفن الدوننما أثناء وقوفها ولما تم لها ذلك أقلعت كما تقدم ولقد تأثر قبودانات الدوننما العثمانية من غفلة القبودان باشا وعدم تبصره في العواقب وسرت هذه الغفلة إليهم هم أيضاً فلم يهتموا حسب الواجب عليهم في التيقظ والانتباه لما عساه يحدث من المكايد بل ألقوا أجسادهم على مهاد الدعة والسكون.

ولما كانت الساعة السادسة ليلاً لم يشعروا إلا وحراقات اليونان التصقت بالدوننما العثمانية وألقت النار بغليون القبودان باشا وحل الخوف والذهول بباقي قبودانات السفن حتى إنها لم تبد أقل حركة لإنقاذ سفينة القبودان من الهلاك ثم سرت النار منها إلى سفينة أخرى كانت تحت ريح الأولى وعند ذلك نشرت بقية السفائن أشرعتها وابتعدت عن السفينتين الملتهبتين.

ولما يئس القبودان باشا مع ما بذله من المجهود نزل في زورق يريد النجاة إلا أن النيران كانت وصلت إلى مخزن بارود السفينة فتفرقعت وطارت في الهواء قطعاً ووقعت قطعة ملتهبة منها على زورق القبودان فأغرقته بمن فيه وهكذا ذهب القبودان فريسة جهله وعناده وقد وجدت جثته طافية على الماء فاستخرجت ودفنت بجزيرة ساقز.

وكان هذا نهاية هذه الحادثة الني نتجت من عدم التبصر والتدبر في الأمور وخسرت الدوننما غليوناً من الغلايين المهمة وبعد موت القبودان باشا خلفه في مسند القبودانية العامة مختار بك بأمر من وحيد باشا لحين صدور أمر من الدولة ثم تعين قره محمد باشا وكان سر عسكراً على الجيش الموجود بالسفن المتجولة بجهات بالوباردة وتعيين مختار بك قبوداناً للسفن المصرية وسفن وجاقات الغرب وأمر بالذهاب إلى جزيرة كريد بعد أن يرافق العمارة العثمانية إلى مياه بالو باردة ويسلمها إلى القبودان باشا ليضمها إلى السفن الموجودة تحت إدارته ولما تعين قره محمد باشا لمسند القبودانية العامة لم يلتفت إلى الجهات الواقع فيها العصيان ولم يهتم بأحوالها ولم يمد أيضاً قلعة أنابولي بالمدد الذي يحفظها بل تركها هي والسواحل في أشد الحصار ورجع بالدوننما إلى بوغاز الدردنيل فعزل لنذالته وعدم كفاءته 1238هـ وتعين مكانه محمد خسرو بابا والي طرابزون.

مشارطة أفكرمان ربيع الأوّل 1242هـ:

لما عقدت الروسيا مع الدولة معاهدة بكرش السابقة كانت الظروف اضطرت الروسيا إلى سرعة الاقرار عليها النقل جيوشها من حدود الدولة إلى حدودها الغربية ولذا كانت بعض أحكام المعاهدة المذكورة تحتاج إلى التفسير والإيضاح ولما مات اسكندر قيصر الروس وصعد مكانه نيقولا الأوّل ورأى أن الدولة مشتغلة بمسائل اليونان وغيرها انتهز فرصة ذلك لنوال مرغوبه سافر من الآستانة.

ولما كانت الدولة وقتئذ مشتغلة بثورة اليونان من جهة وبمحو أوجاق اليكجرية من الأخرى خشيت حدوث ارتباكات مع الروسيا فقبلت المخابرة معها التفسير ما انبهم معناه من بنود المعاهدة المذكورة وعينت من قبلها مرخصين وهما هادي أفندي محاسبجي الأناضول وإبراهيم عفت أفندي من الموالي وأرسلتهما إلى آفكرمان وهناك تقابلا مع مندوبي الروسيا وبعد مذاكرات طويلة أقروا على توسيع بنود المعاهدة المختصة بحدود الأناضول وبامتيازات المملكتين والصرب على أن يجوز تنصيب أميريهما من أعاظم أهاليهما لمدة سبع سنوات ومتى عزلا أو نصبا كان للروسيا حق المشاركة في الرأي وعليهما دفع الخراج المضروب للدولة وأنه ليس للروسيا حق المداخلة في أمر سكنى الأهالي الإسلامية في القلاع ولا في إدارة داخلية الايالات المذكورة 1826هـ وأن يكون لروسيا حرية الملاحة في البحر الأسود.

إبادة أوجاق اليكجرية وتنظيم العسكرية :

لما تيقن السلطان أن السبب الوحيد في انحطاط الدولة هو أجوقات اليكجرية لتمردهم وطغيانهم وعتوهم وتجبرهم وممانعتهم لكل أمر جديد يعود على الدولة بالاصلاح والتحسين كما مر بك بعضه شرع في سنة 1241هـ في تعليم عساكر جديدة على القاعدة الحديثة الأوروباوية وأخذ من ذلك اليوم يفكر في تدمير اليكجرية وإبادة أوجاقهم ولذلك أصدر منشوراً سلطانياً يتضمن القدح في أعمالهم عدّد فيه ما ارتكبوه من الفظائع وقتلهم لبعض السلاطين ظلماً وطغياناً فلما بلغ اليكجرية ذلك هاجوا وماجوا وتمردوا وهجموا على بيت الصدر سليم باشا وبعض الوزراء وأخذوا ينادون في الشوارع بجواز قتل العلماء ورجال الدولة وكل من له يد في وضع النظام الجديد وأخذوا يقتلون كل من صادفوه وينهبون ويحرقون.

وقد تمكن الصدر من الفرار والتجأ إلى السلطان وعرض عليه الكيفية فأمر بجمع طوبجية العسكر الجديد وإرسالهم على اليكجرية وأن يدعو الناس للاجتماع أمام السراي فاجتمع خلق كثير من علماء وقواد وضباط وأعيان وغيرهم وخرج السلطان إليهم وأخذ يخطب فيهم محرضاً مثيراً نخوتهم فأقسم الجميع على القيام بتنفيذ أوامره ثم أخرج البيرق الشريف فاجتمع حوله خلق لا يحصون عدداً ووزع عليهم الأسلحة وسلم البيرق لشيخ الإسلام قاضي زاده طاهر أفندي وكان السلطان همّ بالمسير بنفسه لولا ممانعة الوزراء له في ذلك وكانت اليكجرية تجمعت للمقاومة ثم سار الصدر الأعظم سليم باشا أمام تلك الجموع التي كانت تزيد عن 60000 نفس وهاجموا اليكجرية مكبرين وأطلقوا عليهم البنادق والمدافع فقتلوا منهم عدداً كثيراً وهرب الباقي وتحصنوا في ثكناتهم فحاصرهم الصدر وأشعل النار فيها فاحترق منهم أيضاً خلق كثير وتشتت الباقي في كل صوب وأصدر السلطان الأوامر إلى جميع الجهات بقتل كل من وجد منهم فقتلوا منهم عدداً كثيراً أيضاً وارتاحت الدولة من شرورهم.

ولما كانت طائفة البكتاشية تتحزب إلى أولئك الجنود وكان غالبهم من أتباع هذه الطائفة أصدر السلطان أمره بهدم تكاياهم التي كانت منابع لأشنع المحرّمات والقبائح وأخذ الموكلون بذلك يطاردونهم حتى أبادوهم تقريباً قتلاً وتشريداً فتفرقوا في الجهات الأخرى وهدموا لهم أشهر تكاياهم ولما كان السلطان محمود يرغب رغبة شديدة في إدخال ما يوافق من النظامات الأوروباوية غير ملبوسه وتزيا بزي العسكر الجديد وأبدل العمامة بالطربوش فكان أول من فعل ذلك من سلاطين آل عثمان.

محاربة الروسيا ومعاهدة ادرنة 1245هـ:

لما كانت المناسبات السياسية بين الدولة والروسيا تزداد تعقيداً من يوم إلى يوم خصوصاً من بعد واقعة ناوارين لتعصبها لليونان تعصباً شديداً ارتبكت الأحوال بينهما ارتباكاً شديداً بحيث لم يمض يوم 11شوّال سنة 1243هـ-1828م حتى أعلنت الروسيا الحرب على العثمانيين انتصار لأهالي موره وسيرت جيوشها إلى شواطىء نهر الطونة وبلاد الأناضول فاضطّرت الدولة العثمانية مع ما هي عليه أن تسوق جنودها أيضاً لمصادمة عدوّتها تحت قيادة سليم باشا الصدر الأعظم ثم حصل بين الجيشين حروب شديدا استظهرت فيها جيوش الروسيا حتى التزمت الجيوش العثمانية أن ترجع القهقرى.

واستولى الروس على وارنة بخيانة قائد الجنود بها وهو يوسف باشا ومع ذلك فقد تمكن القبودان باشا الذي كان راسياً بمينا تلك المدينة من استرداد قلعتها بعد خروج العسكر منها ولم يكن معه إلا ثلاثمائة من الشجعان فقط ولما علم القيصر بهذه الشجاعة الغريبة منح الفاتحين حرية الذهاب وفي أثناء خروجهم أدّت إليهم العساكر الروسية التعظيمات الواجبة تلقاء ما أظهروه من الشجاعة أما يوسف باشا فقد حكم عليه الباب العالي بالإعدام جزاء خيانته.

ومع ذلك فإن هذا النذل ذهب إلى بلاد الروسيا وتمتع بالأموال التي نالها من الروس واتهم الباب العالي الصدر الأعظم بالإهمال وعدم الاهتمام قصداً فلذلك عزله السلطان محمود وأمر بنفيه ووجهت مسند الصدارة إلى عزت محمد باشا وساقت الدولة جنوداً أخرى إلى جبال البلقان فتحوّل الروس عن محاصرة شوملة قهراً عنهم وكانوا قد استولوا على سليسترة هذا بالرومللي أما بالأناضول فكان الروس يتقدمون بلا مقاومة تذكروا واستولوا على قلاع قارص وبايزيد وطبراق قلعة وارضروم وأسروا القائد صالح باشا وتقدم جيش روسي في الروم ايلي يبلغ عدده ألف مقاتل وحاصر قلعة ادرنة ثم استولى عليها وكان بها من الحامية نحو عشرة آلاف وكان القيصر هو القائد العام للجيوش الروسية وقد جعل مقامه بمدينة بازارجق.

ولما رأت دولة النمسا أن انتصار الروس مضر بسياستها عرضت على فرانسا وانكلترة المداخلة لحسم الحرب فقبلت انكلترة ذلك أما شارل العاشر ملك فرانسا فإنه عارض معارضة شديدة في المداخلة بين المتحاربين وذلك لأن عائلة البوربون كانت تريدأن تخرج الانكليز من البحر الأبيض المتوسط وتستولي على جميع الساحل الأيسر من نهر الرين ولكي تصل إلى مرغوبها هذا أظهرت الميل والمساعدة للروسيا ولم تمانعها في حرية سيرها نحو الآستانة.

وفي أثناء هذه الوقائع البرية والهزيمات التي لحقت بالعساكر العثمانية لم يحصل من العمارة التي بقيت للعثمانيين أقل حركة حربية للنقص الذي حصل بها من واقعة ناوارين السابق ذكرها ولهذا خلا الجوّ للعمارة الروسية التي كانت تتركب من 16 غليوناً وكثير من الفراقيط وأخذت تتجوّل في البحر الأسود بلا رقيب ولا معارض حتى حاصرت وارنة بحراً وساعدت جيوش دولتها على الأعمال الحربية ثم شرعت في نقل الذخائر والمعدّات إلى الجيش الروسي الذي تجاوز جبال البلقان والتحقت به بمينا بورغاز الواقعة بين وارنة وبوغاز البوسفور على سواحل الروم إيلي وكانت هذه المساعدات التي حصلت من الدوننما الروسية لجيوشها في تلك الوقائع سبباً لكبير السرعة وحركات جيش الروسيا وتقدمها نحو دار الخلافة العثمانية.

ثم لما تحقق السلطان عدم اقتدار الصدر الأعظم عزت محمد باشا عزله في رجب سنة 1244هـ ووجه مسند الصدارة إلى رشيد محمد باشا الذي اشتهر في محاربات موره وفي خلال ذلك كان الجنرال باسكيه ويج (Paskievitch) قومندان جيش القوقاز يتقدّم على أرضروم ولما تحققت الدولة أن غالب باشا والي أرضروم وسر عسكر الشرق لا يمكنه المدافعة ولا صد الروس لضعف قوّته مالت لعقد الصلح وعزلت باشا المذكور وولت مكانه كيتلى صالح باشا.

ولما كانت الدولة لا تتمكن وهي في هذه الحالة من إمداد جنودها الذين ببلاد اليونان تغلب الثوار عليهم بما وصل إليهم من الامدادات الأوروباوية بين رجال وأموال وذخائر فاستردّوا جميع المدن التي احتلتها الجنود العثمانية.

والحاصل أنه لما اشتد الأمر على رجال الدولة والسلطان محمود اضطربت الأحوال اضطراباً كثيراً واختلت أمور الدولة جدّاً وساد الضعف والفساد وخيف على دار الخلافة من الروس إلا أن السلطان محمود أظهر الثبات وقوّة الجنان في وسط تلك الأخطار المحدقة به وبدولته ثم تداخلت بعد ذلك دول أوروبا في الصلح فقبله الطرفان وعقدت بينهما معاهدة أدرنة في 25 ربيع الثاني سنة 1245هـ-1829م وكانت شروط المعاهدة تشتمل على ما يأتي وهي

أن يبقى نهر بروت حداً فاصلاً للدولتين بأوروبا.

وأن تستولي الروسيا على مصبات الطونة.

وأن يكون لها حرية الملاحة في البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط وتستولي على بوتي وعلى الجزء الأعلى من مصب نهر خور بآسيا وكان هذا الشرط الأخير يفصل الدولة العثمانية عن الأمم الحربية الساكنة ببلاد القوقاز ويسبب خضوعهم إلى الروسيا.

وأن تبقى امتيازات المملكتين وتتأكد وينتخب حكامها مدة حياتهم ولا يمكن عزلهم إلا في أحوال مخصوصة وبمرضاة الروسيا.

وأن يمنع جميع المسلمين من سكنى المملكتين وقد أعطيت لهم مهلة قدرها ثمانية عشر شهراً ليتمكنوا من بيع أملاكهم أما بلاد الصرب فإنها تبقى على ما عينته معاهدة قرمان.

وأن يدفع الباب العالي تعويضاً حربياً قدره 125,000,000من الفرنكات في مدة عشر سنوات ويدفع أيضا 16,000,000ً لتجار الروس على ما أصابهم من الخسائر مدة الحرب.

وأن تخرج الجنود الروسية من أدرنة بعد أن تدفع الدولة القسط الأوّل.

وأن تذهب خلف جبال البلقان بعد دفع القسط الثاني وتعبر نهر الطونة بعد دفع القسط الثالث.

وأن تحتل الروسيا بلاد المملكتين احتلالاً عسكرياً حتى تدفع الدولة جميع ما بقي من الأقساط السنوية.

وأن يصدّق السلطان على معاهدة لوندرة وعلى البروتوكول الذي حرّره الدول الثلاثة أعني انكلترة والروسيا وفرانسا وبعد ذلك بعدّة شهور أي في سنة 1830م اعترف الباب العالي باستقلال اليونان استقلالاً تاماً وأقرّ على الحدود التي عينتها الدول وكانت هذه المملكة الحديثة تشتمل في أوّل تشكيلها على جزائر سيكلادة ونغربونت وموره وفي القارة كانت تحدّ بخط وهمي يمتد من خليج أرطة إلى خليج فولو وهو الفاصل لها في أراضي الدولة وهذا الحد الغير المعقول الذي سبب فيما بعد عدة منازعات ومخاصمات قوية كان السبب في تحديده بهذه الصفة انكلترة والنمسا قصدا لايجاد النفور المستمر بين الدولة والروسيا.

أوجاقات الغرب واستيلاء الفرنسيس على الجزائر :

قد سبق ذكر الحالة التي كانت عليها أوجاقات الغرب مفصلاً في أخبار الجزائر وتونس وطرابلس وما كانت تفعله سفنهم من أعمال التلصص في البحر المتوسط الأبيض وغزوها لسفن تجاردول أوروبا وسطواتها المتكررة على سواحل ايطاليا واسبانيا وجزائر صقلية وسردينيا والحروب التي وقعت بينها وبين كثير من أساطيل الدول الأجنبية إلى أن آل الأمر لاستيلاء فرانسا على جزائر الغرب 1247هـ-1830م مدّة ولاية الداي حسين باشا لجهله وظلمه وعتوّه.

وكانت أوروبا تقدمت في ذلك الزمن باختراعاتها الحربية والصناعية أما الأحوال الحربية والبحرية في الأوجاقات المذكورة فكانت لا تزال على حالتها القديمة متأخرة ارتكاناً على شجاعة ومهارة رجالها ولهذا التزمت الدولة أن تتبع وقتئذ طريق المسالمة عند مهاجمة الفرانساويين لبلاد الجزائر إحدى ممالكها المكوّنة لدولتها ولخروجها من غوائل حروب موره والروسيا ومسألة اليكجرية مكسورة الجناحين واكتفت بإرسال القبودان جنكل أوغلى طاهر باشا بأسطول إلى تونس للتوسط بين والي الجزائر المذكور وبين الفرنسيس ولكن صادفته جملة عراقيل في مأموريته منعته من حل المسألة فعاد خائباً كما تقدّم ذكر ذلك.

أحوال بلاد العراق وأوجاق الكولمن :

اعلم أنه في مدة صدارة النوشهري إبراهيم باشا الداماد كان حدث حرب بين الدولة والعجم اشتهر فيه والي بغداد وسر عسكر الشرق حسين باشا بما أظهره من البسالة وما حازه من النصر ولهذا أبقته الدولة والياً ببغداد مدة حياته وتولاها من بعده ولده أحمد باشا مدة عشرين سنة وفي زمن ولايتهما أسسوا بها وجاق الكولمن وأصلهم جنود محكمون عند الواليين المذكورين واستمر هذا الأوجاق في العراق مدة مائة سنة تقريباً وكان رجاله يقاومون كل وال يظهر الطاعة للدولة حتى انحصرت أمورايالة بغداد في أعقاب أحمد باشا المذكور إلى سنة 1226هـ .

ولما كان أحدهم المدعو سليمان باشا والياً أرسلت الدولة حالت أفندي المشهور بالنشانجي لاستلام باقي ويتركوا الولاية المذكورة فتوقف الوالي والتزم حالت أفندي أن يعود إلى الموصل ثم استصحب معه والي الموصل وجيشه وعاد لمحاربة سليمان باشا وما زال ينازله حتى قتله وعيّن على بغداد أحد مماليك الوالي المذمور ويدعى داود أفندي بعد أن تعهد بالطاعة وتسديد الأموال في أوقاتها وأنعم السلطان عليه بالوزارة وكان داود باشا هذا فاضلاً من أصحاب اللياقة والاقتدار حتى أنه لما قامت الحروب بين الدولة وإيران سنة 1239هـ .

واستظهرت جيوش ايران على جنود الدولة التي كانت تحت قيادة سر عسكر الشرق جبار زادة جلال الدين باشا وانهزم معه داود باشا المذكور بذل المساعي حتى عادت العلاقات بين الدولة وإيران إلى ما كانت عليه من الصفاء وفي أثناء اشتغال الدولة بحروب اليونان والروسيا عينت أحد رجالها المدعو صادق أفندي بمأمورية إلى بغداد لإبلاغ مخصصاتها إلى 12000 كيس لاحتياج الدولة إلى النقود إذ ذاك إلا أن هذا المأمور لم يحسن القول والفعل فإنه قبل أن يقف على أحوال تلك البلاد طلب عزل داود باشا ولما علم الوالي بذلك غضب وأهان المأمور المذكور ثم قتله فالتزمت الدولة أن تجرّد عليه وعينت لاز على باشا والي حلب بجيش للقبض على داود باشا فقام هذا الوالي بما عهد إليه وحاصر بغداد تسعين يوماً إلى أن فتحها وقبض على داود باشا المذكور وأرسله مكبلاً إلى الآستانة ومحا أوجاق الكولمن بالكلية ثم أن السلطان عفا عن داود باشا لما له من الأعمال المشكورة سابقاً وتولى بعد ذلك بعض المناصب وتوفي وهو بوظيفة شيخ للحرم النبوي الشريف.

الحوادث المصرية :

سبق لك ذكر الأحوال التي ساعدت المرحوم محمد علي باشا على نوال ولاية مصر ونقول الآن أن هذا الشهم النابغة بمجرد قبضه على زمام الحكومة واستتباب الأمر إليه أخذ في تنظيم الأحوال وإزالة نفوذ الكولمن إلى أن أبادهم تماماً سنة 1226هـ وقد ساعد الدولة مساعدة تذكر فتشكر في حرب اليونان وبذل المجهود في اتقان الزراعة والري بما فتحه من الجداول والترع خصوصاً ترعة المحمودية التي أوصلها الثغر الاسكندرية وشيد المباني والمعامل وفتح كثيراً من المدارس المختلفة لتعليم شبان القطر المصري العلوم والصنائع ووسع نطاق التجارة فنمت الإيرادات التي كانت لا تتجاوز كيس 2000 في مبدأ حكمه حتى بلغت في أواخر مدته 400,000 كيس وزاد الويركو الذي يدفع للدولة وأبلغه 12000 كيس وتمكن بزيادة الإيرادات من تنظيم قوّة عسكرية جسيمة على النسق الأوروبي بلغت المائة ألف وأنشأ عمارة بحرية قوية .

ولما رأى المرحوم محمد علي باشا في نفسه قوّة واقتداراً وعلم ضعف الدولة وارتباك حالتها عقب حرب الروسيا واليونان ومقاومة حزب عظيم من الأهالي للسلطان فيما يدخله من الاصلاحات زين له أهل الفساد الذين لا تروج بضاعتهم إلا زمن المفاسد والاضطرابات أن يطمح بأنظاره إلى الاستيلاء على ولايات الشام وحلب من يد دولة طالما هم بمساعدتها وناضل عن تاجها وسلطانها والسبب الذي استحل به محمد علي باشا سوق جيوشه على الشام فرار أحد مماليكه وبعض أهالي مصر والتجائهم إلى والي عكا عبد الله باشا وامتناع هذا من تسليمه إليه وكان هذا الوالي أظهر قبل ذلك العصيان على الدولة ولما أرادت الدولة تأديبه توسط محمد علي باشا له فعفا السلطان عنه.

في سنة 1247هـ-1831م سارت جيوش محمد علي باشا والبحرية تحت قيادة ولده الأكبر إبراهيم باشا ففتح في طريقه غزة ويافا وحيفا ثم حاصر عكا وافتتحها لينتقم من عبد الله باشا على ما فعل معه ولما علمت الدولة بتقدّم جيوش مصر أرسلت إلى محمد علي باشا تأمره بالكف عن أفعاله وإخراج عساكره من القطر الشامي وله بعد ذلك أن يرفع شكواه إلى الباب العالي ليحكم بينه وبين خصمه وأمر السلطان بأن ينصحوه ليطيع الأمر ولما لم يقبل ذلك جمع السلطان مجلساً مؤلفاً من مشاهير العلماء والمدرسين وعرض عليهم ما حصل من محمد علي باشا فأفتوه جميعاً والفتوى على قدر السؤال بخروج محمد علي باشا عن طاعة السلطان فأرسلت الدولة عليه والى أدرنة حسين باشا ومعه ثلاثون ألف عسكري ولما وصل إلى الشام وتلاقى مع الجنود المصرية بين حلب وحمص انهزم بعد أن قتل من جيشه قدر عظيم محرم 1248هـ .

ثم دعت الدولة الصدر الأعظم رشيد محمد باشا وهو من أعظم القواد وأمهرهم وكان ببلاد الأرنؤد ينظم أحوالها عقب انفصال اليونان عن الدولة وأرسلته بجيش لصد إبراهيم باشا الذي كان عبر جبال ايج ايل ونزل بصحراء قونية وبعد حروب طويلة استظهر فيها الصدر على عساكر مصر أسر وهزم وجيشه في يوم ماطر كثير السحاب والضباب لأنه بينما كان يعبي جيشه للقتال دخل بين صفوف الخيالة المصرية ظناً منه بأنهم عساكره فأسروه وبانتشار خبر ذلك بين الجيش السلطاني اختل نظامه وهجمت عليه عساكر مصر فهزمته 28 رجب 1248هـ .

وبعد واقعة قونية هذه تقدم إبراهيم باشا إلى كوتاهية حيث لا قوة تعارضه وعند ذلك اكتسبت المسألة أهمية عظيمة ولما انتصر إبراهيم باشا في واقعة قونية المذكورة وهم بتوجيه عنان عزيمته نحو مدينة بروسة خابر السلطان محمود قيصر الروسيا نيقولا الأول الذي كان يسعى من زمن طويل بواسطة سفيره في الآستانة في التوسط بين المتحاربين وطلب منه المساعدة فأرسل أسطولاً وجيشاً يبلغ عدده 15000 مقاتل معاونة للدولة ونزلت هذه القوة بالمكان المدعو هنكارا سكله سي داخل البوغاز وعقدت هناك بين الطرفين معاهدة دفاعية وهجومية لمدة ثمان سنوات 1249هـ-1833م .

ومن مقتضاها أن امبراطور الروسيا تعهد بمساعدة الدولة في كل الأحوال والأعمال وأن يتعهد السلطان محمود في مقابلة ذلك بأن يصرح عند الاقتضاء للدوننما الروسيا أن تمر من البحر الأسود إلى البحر الأبيض وبسد بوغاز البحر الأبيض المتوسط أمام جميع سفن الدول الأخرى الحربية وبهذه المعاهدة أخذت المسألة شكلاً سياسياً آخر في عواصم أوروبا كانت سبباً لاهتمام اللورد بالمرستون رئيس وزراء انكلترة والبرنس مترنيخ رئيس وزراء النمسا وأخذا يتخابران مع فرانسا وبروسيا وبتداخلهما أوقفوا إبراهيم باشا عن التقدم واضطر والمرحوم محمد علي باشاعلى عقد الصلح والانصياع لأمر الدولة كل ذلك ليس حباً في الدولة ولا في مصر بل لأطماعهم السياسية ومقاصدهم الخصوصية ولكن مع عقد الصلح في الظاهر لا زال الطرفان يستعدان ويتربصان لبعضهما فكان محمد علي باشا يرى أن لا حق لدول أوروبا في هذا التطفل الذي سيرده عن غنيمته مع ما ناله من الاستظهار وكانت الدولة ترى في انتصار أحد ولاتها عليها إهانة ماسة جداً بكرامتها ومجدها وربما كان سبباً في أن يجترىء عليها غيره من الولاة ويشق عصا طاعتها مع ما يكون لدول أوروبا عليها بعد ذلك من الأيادي إذ كانت سبب نجاتها خصوصاً دولة الروسيا عدوّتها القديمة ولذلك أخذ إبراهيم باشا يحصن مضيق كولك الواقع بين قونية واطنة اذنة ووالده في مصر يهتم في إنشاء السفن لزيادة قوته البحرية والإكثار من العساكر النظامية لتقوية جيوشه البرية واهتمت الدولة بالمسألة أكثر من ذي قبل فأعادت رؤف باشا لمسند الصدارة بعد وقوع رشيد محمد باشا أسيراً.

ولما عاد رشيد باشا المذكور إلى الآستانة 1250هـ عينته والياً لسيواس وفوضت له إدارة ديار بكر وخربوط ورتبت له جيشاً ادعت أنها تقصد بواسطته إصلاح أحوال بلاد كردستان وغير ذلك من الأعمال 1252هـ ولما مات رشيد باشا قبل أن يأتي بهذا الجيش عملاً عينت الدولة مكانه فريق كوتاهيه جركس حافظ محمد باشا ثم اهتمت مع ما هي فيه من الضعف ذلك الوقت بإكمال الأوردي الهمايوني وكان في جيش حافظ باشا وقتئذ الضابط البروسياني مولتك الشهير وكان أشار على حافظ باشا برأي في القتال إلا أن حافظ باشا لم يحفل به لغروره بنفسه ثم تقدّم بالجيش السلطاني لصد إبراهيم باشا وعبر نهر الفرات حتى قابله بجوار حلب في نزيب نصيبين ولسوء تدبيره وقلة خبرته انهزم هو أيضا 1255هـً .

فكان ذلك سبباً لأن يحتل إبراهيم باشا جملة بلاد أخرى قبل أن تصل أخبار هذه الهزيمة إلى استانبول.

وفاته:

اتفق موت السلطان محمود وكان اعتراه قبل ذلك بخمسة شهور انحراف في صحته وأشار عليه الأطباء بتبديل الهواء فنقل إلى مصيف شقيقة أسما سلطان الواقع في جامليجة من ضواحي استانبول وكانت وفاته19 في 1255هـ ربيع الآخر سنة وعمره لا يتجاوز السادسة والخمسين.

وكان السلطان محمود رحمه الله من أعقل سلاطين آل عثمان كثير الاهتمام جداً بما يعود على الدولة بالمنافع والقوة عارفاً بالأمور جسوراً فعالاً لا يرجع عن نواياه إلا إذا أخرجها من القوة إلى الفعل تمكن من إخماد فتنة البانيا التي أشعل نارها تبه دلنلي علي باشا وفتنة عائلة القره مانلي بطرابلس الغرب وغيرها من الثورات. واهتم بوضع النظام العسكري الجديد.

ومن أعظم أعماله إزالة أوجاق اليكجرية الأمر الذي سعى فيه قبله السلطان سليم خان الثالث وغيره وأدخل كثيراً من الإصلاحات في كافة الولايات العثمانية وكان له الوقوف التام على أحوال الدولة وما تحتاجه من الإصلاح ولم تخل سنة من سني حكمه من الاضطرابات والاختلالات ومع ذلك فقد تغلب عليها جميعاً بما أوتيه من علو الإدراك وهو الذي أزال امتياز الأعيان دره بكلر الذين كانوا على نوع من الاستقلال لا يعترفون للدولة بالتابعية إلا ظاهراً هذا إن أرادوا وبذلك جعل البلاد التي كان يحكمها هؤلاء الأعيان مرتبطة ارتباطاً متيناً مع دار السلطنة.

السلطان عبد المجيد خان ابن السلطان محمود خان الثاني 1255-1277هـ:

التنظيمات الخيرية :

جلس هذا السلطان على تخت أجداده العظام وسنه 18سنة وكانت الأحوال في ارتباك كما علمت وبمجرد جلوسه وجد مسند الصدارة إلى رئيس مجلس الأحكام العدلية خسرو باشا العدوّ الألد لمحمد علي باشا والسر عسكرية للداماد خليل باشا وهو من مماليك خسرو باشا وفي اليوم الثاني من جلوسه وصل خبر واقعة نزيب وانكسار الجنود العثمانية وبعد عشرة أيام وصل خبر تسليم القبودان فراري أحمد باشا الدوننما العثمانية لمحمد علي باشا في الاسكندرية ولكن هذه الأخبار على خطارتها لم تؤثر في السلطان لأنه كان جسوراً مقداماً سيما وأنه لوأظهر كدراً بما أضر ذلك بالحالة أكثر مما هي عليه ولما عاد ناظر الخارجية مصطفى رشيد باشا من المأمورية التي كان أرسل لها منذ سنتين بأوروبا وأطلع السلطان على رأي دولها بخصوص مصر أصدر فرمانا بالتنظيمات الخيرية التي كان عزم والده على إجرائها في سنة 1254هـ فكان ذلك من أكبر الأسباب لترقي وتقدم البلاد العثمانية على الطريقة التي كانت جارية وقتئذ في عموم أوروبا.

yacine414
2011-03-18, 16:38
المسألة المصرية وحلها :

اعلم أن معاهدة هنكارا سكله سي التي تقربت بها الروسيا من الدولة العلية كانت الباعث لانتباه رجال السياسة في أوروبا حتى جعلوا المسألة المصرية كمسألة أوروباوية ولذا أخذت الدول تتذاكر فيها ملياً وكانت فرانسا وحدها تميل لمساعدة مصر حتى تسبب عن ذلك تغيير وزارة كيزو وتييرس وبسبب ذلك ضعفت سياسة لويس فيليب ملك فرانسا في المسائل الخارجية وبعد مذاكرات طويلة بين دول أوروبا عقدت انكلترة وأوستوريا وبروسيا والروسيا اتفاقية مع السلطنة العثمانية بخصوص مصر كما سيأتي وكان توجيه مسند الصدارة العظمى إلى خسرو باشا الكبير لا يرجى منه تسوية المسألة المصرية على ما يوافق صالح الدولة لعداوته الكبرى لمحمد علي باشا كما علمت.

ولما أصدر السلطان عند جلوسه فرمانا إلى محمد علي باشا وإلى الديار المصرية بالعفو قابل حامل هذا الفرمان المسمى عاكف أفندي أحد كتاب الباب العالي في أثناء ذهابه مع القبودان فراري أحمد باشا وأخبره بما حصل من التبديل في الوزارة وبصدور فرمان سلطاني بالعفو عن محمد علي باشا وعدم احتياج الحالة لأعمال الدوننما التي يلزم أن لا تبارح القلعة السلطانية ولذا كلفه بالعود بها إلى الآستانة فخاف أحمد فوزي باشا من التبديلات الوزارية ودار بخلده أن تنصيب خسرو باشا لمسند الصدارة مضرّ به شخصياً لما بينهما من العداوة الشديدة فافتكر أن نجاته هي أن يتحد مع محمد علي باشا ويسلمه الدوننما ثم أرسل أحد ضباطه بسفينة إلى استانبول لينوب عنه في تقديم واجب تبريك الجلوس السلطاني ليبعد عنه بذلك المظان.

ثم إنه بعد أن حبس مصطفى باشا الفريق في سفينة أقلع بالدوننما إلى ثغر الاسكندرية وبوصوله سلمها إلى محمد علي باشا وذلك في 25 جمادى الأولى سنة 1255هـ- 8 يوليو1839م وكانت الدوننما المذكورة تتركب من تسعة غلايين كبيرة و 11 فرقاطة و5 قرويتات عدد رجالها 16107 من الملاحين هذا خلاف ألايين من العساكر عدد 5000 رجالهما فيكون الجميع 21107 من الجنود وبذلك دخلت المسألة المصرية مع الدول في شكل جديد أكثر تعقيداً مما كانت ولهذا عزل خسرو باشا من الصدارة ووجهت إلى رؤف باشا ثانية .

واتفقت انكلترة والروسيا وأوستريا وبروسيا على حل المسألة المصرية حلاً نهائياً وعقدوا لذلك مؤتمراً بالآستانة تحت رياسة الصدر الأعظم 27 يوليو سنة 1839م وكانت فرانسا تظهر الميل والمساعدة لمحمد علي باشا وترغب إطلاق السراح له وعدم تقييده بشيء وسعي مسيو كيز ورئيس وزرائها لدى الدول ليحملها على عدم تداخلها لأن مسألة مصر يمكن انهاؤها بين التابع ومتبوعه مباشرة وكان يقصد بذلك أن يكون لفرانسا الزمن الكافي لنوال مرغوبها.

إلا أن دول أوروبا لما فهمت نوايا فرانسا اتفقوا على تنفيذ ما قرروه ومضمونه أن يعطي السلطان لمحمد علي مصر يحكمها هو وأولاده من بعده على طريق الوراثة وولايتي عكاء وصيدا مدة حياته فقط وأن يخلى بلاد العرب وسوريا وكريد وغيرها من الجهات التي بها عساكره في مدّة عشرة أيام وإن رفض الرضوخ لذلك ساعدت الدول المذكورة الدولة بالقوة.

ولما رأت فرانسا أن إرجاع دول أوروبا عما اتفقوا عليه من أصعب الأمور غيرت وزارتها وعينت مسيو تييرس رئيساً لها وأخذت في الاستعدادات الحربية خصوصاً بجهتي نهر الرين وسواحل البحر الأبيض المتوسط وفي تلك الأثناء أرسلت الدولة محمد رفعت بك مستشارا لصدارة لمصر لإبلاغ محمد علي باشا قرار الدول وقبول الدولة له وإنه إن لم يقبل ذلك في ظرف عشرة أيام استردت الدولة منه ايالتي صيدا وعكاء ولما لم يقبل أرسلت انكلترع وأوستريا والدولة أساطيلها فحاصروا سواحل الشام واستولوا على بيروت واللاذقية وطرسوس وطرابلس وصيدا وصور وفتحوا عكا عنوة بعد أن أطلقوا النيران عليها مدّة ثلاث ساعات ونصف وكان إبراهيم باشا يعتمد عليها أكثر من غيرها ولما كانت جميع الذخائر والأدوات الحربية المصرية بهذه المدينة وقعت في يد المتفقين انهزمت الجنود المصرية إلى منحدر جبال الدروز بعد محاربات طويلة والتزم إبراهيم باشا أن يتقهقر إلى وديان تلك الجهات وكانت الأهالي تظهر العداوة لإبراهيم باشا وجنوده حيث وجد ولما اشتدت به الحالة اضطر لأن يعود إلى مصر .

ثم توجهت فرقة من السفن المتفقة إلى الاسكندرية تحت قيادة الأميرال نايير (Napier) الذي ألزم محمد علي باشا بقبول القرار الدولي القاضي بأن لا يكون له إلا بلاد مصر 27 نوفمبر 1840م ثم أرسل المرحوم محمد علي باشا الدوننما العثمانية إلى الآستانة وسلمها للدولة في1256هـ-24 يناير سنة 1841م .

أما فرانسا فإن أمّتها لما رأت أنها صارت بمعزل عن دول أوروبا وأنها بذلك ربما أضاعت نفوذها الذي حازته بالمشرق هاجت واضطربت وعلى ذلك تغيرت الوزارة وتحوّل مجرى سياستها والتزمت أن تدخل في دائرة السياسة الأوروباوية التي أجمعت على إبطال معاهدة هنكارا سكله سي المذكورة وإنهاء المسألة المصرية في أقرب زمن واتفقوا على عقد معاهدة مع الدولة العثمانية بخصوص حق المرور من مضيقي البوسفور والدردانيل جمادى الأولى سنة 1257هـ-1841م .

وتعرف هذه المعاهدة بمعاهدة البواغيز وكانت بين الدولة من جهة وبين انكلترة والنمسا والروسيا وبروسيا وفرانسا من الجهة الأخرى وكان من مقتضاها الاعتراف من هذه الدول بالحق المطلق والحكم المستقل للدولة على البوغازين المذكورين وإنه لا يصرح لدولة أن تمر بسفنها الحربية من هذين البوغازين أصلاً ثم صدر فرمان الوراثة لعائلة محمد لي باشا مشتملاً على امتياز حكم القطر المصري بمصادقة الدول الأوروباوية وتوجه بعدها محمد علي باشا إلى استانبول لعرض طاعته على السلطان وبذلك تجددت الروابط الودّية بين مصر ودار الخلافة .

الترقيات في الدولة العلية وخط الكلخانة :

لما انتهت المشكلة بين مصر والدولة بتداخل الدول الأوروباوية اهتم السلطان عبد المجيد خان بتأييد النظامات الجديدة وأصدر الفرمان المعروف بفرمان الكلخانة فاتسعت به أسباب العمران في كافة المملكة العثمانية واستتب الأمن وتأسست المدارس 26 الرشدية شعبان 1255هـ وأدخلت النظامات والتحسينات في المدارس الحربية والملكية والبحرية وحصل اقتصاد كلي في ميزانيات البرية والبحرية معاً وتمت كل هذه النظامات بغاية الهمة.

وامتدت الاصلاحات إلى جميع الولايات وأبدلت الأسلحة القديمة التي كانت بأيدي الجيوش الشاهانية بأسلحة جديدة من آخر اختراع وهي بنادق الششخانة ذات الكبسول فأصبحت القوات العسكرية عمومها على وتيرة واحدة في النظام والترتيب وامتدت الاصلاحات أيضاً إلى معامل الطوبخانة وملحقاتها من باقي المعامل العسكرية السلطانية وبهذه الأعمال النظامية والمواد الإصلاحية قطعت الأمة العثمانية مراحل شاسعة في طريق التقدم والعمارية في أسرع زمن وبالأخص في جميع مصالحها وإداراتها وما يتبعهما من الفروع حتى صارت الأمة بسبب ارتياحها لهذا الإصلاح العظيم في غاية الأمن والراحة.

وقد وفقا السلطان إلى انفاذ جميع الرغائب والأماني لإصلاح شؤن الرعية وعمارة الممالك ونشر لواء الأمن والراحة وقطع جراثيم الدسائس الأجنبية وكان الوزير رشيد باشا المذكور لما له من سعة المعارف والوقوف على ضروب السياسة وجه همته أولاً لجعل دول أوروبا جميعها تعترف للدولة العثمانية بإخلاص النية وطهارة الطوية بما أوجدته في داخليتها من الإصلاح والتقدّم حتى سبقت كثيراً من دولها في هذا الشأن.

حروب القريم وأسبابها :

لما كانت دولة الروسيا على يقين من أن الإصلاحات التي أدخلتها الدولة في حربيتها وتنظيم جيوشها البرية والبحرية هي نفس الإصلاحات التي أكسبتها الانتصارات في وقائع حروبها مع الدولة العثمانية وكانت تتمنى أن لا ترى الدولة العلية متقدّمة في مراقي الفلاح لأن ذلك ينافي سياستها وأمانيها بالجهات الشرقية كانت تنظر إليها بعين الحقد وتودّ عرقلة مساعيها في الإصلاحات القائمة بها فقامت تنتحل سبباً يخوّل لها محاربة الدولة فقالت بحمايتها لجميع الأورثودوكسين التابعين للدولة العثمانية وأخذت تزرع بذور الدسائس كعادتها بين أولئك الأقوام.

ومن سوء الحظ أن أعمال بعض عمال الدولة كثيراً ما فتحت لدول أوروبا بابا تلج منه لمخاصمة الدولة وقد انتهزت الروسيا فرصة الاختلاف الواقع بين طائفتي الروم واللاتين في القدس من سنين مضت بسبب كنيسة القيامة وبعض الأماكن المقدّسة الأخرى وقامت كل طائفة منهما تدعى لنفسها حق الرياسة والتقدّم على الأخرى في حق السدانة على كنيسة القيامة.

ثم أخذت هذه المسألة تتعاظم بينهما وتمتد يوماً بعد يوم إلى أن آل الأمر إلى النزاع والجدال في سنة هجرية فوقع الباب العالي في الارتباك والحيرة واهتم بإخماد نار العداوة من بين الطائفتين المذكورتين لأن دولة الروسيا كانت تدافع عن حقوق الروم الأورثودوكسيين ودولة فرانسا تدافع عن اللاتينيين بمقتضى عدّة معاهدات قديمة تدعى أنها تخوّلها هذا الحق وعلى الخصوص بمقتضى الامتيازات الممنوحة لها في سنة 1740م ميلادية.

فتداخل سفير انكلترة في هذا المشكل ورسم ترتيباً لائتلاف الملتين المتخالفتين فقبلته فرانسا ولم تقبله الروسيا لأن مقصدها الأكبر ليس المحاماة عن حقوق الروم الأورثودوكسيين كما تقول بل كان لها غايات أخرى كثيراً ما كانت تجتهد في نوالها وتترقب الفرص للحصول عليها وهي إبعاد الدولة العثمانية عن المجتمع الأوروبي ليسهل عليها الاستيلاء على أملاكها فانتهز قيصرها نقولاً تلك المنازعة فرصة مناسبة لنوال بغيته وبلوغ أربه وأرسل ناظر بحريته البرنس منجيقوف إلى دار الخلافة العثمانية بصفة سفير مرخص للمخابرة في مسألة الخلاف الواقع بخصوص الأراضي المقدّسة بعد أن بعث جيشاً مؤلفاً من 144 ألف مقاتل إلى حدود الدولة.

ولما وصل رفض مواجهة فؤاد أفندي وزير الخارجية فعزلته الدولة ووجهت مسند نظارة الخارجية لرفعت باشا ثم تذاكر الوزراء في البلاغ الذي قدّمه البرنس المذكور لنظارة الخارجية 19 نيسان 1853م ولم يوافقوا عليه ولهذا أخذت الدولة تجهز الجيوش استعداداً لما يحدث من الطوارىء ولأنها رأت أن الروسيا لا زالت مستمرة على تحريض الأروام على العصيان ونبذ أوامر الدولة مشوّقة إياهم بكل ما تقدر عليه منأنواع المشوّقات ثم انفردت من بين دول أوروبا.

ووقفت في ميدان السياسة بمفردها مدّعية على الدولة العلية بأنها تسيء معاملة النصارى الأرثودوكس خصوصاً وتطالبها بإصلاح حالهم مع أن التنظيمات الخيرية تكفلت لهم ولغيرهم بذلك كما يعلم من مطالعة الفرمان الصادر بها ولما رأت الدولة أن الروسيا لا زالت مصرة على مدعياتها أخذت في التجهيزات الحربية ولكي تتمكن من ذلك ويكون لها الوقت الكافي قررت إعادة النظر في طلبات الروسيا وغيرت هيئة الوزراء .

فوجهت مسند الصدارة إلى مصطفى نائلي باشا ونظارة الخارجية لمصطفى رشيد باشا وكان من أصحاب الخبرة والذكاء ولما أعاد الوزراء المذكورون النظر في طلبات الروسيا ورأوا أن لا حق لها أصلاً وأنها خرجت بهذه الدعوى عن جادة الصدق قام وزير الخارجية معارضاً لها وتمكن بمهارته من الدخول مع دول أوروبا في المناظرة والمباحثة والمجادلة والمناقشة ولم ينته من عمله حتى أظهر لها الحجج الدامغة والأدلة الكافية على بطلان مدّعي الروسيا وعدم وجود أثر للصحة فيما تدعيه مثبتاً ما أوجدته الدولة العلية منذ أزمنة مديدة من الإصلاحات العميمة والنظامات القويمة في ممالكها المختلفة ونشرها العدل بين رعيتها على السواء وإيجادها كل ما من شأنه رفع أمتها إلى معارج السعادة والرفاهية.

وأيد جميع هذه الأقوال بما سبق من اعتراف الدول بوجود هذا الاصلاح في الممالك العثمانية ومصادقتها على تعميمه فيها وارتياحها للدولة العلية حيث قامت به على حسن النية وإخلاص الطوية ولم يخرج هذا الوزير من هذا الموقف المهم حتى تحقق للدول جميعها فساد قول الروسيا وإنها تبطن خلاف ما تظهر وبناء على ذلك رفضت الدولة العثمانية بلاغ الروسيا تماماً فقدم منجيقوف أوليماتوم بلاغاً نهائياً 21 مارس سنة 1853م وبارح استانبول مع عموم هيئة السفارة الروسية.

إعلان الحرب على الروسيا والوقائع بجهات الطونة والأناضول:

لقد كانت رجال الدولة ومحافل أوروبا تظن أن ما استعمله البرنس منجيقوف في مأموريته من الغلظة والجبروت ربما كان على غير رضا دولته إلا أنه أتى محرر ناظر خارجيتها الكونت نسلرود 31 مارس 1853 سنة اتضخت مقاصد الروسيا وظهر أن منجيقوف لم يصدع إلا بما كانت تأمره به دولته سيما وأن الجنرال غورجاقوف عبر نهر بروت بما كان تحت قيادته من القوّة السابق ذكرها وانتشرت جيوشه في أراضي المملكتين ولما رأت الدولة أن ذلك عبث بالعهود أعلنت الحرب على الروسيا سنة 1269هـ .

وكتب عند ذلك عمر باشا المجري قائد عموم جيوش الروم ايلي إلى القائد الروسي المذكور يطلب منه إخراج عساكره وإخلاء أرض المملكتين في مدّة خمسة عشر يوماً حسب الأصول المتبعة ولما علم عمر باشا أن جيوش الروسيا تقصد عبور الطونة من جهة ودين لتحريض الصربيين على العصيان أرسل قوّة كافية عبرت من ذلك المكان إلى جهة قلفات .1270هـ.

وأنشأت هناك بسرعة بعض استحكامات وطوابي لإشغال العدوّ ومنعه من التقدّم وأجاز أيضاً من طوترة قان إلى أولتانيجة ومن روسجق إلى يركوك قوّتين أخريين هدد بهما مدينة بكرش فشيدت هاتان القوّتان بعض القلاع وتمكنت من صدّ هجمات الروس ولما التقى عمر باشا مع عسكر الروس في أولتانيجة انتصر عليهم انتصاراً باهراً بعد حرب شديد 3 صفر سنة 1270هـ .

وكذا لما تجمعت قوّة الروسيا بقرية جتانة الكائنة بجوار قلفات عين رئيس أركان حرب الروم ايلي الفريق ناظر أحمد باشا بقلفات ثلاث فرق عسكرية تحت قيادة كل من جركس إسماعيل باشا ومصطفى توفيق باشا وعثمان باشا وهجمت هذه الجنود على الروس من ثلاث جهات فهزمتهم شر هزيمة الخميس 5 ربيع الأوّل .

واستولى العثمانيون على معسكرهم جميعه بعد أن ولوا الأدبار من جتانة وصدّتهم أيضاً العساكر العثمانية في روسجق وموطن أوغلى اطه سي وسلستره وقره لاش اطه سي وزشتوي ونيكبولي وماجين وايساقجي وانتصرت عليهم في كل سواحل الطونة ثم هزمهم أيضاً حليم باشا عندما هاجموا قلفات حتى اضطّرهم إلى الرجوع إلى ما وراء نهير آلوتا من جهة بلاد افلاق الصغيرة وقد كانت هذه الانتصارات المتتابعة سبباً لاندهاش العالم الأوروبي.

إلا أنه أقبل فصل الشتاء ببرده الشديد وتراكمت الثلوج الكثيرة التزم عمر باشا أن يلتجىء إلى الحصون وأن لا يتعقب الروس المنهزمين هذا بأوروبا أما الجيوش العثمانية بالحدود الآسيوية فكانت تحت قيادة عبد الكريم نادر باشا تتقدّم أيضاً منصورة في جهات آخسخه وأربه جايي واستولى العثمانيون بما بذله رئيس أركان حرب الجيش تاجرلي أحمد باشا على قلعة كمري وحاصر الروس في آخسخة ثم أن نظارة الحربية باستانبول رأت من عبد الكريم باشا التواني في الحركات العسكرية فعزلته ونصبت مكانه قائداً آخر يدعى أحمد باشا ولما أقبل فصل الشتاء تعطلت الأعمال الحربية بتلك الجهات أيضاً.

واقعة سينوب البحرية 27 صفر سنة 1270:

كتب هنري نابرل اسكواير تاريخاً مخصوصاً لوقائع حرب القريم ذكر فيه محاربة سينوب هذه نلخصها على الكيفية الآتية قال إنه في شهر محرم من سنة 1270هـ-1853م أرسلت الدولة العثمانية إلى البحر الأسود أسطولين أحدهما مشكل من خمس سفن حربية تحت قيادة البطرونة مصطفى باشا بها أدوات وذخائر حربية لإيصالها إلى ثغر باطوم وكان بهذا الأسطول 88 مدفعاً والآخر مشكل من ثلاث عشرة سفينة حربية تحت قيادة البطرونة عثمان باشا والريالة حسين باشا وأمر بالذهاب إلى فرضة سينوب وكان به من المدافع 406 مدافع ولما وصل هذا الأخير إلى مينا سينوب واستقبل فيها أقبلت بعد أيام من وصوله عمارة روسية مركبة من ثلاثة قباقات وأربع فراقيط وإبريق واحد لمعرفة مواقع السفن العثمانية وقوّتها.

وبقيت هذه العمارة خارج الفرضة محاصرة لها ولما وقف أميرال هذه العمارة المدعو ناجيموف (Nachimof) على حالة الدوننما العثمانية كتب لدولته يطلب منها أن تمدّه بعدّة من السفن الحربية الموجودة بسيواستوبول ولما وصلت إليه السفن كما طلب قوى ساعده ودخل المينا بريح طيبة وأبقى خارج المينا أربع سفن تراقب السفن العثمانية وتمنعها من الهرب لو أرادته ووقف هو بسفنه بعيداً عن مرمى مدافع البطاريات البرية على نحو ألف ياردة من سفن العمارة العثمانية التي كانت مستقبلة في المينا على خط واحد.

ولما رأى الربان عثمان باشا أن سفن الروسية قد دخلت المينا بهذه الكيفية أمر قواد السفن العثمانية بالاستعداد للحرب ومباشرة القتال والضرب وأن يبذلوا ما في طاقتهم من الاجتهاد ويبيعوا نفوسهم حباً لدينهم وأوطانهم وغيرة على مملكتهم وسلطانهم إلى آخر رمق من حياتهم وبعد ذلك شرعت الفرقاطة العثمانية المسماة نظامية بإطلاق المدافع فخرجت المقذوفات من مدافعها كالصواعق إذا انحدرت أو الشهب إذا انقضت وابتدأت الحرب بين الطرفين ودوت الأصوات في الآفاق واشتدت الحال وحمي الوطيس بين الفئتين وتحقق المتقاتلون أن هذا آخر الأجل المتاح.

إلا أن من تأمل وقت ذلك إلى هاتين القوتين كان يرى فرقاً عظيماً وبونا جسيماً إذ أن السفن العثمانية صغيرة والسفن الروسية ضخمة كبيرة فلذا كان يتأكد من أن العثمانيين إما أن يسلموا سفنهم بغير قتال وإلا محتها أساطيل الروسيا في الحال ومع هذا فقد استمرت الحرب ساعتين ونصفاً أتلف فيها الأسطول الروسي الفرقاطة العثمانية المسماة ناوك بحري ولما رأى قبودانها إنه لم يبق في وسعها المقاومة والمدافعة أمر بإشعال النار في مستودع بارودها لإعدامها بمن فيها حذراً وتفادياً من وقوعها في أيدي العدوّ.

ولما امتنعت طائفتها من إنفاذ أمره هذا تقدّم هو بنفسه وأشعل الجنجانة فتطايرت السفينة قطعاً بمن فيها جميعاً وهو معهم ولقد كانت هذه الخسارة سبباً في إضعاف قوة باقي السفن العثمانية ووقوع الخلل في نظامها لرؤية عساكرها قطع الفرقاطة وهي تتطاير في الفضاء وأجسام شهدائها تتناثر ودماؤهم تمطر على سطح المياه كالسيل المنهمر فيا له من منظر تنفطر منه الأكباد وتتفتت له القلوب.

ولم تمض برهة حتى احترق قسم من السفن العثمانية بمقذوفات الروس ووصل الحريق إلى مستودع بارودها فتهشمت وتطايرت قطعاً وعند ذلك صعد عساكر الروس فوق السواري وهللوا فرحاً وكان بقي بعد ذلك من السفن العثمانية فرقاطتان في المينا وكانتا تطلقان على السفن الروسية مدافعهما بلا انتظام إلا أن أصواتها لم تكن إلا إشهار للحزن والأسف على أبطال الرجال وليوثها الذين عدموا وقد تخرب معظم المدينة من وقوع قنابل المدافع عليها حتى أصبحت غير صالحة للسكنى إلا القليل منها.

وقد فعل الروس في هذه المحاربة أفعالاً وحشية منافية للشهامة والمروءة على خط مستقيم فإنهم لم يكتفوا بما نالوه من النصر لأن قوتهم البحرية كانت أضعاف قوّة العثمانيين بل كانوا يطلقون المقذوفات على جرحاهم ومن كان سابحاً منهم فوق المياه فيقتلون هؤلاء الضعفاء المساكين الذين كانوا يلتمسون الخلاص.

أما الفرقاطتان الباقيتان من السفن العثمانية فدخلتهما عساكر الروس ووجدوا عثمان باشا القومندان مصاباً بجراح في إحدى رجليه ومعه اثنان من القبودانات و105 من الأنفار فأسروهم وأحرقوا الفرقاطتين لعدم صلاحيتهما لشيء أما حسين باشا الريالة فكان أصيب بمقذوف مات به في أول المحاربة ووجدت جثته فدفنت في تلك الجهة ومات من الدوننما العثمانية أكثر من ألفي نفس في أوائل المحاربة أما تلفيات الروس وخسائرهم فكانت كثيرة وكسرت المقذوفات العثمانية سواري الأربعة قباقات وبسبب ذلك بطل استعمال المدافع بها.

ثم مكثت السفن الروسية بمينا سينوب حتى أصلح ما أمكن إصلاحه منها وسحبوا ما تعطل من سفنهم ثم قصدوا سيواستوبول قبل ورود السفن الحربية الانكليزية والفرنساوية إليها وحصل أنه بعد انتشاب القتال هربت إحدى البواخر إلى الآستانة وأخبرت بهذه الواقعة ولم تتمكن السفن الروسية المعينة للمحافظة خارج المينا من منعها فعند ذلك أرسلت دوننما انكلترة الموجودة بالبوغاز إحدى بواخرها وأرسلت دوننما فرانسا الموجودة معها باخرة أخرى فذهبتا إلى مينا سينوب للوقوف على حقيقة الواقعة.

ولما وصلتا إليها التقطتا بعض الجرحى الذين طالت أعمارهم وأوصلناهم إلى الآستانة وكان بالمينا أثناء القتال سفينة تجارية انكليزية قتل منها نفران بمقذوفات الروس ثم احترقت أخيراً في الحريق الذي وقع بالسفن الحربية العثمانية ولما أتت السفينة الانكليزية المذكورة أخذت معها بأن تلك السفينة وتجارتها وبوصوله هو وطائفته إلى الآستانة قرروا صفة الواقعة كما شاهدوه ومضمونها أن الأساطيل العثمانية حاربت الأعداء بكل شجاعة وإقدام مع ما كانت عليه من القلة بالنسبة لأساطيل الروس .

اتحاد فرانسا وانكلترا مع الدولة :

لما كانت المخابرات جارية بين الدولة والروسيا قبل حرب القريم تأثرت فرانسا تأثراً شديداً لأن نابليون الثالث الذي جلس على تخت فرانسا في أواخر سنة 1852م خالف في السياسة الخارجية الطريقة التي كان سلفه لويز فيليب يسير عليها فكان يظهر للدولة العثمانية الارتياح الكليّ من الإصلاحات التي أدخلتها ببلادها ولما كان تعهد بحماية الكنيسة الكاثوليكية كان يميل جداً إلى حل المسألة المتنازع فيها بمدينة بيت المقدس بما أن ذلك كان يسر فرانسا ويفيدها وكان السير هاميلتون سيمور سفير انكلترة في بترسبورغ عند مقابلاته السرية لقيصر الروسيا نيقولا الأول وقف على تصميمات دولته بخصوص بلاد الشرق.

ولما كانت حكومة السفير المذكور من اتباع المذهب البروتستانتي لم يكن يهتم بمسألة بيت المقدس كاللازم أما النمسا فقد أظهرت الاشمئزاز الكليّ من منشورات البانسلاويست لأن نزوع أهل الجبل الأسود للاستقلال وتشكيل حكومة منتظمة فتح باباً لأهالي دالماسيا وكراوتيا والولايات المجاورة ولذلك تأثرت حكومة النمسا من ذلك وعرضت وساطتها الاتمام حادثة الجبل الأسود بسرعة واطفاء نيران فتنة بيت المقدس.

إلا أنها لم تتمكن من تأليف ذات البين ثم اتفقت مع بروسيا على عدم المداخلة وانتظار النتيجة وكان دخول ايطاليا في المسألة غير ظاهر بل كانت آخذة في أسبابه بسعي ملك سردينيا ويقتور امانويل لينال بذلك رضا أوروبا وبينما كانت الأحوال سائرة هكذا أرسلت الروسيا البرنس منجيقوف (Mentschikoff) إلى الأستانة سفيراً فوق العادة فظنت أوروبا أن القصد من مأموريته هذه المكالمة في مسألة الأراضي المقدسة إلا أنه لما أشيع أن القصد من مأموريته عقد مشارطة مخصوصة مع الدولة أو تجديد معاهدة هنكارا سكله سي اندهشت أوروبا خصوصاً لما شاهد سفراؤها في الآستانة أعمال السفير الروسي المغايرة لقواعد حقوق الدول فمالت أفكار عموم أروبا بالمساعدة الدولة.

وفي أثناء ذلك كان الامبراطور نيقولا يلح على السير هاميلتون سيمور سفير انكلترة بعاصمة الروسيا يريد اجتذاب انكلترة للاتحاد مع الروسيا إضعافاً لنفوذ فرانسا في الشرق وليتقاسما أملاك الدولة العثمانية سوية فلما اطلعت انكلترة على مقاصد الروسيا خافت من امتداد نفوذها في الشرق ومشاركتها لها في البحار القابضة هي على صولجانها وتخابرت الملكة فكتور يا ملكة الانكليز مع نابليون الثالث امبراطور فرانسا للاتحاد مع الباب العالي لتأييد المعاهدات المختصة ببيت المقدس.

وفي خلالها أعاد السلطان مصطفى رشيد باشا إلى الصدارة وكان عزل منها إرضاء للروسيا وعزم على رفض مطالب البرنس الروسي وأعلن باحترام حقوق الكنيسة الأرثودكسية وبعد مخابرات يطول شرحها قطع السفير الروسي العلاقة مع الدولة وعاد إلى بلاده ثم أطلعت الدولة اللورد استراتفورد سفير انكلترة على جميع المخابرات التي دارت بينها وبين الروسيا فانضمت انكلترة إلى فرانسا وأرسلت إلى أساطيلها بمالطة بأن تتحد مع الدوننما الفرنساوية في كافة الأعمال وأمرت الدولتان أساطيلهما بالحضور إلى جون بشيكة القريب من بوغاز الدردنيل فحضرت إليه في أواسط يونيه سنة 1853م .

وكان الامبراطور فرانسوا جوزيف ملك النمسا يتردد في السياسة التي يتبعها بعد أن بذل جهده في منع الخلاف بلا حرب وسعى في عقد مؤتمر ويانة الذي انعقد في شهر أغسطس من سنة 1853م ولما لم تأت جلساته العديدة بفائدة تحقق لدى جميع الدول سؤنية الروسيا وحرضت انكلترة وفرانسا الدولة العثمانية على رفض طلبات الروسيا في المؤتمر ومداومة الدفاع عن حقوقها وحصل ما سبق ذكره من عبور جيوش الدولة نهر الطونة وانتصارها في كافة الوقائع الحربية التي حدثت هناك فظهر لأوروبا بذلك فائدة التنظيمات التي أدخلتها الدولة في جيوشها.

وفي أثناء ذلك رضيت الدولة بدخول أساطيل فرانسا وانكلترة البوسفور ولما عبرته رست في بيوك درة من ضواحي الآستانة لتكون على مقربة من البحر الأسود منعاً لهجمات الروس ثم بعثت فرانسا من طرفها المارشال شبيل باراجي ديليه (Baraguay D'hiliers) بمأمورية فوق العادة إلى الآستانة ظاهرها السعي في أمر الصلح وباطنها درس أحوال العسكرية العثمانية فقابله السلطان سبتمبر 1853م باحتفال وافر ولما وصل خبر واقعة سينوب البحرية وضياع أساطيل الدولة مع تعهد الروسيا لدولتي فرانسا وانكلترة بأنها لا تقصد إجراء أي أمر عدواني في البحر الأسود أصدرت الدولتان أوامرهما إلى أساطيلهما الراسية في بيوك درة بالدخول إلى البحر الأسود فدخلته 4 مارس 1854م سنة .

وكانت عمارة انكلترة مركبة من 21 سفينة حربية تحمل 1162 مدفعاً تحت قيادة الويس أميرال دنس دانداس (Deans Dundas) والكنترأميرال السيراد مندلاينس (Sir Edmund Lyons) وعمارة فرانسا مركبة من 39 سفينة تحمل 2740 مدفعاً تحت قيادة الأميرال هاملن (Hamelin) والكونتر أميرال بروات (Bruat) وبصحبتهما الدوننما العثمانية المركبة من سفينة 12 حربية تحت قيادة قيصرية لي أحمد باشا وكان قبودان السفينة محمودية وقتئذ اتش محمد بك الذي صار فيما بعد قبودان باشا وله اليد البيضاء في إصلاح البحر مدّة السلطان عبد العزيز خان.

ثم رست هذه الأساطيل أمام وارنة وكتب الامبراطور نابليون الثالث كتاباً له إلى الامبراطور نيقولا في أواخر يناير سنة 1854م شرح له فيه المسألة بأطرافها وتعديات الروسيا وعرض له فيه بعقد مؤتمر دولي للنظر في أمر الصلح تحت شرط إخلاء إقليمي الافلاق وبغدان من الجيوش الروسية وفي مقابلة ذلك تنسحب أساطيل الدولتين من البحر الأسود فكان جواب امبراطور الروسيا عدم إمكانه قبول ذلك وبناء على هذا الجواب عقدت فرانسا وانكلترة مع الدولة العثمانية في الآستانة اتفاقية على محاربة الروسيا تحت شرط سحب جيوشهما من بلاد الدولة العلية بعد خمسة أسابيع تمضي من يوم الصلح الذي يتم مع الروسيا وأمضيت في 13جمادى الثانية سنة 1270هـ-1854م .

وبعد خمسة عشر يوماً أعلنت الدولتان الحرب على الروسيا وكان الامبراطور نيقولا يخاف من انضمام النمسا وبروسيا للدولتين المذكورتين فأرسل إلى برلين وويانة سفيراً مخصوصاً يدعى الموسيو أورلوف يطلب من امبراطور النمسا وملك بروسيا إما المساعدة أو البقاء على الحيادة وفي شهر مارس من السنة المذكورة أرسلت انكلترة عمارة كبيرة إلى بحر بالطيق مركبة من16 سفينة حربية تحت قيادة الاميرال السير نابير (Napier) وأرسلت بعد ذلك فرانسا أسطولاً آخر مركباً من سفينة حربية تحت قيادة الكونتر أميرال بينود (Penaud) وبوصول هذه الأساطيل أخذت في الأعمال الحربية فاستولت على جزيرة الآند وشرعت في تهديد مدينة كرونستاد الحصينة التي بها المينا الحربية للروسيا. وبعد ذلك أرسلت فرانسا وانكلترة جيوشهما فاجتمعا بكليبولي في يوم من جمادى الآخرة سنة 1270هـ مارس 1854 م وكان جيش فرانسا يتركب من مقاتل تحت قيادة المارشال بنت آرنو (Saint- Arnaud) ويتألف جيش انكلترة من25000 مقاتل تحت قيادة اللورد راغلان (Raglan) وفي أثناء محربة الدولة للروسيا ثار بعض أشقياء اليونان فأقامت الدولة على حكومة اليونان الحجة الشديدة فالتزمت حكومتها بتأديب المفسدين وأعادت السكينة للحدود سريعاً ولما أعلنت انكلترة وفرانسا اشتراكهما في حرب الروسيا التزمت النمسا أن تقوم بالتجهيزات الحربية واتفقت مع الدولتين بأن تكون معهما في حركة متحدة حتى يتقرر الصلح العمومي ولذلك احتلت بلاد المملكتين.

معاهدة باريس 24 رجب سنة 1272هـ:

لما تحقق اسكندر الثاني امبراطور الروسيا من عدم الفوز في هذه الحرب خصوصاً وأن دولة النمسا أظهرت له العداء جهاراً بعد سقوط سيواستوبول وانضمام دولة السويد إلى الاتحاد الأوروبي بالمعاهدة الدفاعية والهجومية التي عقدتها مع فرانسا وبروسيا ضد الروسية 20 نوفمبر 1855 .

أشارت النمسا على الدول بإرسال بلاغ نهائي للروسيا فقبلت الدول وأظهرت الروسيا الميل للصلح وكانت تطلبه هي أيضاً وتقرر عقد مؤتمر في باريس وعينت الدولة العلية وفرانسا وانكلترة وأوستراليا وساردينيا والروسيا وبروسيا مرخصين من قبلهم واجتمعوا في باريس للمذاكرة في شرائط الصلح على القواعد الأساسية التي كان حصل التكلم فيها في مؤتمر ويانة قبل ذلك وبعد المذاكرة طويلاً أمضيت شروطه النهائية 24 رجب سنة 1272-30مارس سنة1856 م وكانت تشتمل على بند أهمها

أن الدولة العلية يكون لها الامتيازات التي لباقي دول أوروبا من جهة القوانين والتنظيمات السياسية وتكون مستقلة في ممالكها كغيرها من الدول ولا يجوز للسفن الحربية الدخول بالبحر الأسود أصلاً ما عدا الدولة العثمانية والروسية فإن لهما الحق في أن يكون لهما بعض السفن الحربية للمحافظة على ثغورهما هنا ولا يجوز للدولة العثمانية ولا للروسيا إنشاء دور صناعات حربية على شواطىء البحر المذكور.

وأن يشكل قومسيون مختلط لتأمين السفن التجارية في نهر الطونة.

وأن تكون ايالات الافلاق وبغدان والصرب ذات استقلال داخلي كما كانت سابقاً.

وأن يكون للدول الموقعة على هذه المعاهدة حق المشاركة في الرأي في انتخاب وتعيين أمراء هذه البلاد وبعد ذلك انسحبت الجيوش في مدّة عينها المؤتمر وعادت إلى بلادها وانتهت هذه الحروب التي لا داعي لها أصلاً سوى المطامع والأغراض الذاتية.

حادثة الشام :

إنه في سنة 1276هـ-1860م قامت ببلاد الشام ثورة هائلة بين طائفة الموارنة من نصارى لبنان وبين الدروز كانت رديئة العاقبة على المسيحيين وإن كانوا أكثر من أخصامهم عدداً ونفوذا إلا أنه بسبب تخاذلهم وعدم تبصرهم وانقيادهم إلى الدسائس الأجنبية التي لا تحمد عقباها فتك الدروز بهم خصوصاً في واقعتين حصلتا ببلدة حاصبيا وراشيا ثم امتدت الفتنة إلى زحلة ولولا ما أظهره سكانها من الشجاعة لفتك الدروز بهم.

وأوقع الدروز أيضاً بالنصارى في عدّة مواقع أخرى واتهم عثمان بك قائم مقام حصبياً وأحمد باشا وإلى دمشق بمساعدة الدروز ولما اشتدت وطأة المسألة تداخلت الدول الأوروباوية وعرضت فرانسا استعدادها لارسال جيوشها إلى بلاد الشام لتسكين الفتنة وحماية النصارى فلم تقبل الدول في أول الأمر خصوصاً انكلترة ثم أرسلت جميع الدول على يد سفرائها إلى الباب العالي بلاغات فاجتمع الوزراء تحت رياسة فؤاد باشا ناظر الخارجية وبعد المذاكرة طويلاً تقرر لزوم تسيير قوة عسكرية لإخماد الثورة بالديار الشامية.

وسافرت تلك القوة سريعاً تحت قيادة فؤاد باشا وكانت مؤلفة من سبعة آلاف جندي إلى بيروت لإخماد الفتنة فوصلها في يوم 28 من سنة 1276 ثم قصد دمشق وهناك عقد مجلساً حربياً من أمراء الجيش وحاكم رؤساء الفتنة وقتل كثيرين منهم وقتل أيضاً والي دمشق المرحوم أحمد باشا لأنهم اتهموه بمساعدة الدروز على المسيحيين وإهمال أوامر الدولة مرة واحدة ورد في بعض الأوراق العثمانية أن أحمد باشا كان بريئاً لأنه قبل حدوث الواقعة بأربعة شهور كان بالشام أربعة طوابير من الجنود وصدر له أمر السر عسكر وقتئذ رضا باشا بإرسالها إلى الروم ايلي فعرض أحمد باشا ملحوظاته للسر عسكرية.والما بين الهمايوني بعدم جواز تقليل القوّة من الشام نظراً لثورة الأفكار بها ولما لم يجب طلبه طلب الاستقالة فلم يقبل منه أيضاً ويقال إن قتله كان لما يحقده عليه فؤاد باشا لما بنيهما ما من النفور منذ كانا سوية في بكرش والله أعلم بالحقائق.

هذا أما تواريخ أوروبا فإنها تتهم الباشا المذكورة تلقي عليه مسؤلية عظمى ومع ذلك فإنه يقتل الوالي المذكور وغيره من رؤساء الفتنة لمن تقنع دول أوروبا بالاختلاف غاياتها وتعدد مقاصدها بل اتفقوا على أن ترسل دولة فرانسا إلى الشام قوة عسكرية لمساعدة الجيش العثماني فتوقف السلطان في أول الأمر لكنه لما رأى إجماعهم على ذلك عاد فقبل وكانت القوة الفرنساوية التي أرسلت تبلغ عشرة آلاف جندي تحت قيادة الجنرال دوبول وكان القصد منها منع التعدي الحاصل على طائفة الموارنة من الدروز.

ولما نزلت في بيروت وجدت الأحوال ساكنة فلم تبد أقل حركة وأرسل أيضاً بعض الدول مراكب حربية إلى بيروت وأرسلت الدولة أيضاً عمارة حربية جعلت قيادتها لأحمد باشا القيصرية لي ثم عينت الدول الأوروباوية العظمى مندوبين عنها فاجتمعوا ببيروت تحت رياسة فؤاد باشا ولمهارة هذا الوزير في أساليب السياسة أوجد الخلاف بينهم حتى صار يقودهم إلى حيث شاء متى شاء وبعد المذاكرة طويلاً وضعوا لجبل لبنان نظامات جديدة وجعل فيها حكومة ممتازة حاكمها مسيحي المذهب يتخابر مع الباب العالي رأساً وبعد أن صدقت الدولة على ذلك وجهت المتصرفية لداود باشا وهو أرمني واستمر الاحتلال الفرنساوي إلى 5 يونيه سنة 1861م الموافق لأواسط شوال سنة 1277 وبعد ذلك انسحبت الجيوش الفرنساوية من أراضي الدولة بعد أن تظاهرت بحماية الموارنة من تعديات الدروز.

وفاته:

وفي تلك الأثناء انتقل السلطان المرحوم الغا ي عبد المجيد خان إلى رحمة الله بعد مرض لم ينفع فيه علاج وكان ذلك يوم الثلاثاء 17 القعدة سنة 1277-27 مايو سنة 1861م ودفن في قبره الذي أعده لنفسه حال حياته بجوار جامع السلطان سليم.

وكان رحمه الله من أجل السلاطين قدراً محباً للاصلاح نشر أوامر العدالة الشهيرة المسماة بالتنظيمات الخيرية تثبت بها العدل في المملكة العثمانية وأدخل إصلاحات جمة في الجيوش عاد بها مجد الدولة وترقت في أيامه العلوم والمعارف واتسعت دائرة التجارة وشيد كثيراً من المباني الفاخرة والقصور المزخرفة ومن مآثره تجديد بناء المسجد النبوي بالمدينة المنوّرة 1271 وكان كما بناه السلطان قايتباي وجعل سقوفه قبباً من الحجر كالمسجد الحرام وتمت عمارته في أربع سنوات وشيد عمارات كثيرة أيضاً بالحرمين الشريفين وجدد كذلك ميزاب الكعبة المشرفة 1275هـ .

السلطان عبد العزيز خان ابن السلطان محمود خان الثاني 1277-1293هـ:

لما صعد السلطان عبد العزيز خان على كرسي الخلافة وجد الدولة في حاجة إلى إتمام الاصلاحات التي سعى أخوه بهمة في إدخالها بالإدارات الملكية والعسكرية بأنواعها والتي كان توقف سيرها بالنسبة لحرب القريم خصوصاً وغيره من المشاكل العديدة التي منيت بها هذه الدولة منذ تداخل الأجانب في أعمالها وبعد أن تقلد السيف يوم الخميس في الثامن عشر من شهر ذي القعدة بجامع سيدي أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه كما جرت به العادة أبقى الوزراء في مناصبهم ما عدا السر عسكر رضا باشا فإنه عزله وعين بدله نامق باشا ثم أصدر فرماناً إلى الصدر محمد أمين عالي باشا الذي خلف قبرصلي محمد باشا مظهراً حسن قصده ومزيد رغبته في متابعة السير بالجدّ والاجتهاد لتنفيذ الاصلاحات الضرورية لترقية حال الدولة وإيجاد المساواة بين جميع أفراد الرعايا بلا تمييز.

وأسس في 6محرم من سنة 1278مجلس الاحكام العدلية وعين لرياسته الوزير الشهير محمد فؤاد باشا وجعله ثلاثة أقسام.:

أحدها : الإدارة الأمور الملكية.

والثاني : لسن القوانين والنظامات.

والثالث : للمحاكمات وكان لاهتمامه بذلك يحضر بنفسه في آخر كل سنة إلى الباب العالي ليبتلي في حضرته ملخص الاجراءات والأعمال التي قام بها المجلس المذكور مدّة السنة الماضية.

وبقي هذا المجلس يسير في أعماله إلى 8 ذي الحجة من سنة 1284 حيث صدر الأمر السلطاني بإلغائه وتعويضه بمجلسين آخرين يشكلان على نظاماته الأساسية وهما شورى الدولة وديوان الأحكام العدلية وقد نجح هذان المجلسان في أعمالهما حتى أنه لما أصدرت الدولة نظاماته منه سنتي 1281و 1287 وحدّدت فيهما وظائف جميع المأمورين من الولاة إلى صغار لخدمة اتضح أن بعض الذين تعودوا السير على طريقة التنظيمات الخيرية القديمة لم يقابلوا ذلك بالارتياح لأن التنظيمات الجديدة قيدت حركات المأمورين وغلت أيدي مطامعهم وكبحت شهواتهم فأصدر لذلك فرماناً بمحاكمة كل من يقاوم تلك التنظيمات ولهذا حاكموا عدّة من كبار الحكام مثل خسرو باشا وعاكف باشا وطاهر باشا ونافذ باشا وحسيب باشا جزاء لهم على ما صدر منهم وعبرة لغيرهم وبذلك ظهر للعموم حب السلطان للعدل والإصلاح.

واهتم السلطان أيضاً بإصلاح الأحوال المالية إذ بها قوام الدولة فأصدر فرماناً سنة إلى الصدر الأعظم محمد فؤاد باشا الذي خلف محمد أمين عالي باشا الذي وجهت إليه نظارة الخارجية بعمل ميزانية مضبوطة للمالية عن سنتي 1277و1278 وبعد ذلك صدر قرار من الدولة بإلغاء القوائم المالية وهي أوراق تتداول كالنقود كانت أصدرتها المالية في عهد المرحوم الغازي عبد المجيد دخان للعسر المالي الذي كانت وقعت فيه واقترضت الدولة لذلك ثمانية ملايين من الليرات فسوت جميع ديونها وألغت القوائم في نحو الشهرين وأصبحت المعاملة في كافة الولايات بالنقود وانتظمت أحوال المالية.

yacine414
2011-03-18, 16:39
الاختلالات والمحاربات الداخلية في عهد المرحوم السلطان عبد العزيز:

وقائع الجبل الأسود :

اعلم أن دول أوروبا لما كانت تسعى من زمن طويل في تقليص ظل نفوذ العثمانيين واستعملت لذلك جميع الألعاب والأساليب السياسية كما مر بك بعضه في هذا التاريخ ورأت في هذه المدة أن الدولة العثمانية قامت تبذل المساعي الحقة في إجراء التنظيمات المختلفة والتحسينات المتنوعة حتى ترقت بها البحرية والحربية والصنائع والمعارف واتسعت دائرة التجارة أخذت في عرقلة مساعي الدولة ببث الدسائس وبذر الفتن في جميع أنحائها توصلا إلى غرضها المشؤم وكان أوّل الأمر بخلع أميره نيقولا وتنصيب البرنس دانيلو مكانه . 1277

إلا أن الاضطرابات لما كانت لا تزال سائدة بجهات الجبل المذكور أعدت الدولة أخيراً ثلاث فرق عسكرية الأولى تحت قيادة عبد الكريم نادر باشا المعروف بعبدي باشا والثانية تحت قيادة درويش باشا والثالثة تحت قيادة حسين عوني باشا وهاجم بها عمر باشا السردار الجبل من ثلاث جهات وبعد أن أوقعوا بالثوّار زحفوا على جتينة عاصمة الجبل فالتزم أميره دانيلو وأن يطلب الأمان وقد قبل ما اشترطته عليه الدولة من أبعاد ميركو والده من بلاد الجبل وأن تقيم الدولة حول حدود الجبل بعض الأبراج والحصون تحتلها جنودها للمحافظة على الراحة العمومية لمنع أهل الجبل من الثورة ثانية.

ولما تم ما أرادت عادت السكينة وقد صرفت الدولة على ذلك المصاريف الجسيمة إلا أن أمير الجبل لم يقم بعد ذلك بما تعهد به وأظهر العناد بتحريض بعض دول أوروبا ثم تداخلت فرانسا والروسيا في المسألة واستمرت المداخلات السياسية الأجنبية تلح على الباب العالي حتى قبل هدم تلك الأبراج والقلاع 1280هـ-1864 م ونال الجبل بمساعي أوروبا وتطفلها على موائد السياسة العثمانية استقلالا إدارياً.

وقائع الصرب :

إن الامتياز الذي نالته مقاطعة الصرب بمقتضى معاهدة باريس 1856 م كما سبق جعلها ممتازة إدارة تحت سيادة الدولة العثمانية وجعل للدولة الحق في إبقاء حامية عثمانية في ست قلاع فقط من حصون تلك البلاد ثم بعد ثورة بوسنة وهرسك السابق ذكرها 1278 استمر الاضطراب ببلاد الصرب وأظهر أهلها العداوة العثمانيين في كثير من المسائل إلى أن تداخلت الدول في ذلك وعقد سفراؤهم مؤتمراً بالآستانة برضا الباب العالي كان عالي باشا الصدر الأعظم مندوبا به عن الدولة وبعد مداولات تقرر أن يخلي العثمانيون قلعتين من الست قلاع المذكورة وتبقى جنودهم في أربع فقط وهي بلغراد وسمندرة وفتح الإسلام وشيانس 1279هـ-1862 م .

ومع هذا فإن الروسيا لا زالت تلح على الدولة بترك بلاد الصرب تماماً لتغل يديها عن السير في طريق الإصلاح ولعب الجنرال اغناتيف سفيرها في الآستانة أدواره السياسية إلى أن تنازلت الدولة أيضاً للصرب عن القلاع الباقية وكانت حجة دولة أوروبا في ذلك أن بقاء الجنود العثمانية ببلاد الصرب تهديد لها فاضطرت الدولة إلى قبول هذه الأمور المجحفة بحقوقها التي اعترفت لها بها أوروبا سابقاً وذلك لاجتماع دولها عليها ولظهور الثورة بكريد 1283هـ-1867 م .

ولما خرجت العساكر العثمانية من بلاد الصرب معها جميع العائلات الإسلامية من سكان تلك البلاد لاستحالة الإقامة عليهم بعد خروج الجنود وتركوا أملاكهم في مقابلة تعويض دفعته الدولة لهم وهكذا استقلت الصرب ولم يبق للعثمانيين بها من أثر التابعية غير رفع العلم العثماني بقلعة بلغراد بجانب العلم الصربي فقط وقد تكدّر الرأي العام بالآستانة من ذلك جدّاً ولولا مراقبة الدولة الأحوال لحدثت فتنة داخلية شديدة.

ثورة جزيرة كريد 1283هـ :

قال الفاضل أحمد مدحت أفندي في القسم الأول من كتابه أسس الانقلاب ما ملخصه مترجماً أنه كلما سعت السلطنة العثمانية في الاصلاحات سعت دولة الروسيا في اختلاق المشاكل بداخلية الدولة لعرقلة مساعيها عن السير في طريقها ولذلك رأت سعي الدولة هذه المرة في الإصلاحات الداخلية العسكرية والبحرية دست إلى الأهالي غير المسلمين بجزيرة كريد المتعودين من القديم على الثورات بأن يقوموا ويطلبوا ضم جزيرتهم إلى اليونان وأوعزت إليهم بأن سيكون لهم من الروسيا واليونان نصير فانصاعوا لعذوية هذه المواعيد المحشوّة بالسم القتال وثاروا على الدولة بأجمعهم واستفحل أمرهم واستعدت الدولة لقمعهم بالقوة .

ثم ظهر أخيراً أن مصلحة الدول البحرية لا تساعدهم على نوال مطالبهم إذ كانت جميعها مضادة لسلخ كريد عن الدولة ثم ساقت الدولة عليهم الجيوش براً وبحراً تحت قيادة مصطفى باشا الكريدي وأمرته أن ينصح الثوّار أولاً بالإخلاد إلى السكينة كما هي عادتها حقناً للدماء ومع جده واجتهاده في ذلك لم يمكنه حملهم على الطاعة بل أصروا على العناد مع محبتهم لذلك القائد ولما لم تبق وسيلة إلا امتشاق الحسام أخذ يقاتلهم وأرسل المرحوم الخديوي إسماعيل باشا في ربيع الأول من السنة المذكورة قوة عسكرية مركبة من ستة آلايات بياده وبعض بطاريات طوبجية تحت قيادة شاهين باشا ثم تعين لقيادتها القائد الشهير إسماعيل سليم باشا الفريق ناظر الجهادية إذ ذاك وبعد وفاته خلفه عبد القادر باشا الطوبجي.

ثم لما دعت الدوة مصطفى باشا الكريدي إلى الآستانة بعد أن استقال محمد رشدي باشا من الصدراة وخله محمد أمين عالي باشا 6 شوّال سنة 1283 تعين لقيادة الجنود العثمانية عمر باشا وهو صربي الأصل وقد أظهر النشاط في مطاردة الثائرين أوّلاً ولما كانت الذخائر الحربية تصل إلى الثائرين من الخارج خصوصاً من بلاد اليونان لدعم تيقظ بعض عمال الدولة هناك وإهمالهم مع أن الأساطيل العثمانية كانت تحاصر الجزيرة المذكورة من جيمع جوانبها أصدرت له الدولة الأوامر بتشديد الحصار البحري حول الجزيرة وأعلنت بذلك عموم الدول التي أمرت سفنها الحربي المتجوّلة في تلك الأطراف بنقل العائلات التي رغبت في المهاجرة من الجزيرة فكانت تنقلها بتصريح من الدولة العثمانية.

المشاكل والارتباكات الداخلية :

قال العلامة أحمد مدحت أفندي في كتابه أس الانقلاب ملخصا:إن العناية التي بذلها السلطان عبد العزيز خان في السنين الأولى من جلوسه على سرير الخلافة في إتمام الإصلاحات التي أدخلها على جميع دوائر الحكومة كما مر جعلت الأمة العثمانية تأمل خيراً كثيراً في المستقبل إلا أنه لما قرب جلالته إليه بعض أصحاب المطامع وقضت الغلطات السياسية هدم القلاع التي شيدتها الدولة حول الجبل الأسود كما سبق وتخليته قلاع الصرب التي فتحت بدماء أبطال العثمانيين والأموال الوافرة وغير ذلك مما أصاب الدولة من تراخي من أشرنا إليهم من الرجال وظهور ثورة كريد التي لم يهتم الوزراء بإطفائها بسرعة تحزب ضد هذه السياسة سراً أكثر من الوزراء خصوصاً لما رأوا أن جلالته ميال إلى تغيير هيئة الوراثة في السلطنة العثمانية.

ولما كان تغيير طريقة الوراثة بالخديوية المصرية التي نالها المرحوم إسماعيل باشا برضا السلطان منعت المرحوم مصطفى فاضل باشا من حقوقه مال إلى الحزب المذكور والتفت حوله بعض شبان العثمانيين الذين ثارت في قلوبهم الحمية الوطنية والمحبة الملية ونخص بالذكر من هؤلاء علي سعاوي بك وضيابك ونامق كمال بك وغيرهم ورحل الكل إلى أوروبا وأخذوا يذيعون هناك بما ينشرونه من المكاتبات والجرائد الأغلاط الحاصلة في سياسة الدولة وينتقدون عليها وعلى أعمال فؤاد باشا وعالي باشا وأصدروا كثيراً من الرسائل الهجومية تحاملوا فيها على بعض رجال الدولة الذين تبرهم أعمالهم الحسنة ومساعيهم المشكورة مثل عالي باشا وفؤاد باشا وغيرهما.

ولما توفي عالي باشا الذي كان موته فاتحة باب شرور على الدولة وجلس مكانه محمود نديم باشا 1288 في مسند الصدارة انتهج طريقاً معوجاً ساءت به الأحوال عن ذي قبل فاختلت الأمور المالية واقترضت الدولة من أوروبا أموالاً كثيرة لم يعد منها على مستقبلها فائدة عظيمة واستبدّ العمال في الأحكام حيث لا رقيب ولذلك صدر أمر سلطاني بمحاكمة ثلاثة من المشيرين وهم حسين عوني باشا وشيرواني زاده رشدي باشا ومشير الضبطية حسني باشا وصارنفيهم بدون أن تطبق محاكماتهم على القانون ولذلك اندهشت رجال الدولة من هذه الأحوال وكثير التغيير والتبديل في الولاة بحيث صاروا يستبدلون بعد مضي خمسة عشر يوماً تقريباً من تنصيبهم فزادت الأحوال ارتباكاً ولما لاحظ السلطان سوء الحالة عزل محمود نديم باشا من الصدارة بعد أن تولاها أحد عشر شهراً وقد طعنت فيه الجرائد العثمانية وأظهرت ما أتاه من الأعمال المضرة بالدولة.

وقد كثر تغيير الصدور بعده حيث تولى الصدارة مدحت باشا 1292هـ ورشدي باشا الكبير وأسعد باشا وشيرواني رشدي باشا وحسين عوني باشا وأسعد باشا ثانية في مدة ثلاث سنوات ولما انتخب السلطان للصدارة محمود نديم باشا ثانية خطر في فكر رجال الحزب المضاد لسياسة الحكومة أن السلطان راض عن أعمال الوزير المذكور خصوصاً وأن الجنرال أغناتيف سفير الروسيا بالدولة نال مكانة عالية عند جلالته فصار لا يعمل عملاً إلا بعد استشارته حتى وصلت الحالة بالدولة إلى ما لا تحمد عاقبته وقد تمكن السفير الروسي المذكور من نوال مقصده خصوصاً وأن دولته كانت تمكنت أثناء حرب فرانسا وألمانيا 1871 من تعديل بعض بنود معاهدة باريس المعقودة سنة المختصة بالبرح الأسود ورضيت الدولة بأن يكون للروسيا بالبحر المذكرو أساطيل حربية ودور صناعة.

ولما حصلت الروسيا على ذلك أوجدت هناك الأساطيل القوية ثم طرقت أبواب السياسة الشرقية بترويج جماعات الصقالبة التي كانت مراكزها بمدينة بطرسبورغ عاصمتها فينا عاصمة النمسا فحركت الثورات في ولايتي بوسنه وهرسك 1875 م وبثت بين أهالي البلغار بذور الفتن فثارت بعض جهاتهم م إلا أن عمال الدولة هناك تمكنوا من إطفاء الفتنة بسرعة وبعد مدة قليل هيج البلغاريون بعض دعاة الثورة والفساد الذين أرسلتهم جمعيات وبأنه فقاموا ثانية مايو سنة 1876 م وأخذوا في قتل المسلمين وحدثت عدة مذابح في جملة قرى خصوصاً في باتاق.

واستمر هذا الهياج إلى21 يوليه من السنة المذكورة وعند ذلك قام بعض رجال السياسة بأوروبا وفي مقدمتهم غلادستون يطعنون في في الدولة بأغلظ الألفاظ وأشنع التعبيرات وينسبونحصول تلك المذابح إلى شوكت باشا وحافظ باشا وغيرهما من المأمورين وتمكنت الدولة هذه المرة أيضاً من إعادة النظام إلى الولاية وفي تلك الأثناء اشتعل لهيب الثورة في بلاد بوسنه وهرسك بتحريضات أهل الصرب والجبل الأسود وغيرهما فأصدرت الدولة الأوامر لقواد الجيوش بسرعة إعادة السكينة فأخذت تطارد العصاة.

ولما خافت الدولة من أن تقوى الدسائس الأجنبية على مساعيه أصدر السلطان في12 ديسمبر سنة 1875 م فرمانا بمنح تلك الولايات بعض نظامات لتسكين الخواطر إلا أنها لم تفد بل استمر العصاة يعبثون فساداً وطلبوا من الدولة سحب جيوشها من البلاد كما أخرجتها قبل ذلك من قلاع بلاد الصرب فاشتد بذلك الأمر وقدّم الكونت أندراسي لائحته المشهورة في أواخر السنة المذكورة وكان من مشتملاتها إنفاذ ما جاء بالفرمان السلطاني من الامتيازات فقبل السلطان وأصدر عفواً عن جميع المجرمين إلا أن الأهالي لوثوقهم بمساعدة أوروبا لهم على نوال مرغوبهم كما كانت تلقيه عليهم عمال الثورة أصروا على طلبهم الأول من إخراج العساكر العثمانية من بلادهم أو تقيم في القلاح فقط خصوصاً بعد حادثة سلانيك التي وقعت في5 مايوا سنة 1876 م.

وسببها أن فتاة بلغارية اعتنقت الديانة الإسلامية وأتت سلانيك لإثبات إسلامها فتصدى لها بعض سفلة الأروام حين توجهها إلى دار الحكومة واختطفوها من أيدي المحافظين عليها بالقوة وأخفوها أوّلاً في بيت قنصل أمريكا ثم نقلوها إلى دار أحد كبرائهم ولما أشيع ذلك بين المسلمين هاجت نفوسهم وتجمع منهم نحو ثلاثة آلاف أمام سراي الحكومة وطلبوا إحضار البنت المذكورة وتخليصها من أيدي الذين استولوا عليها حفظاً لناموس الأمة العثمانية.

ولما لم يحضروها تجمعوا في اليوم الثاني داخل الجامع المعروف بجامع سليم باشا القريب من سراي الحكومة للمداولة فيما يمكن به إرجاع الفتاة وبينما هم كذلك إذ حضر الموسيو مولين قنصل فرانسا والموسيو هنري أبود قنصل ألمانيا وأرادوا دخول المسجد عنوة فتصدى الناس لمنعهما أوّلاً إلا أنهما دخلا بالرغم عنهم وكان المتداول على الألسنة أن البنت في بيت قنصل ألمانيا المذكور ومما زاد الهياج عند المسلمين أن القنصلين المذكورين تفوّها بألفاظ غير لائقة فاشتد حنقهم وهجموا عليهم وقتلوهما.

كان الوالي محمد رأفت باشا استنجد بقوة عسكرية من القرة قولات ومن ملاحي السفن العثمانية الراسية بالمينا إلا أن تلك القوة لم تحضر سريعاً فحصل ما حصل.

ولما بلغ الباب العالي ما حدث أرسل في الحال لجنة بينها مستشار نظارة العدلية لتحقيق المسألة وأرسلت دولتا فرانسا وألمانيا أسطولين بعث كل من إنكلترة وإيطاليا والنمسا والروسيا واليونان سفنا حربية ثم انتهت المسألة بعمل تراض للدولتين المذكورتين وهي أن ينفى الوالي وبعض المأمورين وأن يقتل الذين تجارؤا على سفك الدماء وأن يضرب باسم كل دولة من الدولتين مدافعاً وترتب على ذلك أن اتفقت الروسيا والنمسا وألمانيا وقدموا للدولة لائحة برلين المشهورة بعد أن صادقت عليها إيطاليا وفرانسا.

ومآله أنهم طلبوا من الباب العالي تنفيذ فرمان 12 دسمبر سنة 1875 م وتعيين مجلس دولي لمراقبة تنفيذ الإصلاحات فرفض الباب العالي ذلك لأنه ماس بحقوقه فارتبكت الأحوال ولما كانت الأمة ترى أن الصدر الأعظم محمود نديم باشا لا يعمل عملاً إلا برأي السفير الروسي نسبت هذه الأمور إلى هذا الوزير العلقمي فكرهه الناس وشنعوا عليه خصوصاً لما أشيع أن السفير الروسي أشار على السلطان بإحضار قدر من الخرواتيين للمحافظة على قصره حينما داخله الريب في إخلاص الجنود والأمة وصار لا يثق بحراسة الخصوصيين وشاع خبر استقدامه ثلاثين ألف من العساكر الروسية للمحافظة على حياته.

وعند ذلك اضطربت الأفكار وهاجت الخواطر وأوّل الناس تلك الإشاعات تأويلات كل على حسب غرضه ورموا الصدر المذكور بالخيانة الكبرى لأفعاله المذمومة وأنه يريد أن يسلم للروس أعدائهم البلاد غنيمة باردة فقامت طلبة العلم الصفطا والتفت عليهم كثير من الأهالي في أواسط ربيع الأوّل سنة 1293هـ وأرسل السلطان لشيخ الإسلام يطلب منه السعي في تسكين أفكار الطلب وإرجاعهم إلى مدارسهم وكان الناس يشيعون أيضاً أن شيخ الإسلام وقتئذ حسن فهمي أفندي يميل إلى سفير الروسيا وينزله منزلة ولده فأشركوه أيضاً في الخيانة.

ولما خلف السلطان تفاقم الخطوب عزل محمود نديم باشا من الصدارة وحسن فهمي أفندي من المشيخة 16 ربيع الأوّل ووجه مسند الصدارة إلى محمد رشدي باشا الكبير المعروف بالمترجم والمشيخة الإسلامية إلى خير الله أفندي والسر عسكرية إلى حسين عوني باشا.

خلع السلطان عبد العزيز ووفاته:

لقد تباينت الأقوال كثيراً في سبب خلع السلطان فمن قائل أن الجنرال أغناتيف سفير الروسيا لما رأى تغيظ السلطان وتأثره من إلزام الأمة إياه بطرد الوزير محمود نديم باشا صار يحرضه على الانتقام من المتسببين وإبعاد كثير من الذين يكرههم السفير المذكور ليخلو له جوّ السياسة فينال ما يشاء فهاجت الأفكار لذلك .

ومن قائل أن السياسة الإنكليزية التي تخاف تقرّب الدولة من الروسيا قضت بالتحريض على خلع السلطان لما رأت أن جلالته يميل إلى محالفة الروسيا ولذلك كان يرتكن كثيراً على آراء سفيرها في الآستانة .

ومن قائل أن الوزراء خافوا من أن يبطش السلطان بهم فتآمروا عليه وغير ذلك من الروايات والحاصل أنه اجتمع كل من رشدي باشا ومدحت باشا وحسين عوني باشا وأحمد باشا القيصرية لي وشيخ الإسلام حسن خير الله أفندي وأمثالهم من رجال الدولة وأركانها وقرروا خلع السلطان عبد العزيز فيما بينهم وبقي هذا الأمر سراً لا يذيعونه حتى تمكنهم الفرصة من إجرائه وكتبوا يستفتون شيخ الإسلام فأفتى بالجواز وعلى ذلك حاصروا السراي السلطانية براً وبحراً بالجنود قبل غروب يوم الاثنين 6 جمادى الأولى سنة 1292هـ-28 مايو 1876م .

ومن الغريب أن الجنود كلها لم تكن تعلم شيئاً من سبب تجتمعها بهذه الصفة ولما تم الحصار ذهب السر عسكر حسين عوني باشا إلى مقر السلطان مرادخان وطلب مواجهته فخرج إليه وقد اعتراه الخوف لإيقاظه من النوم في تلك الساعة وبعد أن هدأ روعه أركبه معه في العربة وسلمه غدّارة بست طلقات لتكون معه ولما أتى به إلى باب السر عكسرية أجلسه في الحجرة التي أعدّت لمبايعته وفي الحال حضر الشريف عبد المطلب وغيره من أعيان الدولة ورجالها وعظمائها وبايعوا السلطان في الساعة الثالثة بعد نصف الليل.

ثم أرسلت الفتوى إلى رديف باشا وكان الموكل بأمر الحصار فأحضر لديه رئيس أغوات السراي جوهر أغا وأبلغه بأن الأمة قد خلعت السلطان عبد العزيز وبايعت السلطان مرادخان وأنه مأمور بإرسال السلطان المخلوع إلى سراي طوبقبو ولما بلَّغ جوهر أغا هذه الرسالة كان يضطرب ويرتعد فقال له السلطان عبد العزيز ارجع إليه وقل له هل خلعي أمر هين فقال له رديف باشا إن العساكر محيطة بالسراي بحراً وبراً فإذا امتنع عن الخروج والذهاب إلى سراي طوبقبو طوعاً أخرج كرهاً وأرسل له فتوى شيخ الإسلام القاضية بخلعه.

فلما نظر السلطان إلى العساكر والفتوى لم يجد بداً من الخروج فخرج وأنزل في زورق ومعه ابنه الأمير يوسف عز الدين أفندي ونقلت عائلته أيضاً إلى تلك السراي وكانت محاطة بالعساكر كذلك وفي الصباح أطلقت المدافع من المرامي البرية والبحرية فهب الناس من مضاجعهم وهم يسمعون صوت المنادي يقول أن السلطان مراد الخامس جلس على سرير السلطانة السنية فخرجوا أفواجاً وتوجهوا إلى سراي يشكطاش فقيل لهم أن السلطان في سراي السر عسكرية فقصدوها ودخلوا عليه وبايعوه وكانت تلوح على وجوههم علامات السرور والفرح وفي نحو الساعة الثالثة ركب السلطان مراد مركبته وقصد سراي بشكطاش وأقبلت إليه الجموع هناك تبايعه وقد استمرت المبايعة ثلاثة أيام.

أما السلطان عبد العزيز فإنه لم يمكث بعد خلعه إلا أربعة أيام على قيد الحياة ثم مات وللناس في أسباب موته أقوال ظاهرة وأخرى خفية تداولوها فيما بينهم أما الأولى فهي أن هذا السلطان العظيم اعتراه من يوم خلعه مرض في رأسه صيره كالمجنون فاضطربت أحواله وحركاته فكان يتخيل تخيلات زاد بها قلقاً حتى أنه لم يعد يستطيع الرقاد ليلة وفاتة هي ليلة الأحد الموافق 11 من شهر جمادى الأولى ولما أصبح الصباح دخل الحمام كعادته ثم خرج إلى بستان السراي ثم عاد إلى حجرته وأمر بفتح الشبابيك والأبواب وأخذ يتمشى بها ثم عاد وخرج ثانية إلى البستان وكأنّ الدنيا ضاقت عليه ثم حاول الخروج إلى شاطىء البحر فمنعه ضابط الحرس بكل أدب وقال له يا مولاي لا آذن بالخروج فأبى وشتمه.

فحضر ضابط آخر وأشار إليه بالدخول فدخل وقد زاد بلباله واضطرابه حتى ظهرت عليه علامات الاختلال وأخيراً طلب من إحدى الجواري مقصا يقص به أطراف لحيته كعادته فخرجت الجارية وأخبرت والدته بذلك فأعطتها مقصاً ومرآة فتناول المقص وأخذ يقص به أطراف ليحته ووالدته تنظر إليه من وراء الباب ولما رآها أمرها بالانصراف ثم جلس على متكأ ونادى أحد الأغوات وخاطبه بمحاربة العدوّ الذي كان يتوهمه في كل لحظة.

ثم أخذ المقص وشرع يقطع به عرقاً في وسط ذراعه الأيمن فحاول الخادم أخذ المقص منه فمانعه فذهب إلى والدته صارخاً في تلك الأثناء جلس السلطان على المتكأ وقطع عرق يده اليسرى قطعاً بليغاً وقيل إنه قبل أن يفعل ذلك أحكم غلق الباب ولما جاءت والدته والجواري طفقن يصرخن ويبكين وكسرن زجاج الشبابيك ولما أقبل الضباط بلغهم الخبر وقيل إنه كان يفتكر في مدّة في الانتحار.

ولما وصل خبر ذلك إلى السلطان أصدر أمراً بتشكيل لجنة طبية لتحقيق سبب الوفاة ولما كشفوا عن الجثة حرروا مضبطة وقع عليها الأطباء وكانوا 19 طبيباً من أكبر أطباء الآستانة بينهم أطباء بعض السفارات ومآل تلك المضبطة لا يخرج عما ذكرناه هذه هي الرواية الظاهرة إلا أن بعض الواقفين على خفايا الأمور قالوا بتأكيد أن وفاة السلطان عبد العزيز لا بدّ وأن تكون بفعل فاعل ونسبوا ذلك إلى أن مدحت باشا وحسين عوني باشا وغيرهما من الذين اتفقوا على قتله منعاً لحصول القلاقل المستقبلة ما دام على قيد الحياة وليكونوا في مأمن من الانتقام فيما بعد وقالوا إنهم وكلوا بقتله اثنين من الفداوية بعد أن اتفقوا على ذلك مع أحد البكوات الذي كان انتخبه السلطان عبد العزيز لمرافقته أثناء عزلته.

وكان يعتمد عليه كثيراً ولا يخاف منه شراً وقد أوعز هذه البك إلى والدة السلطان أن تأخذ من السلطان خنجر السلطان عثمان وكان يتقلده دائماً وقال لها أنه لا يصح أن يبقى هذا الخنجر مع السلطان خوفاً من أن يضرب به نفسه فصدّقت قوله لعلمها بمحبتها الشديدة لابنها واحتالت حتى أخذت الخنجر المذكور في تلك الليلة أقفل ذلك المأمور الأبواب ودخلت الفداوية من شبابيك البستان وتمكنوا من قتل السلطان بمرت خصيتيه ثم حصل ما حصل والله أعلم بالحقائق وذلك كان سبباً في قيام الضابط حسن الجركسي وقتله بعض الوزراء كما سيأتي أم السلطان فشيعت جنازته ودفن بجوار أبيه السلطان محمود رحمهما الله رحمة واسعة.

وكان رحمه الله قوي البنية يحب السير على خطة أسلافه من إصلاح أحوال المملكة ومعاملة جميع الرعايا على السواء محباً للعمارة شيد كثيراً من المباني والقصور الفاخرة والمعامل المفيدة في جملة ولايات فقويت بها المملكة براً وبحراً ومدّجلة خطوط حديدية في بعض ولايات الروم إيلي وأصلح فم نهر الطونة ومهد عدة طرق بالأناضول فاتسعت دائرة التجار ولولا الدسائس الأجنبية لكانت أيامه تعد من أعظم الأيام وكان ميالاً إلى السياسة الروسية كثيراً وهذا ما أمال الأمة عنه لأنه كان يرى في موالاته للروسيا تحقيقاً لمآربه وغاياته كما كان يوعز إليه بذلك سفير الروسيا الجنرال أغناتيف ولذا كان السلطان يتظاهر بالميل إليه كثيراً.

السلطان مرادخان الخامس ابن السلطان عبد المجيد 1293هـ:

لما تمت مبايعة السلطان مرادخان الخامس كما تقدّم أظهرت الأمة العثمانية انشراحها وسرورها واحتفلت بإقامة الزينات في دار الخلافة ثلاث ليال وأعلن الباب العالي الحكومة الخديوية وسائر الإمارات الممتازة تلغرافياً بجلوس السلطان مرادخان الوارث الشرعي لكرسي الخلافة وفي اليوم العاشر من الشهر كتب المرحوم السلطان عبد العزيز خان مكتوباً إلى السلطان مراد به كثيراً من الأقوال الحكيمة ينفي عنه ما أشاعوه عنه من إصابته بالاختلال العقلي.

وكانت الأحوال مضطربة والجرائد تكتب المقالات الطويلة طالبة تشكيل مجلس شورى من نواب تنتخبهم الأمة وسن قانون أساسي للدولة ولما خافت الحكومة سوء العاقبة أصدرت إدارة المطبوعات إلى عموم الجرائد أمراً بمنع الكلام في هذا الخصوص فانساءت الأمة من ذلك وبعد خمسة أيام من هذا الأمر صدر خط هما يوني في 16 جمادى الأولى إلى الصدر الأعظم محمد رشدي باشا ببقائه وهو سائر الوزراء في مناصبهم وكان يحتوي على مبادىء الشورى التي يقصد جلالتها إدخالها لإصلاح كافة الإدارات.

ثورة الصرب والجبل الأسود :

لما جلس السلطان مرادخان على سرير الخلافة كانت الثورة بولاتي بوسنه وهرسك لا تزال مشتعلة وكذا الحال ببلاد البلغار وكان رجال الثورة الذين اجتمعوا في فلبه وطرنوه وصعدوا إلى جبال البلقان لتهيج أهاليها وأخذوا في مقاتلة العساكر الشاهانية والفتك بالأهالي الإسلامية القاطنين بتلك البلاد والأطراف.

وقد اهتمت الدولة بمنع هذا العصيان وأصدر السلطان عفواً عاماً عقب جلوسه عن العصاة وكتبت النصائح اللازمة ونشرت على البلغارين وأخذت الدولة أيضاً في التجهيزات العسكرية لظلام أفق السياسة وطلبت كثيراً من عساكر الرديف من بر الأناضول وساقتهم إلى تلك الأطراف ولما كانت دسائس الروس لا تزال تروّج الثورات بتلك النواحي شقت إمارتا الصرب والجبل الأسود عصا الطاعة أيضاً فاتسع الخرق على الدولة وتعدّدت مشاكلها وزادت جروحها خطراً حتى اضطرت لأخذ الاحتياطات الشديدة وطلبت مدداً من المرحوم إسماعيل باشا خيدو مصر فأنجدها سريعاً بقوّة مؤلفة من ثلاثة ألايات من المشاة وبطاريتين من المدافع وكان يقود هذه القوّة الفريق راشد حسني باشا ومن قوّادها العظام إسماعيل كامل باشا وسافرت على خمسة وابورات مصرية تحت ملاحظة محمد كامل باشا قومندان وأبور المحروسة ووصلت هذه القوّة إلى سلانيك في شهر رجب من سنة 1293هـ.

ثم سافرت من طريق إسكوب الحديدي إلى جهات يكي بازار وذهبت من هناك والتحقت بالجيوش العثمانية النازلة بحدود بلاد الصرب وأرسل الخديو أيضاً كثيراً من الأسلحة والمعدّات الحربية لتوزيعها على الجنود العثمانية وبعث ثلاثة وابورات للمساعدة في نقل الجيوش العثمانية ثم عمت الثورة أنحاء تلك الإمارات وسرت إلى ولاية الروم إيلي وتقاتل الطرفان وانتصر عثمان باشا بقرب قصبة إيجار على الصرب انتصاراً باهراً ثم سار سليمان باشا من جهة شهركوي وحافظ باشا من جهة بلا نقه.

وبعد أن تقابلاها جما الصربيين فهزماهم هزيمة هائلة حتى اضطروا لترك حصونهم والالتجاء إلى داخل البلاد وأرسل أيضاً السر عسكر عبد الكريم نادر باشا من نيش فرقة عسكرية تحت قيادة أحمد أيوب باشا فكسر الصربيين في مضيق غراماده واستولى على ما معهم من المدافع ثم تقابل أحمد أيوب باشا بسليمان باشا وتقدّما وكسرا قوّة للصربيين في مضيق بانديرو ثم تقدّم على صاب باشا إلى مدينة الكسناج فانتصر على الصربيين بجوارها ثم انضم إليه أحمد أيوب باشا بفرقته وحاصراها إلا أن العثمانيين لم يستولوا عليها إلا في عهد مولانا السلطان الأعظم عبد الحميدخان.

وفي تلك الأثناء أيضاً كان محمد علي باشا منتصراً بالجيوش المصرية بجهات يكي بازار واستولى على قلاع ياوور وبهذه الانتصارات المتقدّمة انقطع أمل الصربيين وداخلهم اليأس وفي خلال ذلك أيضاً انتصر أحمد حمدي باشا بفرقته على ثوار الجبل الأسود في جهتي قوج وصلاجق إيزلا تحبه وانتصر سليم باشا بفرقته عليهم في الجهة الواقعة بني نواسين وغاجقة وتقدّم أحمد مختار باشا بقوّة كبيرة عليهم أيضاً من جهة نواسين.

وبعد أن بدّد شملهم استولى على استحكاماتهم التي أنشؤها بتلك الجهات المستحكمة استحكاماً طبيعياً ثم تقدّمت عساكره حتى وصلت إلى محل يدعى بيلك ولما تقدّم عثمان باشا وسليم باشا بفرقتيهما احتاط بهما الجبليون من كل صوب وتغلبوا على القائدين العثمانيين وكسروهما وقتل سليم باشا والتزم عثمان باشا أن يسلم فأخذوه أسيراً وعاملوه بالحسنى مدة أسره ثم تقدّموا لمصادمة قوّة أحمد مختار باشا ولكنه قاومهم وكسرهم في جملة وقائع ولما رأى زيادة قوّتهم وتجمعهم عليه طلب من جنود بوسنه قوّة فأرسلوا له ستة عشر طابوراً.

ولما وصلت إليه أخذ يهاجم الثوار ويضايقهم في جهات فريج وفخور وترمبين ثم أرسلت الدولة جيشاً آخر من الآستانة وبر الشام على البواخر تحت قيادة محمود باشا فنزل في فرضة بار إلا أنه هزم واضطرّ لأن يرجع متقهقر إلى أشقودره وسبب ذلك وعورة تلك الأطراف وعدم محاربة الجبلين محاربة منتظمة وكان الروس لا ينفكون عن إرسال الأسلحة والذخائر إلى الصربيين والجليين ويرسلون إليهما أيضاً متطوّعين من الجيش الروسي وغيره لقيادة الثوّار كل ذلك بمساعي جمعيات الصقالبة بأوروبها ومع هذا فإن ما بذله العثمانيون من الهمة والنشاط وكبح الثوّار أدهش الروس.

مرض السلطان مراد وخلعه:

اعلم أنه لما أجمع القوم على خلع المرحوم السلطان عبد العزيز خان وتولية السلطان مراد وذهب حسين عوني باشا إلى حيث يقيم السطان مراد وإعلامه بذلك وإحضاره إلى باب السر عسكرية وكان ذلك بعد منتصف الليل اعترص السلطان دهشة وفزع لأنه لم يكن يعلم شيئاً من ذلك كما تقدّم وقد ازداد معه هذا الأمر بما حدث بعد من الحوادث وظهرت عليه علامات الاضطراب حتى أنه لما بلغه خبر قتل حسن الجركسي للسر عسكر وناظر الخارجية وغيرهما وقت تناوله الطعام ازداد اضطراباً وتغيرا فترك الطعام وقام فأغمى عليه وتقايأ وصار بعدها لا يميز الوزراء من بعضهم.

ومع ذلك كان الصدر الأعظم رشدي باشا يجتهد في إخفاء هذا الأمر عن العموم في أوّله واستمرّ يسير المصالح السياسية والإدارية بهمة عظيمة إلا أن امتناع السلطان عن حضور الاحتفالات الرسمية وتقلد السيف حسب المتبع وعدم مقابلته للسفراء لتقديم أوراقهم الرسمية ببقائهم في مراكزهم كالمعتاد ومضى على ذلك أكثر من شهرين أدخل الريب عند الأمة وذاع خبر مرض السلطان.

ولما اشتدّ الأمر به أبلغ ناظر الخارجية جميع السفراء بالحالة وأخبرهم أيضاً بلزوم خلع السطان ثم إن الوزراء استدعوا الدكتور وليد روزف النمساوي رئيس مستشفى ويانه الشهير في الأمراض العقلية وطلبوا منه اختبار حالة السلطان وبعد أن لازمه جملة أيام وتأمل في حركاته وأحواله واستعلم عن كيفية معيشيته في أيامه الماضية كتب تقريراً ذكر فيه أن مرضه هذا كان مقروناً بالخطر وقد بذل الجهد في معالجته وأوسى باستنشاقه نسيم البحر فصاروا يخرجونه في يخته المخصوص إلى البوغار يومياً.

إلا أن المرض كان يأخذ في الاشتداد حتى ظهرت عليه علامات غريبة توجب الحزن من ذلك أنه أراد مرة أن يلقي بنفسه من إحدى النوافذ وأخيراً تشاور الوزراء ثم عرضوا الأمر على أخيه الأمير عبدالحميد أفندي وأن يستلم مقاليد الدولة فنصحهم بالتأني وعدم التسرع في الأمور ولما كان بعض الدول المتحابة يلح بإجلاس سلطان جديد ليتيسر للدولة متابعة الإصلاحات تعينت لجنة من الأطباء للنظر في حالة السلطان مراد ولما نظره الأطباء قرروا بإصابته بداء عضال لا يرجى شفاؤه.

ولما كانت مصالح السلطنة تحتاج إلى من ينظر في شؤنها اجتمع الوزراء واستقرّ رأيهم في المجلس المنعقد يوم الأربعاء العاشر من شعبان سنة 1293هـ-30 أغسطس 1876 م على مبايعة أخيه مولانا السلطان الحالي عبد الحميد خان وأرسلوا إلى والدة السلطان مراد يبلغوها مع الأسف الشديد ما استقرّ عليه رأي الوكلاء والوزراء فأرسلت إلى الصدر الأعظم رقيماً أظهرت فيه قبولها لما استصوبوه ثم اجتمع الوزراء وتذاكروا في الأمر بعد أن استفتحوا شيخ الإسلام دولتا وخير الله أفندي فأفتى بالجواز وعلى ذلك تقرر وجوب مبايعة سيدنا ومولانا السلطان عبد الحميد خان الثاني .

السلطان عبد الحميد خان الثاني ابن السلطان الغازي عبد المجيد خان:

جل حرسه الله على تخت الخلافة الإسلامية في ويوم الخميس 11 شعبان 1293هـ-31 أغسطس سنة 1876 م وحضر لمبايعته الوزراء والأعيان وأرباب المناصب العلمية والعسكرية والملكية في سراي طوبقبو ثم قصد سراي بشكطاش فوفد عليه رؤساء الطوائف المختلفة وهنؤه بالخلافة وأطلقت المدافع في الأوقات الخمس من سائر المرامي البرية والبحرية بسائر أطراف السلطنة كما هي العادة.

وأقيمت الزينات بجميع جهات الآستانة وغيرها ثلاثة أيام بلياليها وأرسل الصدر الأعظم التلغرافات فأعلم البلاد الممتازة ثم في يوم الخميس الثامن عشر من شعبان تقلد الخليفة السيف على الرسوم المعتادة بجامع سيدي أبي أيوب الأنصاري قلده إياه نقيب الأشراف بحضور شيخ الإسلام والوكلاء كالمعتاد ثم عاد في موكب حافل فاخر كم أتى ولما قبض على زمام الأعمال أخذ يهتم في إصلاح الأمور بهمة ونشاط وأقر محمد رشدي باشا في الصدارة وكذا باقي الوزراء وأصدر فرماناً بتاريخ 21 شعبان 1293هـ أظهر فيه رغبته في السعي في إصلاح أمور الدولة.

yacine414
2011-03-18, 16:40
وقائع الروم ايلي :

لا يخفى أنه في مبدأ جلوس السلطان كانت الدولة محفوفة بالاتباكات الشديدة والاضطرابات العديدة والثورات الكثيرة المنتشرة بولاياتها بالروم ايلي ولذا أصدر السلطان الأوامر بسرعة إرسال الجنود إلى حدود الصرب والجبل الأسود وبوسنه وهرسك لإخماد الثورة فاستدعت نظارة الحربية عساكر الرديف من كافة الايالات وبعد أن سلحتهم أرسلت غالبهم إلى المواقع العسكرية وشدّدت الأوامر على قوّاد الجنود بالمواقع الحربية ببذل المجهود وصرف الهمة لسرعة إطفاء الثورة.

فانتصرت العساكر العثمانية في غالب الوقائع وشدّد السردار عبد الكريم نادر باشا الحصار على الكسناج حتى أنه بعد أيام كسر جموع الصربيين وهزم قائدهم الجنرال جرنايف الروسي الذي كان متقلداً قيادة الصربيين بإيعاز من دولته التي كانت تسعى في تهييج الطوائف المسيحية على الدولة كما هي عادتها وعادة الدول الأوروباوية الأخرى متى أرادت معاكسة الدولة وانتصر أيضاً أحمد أيوب باشا وسليمان خيري باشا على جيوش الصرب التي كانت تحت قائده لاشانين وفتحت نيشواز ثم رتب الس عسكر عبدي باشا الجنود وتقدّم إلى بلغراد باقي جموع الصربيين.

وخاف البرنس ميلان أمير الصرب من عاقبة الأمر فطلب من قناصل الدول 2 شعبان 1293هـ التوسط في الصلح وبناء على ذلك تداخلت الدول الأوروباوية التي لما أيقنت بعجز الثائرين توسطت في طلب المهادنة ولوالي شهر لوضع شرائط الصلح وأبلغ السير هنري آليوت سفير الإنكليز في الآستانة ذلك إلى الدولة وأيد طلبه جميع السفراء إلا أن الباب العالي اعترض على محرراتهم الشديدة اللهجة ثم قدموا شرائط المصالحة والتزم الباب العالي بقبول المهادنة في ظروف 48 ساعة وكان الباب العالي يظن أن الدول الأوروباوية تعلن أميري الصرب والجبل الأسود بتوقيف الخصام إلا أنهما لم يتوقفا إلا بعد مخابرات وتداخلت دولة الروسيا في الأمر بشدة واستمرّت المخابرات السياسية بين الدول والباب العالي بواسطة السفراء لا تنقطع.

وكانت الدول تغل يد الدولة في غالب المخابرات عن التصرف في حقوقها الشرعية وفي تلك الأثناء استعفى محمد رشدي باشا من منصب الصدارة لتقدّمه في السن 4 ذي الحجة 1293هـ ووجهت الصدارة إلى مدحت باشا وتقرر امتداد زمن الهدنة وعينت الصرب من قبلها المسيو قرستيج ومايخ فتقابلا مع صفوت باشا ناظر الخارجية وبعد المذاكرة اتفق الطرفان وعادت المناسبات بينهما ببقاء كل شيء على أصله كما كان ولما كانت مسألة الجبل الأسود لم تنته بعد رأت الدولة لزوم تجديد الأعمال الحربية وأصدرت الأوامر إلى عموم المراكز العسكرية في حدود الجبل المذكور بأن تكون على قدم الاستعداد حتى إذا انتهت مدة الهدنة وتصدت جنود الجبل لاستعمال السلاح قابلتها العساكر العثمانية بالصرب.

القانون الأساسي ومجلس الشورى :

لما كان السلطان عبدالحميد خان من يوم جلوسه على تخت الخلافة منح البلاد نظاماً دستورياً مناسباً لحالتها يحفظ لعموم الأمة العثمانية حقوقها ويربط جميع الأجناس والملل المتكونة منها الدولة العثمانية ببعضها لمنع الدسائس الموجبة للمنافسات واشتراك جميع الرعايا في تحسين شؤن الدولة أصدر فرماناً بناء على ما قرره الوزير في 5 شوال سنة 1293هـ بتنظيم مجلس عمومي يتكوّن من مجلسين

أحدهما : ينتخب الأهالي أعضاءه ويسمى بمجلس المبوعثان.

والثاني : تعين الدولة أعضاءه ويسمى بمجلس الأعيان.

وبعد أن مضى أربعة أيام على صدارة مدحت باشا أصدر له السلطان فرماناً مرفقاً بالقانون الأساسي يشتمل على مادة أمر بأن يكون العمل بمقتضاه في جميع المماليك العثمانية وتلى هذا القانون بالآستانة في محفل عام 14 ذي الحجة سنة 1293هـ .

وأطلقت المدافع من القلاع البرية والبحرية سروراً بذلك ويتضمن هذا القانون الحقوق العمومية لتبعة الدولة العلية وواجبات الوزراء والمأمورين والمجلس العمومي وهيئة مجلس الأعيان وهيئة مجلس المبعوثان والمحاكم والديوان العالي والأمور المالية والولايات وموادّ شتى أخرى وقد أعلنه الباب العالي لعموم الولايات ثم أخذت الدولة في السير على موجبه والعمل بنصوصه من ذلك التاريخ.

ولقد كان صدور هذا القانون في الزمن الذي كانت فيه الدولة مرتبكة بتداخل الروسيا ودول أوروبا في مسائلها الداخلية ثم قويت الدسائس الروسية حتى تمكنت من عزل أحمد مدحت باشا أوّل الساعين في وضع هذا القانون الشورى ونفي إلى خارج الممالك العثمانية 21 محرم سنة 1294هـ أي بعد شهرين من صدارته لأنهم نسبوا إليه السعي في إرجاع السلطان مراد إلى عرش الخلافة وفصل السلطة الدينية عن السلطة الدنيوية بمعنى أن السلطان لا يكون خليفة لجميع المسلمين في المعمورة بل يكون سلطاناً على الأمة العثمانية فقط تنفيذ المقاصد بعد الدول الأوروباوية الساعية في إضعاف الشوكة الإسلامية وتعين بعده للصدارة أدهم باشا قال بعض الواقفين على السياسة أنه لم يكن من الصواب نفي مدحت باشا في الوقت الحرج المذكور لأنه لو بقي في منصبه ربما أمكنه بعد أن رفضت الدولة قرار المؤتمر الذي عقده السفراء في ذلك الوقت بالآستانة كما سيأتي أن يجد حلاً للمشاكل التي حدث معظمهما بسببه ثم اجتمع مجلس المبعوثان العثماني 4 ربيع الأول في سراي بشكطاش وافتتح بحضور جلالة مولانا السلطان وتليت فيه خطبة عظيمة عن لسانه الملوكي.

وأخذ بعد ذلك يعقد جلساته ويتذاكر فيما يعرض عليه من المسائل وقد امتدح سيره كثير من الجرائد الوطنية والأجنبية على اختلاف أنواعها ومشاربها وقالت إن حسن سيره وانتظام جلساته يدل على ترقي الأمم العثمانية ولكن من الأسف أن استعمل بعض أعضائه حدة في أمور لا لزوم للخوض فيها في ذلك الوقت ولما كان بعد دول أوروبا لا تحب أن ترى اتفاق الأمة العثمانية وأن يكون لها مجالس نيابية شورية أخذت تدس الدسائس من يوم ظهور هذا المجلس إلى عالم الوجود.

ولما خافت الدولة من أن رواج الدسائس الأجنبية بين الأعضاء يؤدي بلا شك إلى المشاكل والاختلالات التي أرادت الدولة التخلص منها بتشكيل هذا المجلس فتكون جلبت على نفسها الضرر من حيث أرادت المنفعة صدر أمر سلطاني بعد اتفاق وزراء الدولة وأعيانها بإرجاء اجتماعه إلى أجل غير محدود 10 صفر سنة 1295هـ .

رفض قرار المؤتمر والبروتوكول وحرب الروسيا :

قلنا فيما تقدم أن الدول اتفقت على التضييق على الدولة العثمانية وإجبارها سياسياً على قبول مهادنة الصرب والجبل الأسود وكان ذلك تارة بالنصائح المؤلمة وتارة بالتهديد ولما قبلت الدولة ذلك أرسلت تلغرافين لأميري الصرب والجبل الأسود تدعوهما إلى عمل طريقة لتسوية الخلافة فأجاب البرنس ميلان أمير الصرب تلغرافياً بقبوله المصالحة على طريقة الاستاتيكو أي بقاء حالة امتيازاته كما كانت عليه أوّلاً وعين من قبله المندوبين السابق ذكرهما أما جواب البرنس نيقولا أمير الجبل الأسود فتأخر خمسة أيام وكان بلا شك يستشير بعض دول أوروبا التي يستند عليها ثم طلب تقرير قاعدة لذلك بمعرفة مندوبي الدول الذين تداخلوا في أمر المهادنة الأولى.

غير أنه لم تمض إلا مدة قليلة حتى قامت الروسيا في ميدان المعارضة تطلب عقد مؤتمر للنظر في مسألتي البلغار وبوسنه فزادت الحالة ارتباكاً وبعد أن أظهرت الدولة جنوحها إلى السلم قامت الدولة الأوروباوية تساعد دولة الروسيا في طلبها وعقد مؤتمر بالآستانة من سفراء الدول وعينت الدولة صفوت باشا ناظر الخارجية وأدهم باشا سفيرها بباريس مندوبين من طرفها وبعد عقد جلساته أخيراً في نظارة البحرية تحت رياسة صفوت باشا قرر طريقة الإصلاحات اللازم إدخالها في ولايات بوسنه وهرسك والبلغار تحت مراقبة الدول ثم قدموا ذلك القرار إلى الدولة وكانوا قبل ذلك اجتمعوا بسفارة الروسيا وقرروا الموادّ الأساسية لهذا المؤتمر ولم يسمحوا لمندوبي الدولة بالحضور وهذا مما دل على تحيزهم للروسيا وتألبهم على معاكسة الدولة العثمانية.

وفي خلال ذلك ساقت الروسيا مائتين وخمسين ألف عسكري إلى حدود المملكتين و 150,000 إلى حدود الأناضول وهاجت الأفكار في بلاد الروسيا في كثير من عواصم أوروبا.

وقالت النسما إذا تجاوزت الروسيا نهر الطونة أرسل عساكري للمحافظة على بوسنه.

وقال اليونان إذا تقدمت الروسيا للحرب مع الدولة لزمنا إظهار التشيع للأروام الموجودين في أراضيهم.

ولهذا كانت الدولة العثماية في مركز حرج بحيث لو أقدمت على الحرب لاضطرت لمقاومة هذه الأمم بمفردها ولهذا أصدر السلطان الأوامر إلى نظارة الحربية بحشد الجيوش في حدود الدولة من جهتي الروم ايلي والأناضول وعين المشير أحمد مختار قائدا عاماً على جيوش الأناضول والمشير عبد الكريم نادر باشا قائداً عاماً على جيوش الروم ايلي وعين المشير درويش باشا قائد الباطوم وكان عثمان باشا وقتئذ قائداً على فرقة ودين.

ورأى جلالة السلطان أن يشرك الأمة معه للنظر في هذه الحالة كما هو القانون الأساسي فجمع مجلساً عاماً مؤلفاً من كافة الوزراء الموظفين والمعزولين والعلماء والأعيان والتجار والرؤساء الروحانيين وبعض كبار المأمورين بحيث بلغ عددهم مائتي نفس وعرض عليهم قرار المؤتمر فأجمعوا على رفضه لأن الإصلاحات المطلوبة فيه للولايات موجودة في القانون الأساسي الذي منحته الحضرة السلطانية لجميع الشعوب العثمانية بلا استثناء ولأن قبوله موجب لتداخل الأجانب في أمور الدولة الداخلية.

أما قرار المؤتمر المذكرو فكان يشتمل على المواد الآتية وهي :

أوّلا:ً إضافة جهة مالي روزنيك إلى بلاد الصرب وردّ حدودها القديمة إليها.

ثانياً : أن يضاف إلى الجبل الأسود جهات اسبيذا و مقاطعة من ألبانيا وهرسك.

ثالثاً : منح بلاد بوسنه وهرسك استقلالاً إدارياً وأن يعين الباب العالي لها حاكماً مسيحياً لمدة خمس سنوات.

رابعاً : منح الاستقلال الداخلي لبلاد البلغار أيضاً.

خامساً : تشكيل بوليس وطني للأقاليم المذكورة واعتبار اللغة السلافية لغة رسمية لأنها لغة الأكثرين وتخصيص نصف إيرادات البلاد المذكروة لمنافعها الداخلية.

سادساً : انتخاب مشايخ القرى والقضاة والبوليس وغير ذلك في أقاليم فلبه ومقدونيا العليا المجاولة للبلاد المذكورة.

سابعاً : أن يحتل هذه الأقاليم مدة زمن قوّة عسكريةبلجيقية تكون مصاريفها من طرف الدولة.

وقد أثارت هذه الطلبات الغريبة الإحساس الوطني لدى العثمانيين وتهيئوا جميعاً لرفضها لأن أوروبا لا تحرمهم بذلك من ثمرات انتصاراتهم وفتوحاتهم فقط بل تعاملهم أيضاً كمغلوبين والأمر بخلاف ذلك كما علمت ولما رأت حكومة اليونان أن العنصر السلافي سيقوى بهذه الاقتراحات اضمت في الرأي إلى الدولة العثمانية ومع أنه صار تعديل هذه الاقتراحات فيما بعد إلا أن الدولة رفضتها رفضاً باتاً ولما رفضت الأمة والدولة قرار المؤتمر كما ذكر سافر مندوبو الدول وقناصلها من الآستانة كأنهم بذلك قطعوا معه الصلات الودية.

وبعد ذلك كتب البرنس غورجقوف نشرة إلى سفراء الروسيا لدى دول أوروبا 31 يناير سنة 1877م قال فيها برفض الدولة العثمانية لقرار المؤتمر ويطلب منهم أن يعلموه بآراء الدول التي ينوبون لديها ليتفق الكل في العمل إزاء الدولة العثمانية وكتب أيضا صفوت باشا ناظر خارجة الدولة إلى سفرائها يعترض على عقد المؤتمر لم يعقد فيما بعد بطريقة رسمية إلا لعرض أمور اتفقت الدول عليها من قبل للتصديق عليها فقط.

وقال إن الدولة لا يمكنها أن تقبل هذه الاقتراحات أصلاً لأنها تحط بقدرها أما الدول فلم ترسل جواباً عن ذلك لا للروسيا ولا للدولة وفي تلك الأثناء تم الصلح بين الدولة والصرب بشروط أهمها خروج العساكر العثمانية من الصرب وأن لا تشيد الصرب فيما بعد قلاعاً جديدة وأن يرفع العلم العثماني بجانب العلم الصربي ولم تعقد المصالحة مع الجبل الأسود لطلبه تنازل الدولة له عن قطعة من أراضيها.

ولما رأت الروسيا أن مساعيها التي اجتهدت في الحصول عليها ربما ضاعات بالصلح بين العثمانيين والبلاد التي أثارتها عليهم ومال سكانها من النصارى إلى السكينة بعد أن أصابهم من الخسائر الجمة هزيمة جنودهم ما أصابهم ولا يعود لها فيما بعد حق بالمداخلة في أمورهم لتحسين حالتهم.

كما هوّلت بذلك لدى دول أوروبا سيمساوان المالك العثمانية أصبح لها قانون أساسي يمنح المساواة لجميع الرعايا بلا تمييز هو الأمر الذي لم تتحصل عليه للآن حرر البرنس غورجقوف بروتكول أي بلاغاً نهائياً وعرضه على الدول الأوروباوية التي اشتركت في مؤتمر الآستانة وهو يتضمن إرجاع الدولة لجنودها وترك السلاح وتحسين أحوال الولايات المذكورة تحت مراقبة السفراء لتأمين خير النصارى.

وبعد أن صدّقت عليه نواب إنكلتره وأستوريا وفرانسا وألمانيا وإيطاليا 31 مارس سنة 1877 أرسلوه إلى الدولة وأوعزت إنكلتره سراً إلى سفيرها بالآستانة بأن يخبر الباب العالي بأن تصديقها على هذا البروتوكول هو للمحافظة على السلم في أوروبا فقط أي أنها لا تصادق عليه في المعنى وهو تشجيع للدولة في أن تستمر على رفض القرار المذكور.

ولما وصل هذا البلاغ إلى الدولة العلية طلبت أن يكون ترك السلاح منها ومن الروسيا معاً في آن واحد كما تقتضيه العدالة ولما لم تقبل الروسيا ذلك التزمت الدولة برفض البروتوكول وكتب ناظر الخارجية لسفراء الدولة بأوروبا نشرة قوية الحجة جداً تبرأ فيها من عدم ميل الدولة للسلام مظهراً تحامل أوروبا عليها بأقوال جديرة بالمطالعة.

ولكن ما فائدة الحق إذا كان صاحبه ضعيفاً وعليه انقطعت العلاقات السياسية بين الدولتين وأعلنت الروسيا الحرب على الدولة بمكتوب أرسلته إلى نائب سفيرها ببطرسبورغ 11 ربيع الآخر 1294-25 إبريل سنة 1877 ثم تقدّمت الجيوش الروسية وتجاوزت الحدود العثمانية بعد أن تعاهدت مع رومانيا سراً على أن تجعل رومانيا جميع مخازنها ومؤنها وذخائرها الحربية وجيشها تحت تصرف الروسيا وأصدرت أيضاً الدولة الأوامر إلى جميع قوّاد جيوشها بمقابلة العدوّ بما عهد فيهم من البسالة والإقدام وكتبت إلى دول أوروبا نشرة تعترض فيها على ما فعلته رومانيا من الفعل المخالف للقانون لأنها لا تزال بلاداً خاضعة للسيادة العثمانية كما قررته الدول ولا حق لها في عقد معاهدة مع دولة معادية لها ومع ذلك فإن الدول لم تلتفت إلى هذا الاحتجاج الشرعي فتأملوا يا ذوي الألباب ولما لامت الدولة رومانيا على فعلها هذا وأرسلت بعض مدرعاتها فأطلقوا النيران على سواحلها بنهر الطونة أظهرت العداوة وأرسلت جيشها وعدده 60 ألف مقاتل فانضم إلى الجيوش الروسية وأعلنت استقلالها 14 مايو سنة . 1877

الجيوش العثمانية بالروم ايلي :

سبق ذكر إغارة الجنود الروسية على حدود الدولة ودخولها ولايتي إفلاق وبغدان ثم تقدّمت الجيوش الروسية والرومانية تحت قيادة الغراندوق نيقولا 27 يونية سنة 1877م وتمكنت من عبور نهر الطونة على صنادل من جهة سمنيتزه Simnitza ومدّت بعد ذلك جسراً فوق الصنادل عبرت عليه أكثر جيوشها سريعاً ثم تقدّمت تقصد مدينة طرنوه وبينهما كانت الجيوش الروسية تعبر نهر الطنة وتنتشر طولاً وعرضاً بالأراضي العثمانية كان السردار عبد الكريم نادر باشا بمعسكره في شمله لا يبدي حراكاً ولا يخرج من خيمته إلا في النادر غير مهتم بأمر القتال كما يجب ويصف أوقاته في أمور لا فائدة منها تقريباً.

وكان أحمد أيوب باشا معسكراً بفرقته بجوار قرية تدعى ترانسك من أرض البلغار فأرسل الطلائع للمناوشات ولما انتشر خبر دخول جيش الروسيا ولاية الطنوة وقع اضطراب جسيم وقلق شد بالآستانة فأرسلت الدولة السر عسكر رديف باشا ومعه نامق باشا بحراً إلى وارنة ومنها إلى روسجق لتحقيق كيفية عبور الجيش الروسي نهر الطونة بدون مقاومة والنظر في الأهمال الذي حصل من الحاميات العثمانية الموجودة هناك لأنه لم يسبق للروس قبل ذلك عبور هذا النهر بدون أن يتكبدوا خسائر جسيمة لأنه من الموانع الطبيعية أمام الجيوش.

وقد ظهر من التحقيق أن عبد الكريم نادر باشا القائد العام كان ينوي مقاتلة الروس في بلاد البلغار لعدم إمكان عبور الجيوش العثمانية إلى أراضي الأفلاق والبغدان لقلة الاستعدادات من جهة وتشتت جيوش الدولة في حدود الصرب والجبل الأسود واليونان وغيرها من جهة أخرى ولعصيان أهالي المملكتين وغير ذلك وقال إن الدولة غيرت قومندان سفن الطونة الموجودة بهذه الوظيفة منذ عشرين سنة وله إلمام تام بتلك الجهات ومعرفة المواقع التي يمكن للعدوّ العبور منها مما يمكن لقائد الجيوش أن يستشيره في هذه الأحوال وعينت مكانه قائداً لم يسبق له سفر في نهر الطونة قط.

ولما نظر ديوان الحرب في التقرير الذي رفعه إليه السر عكسر رديف باشا ورأى أن عبور الروس هو من إهمال السردار العام فصله عن وظيفته وعين مكانه محمد علي باشا وشكلت الدولة مجلساً حربياً لمحاكمة عبد الكريم نادر باشا ووصلت المسؤلية أيضاً إلى السر عسكر رديف باشا فحكم عليهما بالنفي إلى بعض جزائر البحر الأبيض المتوسط ووجهت السر عسكرية إلى محمود باشا الداماد.

ثم تقدّمت جيوش الروسيا نحو البلقان واستولى الجنرال غوركو على مضايق البلقان ومواقع شبقة واحتل البارون كرودنر Krudner مدينة نيكبولي عنوة وأسر بها سبعة آلاف جندي واستولى على 113 مدفعاً وعشرة آلاف بندقية 15 يوليه سنة 1877 م فسار الغازي عثمان باشا بفرقة من ودين وكانت مركبة من أربعين أورطة مسرعاً لمساعدة نيكبولي.

ولما قرب منها وبلغه سقوطها قصد موقع بلونه لمتانته ولكونه ملتقى الطرق العسكرية الموصلة بين سوال الطونة وغيرها من البلاد إلى مضايق جبال البلقان وعسكر فيه واهتم في تشييد الاسحتكامات لصد هجمات الروس الذين هاجموه فيها دفعتين الأولى في20 يوليو تحت قيادة الجنرال شيلدر Schilder والثانية في30 منه تحت قيادة الجنرال كروندنر فارتدوا خائبين.

وكانت قوّتهم في الهجوم الثاني تزيد عن ثلاثين أورطة بيادة وقدرها من السوارى ومدافع الطوبجية تزيد عن مائتي مدفع وبعد رجوع الروس من أمام بلونه مقهورين وصلت الإمدادات إلى العثمانيين فتمكنوا بها من الاستعداد لحركة التعرض والهجوم وانقسم الجيش إلى ثلاثة أقسام الأوّل انضم إلى فرقة الغازي عثمان باشا وبقي في مواقع بلونه للدفاع عنها وتقدم بالثاني السردار محمد علي باشا لمحاربة الجيش الروسي الذي تحت قيادة البرنس الكسندر ولي عهد القيصر والثالث انضم إلى جيش سليمان باشا الذي دعى من حدود الجبل الأسود بجيشه لاستخلاص مواقع شبقه من يد الروسيين فتقابل مع الجنرال غوركو وانتصر عليه انتصاراً عظيماً باسكي زغرة.

ولما انهزم غوركو إلى البلقان تعقبه سليمان باشا وسعى في الاستيلا على مضيق شبقه وبينما كان جيش محمد علي باشا منصوراً في واقعة صارى نصوحلر التي اشترك فيها الجيش المصري تحت قيادة الأمير حسن باشا قسم الغراندوق نيقولا قواه إلى فرقتين وجه إحداهما لمقابلة جيش محمد علي باشا وجعل الأخرى مدداً له عند اللزوم أو إلى ردّ عثمان باشا الذي كان يهدّد الخطوط الروسية بالانتصارات التي حازها محمد علي باشا وسليمان باشا وعثمان باشا وقرب اجتماعهم معاً للإحاطة بأجنحة بعض الفرق الروسية أصبح شأن الجيش الروسي حرجاً للغاية.

وعند ذلك تقدّم أمير رومانيا بجيشه البالغ عدده مائة ألف مقاتل لمساعدة الروسيا واجتاز به نهر الطونة وصادف حضور قيصر الروس بنفسه لميدان القتال لتشجيع جيشه مع بعض الامتدادات فتقوّت الروس بذلك وانتصروا في بعض المواقع على الجيوش العثمانية وكان الجنرال زمرمان عبر بفرقته نهر الطونة من حوالي ايساقجي ودخل أراضي دوبريجه وقصد بازارجق حيث القوّة المصرية بعد عدة وقائع تقهقر راشد حسني باشا ومات في تلك الواقعة اللواء زكريا باشا المصري وعادت الجيوش إلى وارنه اتباعاً للأوامر التي أصدرها الأمير حسن باشا بعد عودته بالجيش المصري من واقعة صارى نصوحلر التي انصتر فيها محمد علي باشا على جيش الروس كما سبق.

ثم اقتدت الروس بنصائح المارشال مولتك الألماني حيث قال إن حصار القلاع القوي أفضل من الهجوم عليها لأن بالحصار يسهل الاستيلاء والانتصار سيما وأن أركان حرب الجيش الألماني هم الذين رسموا معظم خطوط السير للجيش الروسي وشجعوه على مقاتلة العثمانيين وهم الذين نصحوه على عبور نهر الطونة بكل ما يمكن من السرعة وغير ذلك من المساعدات الأدبية التي قامت بها ألمانيا للروسيا في هذه الحرب فصمموا على محاصرة بلونه من كل جانب وأناطوا أمر هذه الحركة بالجنرال طوطلبن Totleben فرتب حولهاالعدد الكافي من الجيوش وشيد ثلاثة خطوط من الاستحكامات كل خط بعد الآخر لتمكين الحصار.

ولما تم هذا العمل 24 أكتوبر سنة 1877 م صار وصول المدد إلى عثمان باشا من رابع المستحيلات ولبث مدافعاً عن مركزه حتى نفد كل ما ادّخره من الأقوات وعند ذلك عزم على الخروج بجيشه وخرق صفوف الأعداء فإن فازوا وكان ذلك غاية المراد وإن ماتوا ماتوا مدافعين عن شرف الدولة شهداء مؤدين للواجب عليهم كما تفرضه الواجبات نحو الدولة والدين.

ثم استعدّت الجنود 5 ذي الحجة سنة 1294هـ-10 دسمبر سنة 1877 م وأخلت المواقع العسكرية وخرجوا مرة واحدة مستميتين واستمروا في سيرهم يقصدون الاستحكامات التي أقامهاالروس ولا يبالون بالمقذوفاا المتساقطة عليهم وكانوا قبل خروجهم بأربعة أيام لا يتناولون من الغذاء غير القليل من الدقيق الذي بقي في بعض المخازن ومع ذلك فإنهم اقتحموا الخط الأوّل والثاني وكادوا يستولون على الخط الثالث لولا أن أصيب قائدهم البطل الشهير الغازي عثمان باشا برصاصة في فخذه ولما سقط هذا الشجاع الأرض ظنت عساكره أنه استشهد واستولى الرعب والفضل عليهم وأراد بعضهم الرجوع إلى المدينة التي كان احتلها الروس بعد خروجهم منها ولما رأوا أنفسهم بين نارين رأى قوّادهم أن الصواب التسليم فرفعوا علامته وتوقف الروس عن إطلاق النيران.

ثم ذهب اللواء توفيق باشا رئيس أركان حرب الجيش العثماني وهو الذي بمهارته شيد القلاع والحصون حول بلونه وطلب مقابلة القائد الروسي العام وهو الجنرال جانتسكي ثم ذهب الجنرال استروكوف مع توفيق باشا قابلاً عثمان باشا في المكان الذي وضعوه فيه بعد جرحه وطلب الجنرال من عثمان باشا أن يأمر أوّلاً جنوده بإلقاء السلاح ثم تكون المكالمة فيما بعد لأن ذلك الجنرال لم يكن لديه تعليمات من القائد العام الروسي وهو الغران دوق نيقولا أخي القيصر ولما قبل عثمان باشا طلب الجنرال المذكور عاد وأخبر جانتسكي بما تم فأتى بنفسه إلى مقر عثمان باشا.

وبعد أن حياه وهنأه على أعماله الحربية التي تشهد له ولجنوده بالبسالة وعلوّ المنزلة طلب منه فأصدر أوامره إلى الجيش العثماني بإلقاء السلاح وبعدها سلم سيفه ثم أركبوه في عربة وذهبوا به إلى بلونه وفي أثناء مسيره قابله الغران دوق نيقولا ومعه أمير رومانيا وسلما عليه باحترام وفي اليوم التالي صباحاً ذهب عثمان باشا مع طبيبه الخاص إلى حيث ينزل القيصر ولما دخل عليه قام له إجلالاً وبس في وجهه وأظهر إعجابه من مدافعته عن بلاده وإقدامه وردّ إليه سيفه وأمره بأن يحمله علامة الاحترام والتجلة ثم أرسلوه إلى مدينة كركوف يقيم بها إلى انتهاء الحرب.

ولقد كانت الجيوش التي مع عثمان باشا الغازي في بلونه لا تزيد عن 50,000 معهم 77 مدفعاً أما الجيش الروسي المحاصر فكان يزيد عن 150,000 معه 600 مدفع ومن ذلك يظهر الفرق بين شجاعة المتحاربين ومما يؤثر عن الجنود العثمانية أنهم لم يسلموا أعلامهم قط بل إنهم قبل خروجهم للمرة الأخيرة دفنوا بعضها في صناديق من الحديد تحت الأرض وأحرقوا الباقي يوم التسليم وكانت الدولة لما رأت تفاقهم الخطوب وازدياد الشرور وإثارة الروس للطوائف المسيحية القاطنة بولايتها وخصوصاً لما سقطت مدينة بلونه أرادت طلب الصلح من الروسيا إلا أن السير لايارد Layard سفير انكلتره بالآستانة وعدها بتداخل الدولة الإنكليزية تداخلاً عسكرياً ولولا هذه المواعيد العرقوبية لكانت الدولة فازت بمصالحة أخف ضرراً من التي حصلت فيما بعد كما ستراه.

الأعمال الحربية بالأناضول والهدنة ومعاهدة سان استيفانوس :

هذا ملخص الحركات الحربية التي تمت بأوروبا قبل أن يجتاز الروس البلقان أما في آسيا فكان النصر في أوّل الأمر حليف العثمانيين وكان الجنرال مليكوف ذهب يقصد مدينة قارص وأخذ الجنرال در هوجاسوف Der Hougassof يهدّد مدينة بايزيد وسار غيرهما من قوّاد الروس للاستيلاء على أردهان وباطوم ثم تمكن الجنرال مليكوف من الاستيلاء على مدينة أردهان عنوة 17 مايو سنة 1877م وحاصر قارص وأخذ يهدّد ارضروم.

وبعد أن استولى الجنرال هوجاسوف على مدينة بايزيد 20 إبريل سنة 1877م وانتصر على العثمانيين بجهة دار طاغ 10 يونيه سنة 1877م تقدّم جيش الغازي مختار باشا واحتل مرتفعات زوين وكان يتركب من 59 طابوراً من المشاة و 4000 من الوساري و مدفعاً بينما كان القائد إسمعيل حقي باشا يقود قوّة عظيمة من الأكراد يهدد بها قوّة الجنرال هوجاسوف وبذلك تمكن العثمانيون من قهر مليكوف وهوجاسوف وانتصر جيش مختار باشا انتصاراً عظيماً 26 يونيه سنة 1877م حتى سحق الحيش الروسي بجهات زوين ولهذا اضطر مليكوف أن يرفع الحصار عن قارس ويرجع القهقري نحو الكسندر فولى وتبعته العساكر العثمانية.

أما الجنرال هوجاسوف فقد تمكن من القهقري بحالة انتظام وأخذ الاحتراس التام من أن يقع في يد العثمانيين وتوجه نحو دار جدير ثم ذهب اسمعيل باشا لقتال هوجاسوف بجيش مؤلف من 40 طابوراً و 55 مدفعاً بينما كان مختار باشا يستعد للإجهاز على قوّة الجنرال مليكوف وبعد بذلك انتصر العثمانيون انتصارات مهمة على الجيش الروسي الذي طردوه تماماً من الأراضي العثمانية وأشهر هذه الوقائع هي وقائع كركانه واني وإيانيه واياك تبه سي وأوليار وقزل تبه وأشهرها جميعاً واقعة كدكلر التي أرسلت بسببها الحضرة السلطانية فرمان تشكر إلى مختار باشا ولقبته بلقب غازي.

وبعد ذلك اقتصر الروس على إجراء المظاهرات والمناوشات الخفيفة مبتعدين ما أمكن عن الاشتباك مع الجيوش العثمانية وسبب ذلك أن قوّتهم العسكرية نقصت جداً بما حصل لهم من الهزائم ونفذت تقريباً ذخائرهم الحربية وأرسل الغران دوق ميخائيل حاكم بلاد القوقاز العام يطلب الإمداد والذخائر ولما أتى المدد وتقوت الجيوش الروسية في أواخر سبتمبر 1877 سنة سار الجنرال مليكوف في طريق الهجوم ثم تقدم نحو مختار باشا المعسكر في قزل تبه وتلاقى معه في جهة الآجه طاغ ودام القتال بينهما أياماً ثم تقهقهر العثمانيون بعد خسائر عظيمة ولذلك اضطر مختار باشا أن يلتجىء إلى ارضروم فتمكن الروس من محاصرة قارص محاصرة شديدة ومنعوا عنها المواصلات الخارجية تماماً حتى استولوا عليها عنوة 18 نوفمبر سنة 1877 وأسروا منها 17000جندي واستولوا على مدافعها وكانت 300 .

وأراد مختار باشا بعد ذلك أن يوقف سير خصمه فلم يتمكن ولذلك ذهب إلى مدينة ارضروم وأخذ في جمع العساكر المتشتتة وإقامة الحصون والمعاقل حول تلك المدينة وقد نجح في ذلك بكل سرعة ولهذا أجمعت الجرائد العسكرية على مدح هذا القائد العظيم وبقي في هذه المدينة يصد هجمات الروس إلى أن انتهى الحرب واعلم أنه لما انتشر خبر سقوط بلونه وقارص وتقهقرت العساكر العثمانية أمام أعدائها أعلن أمير الصرب المدعو ميلان الحرب على الدولة 14 دسمبر سنة 1877م .

وذلك بعد أن اتفق مع الروسيا وأوعزت له بذلك لتكون حجته في المستقبل أقوى لنوال ما يطمح إليه بإبصاره متى تقررت شروط الصلح أما الدولة العثمانية العديمة النصير فلم تستغرب من خيانة هذا الأمير وكفر الصربيين بنعمتها لأنها كانت تنتظر ذلك من وقت إلى آخر وأرسل الباب العالي منشوراً إلى الصربيين يعلن فيه بعزل أميرهم ميلان وينصحهم في عدم التغرير بأنفسهم وكانت عساكر الجبل الأسود تخطت حدودها أيضاً وشنت الغارة على الأراضي العثمانية لأن الدولة لاحتياجها للجنود كانت استرجعت معظم القوة العسكرية الضاربة في تلك الأكناف كما ذكر.

فيتضح من ذلك أن الدولة العثمانية في هذه الحرب المشؤمة لم تكن تحارب الروس فقط بل كانت تنازل الروس وأفلاق وبغدان والصرب والجبل الأسود وجميع المسيحيين رعاياها تقريباً ولما أقبل فصل الشتاء بزمهريره كانت الدوائر العسكرية تظن أن ذلك يعطل الحركات الحربية ويجعل للدولة العثمانية الوقت الكافي لتجنيد قوة جديدة تنازل بها الأعداء إلا أن هذه الظنون لم تتحقق لأن الروس عقب انتصاراتهم السريعة ساقوا جيوشهم نحو البلقان ورأى الجنرال طوطلبن أن من الصواب الاستيلاء على ودين وروسجق وشمله قبل الذهاب إلى البلقان فأحيل عليه فتح هذه المدن وتقدم الجنرال غوركو يريد اختراق البلقان مهما كلفه ذلك من الرجال والأموال وسار هذا الجنرال في وسط الشتاء والثلوج حتى تلاقى مع شاكر باشا وبعد أن نازله وهزم جيشه استولى على صوفيه 4 يناير سنة 1877 وسلمت أيضاً العساكر العثمانية التي كانت تحمي شسبقه 9 يناير .

ثم زحف الجنرال غوركو فتلاقى مع جيش سليمان باشا وبعد أن استمر الحرب بينهما ثلاثة أيام أظهر فيها العثمانيون شجاعة تخلد لهم ذكراً في التاريخ بالقرب من مدينة فلبه تقهقروا مهزومين إلى جبال ردوب 19 يناير وفي يوم 20 منه احتلت مقدمة الجنرال اسكبيليف SKobeleff مدينة أدرنه وكانت القيادة العامة على عساكر البلقان لرؤف باشا ناظر الحربية ثم تقدم الروس حتى أضحوا على أبواب الآستانة بينهم وبينها مسافة 50كيلومتراً.

ولما رأت الدولة سوء حالتها طلبت عقد هدنة للمكالمة في شروط الصلح وأرسلت من طرفها نامق باشا وسرور باشا للمخابرة مع الغراندوق نيقولا في هذا الخصوص وأرسلت معهما مأمورين عسكريين وبعد أن تقابل هؤلاء المندوبون مع الغراندوق في بلدة قزانلق وعرضوا عليه مأموريتهم أخذهم معه إلى ادرنه لحين مجيء جواب القيصر على ذلك ثم صار التوقيع على اتفاقيتين إحداهما بين الغراندوق وسرور باشا ونامق باشا مفادهما استقلال البلغار استقلالاً إدارياً واستقلال رومانيا والجبل الأسود استقلالاً سياسياً مع تعديل حدودهما وتقرير غرامة حربية للروسيا تدفع نقداً أو يستعاض عنها ببعض البلاد والأخرى بين المندوبين العسكريين العثمانيين والروسيين ببيان شروط المهادنة وعلى ذلك توقفت الحركات العدوانية 31 يناير سنة 1878م .

وأمر الباب العالي برفع الحصار عن سواحل الروسيا التي على البحر الأسود وعاد الغراندوق نيقولا إلى بطرسبورغ غانماً ظافراً ولما علمت انكلتره بحصول الهدنة والشروط الابتدائية خافت على الآستانة كما تدعى أن تقع في يد الروس ولذلك أمرت عمارتها التي كانت بخليج بشيكة فدخلت بحر مرمره 14 فبراير سنة 1878 خلافاً لمعاهدة باريس القاضية بمنع مرور السفن الحربيةمن مضيق الدردنيل ولما لم يمكن الدولة منع الأساطيل الإنجليزية من عبور المضيق المذكور اكتفت بإقامة الحجة على ذلك وأراد بعض دول أوروبا أن يكون عقد شروط الصلح على يدها مخافة أن يوجد بها ما يخل بمعاهدة باريس المبرمة في سنة 1856 فلم تقبل الروسيا ذلك ورغبت أن يكون الصلح بينها وبين الدولة العثمانية فقط بلا وسيط ولهذا لم تعلن صورة هذه الاتفاقيات بصورة رسمية إلا في 15 فبراير سنة 1878م .

وبعد ذلك اجتمع المندوبون من الدولتين ببلدة سان استيفاونوس التي جعلها الجيش الروسي مقرّاً له بعد الهدنة فكان صفوت باشا ناظر الخارجية وسعد الله بك سفير الدولة في برلين من قبل الدولة والموسيو نيلدوف والكونت أغناتيف من طرف الروسيا وبعد اجتماعاتهم اضطر المندوبان العثمانيان للتوقيع على معاهدة مؤلفة من 29 بنداً أهمها المواد الآتية وهي :

أن تزاد أراضي الجبل الأسود أكثر من ضعفي حالتها التي كانت عليها وتستولي على ثغري اسبتزا وانتيفاري ويضاف على بلاد الصرب التي أصبحت مستقلة لواء نيش وتأخذ ورمانيا التي استقلت أيضاً من جهات دوبرويجه بدلاً عن بسارابيا التي استولى عليها الروس.

وأن تكون البلغار ايالة ممتازة تمتد حدودها من نهر الدانوب إلى بحر الأرخبيل بحيث لا يترك للدولة العثمانية بأوروبا إلا الآستانة وغليبولي وسلانيك وضواحيها وبلاد ابيروتساليا وألبانيا وبوسنه وهرسك أما بجهات آسيا فتستولي الروسيا على قارص وأردهان وباطوم وبايزيد وأن تدفع الدولة العثمانية غرامة حربية قدرها 1,410,000,000 روبل 245,217,391 ليرة عثمانية ولما شاعت هذه المعاهدة التي أمضيت في 30 مارس سنة 1878 بنشرها في الجريدة الروسية بعد مضي 42 يوماً من التوقيع عليها اغتاظت انكلتره جداً وأمرت بجمع احتياطي جيشها العامل وأمرت أساطيلها بالتجمع في مالطة حيث أحضرت إليها قوّة عسكرية من الهند ومع ذلك لم يمكنها أن تتصدى لإيقاف الروس بالقوّة لأنه لم تساعدها دولة من دولة أوروبا على ذلك وقد ذهبت مساعي السفير الإنكليزي الموسيو لاياراد أدراج الرياح ولم يتمكن من تجديد القتال بين الجنود الروسية والعثمانية المعسكرة في جنالجة أو بين الروس وأهالي جبل رودوب من المسملين الذي صبت عليهم أنواع البلاء من أهل البلغار والروس أثناء الحرب مع ما صرفه من المجهودات.

ولم تقبل الدولة العثمانية إشاراته لأنها خافت من قيام المسيحيين في كريد وتساليا وغيرهما وبعد مبادلة المكاتبات بين لوندره وبطرسبورغ زمناً تداخل البرنس بسمارك حتى عقد وفاقاً سرياً بين الروسيا وإنكلتره وأوستوريا 30 مايو سنة 1878 وقبلت الروسيا أن تعرض معاهدة سان استيفانو على مؤتمر أروبي بعد أن كاد الأمر يفضي إلى انتشاب الحرب بينها وبين إنكلتره كما سبق وفي نفس هذا الوقت تمكن اللورد بيكونسفليد من أن يعقد مع الدولة معاهدة دفاعية من مقتضاها صد الروسيا لو تقدّمت نحو بلاد الأناضول.

وتعهد الباب العالي بإجراء الإصلاحات اللازمة لتحسين حال المسيحيين الذين بتلك الجهات خوفاً من أن ينقادوا إلى مطامع الروسيا وأن تسمح الدولة لإنكلتره باحتلال جزيرة قبرص وإدارة شؤنها لتكون على مقربة من بلاد الروسيا ويمكنها صد هجماتها لودعت الحاجة ولوجود الاضطرابات بالآستانة وخوف الباب العالي من أن يحتلها الروس كما كانوا يحاولون ونظراً للارتباكات الحاصلة قبل الباب العالي تلك المعاهدة حفظاً لباقي أملاكه وتعديل معاهدة سان استيفانوا بكيفية أرجح لمصالحه 4 يونيه 1878 وفي أثناء انعقاد المؤتمر ببرلين ذيل الحكومتان هذه المعاهدة ببعض بنود لتوضيح كيفية إداراة الجزيرة المذكورة والمبلغ الذي تدفعه عنها انكلتره سنوياً للدولة وجعلت تركها موقوفاً على ترك الروسيا لمدينتي باطوم وقارص اللتين أضيفتا إلى الروسيا نهائياً أول يوليو سنة 1878م

yacine414
2011-03-18, 16:41
معاهدة برلين :

لما رضيت الروسيا بعرض معاهدة سان استيفانوا على مؤتمر دولي كتب البرنس بسمارك تلغرافاً إلى كافة الدول العظام يدعوهم فيه لإرسال المندوبين عنهم للاجتماع في مؤتمر برلين يوم 13 يونيه 1878 الذي سيكون تحت رياسته وأرسل أيضاً كثير من الأمم ذات الصوالح مندوبين عنهم لتقديم طلباتهم وعرض رغباتهم على أعضاء المؤتمر وإن لم يكن يصرح لهم بالحضور في جلساته إلا إذا طلبوا وبعد المناقشات والمداولات أياماً بين المندوبين وقعوا على المعاهدة المعروفة بمعاهدة برلين وكان ينوب عن الدولة في هذا المؤتمر محمد علي باشا وقره تيودوري باشا وسعد الله بك ولم يتسحسن بعض المؤرخين تعيينها لمحمد علي باشا في ذلك المؤتمر لأنه ألمانيّ الأصل اعتنق الدين الإسلامي كما هو معلوم.

فكان مندوبو الدول وخصوصاً البرنس بسمارك ينظرون إليه بعين الغيظ والتحقير مما كان سبباً في أن البرنس بسمارك انتهره مرة أثناء انعقاد المؤتمر أما المعاهدة المذكورة فأهم مشتملاتها ما يأتي:

تقسيم إمارة البلغار التي كان طلب الجنرال اغناتيف تكوينها إلى قسمين يكوّن القسم الشمالي منها بلاد البلغار الممتازة والقسم الجنوبي بلاد الرومللي وله نوع امتياز أيضاً وأن تستقل رومانيا استقلالاً سياسياً ويضاف إلى بلادها مقاطعة دوبرويجه في مقابلة استيلاء الروسيا على بلاد ببساربيا وأن ينضم إلى بلاد الصرب التي أصبحت مستقلة تماماً أقليم نيش وأن يبقى لإمارة الجبل الأسود التي تعترف الدولة باستقلالها كذلك فرضة انتيفاري بار وثلث الأراضي التي أعطيت لها بموجب معاهدة سان ستيفانو.

وأن تستولي الروسيا على بساربيا التي كانت انتزعت منها بمعاهدة 1856 كما تقدّم وتضم إلى أملاكها بآسيا مدن قارص وأردهان وباطوم التي جعلت ثغراً حراً بعد هدم استحكاماتها.

وأن تترك للدولة بايزيد الشغراد أما من خصوص الغرامة الحربية فقد قرر المؤتمر بقاءها على حالتها كما وردت بمعاهدة سان استيفانو بشرط أن حقوقها من حيث الغرامة لا تضر بمصالح أصحاب الديون الأوروباويين وقرر المؤتمر أيضاً أن تستولي إيران على إقليم قطور النمسا على فرضة اسبيزا Spizza .

وأن تحتل عساكرها بوسنه وهرسك إلى زمن غير محدد لتجري فيها ما يوافقها من الإصلاحات وتعهد الباب العالي بأن يقبل بلا تمييز في الدين شهادة جميع رعاياه أمام المحاكم وأن يجري بالدقة في جزيرة كريد النظام الأساسي الذي عمل لها سنة 1868 وأن يدخل نظامات مشابهة لما في نظامات تلك المعاهدة مع تطبيقها على الاحتياجات المحلية في جميع جهات تركية أوروبا التي لم يسن لها المؤتمر نظاماً خاصاً.

وأن يقوم فعلا بلا تأخير في تحسين وتنظيم الأقاليم التي يسكنها الأرمن حسب أحوال واحتياجات تلك الجهات وأن يحميهم من تعديات الجركس والأكراد وأن يبلغ من وقت إلى آخر دول أوروبا بما أدخله من النظامات التي قضت بها هذه المعاهدة.

وهذه شروط لم نسمع بعقد مثلها بين دولتين أوربياويتني قهرت إحداهما الأخرى ولكن ما حيلة هذه الدولة بمفردها أمام دول أوروبا جميعاً ومن تأمل في بنود المعاهدة التي لم يغب ذكرها عن الأذهان يرى أنها نزعت من يد الباب العالي جميع الإمارات التي كان له عليها حق السيادة وأخذت منه ما يقرب من نصف أملاكه بأوروبا ولم يمض على هذه المعاهدة المشؤمة إلا بعض شهور حتى قام أهل كريد مطالبين بما خصهم به مؤتمر برلين من النظامات فعينت الدولة المشير الغازي أحمد مختار باشا فذهب إلى تلك الجزيرة ونظم المعاهدة المعروفة في التاريخ بمعاهدة هليبه 25 اكتوبر سنة 1878م .

وصدر أمر مولانا السلطان بإنفاذ ما احتوته تلك المعاهدة ثم قام اليونان وأهل الجبل الأسود يطالبون الدولة بما منحهم المؤتمر المذكور ولما أرادت الدولة انفاذ ذلك عارض أهالي البانيا لأن تنازل الدولة عن قطعة من أراضيهم مضر جداً بصالحهم وهي معارضة حقة لو أعارتها أوروبا جانب الالتفات ولما أرسلت الدولة المشير محمد علي باشا بمأمورية اقناع الأهالي وتسكين اضطرابهم وإعلامهم بأنه لا بد من إجراء ما أقرت أوروبا على عمله وأن الدولة لولا ذلك لم تفرط في شبر أرض من بلادها قام الأهالي عليه وقتلوه وعند ذلك أرسلت انكلتره وفرانسا والروسيا والنمسا وإيطاليا وألمانيا حتى اليونان مراكبهم الحربية إلى مياه الدولة ورست تلك الأساطيل بثغرراغوزه وبذلك تم لليونان وأهل الجبل الاستيلاء على ما خصهم من الأراضي.

واعلم أنه بعد أن وضعت الحرب أوزارها بين الدولتين عقدت الدولة العثمانية مجلساً حربياً لمحاكمة جميع القواد الذين أهملوا أو تهاملوا وأخلوا بواجباتهم العسكرية ونفت منهم كثيرين من بينهم المشير سليمان باشا وجرد البعض من رتبهم ونياشينهم وبرئت ساحة البعض ومن الحوادث المهمة الجديرة بالذكرالتي حدثت بالآستانة وقت احتلال الروس لضواحيها الحادثة المعروفة بحادثة جراغان وسببها أن شخصاً يدعى علي سعاوى أفندي أحد الذين كانوا فروا من المرحوم السلطان عبد العزيز من الآستانة مع مصطفى فاضل باشا 1282هـ .

وكان فصيح اللسان قوي الجنان له مشاركة حسنة في كثير من العلوم وبعض اللغات لا سيما اللغة العربية وكان لما عاد إلى الآستانة بوساطة مدحت باشا عين مدير للمكتب السلطاني الذي يتعلم فيه أولاد الحضرة الفخيمة السلطانية ولما عزل لتداخله في الأمور السياسية أخذ في بث الفتن كعادته ودبر مكيدة لإجلاس السلطان مراد على عرش الخلافة وقد انتهز لذلك فرصة اشتغال الدولة بالمخابرات السياسية واضطرابات الأفكار وخوف الناس من تقدّم الروس نحو الآستانة واتفق لذلك مع بعض المهاجرين الذين التجأوا إلى الآستانة في ذلك الوقت وبعد أن اجتمعوا انقسموا إلى قسمين قصد قسم منهم بحراً سراي جراغان حيث يقيم السلطان مراد.

وقصد القسم الثاني وكان يقوده على سعاوى المذكور السراي المذكورة برا ثم اجتمعوا عند بابا السراي ولما منعهم الحراس قتلوهم ودخلوا يفتشون على السلطان مراد حتى عثروا عليه وهموا بإخراجه وفي تلك الأثناء أتت فرقة عسكرية من سراي يلديز وحاصرت الثائرين براً كما حاصرتهم البحارة بحراً وهجموا على السراي وقتلوا كل من كان بها من الثائرين ومن ضمنهم علي سعاوى أفندي وبعد ذلك نقل السلطان مراد وعائلته إلى قصر ضمن سراي يلديز ثم هدأت الأفكار وعادت الأعمال إلى ما كانت عليه وبعد ذلك بأيام حصل حريق هائل بالباب العالي ويقال إنه بفعل أرباب تلك الثورة انتقاماً لما أصابهم من الخذلان.



الدستور العثماني

"النهضة الوطنية والاصلاحات في الدولة العلية"

توفي السلطان سليمان القانوني سنة 1566م والدولة العليا في إبان مجدها وأوج عظمتها وكانت ممالكها تحد شرقاً بالحدود الهندية وغرباً بالمحيط الاطلانطي وكانت أوروبا ترهب سطوته وتخشى قوته.

فخلفه من بعده ملوك لم يتعقبوا خطواته ولم ينهجوا منهجه، لا سيما وقد تألبت عليها الدول الأوروبية واختلفت عليها الفتن الداخلية فبدأت في الانحطاط وانسلخت منها أجزاء كثيرة، وكانت أحياناً تنحط إلى أن تولى الخلافة السلطان سليم الثالث سنة 1789 والبلاد في اختلال، والأحكام في ضعف والانكشارية قابضون على زمام الأمور يولون من شاؤوا من السلاطين ويخلعون من شاؤوا ويقتلون من لم يسر وفاق أهوائهم وأغراضهم، والبلاد في فوضى كادت تمزق شملها. فهاجه حب الإصلاح وصرح بميله إلى تنظيم الجند على النمط الحديث وتسليحهم بالأسلحة الحديثة الاختراع. فلم يوافق ذلك الانكشارية فبطشوا به فمات والإصلاح في مهده.

على أن الفكرة رسخت في أذهان العثمانيين فتلقاها السلطان محمود وعمد إلى الإصلاح من الوجهة الادراية والعسكرية. فبدد جند الانكشارية وأحل محلهم جيشاً منظماً. وأخذ يبعث بمنشورات الإصلاح إلى الولاة والحكام. ولكنه توفي ولم يتمم من فروع الإصلاح إلا تنظيم الجند تنظيماً غير تام.

وكانت فكرة الإصلاح قد سرت بين فئة من رجال الدولة فأقاموا يبثونها على عهد السلطان عبد المجيد والسلطان عبد العزيز، وأعظمهم شأناً وأعلاهم يداً مصطفى رشيد باشا وعالي باشا وفؤاد باشا.

فلما توفي السلطان محمود وخلفه السلطان عبد المجيد نشر خط الكلخانة المشهورة سنة 1839م أي في 26 شعبان سنة 1255 هجرية فكانت له ضجة اهتزت لها أوروبا وأخذ رجال الدولة منذ اصدار ذلك الخط الهمايوني ينظمون القوانين الخاصة لكل فرع من فروع القضاء.

ثم تألفت لجنة جمعت أعاظم الاساتذة العثمانيين فألفوا المجلة الشرعية التي صدرت الارادة الشاهانية من السلطان عبد العزيز عام 1289 هجرية بالسير حسب نصوصها، وسن قانون الأراضي سنة 1274 هجرية وقانون الطابو سنة 1275هـ وقانون الجزاء سنة 1274 هـ. وكل هذه القوانين مقتبسة من القوانين الفرنسية مع مراعاة نصوص الشريعة الاسلامية.

ثم وضع قانون التابعية العثمانية وتنظيم المحاكم الشرعية والمحاكم النظامية والمحاكم التجارية ونظامات الادارة الملكية ونظام ادارة الولايات ونظام شورى الدولة، ووضعوا نظاماً للمعارف ونظاماً للمطبوعات ونظامات أخرى للمطابع والطبع وحقوق التأليف والترجمة ونظامات للرسومات وآخر للمعادن وغيره للطرق والمعابر وغير ذلك مما يقتضيه سير الحضارة ويلائم حالة الأمة. وبالجملة فانهم لم يتركوا شيئاً من لوازم إدارة الدولة حتى دونوا له قانوناً.

فجموع هذه القوانين والنظامات كان معروفاً في بلاد الدولة العليا بالدستور.

ومع ذلك فكان الحكم مطلقاً وإرادة السلطان فوق كل قانون. وفي المدة الوجيزة التي جلس فيها السلطان مراد على سرير الملك كان مدحت باشا وحزبه الحر قد انتهى من إعداد القانون الأساسي وترتيب نظام مجلس المبعوثين.



الحادثة الارتجاعية وخلع عبد الحميد

تفرق شمل المستبدين منذ إعلان الدستور وازداد النفور بينهم وبين لجنة الاتحاد والترقي فأخذوا يفكرون في اجتثاث أصول الفساد الذي يزعمونه فشجعوا أولاً الجرائد على الكتابة ضد الجمعية.

ثم قامت حامية الأستانة بإيعاز من أركان السراي، ولخصوا مطالبهم في شكل ديني كي ينضم إليهم أهالي الأستانة وها هي مطالبهم :

1 - إحياء الشريعة.

2 - عزل الصدر الأعظم وناظري الحربية والبحرية.

3 - طرد احمد رضا بك وحسين جاهد بك وجاويد بك ورحمي بك وطلعت واسماعيل

حقي بك ألخ.من المجلس.

4 - عزل محمود مختار باشا لأنه لم يشترك معهم.

5 - العفو عنهم.

فعقد مجلس المبعوثين اجتماعاً فوق العادة، ومع أن عدد الأعضاء (لم) يتجاوز الخمسين فانهم قرروا إجابة مطالب الثوار وانتخبوا وفداً منهم ليبلغ السلطان قرارهم. فتعين إذ ذاك توفيق باشا صدراً اعظم وأدهم باشا ناظراً للحربية. وقرر العفو عن الجنود فبدأ أولئك يطلقون البنادق احتفالاً، وكان يبلغ عدد أولئك ثلاثين ألفاً.

واجتمع المجلس مرة أخرى بعدها فقرر قبول استقالة الرئيس أحمد رضا بك.

وانقلبت لهجة الجرائد انقلاباً إجبارياً فباتت تتكلم عن السلطان عبد الحميد كما كانت تتكلم عنه أيام الاستبداد.

وكانت الحالة كذلك في الاستانة فوردت الأنباء بمجيء الجنود من الروم ايلي لحماية الدستور ومجلس المبعوثين.

ثم حاصر جيش الحرية الأستانة، فأوفد المبعوثون وفداً لمقابلته.

ودخل الجيش تحت قيادة محمود شوكت باشا الاستانة وحاصر يلديز وحدثت هناك موقعة كبيرة انتهت بتسليم حامية يلديز.

ولكن السلطان عبد الحميد استمر على المقاومة فقرر جيش الحرية أن يحمل الحملة الأخيرة. فأطلقت القنابل على حامية الباب العالي والنادي العسكري واستولت عليهما.

ثم قبضت على الكثيرين من أنصار الحكم القديم الذين أثاروا الفتن، ومن بينهم مراد بك الداغستاني، وأعدم الجواسيس رمياً بالرصاص ويقدر عدد القتلى بـ 1200 قتيل، وحاصرت الجنود الدستورية بعدها قشلاقات اسكودار فاستولت عليها. ولم يبق إذ ذاك أي خطر على القانون الأساسي، فعاد أعضاء البرلمان إلى الأستانة واجتمعت الجمعية العمومية لتتداول في أمر السلطان عبد الحميد.

وكانت النتيجة عزل السلطان عبد الحميد وتولية السلطان رشاد مكانه.

وتم يوم 27 ابريل سنة 1909 تتويج السلطان رشاد باسم السلطان محمد الخامس.



السلطان محمَّد رَشَاد خَان الخامِس

(1909 - 1918م)

ولد جلالته سنة 1844 وقد قضى أغلب عمره في قصر زنجيرلي كوي محوطاً بالجواسيس الذين يرصدون حركاته ويقدمون التقارير المشوهة عنه.

اجتمع المجلس العمومي اجتماعاً سرياً وخلع عبد الحميد بموجب فتوى من شيخ الإسلام هذا نصها.

إذا اعتاد زيد الذي هو إمام المسلمين أن يرفع من الكتب الشرعية بعض المسائل المهمة الشرعية، وأن يمنع بعض هذه الكتب ويمزق بعضها ويحرق بعضها، وأن يبذر ويسرف في بيت المال ويتصرف فيه بغير مسوغ شرعي، وأن يقتل الرعية ويحبسهم وينفيهم ويغربهم بغير سبب شرعي وسائر أنواع المظالم، ثم ادعى أنه تاب وعاهد الله وحلف أن يصلح حاله، ثم حنث وأحدث فتنة عظيمة جعلت أمور المسلمين كلها مختلة وأصر على المقاتل، وتمكن منعة المسلمين من إزالة تغلب زيد المذكور ووردت أخبار متوالية من جوانب بلاد المسلمين انهم يعتبرونه مخلوعاً وأصبح بقاؤه محقق الضرر وزواله محتمل الصلاح. فهل يجب أحد الأمرين خلعه أو تكليفه بالتنازل عن الإمامة والسلطنة على حسب ما يختاره أهل الحل والعقد وأولي الأمر من هذين الوجهين ؟

الجواب : يجب كتبه الفقير

السيّد محمد ضياء الدين عفي عنه.

فلما قرئت هذه الفتوى الجليلة على الأعيان والمبعوثين سألهم سعيد باشا رئيس الأعيان الذي كان يراس الجلسة اتختارون خلعه أم تكليفه بالتنازل فأجابوا بصوت واحد : الخلع الخلع.

وهذه ترجمة قرار هذا المجلس العمومي (المؤلف من الأعيان والمبعوثين" :

"يوم الثلاثاء سابع ربيع الآخر سنة 1327 و 14 نيسان سنة 1325 (27 ابريل سنة 1909م) الساعة السادسة ونصف (عربي) (الواحدة بعد الظهر زوالي) قرئت الفتوى الشرعية الموقع عليها بتوقيع شيخ الإسلام محمد ضياء الدين افندي في المجلس العمومي المؤلف من المبعوثين والأعيان ورجح بالاتفاق وجه الخلع الذي هو أحد الوجهين المخير بينهما فأسقط السلطان عبد الحميد خان من الخلافة الإسلامية والسلطنة العثمانية وأصعد ولي العهد محمد رشاد أفندي باسم السلطان محمد خان الخامس إلى مقام الخلافة والسلطنة".

خلع عبد الحميد سنة 1909 فبويع بالخلافة الإسلامية الخليفة الشوري العادل أمير المؤمنين محمد رشاد الخامس.

فلما ولي الخلافة أعاد إليها عهد عمر بن عبد العزيز، إذ سار في المؤمنين سيرته، فكان من كل قلب قاب قوسين أو أدنى. وعمل على خدمة الأمة فأعزته وأخذ بيدها فاحبته وأجلها فأجلته وكانت الكلمة التي امتاز بها عهده السعيد تلك التي قالها على مسمع من وزرائه "إننا جميعاً خدام الشعب".

ولم يمض على توليته الخلافة إلا قليل حتى ألف بين قلوب الأمة في ظل الدستور، فكان لعناصر هذه الأمة أباً رحيماً وراعياً حكيماً. ولقد رأى العثمانيون جميعاً من حكيم تدبيره وسياسته ما ملأ قلوبهم ثقة وتعلقاً به وحباً وإقداراً له، فكان عهده فاتحة لرقي الممالك العثمانية وإصلاحها.

ومنذ ارتقاء جلالته على العرش تسلم حزب الاتحاد والترقي إدارة الحكومة العثمانية، وإنا لنذكر الاصلاحات التي تمت منذ الثلاث السنين الماضية والاتحاديون يديرون الحكومة العثمانية.



الاصلاحات الداخلية

تسلم حزب الاتحاد والترقي ادارة الحكومة واعداؤه من رجال العهد الماضي يعدون بالمئات، أولئك المنافقون الذين ارتكبوا من الأعمال المضرة في العهد البائد ما تقشعر منه الأبدان. وكانت الحكومة في اختلال تام والأمة قد فقدت أسباب الأمن والموظفون لا يتقاضون مرتباتهم والديون الخارجية لا تدفع اقساطها في أوقاتها واشتعلت في الولايات نيران الفتن والمشاغبات.

تلك هي حال الحكومة عندما تسلمها حزب الاتحاد والترقي. أما حال العناصر العثمانية المختلفة فكان على أسوأ ما يكون وكل عنصر كان يتأهب للفتك بأخيه. وكان بين المبعوثين لأول مرة من لم يفهم معنى الحرية ولا يعرف واجباته نحو الأمة ولا الفائدة من الاجتماع بمجلس المبعوثين.

تسلم حزب الاتحاد والترقي الحكومة في ذلك الوقت وبدأ في أعماله واصلاحاته بهمة لا تعرف الكلل ولا الملل.

كان أول ما ابتدأ في تنفيذه من الوسائل النافعة تعميم المساواة بين أفراد الأمة بوضعهم جميعاً في مستوى واحد إمام قانون واحد.

ولقد وفقت الحكومة لجمع الأسلحة من الأشقياء الذين يلجأون إلى الجبال في الروم ايلي. فأثار أولئك من أجل ذلك ثورات جديدة قاومتها الحكومة وأخمدتها، فعادت السكينة في انجاء الدولة العليا وعمَّ الأمن وانتشرت الطمأنينة.



الاصلاحات المالية

قبض حزب الاتحاد والترقي على ادارة الحكومة العثمانية والخزانة خاوية على عروشها فبدأ في إصلاحها، وتمكن من وضع ميزاني لمالية الحكومة العثمانية فكانت عبارة عن خمسة وعشرين مليوناً واردات وثلاثين مليوناً مصروفات. وكانت قد تراكمت الديون من جهة ولم تحصل الضرائب منذ سنين من جهة أخرى. فلما وضعت الميزانية المذكورة لم يكن أحد يعتقد إمكان تحصيل 25 مليوناً من بلاد الدولة، ولكن كان المتحصل عقب اعلان الدستور لأول مرة 26 مليوناً ونصفاً سنة 1910.

وفي سنة 1911 بلغ المتحصل ثلاثين مليوناً.

ولقد زادت واردات جميع مصالح الحكومة، وبالجملة فان المواد الأساسية لايرادات الحكومة نمت وازدادت إلى درجة كبيرة.

وكانت ايرادات الجمارك سنة 1910 ثلاثة ملايين ونصفاً فوصلت إلى خمسة ملايين سنة 1911 وكانت واردات العشور سنة 1910 ستة ملايين فأصبحت سبعة ملايين ونصفاً.

وبالجملة فإن حزب الاتحاد قد عرف أدواءالأمة وعلاجها فنجح في تقليل الهجرة وعدد المهاجرين في الروم ايلي وقلل من العثور في الأناضول، وقصارى القول إن الحزب قد نجح في مداواة هذه الأمراض نجاحاً باهراً.

ولقد وزع حزب الاتحاد المبالغ الجسيمة على سكان الجزيرة والموصل والاناضول لاحياء أراضيهم وتعميم الزراعة بينهم بعد الموات.

فلا عجب إذا ابتهج المسلمون في شرق الأرض وغربها بارتقاء جلالة مولانا السلطان الاعظم محمد الخامس عرش الخلافة العثمانية.

ولم يمضِ على جلوس محمد رشاد على العرش ثلاث سنوات حتى اعتدت إيطاليا سنة 1911، بتحريض من الدول المسيحية وبالاتفاق معها وبمعاونتها، على طرابلس الغرب - ليبيا - وانتزعتها منها بعد حرب دامت سنة بذلت فيها الدولة كل جهد وطاقة ومال ورجال حتى لم يبق ما تبذله، ثم جاءت حرب البلقان التي تولى كبرها كل من الصرب والبلغار والرومان مدفوعين بأيدي الدول الغربية المسيحية عامة وروسيا، التي كانت ولا تزال عدوة الإسلام والمسلمين، خاصة. ثم جاءت ثالثة الاسافي واعني بها الحرب العالمية الأولى التي اضطرت الدولة العثمانية على خوضها مرغمة.

وعلى الرغم من أن كفة الدولة العثمانية وحلفائها، المانيا والنمسا والبلغار، لم تكن لتعادل كفة الانكليز والافرنسيين والطليان والروس، في بادئ الأمر، ثم الولايات المتحدة، بعد ذلك، فقد استطاع العثمانيون أن يقاوموا أربع سنوات هلك فيها الزرع والضرع، فقد رأيت الجندي التركي يحارب وهو جوعان وعريان والأمراض تفتك به ولكنه كان يحارب بقوة الإيمان وباسم الاسلام ولذا فقد كانت كل المصائب تهون لديه. ولكن كان لا بد لهذه المأساة، التي رصد لها الغرب كل امكاناته، من نهاية فخرت الدولة صريعة سنة 1918 واستسلمت لاعدائها تحت ضربات حقدهم. ولولا استسلام البلغار أولاً والنمسا بعد ذلك لما حصل ما حصل ولكنها إرادة الله.

لقد كان من حظ محمد رشاد الا يشهد مأتم سلطنته لأنه مات قبل الاستسلام بشهور ولكني اعتقد أنه كان يقدر حدوث هذه المأساة، لأن البلاد كانت على شفا جرف وعلى وشك الانهيار من كل جانب ونتائج مثل هذه الحال لم تكن لتخفى على محمد رشاد لاسيما وقد بلغني انه كان عالماً بالتاريخ.



أواخر سلاطين بني عثمان

يوسف عز الدين

كانت ولاية العهد بعد محمد رشاد للأمير يوسف عز الدين، لأن ولاية العهد في الدولة العثمانية كانت من حق أكبر أفراد الأسرة المالكة سناً، بعد الجالس على العرش وليس من حق أكبر أولاد الجالس على العرش.

وكان يوسف عز الدين شخصية محبوبة من جميع الأوساط، وكان الناس يرجون منه الخير للبلاد، على الرغم من أنهم لم يروا منه خيراً ولا شراً، ولم يكن أولياء العهد يتدخلون في الأمور السياسية ولكنه كان محبوباً، ولعله كان من سوء حظ البلاد والعباد أن مات سنة 1916 وقد قيل، آنذاك، أنه مات مسموماً قتله الاتحاديون لأنه لم يكن يرى رأيهم ولا يوافقهم على سياستهم، وأشيع أنه مات منتحراً إثر نوبة جنون أصابته كالتي أصابت أباه عبد العزيز فانتحر.



محمد وحيد الدين السادس بن مراد

1916 - 1992

بعد وفاة يوسف عز الدين صارت ولاية العهد إلى الأمير وحيد الدين فخلف أخاه محمد رشاد على العرش باسم محمد السادس ولم تمضِ على خلافته بضعة شهور حتى استسلمت الدولة العثمانية واستولت جيوش الأعداء على كل البلاد من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، ولم يسلم من أيديهم وتعدياتهم إلا شرق الاناضول لأن روسيا كانت قد انسحبت من الحرب سنة 1917 بعد أن فرضت عليها الشيوعية ولذا فإنها لم تستطع أن تحرك ساكناً لتستولي على شرق الاناضول ولولا ذلك لما بقي بلد من بلاد الدولة العثمانية لم يدخل في حوزة اعدائها.

أراد وحيد الدين أن ينقذ ما يمكن انقاذه من البلاد فاستعان بمصطفى كمال وعهد إليه بإنقاذ البلاد كما سنرى ذلك مفصلاً، ولكنه وضع ثقته في غير موضعها، فلما رأى أن مصطفى كمال أخذ يعمل لحسابه الخاص وليس لحساب الدولة، ورأى أن الأمور تسير على غير ما كان يرجو تنازل عن العرش سنة 1922 واعتزل الحياة السياسية ومات سنة 1926 وأوصى أن يدفن في دمشق في تكية السلطان سليم حيث يوجد قبور لكثير من آل عثمان.



عبد المجيد بن عبد العزيز

واعتلى عرش السلطنة العثمانية، بعد تنازل السلطان محمد وحيد الدين، ولي العهد الذي اصبح السلطان عبد المجيد وبعد أن أصبح مصطفى كمال سيد الموقف جرد السلطان من السلطة الزمنية وجعله خليفة، أي أشبه بشيخ إسلام ولكن من غير سلطة روحية أيضاً. ثم ألغى الخلافة سنة 1924 وطرد عبد المجيد فذهب ليعيش في منفاه في مدينة نيس الأفرنسية على الشاطئ اللازوردي.

وبإلغاء الخلافة قضى مصطفى كمال على امبراطورية عظيمة كانت ملء عين الزمان وسمعه، وقتل أمجاداً، وقضى على ثقافة، ونحر أقواماً طالما ازهقوا أرواحاً بريئة صادقة في بناء هذه الامبراطورية، وطالما أراقوا دماءً زكية في سبيل إعلاء مجد الإسلام وكلمته.



خَاتِمَة الدَولةِ العُثمانيّة

بعد جهاد وجلاد شاقين، في الداخل والخارج، استمرا ستة قرون متوالية كانت خاتمة المطاف الحرب العالمية الأولى، التي دامت اربع سنوات ونيف، امتدت من سنة 1914 إلى سنة 1918، وثبت فيها العثمانيون، أمام أعدائهم، ثبوت الجبال ودافعوا عن دينهم ووطنهم وكرامتهم دفاع الأبطال. انتهت تلك الحرب بمأساة مفجعة اذ استيقظ المسلمون كلهم على كابوس مزعج انطوى على أعظم فاجعة أصيبوا بها وأكبر مصيبة نزلت بهم، منذ ظهور الإسلام والى تلك الساعة، فقصمت ظهورهم وكبلتهم بحبلي الخيبة والخسران، إذ رأوا بنيان دولة الخلافة ينهار كما تنهار بيوت الكرتون، لا بل وقد أصبحت هذه الدولة ذات العز الباذخ والشأن الرفيع الشامخ، التي كانت ملء عين الزمان وسمعه، أثراً بعد عين وكأنها لم تغن بالأمس واصبحت أرضها موطناً لاعدائها أو موطئاً لاقدامهم.

لقد كانت الصفعة قاسية جداً وأليمة جداً لأنها لم تكن مرتقبة ولا محسوبة فنحن كنا نعلم أننا في حرب مع أعداء أقوياء، وكنا نقدر الربح والخسارة ونحسب حسابهما ولكننا لم نكن نقدر الخسارة وحدها لا سيما بعد أن رأينا الدولة تقف في وجه الأعداء أربع سنوات وتكاد لا تتزحزح عن أماكنها في جميع الجبهات ثم نراها تنهار وتخر، في بضعة شهور، وكأن عاصفة اقتلعتها من جذورها أو فيضاناً طفا عليها فجرفها. إننا نحن الذين شهدوا تلك المأساة ندرك أبعادها إدراكاً تاماً ونشعر بالآمها ولا نستطيع التعبير عنها باللسان ولا بالقلم لأنها أكبر وأعظم من أن توصف.

كان من البديهي بعد أن اندحرت الدولة في ميادين الحرب أن تستقيل الوزارة العثمانية القائمة، وزارة الاتحاد والترقي، التي كان يرأسها طلعت باشا وتألفت وزارة جديدة برئاسة أحمد عزة باشا الأرناؤوط وأرسلت هذه الوزارة وفداً وزارياً الى مدينة مودروس في جزيرة ليمنوس، الكائنة في بحر يجه، بين البرّين التركي واليوناني، لمفاوضة الانكليز على شروط الهدنة، وهي لم تكن هدنة بالمعنى الصحيح بل كانت إملاءً واستسلاماً. وكان هذا الوفد برئاسة وزير البحرية، رؤوف بك بطل الدارعة الحميدية المشهور.

وبعدما اندحرت الدولة في الحرب رأى حكامها، زعماء حزب الاتحاد والترقي، أنهم خسروا المعركة نهائياً وأنه لا سبيل للمكابرة بل لا بد لهم من أن ينهجوا نهجاً جديداً وان الخطوة الأولى هي أن يتواروا عن الأنظار، فعقدوا اجتماعاً قرر فيه ثمانية منهم مغادرة البلاد على اعتبار أنهم هم المسئولون الأوائل عن الحرب وعما أصاب الدولة من انهيار وانهم إذا سلموا من أيدي أعدائهم فقد لا يسلمون من أيدي أبناء البلاد أنفسهم لأن الناس في مثل هذه الحالات يحكمون بالعواطف وتسيطر عليهم الغوغائية. وهؤلاء الثمانية هم : طلعة باشا رئيس الوزارة، انور باشا وزير الحربية، احمد جمال باشا وزير البحرية وقائد الحملة العثمانية على الجبهة المصرية والحاكم بأمره في سوريا الكبرى الممتدة من جبال طوروس الى قناة السويس، عزمي بك والي بيروت، بدري بك مدير شرطة استانبول، الدكتور ناظم بك والدكتور بهاء الدين بك من كبار رجالات الحزب ومدحت باشا أمين سر حزب الاتحاد والترقي. غير أن هذا الأخير وافق على مغادرة البلاد مسايرة لصديقه طلعة باشا ولكنه لم يكن، في قرارة نفسه، راغباً بهذه الهجرة.

فلما رأى طلعة باشا أن مدحت بك لا يرغب بالهجرة إلا مسايرة له قال له : إذا كنت لا ترغب بمغادرة البلاد فابق حيث أنت وأنا راض عنك فبقي وركب السبعة المذكورون، في أوائل نوفمبر 1918، سفينة حربية المانية حملتهم الى جزيرة القرم التي كانت تحت السيطرة الالمانية، آنذاك، وهناك استقبلتهم السلطات الألمانية بالترحاب ووضعت تحت تصرفهم قطاراً يحملهم الى برلين التي اختاروها داراً لهجرتهم.

وكان هؤلاء الفارون، منذ أن غادروا استانبول، يتحدثون فيما بينهم بما يجب عليهم فعله، فكان طلعة باشا يرى أن حياتهم السياسة قد انتهت وأن المنطق يقضي عليهم بأن يعتزلوا السياسة ويعيشوا في عالم المجهول فقد عملوا ما فيه الكفاية واخطأوا من حيث أرادوا الخير والصواب، وكان من رفاقه، ولا سيما المدنيين، من يرون رأيه وأما العسكريون وخاصة أنور باشا الذي كان مملؤاً شباباً وحماسة فإنه كان يرى غير ذلك ويفضل أن يغتنم ما بين روسيا والدول الغربية من عداء وأن يستثمر هذا العداء ويستمر في القتال حتى تستطيع الدولة العثمانية أن تحتفظ بأكبر جزء ممكن من البلاد وأن تعقد صلحاً مشرفاً مع الأعداء.

ولما لم ير استعداداً من رفاقه للسير في خطته فر خلسة من القطار، وهم في طريقهم الى برلين، وذهب الى القفقاس حيث كان أخوه نوري بك يقاتل الروس، وكان يأمل إثارة مسلمي داغستان واذربيجان وأن يقيم إمارة اسلامية في تلك الربوع. وبعد أن درس الوضع هناك إلى موسكو فاستقبله الروس استقبالاً حسناً وانزلوه قصراً فخماً واتفق معهم على محاربة الانكليز وحلفائهم ثم لحق به كل من أحمد جمال باش وبدري بك ولكنهما عادا إلى برلين. وجاء هو مرتين إلى برلين ليقنع رفاقه بالتعاون مع الروس ولكنهم أبوا ونصحوه باجتناب الشيوعيين لأنهم خداعون غدارون ولكنه لم يسمع لهم، ولعله كان يعلم علمهم ولكنه لم يكن يرى غير هذا الطريق يسلكه.

أدرك أنور باشا بعد أن اختلط بالروس أنهم يخدعونه وأن الهوة بينه وبينهم عميقة جداً، فهو يريد أن يعيد إلى تركيا شأنها وإسلامها وهم يريدون أن يقضوا على هذه الدولة التي أزعجتهم كثيراً أو أن يبعدوها عن الإسلام على أقل تقدير وأنهم باستضافته والمفاوضة معه إنما ارادوا حجره في روسيا لكي لا يزعج خطط مصطفى كمال الذي كان على اتفاق معهم واشترط عليهم الاّ يمدوا أنور باشا بالسلاح. وكان الروس يدركون من ماضي الرجلين أن مصلحتهم مع مصطفى كمال وليست أنور باشا لا سيما وأن الانكليز أيضاً كانوا يؤيدون مصطفى كمال.

بعد أن استيقن أنور باشا أن صداقة الروس كانت خداعاً وملقاً وأنه وقع في شركهم، رأى من العار أن يعود خاسئاً ويستجدي الحياة استجداء وصمم على أن يستمر في خطته حتى ينال احدى الحسنيين فإما النصر وإما لقاء الله. فكتب رسالة إلى جمال عزمي بك وإلى طرابزون السابق وهو غير عزمي بك والي بيروت، يوصيه بزوجته ودخل بخارى يسانده الحزب الاميري فيها وبطش بدعاة الشيوعية وأعوانها ولا سيما بحزب (مجددي) الشيوعي وحارب الروس وانتصر عليهم في معارك كثيرة تناقلت الأنباء العالمية أخبارها. فلما رأى الروس ذلك ورأوا أن الحماسة قد اشتدت ضدهم وأن العاقبة قد تكون وخيمة عليهم إذا تهاونوا بالأمر، جمعوا جيوشاً كبيرة لمقاومة هذه الثورة الجائحة التي لو كتب لها النجاح لكانت قضت على الامبراطورية الروسية وأرجعتها إلى حجمها الحقيقي وهو إمارة موسكو. وحدث، في 4 أوغست 1922 أنه بينما كان أنور باشا في قرية بالجوال شرقي بخارى وقد تفرق عنه الجند بسبب عيد الأضحى، أن هاجمه الروس بأعداد كبيرة فخرج إليهم بنفسه وظل يقاتلهم حتى قتل.

لقد مات أنور باشا ميتة شريفة تليق برجل مثله ولم يشأ أن يعيش عالة على أحد على الرغم من أن ملك الأفغان، امان الله خان، دعاه مرات كثيرة مع الرجاء والالحاح بأن يأتي إليه لينظم له جيشه ووعده بأن يجد عنده كل ترحيب وتكريم ولكنه اعتذر عن القبول وفضل هذه النتيجة الشريفة على حياة الاستجداء.

أما أحمد جمال باشا فقد استجاب لدعوة أمان الله خان وذهب إلى افغانستان وأخذ يعمل في تنظيم جيشها وجاء إلى موسكو فاحتجزه الروس بشكل لطيف لأنهم لم يكونوا يريدون لأفغانستان نهضة ووعياً، ولكنه استطاع أن ينجو منهم بلباقة إذ أنه ابدى استعداده للذهاب إلى تركيا لاستمالة الناس إلى جانبهم فسمحوا له بالذهاب عن طريق القفقاس، ولما كان في تفليس تصدى له شخص من الأرمن فقتله ويقال بأن الروس هم الذين دبروا اغتياله لكي يتخلصوا منه إذ أنهم لم ينخدعوا بوعده. وقتل الأرمن طلعة باشا في برلين كما قتلوا غيره من رجالات حزب الاتحاد والترقي المسئولين عما أصاب الأرمن، زمن الحرب، من قتل وتشريد.

كانت هذه صفحة من صفحات العهد العثماني ولكنها لم تكن آخرها ولا كانت أقواها صدمة على نفوس المسلمين لأن الناس كانوا قد نسوا رجال العهد العثماني وعلقوا آمالهم بالحركة الكمالية التي كانوا يعتقدون أنها ستعيد إليهم الشيء الكبير من آمالهم. فماذا كان ؟

yacine414
2011-03-18, 16:42
هل الاتحاديون هم الذين أضاعوا البلاد ؟

يتهم كثير من الناس جماعة حزب الاتحاد والترقي بأنهم هم الذين أضاعوا البلاد وقضوا على السلطنة العثمانية وهدموا هذا البناء الإسلامي الشامخ. وعلى الرغم من أن الاتحاديين قد ارتكبوا كثيراً من الأخطاء وعلى الرغم من أن الدولة العثمانية زالت إبان حكمهم فإن الإنصاف يقتضيا أن نقول :

إن الاتحاديين كانوا ثوريين متوثبين يريدون الخير لبلادهم إلا أنهم كانوا مثل كل الشبان متحمسين لغايتهم فأخطأوا الصواب أو أنهم استعجلوا الخير فوقعوا في الشر. لم يكن الاتحاديون هم الذين أضاعوا البلاد بل قد استلموا البلاد وهي في حالة احتضار وكان موتها وشيكاً لا بل كان يجب أن تكون قد ماتت قبل قرن من الزمن أو على أقل تقدير قبل أن يتسلم السلطان عبد الحميد الثاني مقاليد الحكم، وكل ما كانوا يستطيعون فعله هو أن يدفعوا عنها هذه النتيجة المؤلمة لو كانوا أهل خبرة ورأي وحكمة ولم يكونوا أهل حماسة وغرور، لقد كان باستطاعة الاتحاديين أن ينفخوا في البلاد روحاً جديداً لو كان لديهم الحنكة والادارة وأن يعمدوا إلى اللامركزية فيعطوا العرب والأرمن والأكراد وحتى لبنان استقلالاً داخلياً، ولو فعلوا ذلك لكانوا صفعوا كل الأجانب وقضوا على دسائسهم، لا بل لقد كان بالامكان إعطاء كل بلد عربي استقلالاً على حدة كما هو حاصل اليوم، ولو فعلوا ذل لما وجدوا من يجرؤ على طلب الانفصال والاستقلال التام. ولو وقع هذا لكان خيراً مما أصيبت به الدولة من زوال لأن الاتحاديين لم يكونوا يجهلون بأن الغرب كان مقرراً إزالة الدولة العثمانية واقتسامها فلو فعلوا هم ما كان الغرب يريد فعله لقطعوا الطريق عليه ولأبقوا للدولة كيانها ولكنهم ساروا بالعاطفة وبحماسة الشبان وعمدوا إلى القوة والبطش فضاعوا وأضاعوا البلاد. وآفة الشباب الغرور.

لقد تسلم الاتحاديون البلاد وليس فيها شيء سليم : الأعداء متربصون لها من كل جانب، وأجزاء البلاد تنسلخ عنها جزءاً بعد جزء وما لم يكن قد انسلخ كانت البرامج موضوعة لسلخه مثل طرابلس الغرب والبلقان. والبلاد تئن تحت وطأة الديون، والدولة عاجزة عن أن تفرض هيبتها على كثير من أجزاء البلاد. فالجزيرة العربية بأقسامها الثلاثة : اليمن والحجاز ونجد تكاد تكون شبه مستقلة وعُمان وعدن والسلطنات والكويت يسيطر عليها الانكليز سيطرة فعلية وإن كانت اسماً تابعة للدولة، والعراق في حالة اضطراب مستمر ومصر مستقلة فعلاً وسوريا ولبنان في قلق دائم والدسائس الغربية تستهوي شبان البلاد فماذا يستطيع الاتحاديون أن يفعلوا تجاه كل هذه العقبات ؟

الشيء الوحيد الذي كانوا يستطيعون أن يفعلوه هو أن يعطوا بأيديهم وبرضاهم ما كان مقرراً أن يؤخذ منهم غصباً ولو فعلوا لكانوا كسبوا صداقة هذه الأقوام التي يظل لهم بها ارتباط اسمي. ولكن الاتحاديين اختاروا طريق العنف والشدة فخسروا المعركة وكان من المعلوم انهم سيخسرونها.

وبالتالي فإن الاتحاديين لم يضيعوا البلاد بل استلموها وهي ضائعة من سوء حظهم أن كانت تصفية هذه الشركة المفلسة على أيديهم، وكان ذلك نتيجة طبيعية لما كانت عليه البلاد من سوء حال.

إننا لا نستطيع أن نتهم الاتحاديين بأنهم كانوا يريدون تخريب البلاد إذ ليس من المعقول أن يهدم المرء بيته، ولكننا نتهمهم بأنهم لم يكونوا رجال سياسة يستطيعون أن يقفوا أمام دهاء دول الغرب ومؤآمراتها فخدعوا وساروا بغير الطريق التي كان يجب عليهم أن يسيروا فيها فأخطأوا.



ما هي الأسباب التي أدّت إلى انهيار الدولة العثمانية ؟

يجب علينا أن نبحث عن الأسباب التي أدّت إلى زوال الدولة العثمانية بعد أن سيطرت على العالم بضعة قرون كانت فيها ملء عين الزمان وسمعه لا بل كانت فمه القائل ويده الباطشة ولسانه الناطق.

وترجع هذه الأسباب إلى:

1-زواج السلاطين بالاجنبيات وتسلط هؤلاء الاجنبيات على عواطف أزواجهن وتصريفهم في سياسة بلادهن الأصلية وتحكمهن بمقدرات الدولة. فكم من الملوك قتلوا أولادهم أو إخوانهم بدسائس زوجاتهم وارتكبوا أعمالاً تضر بمصلحتهم إرضاء لزوجاتهم.

2-تعدد الزوجات والمحظيات اللواتي كان الأجانب والحكام يقدمونهن هدية للسلطان كأنهن السلع أو التحف واللواتي كان السلاطين إذا رأوا كثرتهن في قصورهم يهدونهن أحياناً إلى قادتهم أو خواصهم على سبيل التكريم. وكان من البديهي أن يحصل بين أولاد الأمهات وأمهات الأولاد. وسواءً أكانت الامهات زوجات أو محظيات، تحاسد وتباغض يؤديان إلى قتل السلاطين أولادهم وإخوانهم وإلى أمور غير معقولة ومقبولة عقلاً وشرعاً.

3-تفكك روابط الأسرة السلطانية بسبب كثرة النساء حتى أصبحت عادة قتل السلطان إخوانه أو أولاده، يوم يتولى العرش، أمراً معروفاً ومألوفاً. وكأنه يضحي بخراف احتفاء بهذا اليوم من غير أن يشعر بوخز ضمير أو لسعة ألم.

ولذا فقد كان أفراد الأسرة السلطانية يعيشون في خوف مستمر ويتربص بعضهم بالبعض الآخر الدوائر ولا يبالون بأن يشقوا عصا الطاعة في وجه السلطان سواء أكان أخاً أم أباً أم ابناً وذلك ليس حباً بالسيطرة فقط بل لانقاذ أعناقهم أحياناً من الغدر.

4-تدخل نساء القصر بالسياسة وشفاعتهن لدى أزواجهن السلاطين برفع الخدم إلى منصب الوزارة أو إيصال المتزلفين إلى مراتب الحل والعقد، كرئاسة الوزارة وقيادة الجيش. وفي كثير من الأحيان لا يكون لهؤلاء الرجال ميزة يمتازون الا تجسسهم لحسابهن.

5-بقاء أولياء العهد مسجونين في دور الحريم فلا يرون من الدنيا شيئاً ولا يعلمون شيئاً، وكثيراً ما كانوا لا يتعلمون شيئاً أيضاً لأنهم لم يكونوا يدرون إلى ما سيصيرون فإما أنهم يذهبون ضحية مؤآمرة قبل أن يصلوا إلى العرش وإما أنهم يصلون إلى العرش لكي يجدوا فئة من الناس تسيطر عليهم وتتحكم بهم أو يسحبون عن العرش ويقتلون أو تسيرهم نساء القصر أو يسيرهم جهلهم. وتسليم أمور الدولة إلى غير الأكفاء من الناس إذ كان طباخ القصر وبستانه وحطّابه والخصي والخادم يصلون إلى رتبة رئاسة الوزارة أو القيادة العامة للجيش. فماذا ينتظر من جاهل أن يفعل.

6-احتجاب السلاطين وعدم ممارستهم السلطة بأنفسهم والاتكال على وزراء جهال. فقد كان سلاطين آل عثمان حتى السلطان سليم الأول يتولون قيادة الجيش بأنفسهم، فيبعثون الحماسة والحمية في صدور الجنود، ثم صار السلاطين يعهدون بالقيادة إلى ضباط فصار الجنود يتقاعسون تبعاً للمثل القائل "الناس على دين ملوكهم".

7-تبذير الملوك حتى بلغت نفقات القصور الملكية في بعض الأحيان ثلث واردات الدولة.

8-خيانة الوزراء، إذ أن كثيراً من الأجانب المسيحيين كانوا يتظاهرون بالإسلام ويدخلون في خدمة السلطان ويرتقون بالدسائس والتجسس حتى يصلوا إلى أعلى المراتب، وقد أبدى السلطان عبد الحميد استغرابه من وفرة الأجانب الذين تقدموا إلى القصر يطلبون عملاً فيه حتى ولو بصفة خصيان وقال : لقد وصلني في أسبوع واحد ثلاث رسائل بلغة رقيقة يطلب أصحابها عملاً في القصر حتى ولو حراساً للحريم،وكانت الرسالة الأولى من موسيقي افرنسي والثانية من كيمائي ألماني والثالثة من تاجر سكسوني. وعلق السلطان على ذلك بقوله : من العجب أن يتخلى هؤلاء عن دينهم وعن رجولتهم في سبيل خدمة الحريم. فهؤلاء وأمثالهم كانوا يصلون إلى رئاسة الوزارة، ولذا فقد قال خالد بك مبعوث أنقره في المجلس العثماني بهذا الصدد : لو رجعنا إلى البحث عن أصول الذين تولوا الحكم في الدولة العثمانية وارتكبوا السيئات والمظالم باسم الشعب التركي لوجدنا تسعين في المئة منهم ليسوا أتراكاً.

9-غرق السلاطين والأمراء في الترف والملذات.

10-الحروب الصليبية التي شنت على الدولة والتي لم تنقطع منذ ظهورها إلى يوم انهيارها.

11-الامتيازات التي كانت تمنح للأجانب اعتباطاً بسخاء وكرم لا مبرر لهما بل كانت تمثل التفريط بحق الوطن في أقبح صوره، فقد منحت الدولة العثمانية، وهي في أوج عظمتها وسلطانها، امتيازات لدول أجنبية جعلتها شبه شريكة معها في حكم البلاد. ولا أرى سبباً لهذا الاستهتار إلا الجهل وعدم تقدير الأمور قدرها الحقيقي وتقدير قوة ودهاء الدول التي منحت هذه الامتيازات والعاقل لا يستهين بعدوه مهما كان صغيراً وضعيفاً.

12-الغرور الذي أصاب سلاطين بني عثمان الذين فتحت لهم الأرض أبوابها على مصراعيها يلجونها كما يشاؤون. وإن من يقرأ كتاب الملك سليمان القانوني إلى ملك فرنسا لا يجد فيه ما يشبه كتاب ملك إلى ملك أو امبراطور عظيم إلى ملك صغير أو حتى إلى أمير، بل يجده وكأنه كتاب سيد إلى مسود. ومن يطالع صيغ المعاهدات، في أوج عظمة الدولة، وما كان يضفى فيها على سلاطين بني عثمان من ألقاب يكادون يشاركون بها الله تعالى في صفاته بينما تكون ألقاب الاباطرة والملوك عادية، أقول إن من يطالع صيغ هذه المعاهدات يدرك إلى أي حد بلغ بهؤلاء السلاطين الجهل والغرور.

13-إدخال الدين في كل صغيرة وكبيرة من أمور الحياة والسير بعكس ما يأمر به الدين، باسم الدين، حتى أصبح الدين ألعوبة في أيدي قبضة من الجهال يحللون ويحرمون على هواهم، ومثال ذلك إدخال أمر تغيير اللباس في نطاق الدين ثم لما أراد أحدهم إنشاء مطبعة في استانبول ووجد معارضة من قبل علماء الدين لجأ إلى السلطان وإلى حاشيته يطلب إليهم أن يقنعوا هؤلاء الجهال بفائدة المطابع فأمر السلطان شيخ الاسلام بأن يفتي بأن المطبعة نعمة من نعم الله وليست رجساً من عمل الشيطان كما أفتى العلماء من قبل فافتى شيخ الاسلام بجواز إنشاء مطبعة شريطة ألا تطبع القرآن الكريم ولا كتب ا لتفسير والحديث والفقه. وقد أنشئت أول مطبعة في استانبول سنة 1712 أي بعد أن كان قد مضى على اختراع المطبعة ما يزيد على قرنين نصف القرن وبعد أن أنشأت فرنسا المطبعة الوطنية بنحو قرنين.

هذه الأسباب التي قضت على الدولة العثمانية وأنزلتها من شامخ عزها إلى حضيض المذلة والهوان. وإن من يدرس، بإمعان نظر، كل سبب من هذه الأسباب المذكورة آنفاً ويرى مدى تأثيره الواسع في المحيط الدولي لا يعجب من انهيار هذه الدولة العظيمة تحت سياط هذه الضربات بل يعجب كيف استطاعت أن تعيش ست مئة سنة وهي تتحمل هذه الضربات القاسية التي نزلت بها والتي لو نزلتعلى جبل لصدعته، ولكنها عاشت بفضل اختلاف اعدائها على تقسيمها فيما بينهم وبفضل أيمان أهلها وتمسكهم إلى حد بالإسلام. ومن المؤسف المحزن أن يهدم أبناء أولئك المؤمنين بتنكرهم للدين وبتخاذلهم ما بناه آباؤهم وأجدادهم بجدهم وجهدهم وربما قدموه من تضحيات بالدماء والأرواح.

هل كان العثمانيون مستعمرين ؟

من الأمور التي أراد الغرب أن يوقروها في نفوسنا هو أن العثمانيين كانوا مستعمرين، وفي كل بلد حلها الغربيون المستعمرون أعلنوا أهلها أنهم إنما أتوا إليهم لإنقاذهم من المستعمر العثماني. فحينما دخل الافرنسيون الجزائر أعلن قائد الحملة أنه جاء لانقاذ الجزائر من الاستعمار وكانت النتيجة أنهم قضوا على استقلال الجزائر واستعمروها 130 سنة أسوأ استعمار، ولما دخل نابليون مصر أعلن أنه جاء لإنقاذ المصريين من استعمار المماليك، ولما استولى المستعمرون على بلاد الدولة العثمانية أخذوا يوقرون في نفوس أهل البلاد أن الدولة العثمانية كانت في بلاد العرب مستعمرة وسار الأطفال الذين تلقوا هذه الدروس عن المستعمرين والمغرضين والحاقدين على النهج وصدقوا هذا القول ولا يزال إلى يومنا هذا يوجد أناس يسمون الحكم العثماني في بلاد العرب استعماراً.

وإذا كان العهد العثماني قد مضى وانقضى فإن واجب الإنصاف يقتضينا أن نزيل من الأذهان هذه التهمة المغرضة التي أراد أعداء الإسلام تثبيتها في نفوس الناشئة لكي يباعدوا بنيهم وبين الأمة التركية المسلمة.

فالعثمانيون لم يكونوا إخواناً للعرب ومساوين لهم في الحقوق والواجبات بل العالم كله يعرف أن تسامح الدولة العثمانية مع العناصر الغربية، عنصراً وقومية وديناً، قد بلغ حداً لم يبلغه أي قوم في العالم. فالعثمانيون مسلمون والمسلمون لا يفرقون بين أبيض وأسود ولا بين عربي وتركي ولا بين مسلم وغير مسلم في المعاملة.

فإذا صح أن نقول بأن العثمانيين كانوا مستعمرين في بلاد العرب يصح أن نقول الأمويين مستعمرين في سوريا والعباسيين مستعمرين في العراق والفاطميين مستعمرين في الشمال الإفريقي والأيوبيين مستعمرين في مصر وسوريا وهلم جرا. وإذا كان هذا باطلاً بالبديهة كان القول بالاستعمار التركي باطلاً أيضاً. فالأتراك كانوا مسلمين والمسلم أخو المسلم أينما كان هذا بالاضافة إلى أن العرب كانوا شركاء الأتراك في الحكم فكان منا الوزراء ومنا الولاة ومنا القادة ولم يكن ما يفرق بيننا وبين التركي، لا بل كانت اللغة العربية هي اللغة الرسمية المستعملة في البلاد العربية في القضاء والادارة إلا ما كان منها ذا علاقة ببلاد الأتراك. وإذا كان الأتراك لم يفرقوا بين تركي وبين العربي والبلغاري والروماني واليوناني وغيرهم وكانوا يولونهم الوزارات والإمارات وهم على دينهم أحياناً أو بعد إسلامهم في بعض الأحيان فكيف يصح أن نقول بأن العثمانيين كانوا مستعمرين؟‍‍.

هل كان عبد الحميد مستبداً ؟

إنه كان ملكاً مثل غيره من الملوك في زمانه، ولكنه يمتاز على غيره بالدهاء وبعد النظر والصلاح. فعبد الحميد لم يكن ملكاً ديمقراطياً مثل ملك انكلترا أو السويد مثلاً بل كان ملكاً أوتوقراطياً يملك ويحكم وإذا كان قد ظهر منه شيء من الاستبداد فتلك كانت شيمة الملوك في ذاك الزمان، وتلك كانت مقتضيات الحكم في دولة تنهشها الذئاب من كل جانب، بيد أننا لو قسنا استبداد عبد الحميد باستبداد بعض حكام اليوم الذين لا يزيدون عن شيوخ قرى بالنسبة إليه نجد استبداده رحمة وحناناً بالنسبة إلى مظالمهم.

ولكي نأخذ فكرة سليمة عن السلطان عبد الحميد ننقل فيما يلي ما قاله زعيم الإسلام المغفور له جمال الدين الأفغاني مما ذكره المخزومي في كتاب: خاطرات جمال الدين الأفغاني، فهي فصل الخطاب قال :

"ان السلطان عبد الحميد لو وزن أربعة من نوابغ هذا العصر لرجحهم ذكاءً ودهاءً وسياسة. فلا عجب إذا رأيناه يذلل ما يقام لملكه من الصعاب من دول الغرب. إنه يعلم دقائق الأمور السياسية ومرامي الدول الغربية. وهي معد لكل هوة تطرأ على الملك مخرجاً وسلماً. وأعظم ما أدهشني ما أعده من خفيّ المسائل وأمضى العوامل كي لا تتفق أوروبا على أمر خطير في الممالك العثمانية. كان يريها عياناً محسوساً أن تجزئة السلطنة العثمانية لا يمكن أن تتم إلا بخراب الممالك الأوروبية بأسرها، وكلما حاولت دول البلقان الخروج على الدولة بحرب كان السلطان يسارع بدهائه العجيب لحل عقد ما ربطوه وتفريق ما جمعوه".

وإذا كنا لا نستطيع أن ندعي أن عهد عبد الحميد كان ديمقراطياً، فإننا لا نستطيع أن نتهمه بأنه كان استبدادياً صرفاً بل كان عهداً يساير زمانه ولم يكن أحد يشعر بالحرج في عهد عبد الحميد أو يشتكي الظلم والاستبداد إلا الذين يشتغلون بالسياسة ويتآمرون على الدولة بحسن نية أو سوء نية.



سياسة عبد الحميد الإسلامية

تبوأ عبد الحميد عرش السلطنة والبلاد، كما ذكرنا، في أسوأ حال، فالدول الغربية أصبحت منذ مؤتمر باريس المنعقد في 1856 تتدخل في أمور الدولة بكل حرية. وتنظر هذه الدول إلى الدولة العثمانية نظرتها إلى مريض على فراش الموت يجب البحث في تقسيم تركته، والخزينة في حالة إفلاس وقد بلغت ديونها حتى عام 1875 ثلاث مليارات وثلاثة عشر مليون فرنك ذهبي، وهو مبلغ كبير جداً بالنسبة لذلك الزمن، حتى أن الدول قد أحجمت عن عقد قرض مع السلطنة على الرغم من الفائدة الباهظة التي كانت تتقاضاها إذ كانت تبلغ 25 %، والقوميات ترفع رأسها، والحروب تشب على الدولة وتزيد نفقاتها على عجزها وإفلاسها، ودول الغرب المسيحية تصر على السلطنة لتحقيق الاصلاحات في البلاد ومعنى الاصلاحات ترك الحبل على الغارب للأقوام المسيحية الموجودة في الدولة.

حاول السلطان عبد الحميد حينما تبوأ العرش أن يعمل على إرضاء الغرب فأعلن الدستور الذي يساوي فيه بين العناصر والأقوام وكان شعاره (حرية، أخوة، عدالة، مساواة) أي أنه زاد على الشعار الافرنسي كلمة العدالة التي هي أساس كل شيء ولكنه رأى أن غاية الغرب ليست إعلان المساواة بل غايته القضاء على السلطنة، وما مطالبتها بالمساواة وغيرها إلا حيل لإنهاكها وتفريق شملها. فلما رأى عبد الحميد هذا أدرك أن لا شيء ينقذ السلطنة إلا القوة ولكن من أين له القوة، والقوة تحتاج إلى المال والخزينة مفلسة ؟‍.

إذن لا بد من الاتكال على قوة معنوية هي قوة الإسلام فاهتم بالدعوة إلى الجامعة الإسلامية وقد نجحت سياسته واستطاع أن يحكم البلاد ثلاثاً وثلاثين سنة كانت السلطنة على ضعفها ووهنها والمؤامرات التي تحاك لها في الداخل والخارج محترمة المكانة مرهوبة الجانب. وفي نطاق هذه السياسة قرب إليه كثيراً من رجالات الإسلام مثل جمال الدين الأفغاني والشيخ أبو الهدى الرفاعي من حماة وأحمد عزة العابد من دمشق والشيخ محمد ظافر من الجزائر والشيخ سعيد من حمص والشيخ أحمد أسعد القيصرلي من المدينة المنورة والسيد فضل الله من مليبار بالإضافة إلى فريق من أشراف مكة المكرمة وعلى رأسهم الحسين بن علي وعلي حيدر وعبد الاله باشا وصادق باشا وغيرهم، وأجرى على الجميع مرتبات كما أجرى مرتبات على غيرهم ممن تخلف في بلده وكان له نفوذ إسلامي. لقد فعل ما فعل من قبيل تأليف القلوب ولكنه لم يكن مخدوعاً بأحد بل ينزل كل واحد على قدره، وكان لا يأمن للشريف حسين وحينما أصر الاتحاديون عليه لتعيينه شريفاً على مكة بدل الشريف علي قال لهم : إني أبرأ من تبعة كل ما سيعمله هذا الرجل لأني أعرف حقيقته.

وقد تجاوز عبد الحميد هذه المرحلة من تقريب العناصر غير التركية وعهد إلى كثير من العرب بأعلى المناصب في الدولة منهم احمد عزة باشا العابد الكاتب الثاني في المابين وقد بلغ نفوذه مبلغاً فاق الصدارة، وشفيق بك المؤيد المفوض في الديون العامة وشفيق بك الكوراني رئيس الشرطة، وعرب حقي باشا وسليم بك ملحمة ونجيب بك ملحمة وسليمان البستاني وقد بلغوا كلهم رتبة الوزارة وكلهم من سوريا ولبنان، وطالب باشا النقيب وأحمد باشا الزهير (من أعضاء مجلس شورى الدولة) وهما عراقيان. وكان الفريق محمد باشا والفريق محيي الدين باشا ولدا الأمير عبد القادر الجزائري وفؤاد باشا المصري من مرافقي السلطان. وكان المشير أركان حرب شفيق باشا وأخوه الفريق وهيب باشا من أركان اساتذة المدارس العسكرية والحكومية وهما لبنانيان من قرية المتن. وكان شكري باشا الأيوبي الدمشقي ناظراً للأعمال العسكرية. والدكتور يوسف رامي من قرية فالوغا في لبنان أمير لواء والدكتور الياس مطر من بيروت أستاذاً للتشريح في الكلية الطبية في استانبول. والأستاذ سليم باز من دير القمر بلبنان أستاذاً في كلية الحقوق وغيرهم كثير.

وبالإضافة إلى ذلك فقد اتخذ السلطان عبد الحميد من العرب حرساً خاصاً أنزلهم حول قصره والبسهم عمائم خضر.

ولم يكتف بذلك بل إنه عمد إلى تزويج أميرات البيت المالك من غير الأتراك ورفع أزواجهن إلى رتبة داماد (أي صهر) وهم : الشريف علي حيدر الذي طمع في عهد الانتداب الافرنسي أن يكون ملكاً على سوريا، وصالح بك خير الدين باشا التونسي، وأحمد نامي شركسي الأصل ولبناني الجنسية وقد صار سنة 1926 رئيساً لدولة سوريا.

وكما قرب السلطان العرب إليه فإنه لم يهمل الأقوام المسلمة الأخرى فجمع حوله طائفة من الأكراد والأرناؤوط أمثال إسماعيل باشا الكردي ودرويش باشا الألباني وغيرهما وعني عناية خاصة بتربية الناشئة من أولاد العشائر فأنشأ مدرسة العشائر في استانبول لتوثيق عرى الاخوة بين العشائر ودار الخلافة.

هذا بعض ما فعله السلطان عبد الحميد في سبيل جمع كلمة رعايا الإمبراطورية العثمانية حول مبدأ واحد وهدف وهو الإسلام وهو عمل عظيم، ولكن بقدر ما كانت هذه السياسة ناجحة ومفيدة في تدعيم أركان الدولة فإنها كانت أشبه بناقوس الخطر بالنسبة إلى دول الغرب التي تخشى كلمة الإسلام وتحاربها بكل قواها لأن انتصار الإسلام يعني في نظرها اندحاراً للمسيحية ولذلك فقد عملت على إزالة عبد الحميد أولاً ثم على القضاء على الإمبراطورية بعد ذلك.

الثورة التركية ومصطفى كمال

وكان السلطان محمد وحيد الدين يدرك أن وجود تركيا لازم لدول الغرب لإقامة التوازن بينها وان انكلترا وفرانسا لنتسمحا بالقضاء على تركيا قضاءً مبرماً لأنهما بذلك تفسحان المجال أمام روسيا للاستيلاء على الأناضول وبالتالي على مضيقي البوسفور والدردنيل مفتاحي العالم، بل كان ما تريدانه هو تشذيب أطراف الدولة العثمانية وجعلها دويلة صغيرة مثل دول البلقان وباقي الدول التي كانتا تنويان خلقها في المنطقة على انقاض الدولة العثمانية. واستناداً على هذا التفكير السليم كان السلطان محمد وحيد الدين يعلم بأن استرجاع بعض ما أخذ لا يتم بالهبة بل لا بد من القتال في سبيله لاسترجاعه وبالتالي لا بد من القيام بثورة في البلاد وحيث إن السلطان كان يعرف مصطفى كمال إذ كان مرافقاً له يوم ذهب، وهو ولي عهد، إلى برلين ليقدم للأمبراطور كيوم سيفاً مهدى إليه من السلطان محمد رشاد، فقد اتخذه يوم عاد من الجبهة الفلسطينية مدحوراً مرافقاً له ثم عهد إليه سراً بأن يقوم بثورة في شرق الأناضول حتى يتسنى لرجال السياسة أن يحاوروا ويناوروا أثناء عقد الصلح ليأخذوا أكثر ما يمكن أخذه من الأعداء. وللتغطية على هذه الثورة عن عيون الأعداء عامة والانكليز خاصة الذين كانوا يسيطرون على استانبول، عينه مفتشاً عاماً لجيوش الأناضول بصلاحيات واسعة وزوده بمبلغ عشرين ألف ليرة عثمانية ذهباً، وهو مبلغ ضخم بالنسبة إلى ذاك الزمن وإلى ما كانت عليه خزينة الدولة من عجز وإفلاس. ذهب مصطفى كمال بمهمة معينة لحساب الدولة العثمانية ولكن خان الأمانة وغدر بالسلطان وعمل لحساب نفسه عملاً بالقول المأثور: أرسلته لي خاطباً فتزوج.

وكان السلطان قد عهد لمصطفى كمال بالوظيفة الكبيرة، التي نوهنا بها، وزوده بامتيازات أخرى من المساعدات المالية والمنشورات السرية. وغادر استانبول، في 17 مايو 1919 عن طريق البحر مصطحباً معه عدداً من العسكريين والمدنيين الذين اختارهم لمساعدته ووصل مدينة صامسون في 19 مايو، وبعد أن جمع حوله فلول الجيش والأهلين بدأ ثورته. وهنا يقول صبري أفندي ما معناه:

اطلع الحلفاء المحتلون على ما يرمي إليه السلطان من إرسال مصطفى كمال إلى الأناضول فاحتجوا إلى الوزارة القائمة في استانبول المحتلة مستندين إلى أحكام الهدنة المعقودة في عهد الوزارة السابقة وطالبوها باستدعاء الرجل، وحيث إن الشكايات قد كثرت ضده من الولاة بسبب ما يتمتع به من صلاحيات واسعة فقد دعوناه إلى استانبول بلسان وزير الحربية ولكنه لم يجب. ثم تكرر الاحتجاج من قيادة الاحتلال وتمادت أصوات الشكاية من الولاة إلى وزارة الداخلية وتكررت منا دعوة مصطفى كمال إلى العاصمة واستمر هو في عدم الإجابة، وإزاء ذلك هدد الحلفاء الوزارة بالرجوع إلى الحرب فاضطرت الوزارة إلى إقالته وأنا يومئذ رئيساً للوزارة بالنيابة بسبب غياب رئيس الوزارة فريد باشا في أوروبا لحضور مؤتمر الصلح.

قررت الوزارة إقالة مصطفى كمال من منصبه وعرضت القرار على السلطان محمد وحيد الدين لكنه لم يوافق عليه موصياً بالاكتفاء بدعوته إلى العاصمة والاستمرار في الدعوة ففعلنا، وتمادى المطل من مصطفى كمال والرفض من السلطان بالتوقيع على الاقالة، كما استمر احتجاج الحلفاء إلى الوزارة طالبين البت بالأمر. وأخيراً قررت الوزارة في 8 يوليو 1919 البت بأمر الرجل وذهبت أنا إلى القصر وقابلت السلطان ومكثت في حضرته من المساء حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل وهو يماطلني بانتظار الجواب البرقي من مصطفى كمال إذ كان رئيس الديوان يكلمه برقياً من غرفة ثانية في القصر، فلما انقطع الأمل من نزول مصطفى كمال عند طلب الوزارة اضطر السلطان مكرهاً إلى التوقيع على قرار الوزارة بإقالته، فكان جوابه على إبلاغه القرار بالإقالة أن أعلن استقالته من الجيش بعبارة تنم عن التمرد. وعلى الرغم من أن السلطان وافق على قرار الإقالة بعد تعيينه بشهرين وبضعة أيام إلا أنه كان كارهاً ذلك بدليل أنه لم يصدر ضده أي أمر بل أقال في 2 اكتوبر الوزارة التي طلبت إقالته وأنا منها في منصب الرئاسة بالنيابة ... وأتى بوزارتين ملائمتين لحركة مصطفى كمال. وبعد مضي أكثر من سنة على الثورة لم تجن البلاد إلا الدمار والخراب وتقدم اليونان نحو قلب الأناضول حتى كادوا يطرقون أبواب أنقره أعيد تكليف فريد باشا بتأليف الوزارة وعلى الرغم من أن وزارته السابقة هي التي بعثت بمصطفى كمال إلى الأناضول فأنها في هذه المرة أصدرت حكمها عليه بالعصيان والتمرد على السلطان استناداً إلى فتوى أصدرها شيخ الإسلام عبد الله دري زاده، ولكن السلطان ما لبث أن أقال هذه الوزارة وكلف توفيق باشا، وهو من أنصار مصطفى كمال، بتأليف وزارة جديدة دامت في الحكم نحو سنتين خدمت فيهما أغراض مصطفى كمال. فلما قويت شوكة مصطفى كمال تنكر للسلطان وطلب إليه أن يتنازل عن الحكم ويكتفي بالخلافة المجردة من السلطة على أن يظل مقيماً في استانبول وتنتقل السلطة إلى أنقره، فرفض السلطان وتنازل عن العرش سنة 1922 وخلفه عبد المجيد خليفة لا ملكاً ثم خلع سنة 1924 واخرج من البلاد.

وقد ظل السلطان وحيد يحسن الظن بمصطفى كمال رغم التحذيرات وظل مصطفى كمال يستغل إخلاص السلطان وصدق وطنيته والسلطان ليس بغافل بل راض بكل شيء يكون فيه خير البلاد وقد قيل له مرة : "إنه لا يستبعد أن يغتصب هذا الرجل عرشك". فقال : "ليخدم الوطن وليغتصب عرشي" وشاعت كلمة سمعتها وأنا في بلادي تنسب إلى أحد الانكليز وهي: "إن السلطان وحيد الدين أراد أن يكيد الانكليز بمصطفى كمال فكاد الانكليز به للسلطان".

هذا موجز ما قاله سماحة شيخ الإسلام صبري أفندي وأنا أقول - الدكتور إحسان حقي -: إن من يمعن النظر في الثورة الكمالية يجد أن الانكليز قد لعبوا فيها أدواراً رئيسية مع ثلاثة أطراف. الطرف الأول هو مصطفى كمال الذي تبنوه وساعدوه للوصول إلى ما وصل إليه شريطة أن يلغي الخلافة ويفعل في تركيا ما فعل. والطرف الثاني هو اليونان الذين كانوا حلفاءهم في الحرب وخرجوا منها بلا غنيمة فطوحوا بهم في مغامرة كانوا يقدرون لها الفشل فأغروهم بالاستيلاء على أزمير على أن تكون نصيبهم من غنائم الحرب وهم في الواقع لا يريدون أن يمكنوهم من شيء لأنهم يعلمون بأن استيلاء اليونان على شيء من أرض تركيا يعني استيلاء روسيا عليه على اعتبار أن القومين يدينون بالارثوذكسية وروسيا هي حامية الأورثوذكسية في العالم، ولكن الانكليز ارادوا أن يعطوا اليونان درساً بهذه المغامرة لكي يرضوا من الغنيمة بالإياب ثم إنهم يخلقون من مصطفى كمال بطلاً محرراً لبلاده، والطرف الثالث هي الحكومة التركية نفسها التي استعملوها أداة للتفريق بين السلطان وبين مصطفى كمال وقد نجحوا في تمثيل هذه الأدوار الثلاثة نجاحاً تاماً.

أما مصطفى كمال فهو وحده من بين هذه الأطراف الثلاثة الذي كان يعلم ما يراد منه كما أنه كان يعلم النتائج لأنه كان على صلة بالانكليز منذ سنة 1917 يوم كان قائداً عثمانياً في جبهة فلسطين فقد أخبرني - أي أخبر الدكتور إحسان حقي - ابراهيم بك صبري بن صبري أفندي شيخ الاسلام الذي مر ذكره بما يلي : "اتصل الانكليز بمصطفى كمال يوم كان قائداً في فلسطين وطلبوا إليه أن يقوم بثورة على السلطنة ووعدوه أن يساعدوه على ذلك فاتصل مصطفى كمال بقائدين عثمانيين من زملائه كانا يتوليان قيادة جيشين قريبين منه وفاتحهما بالأمر (وقد ذكر لي إبراهيم بك اسمي القائدين المذكورين ولكني انسيتهما لأني لم اسجلهما عندي إذ اني لم أكن أتوقع أن احتاج إلى ذكرهما) فلما سمعا الخبر استعظماه واستنكراه وقالا له : "بما انك لم تحاول العصيان الذي يوجب الاعدام فاننا سنكتم الأمر وننصحك أن تعتبره منسياً وأنك لم تفاتحنا به ولا سمعناه منك".

وانتهى الأمر بالنسبة إلى هذين القائدين عند هذا الحد وأما بالنسبة إلى مصطفى كمال الذي قبل، وهو القائد العثماني، أن يتآمر مع الانكليز لارتكاب مثل هذه الخيانة فإنه لم ينته، ولا شك، بدليل ما وصل إليه، ولا يستبعد أن يكون الانكليز هم الذين دعموه لدى السلطان، بطريقة غير مباشرة، لكي يعينه مفتشاً عاماً لجيوش شرق الأناضول ليسهلوا مهمته.

قد يتساءل المرء : كيف يساعد الانكليز مصطفى كمال على القيام بثورة في بلاد هم يسيطرون عليها ؟ والجواب قد مر معنا وهو أن أمم الغرب كانت منذ زمن بعيد تريد تحطيم الدولة العثمانية وتريد اقتسام تركة (الرجل المريض) وقد عقدت هذه الدول مئة معاهدة لتقسيم هذه التركة ولكنها لم تكن تتفق على ما يصيب كلاً منها كما انها لم تكن قد افترستها. فلما نشبت الحرب العالمية الأولى وانهارت الدولة العثمانية رأت هذه الدول، وعلى رأسها انكلترا وفرنسا، أن بقاء تركية دولة صغيرة غير إسلامية يضمن لها مصالحا أكثر مما لو استولت عليها واستعمرتها كما فعلت بالبلاد العربية لأنها ستبقى حاجزاً بين العالم الحر وبين روسيا، التي وان كانت في تلك الأيام ضعيفة فانها لا بد لها من أن تسترجع قوتها في يوم من الأيام وتقوم فتطالب بإعادة تقسيم الغنيمة، وانها لن تسكت عن سيطرة انكلترا على الممرين المائيين ولذا فإن هذه الدول الغالبة رأت من الأصلح وجود دولة صغيرة ضعيفة وغير مسلمة صديقة للغرب كالدولة التركية الحالية التي صنعتها على يدي مصطفى كمال من أن تكون هي المسيطرة.

وهكذا فقد نال الغرب بغيته وأصبحت تركيا دولة صغيرة علمانية وتنكرت حتى لواقعها فهي قد أعلنت أنها دولة غير إسلامية مع أن 95% من سكانها مسلمون وتنكرت لآسيويتها مع أن مالها في أوروبا من مناطق لا يتجاوز عشر مساحتها، فقد ذكر سماحة شيخ الاسلام صبري أفندي في كتابه المذكور آنفاً أموراً منها أنه لما كان مصطفى كمال على فراش الموت أوصى بألاّ يصلى عليه صلاة الجنازة ولكنهم صلوا عليه إجابة لرجاء أخته. ثم انه لما دعيت تركيا لحضور المؤتمر الإسلامي الذي عقد في القدس سنة 1931 رفضت الحكومة التركية حضوره لأنها غير مسلمة، ولما دعيت لحضور المؤتمر الآسيوي الذي عقد في دهلي رفضت حضوره بحجة أنها ليست بدولة آسيوية.

هذه شذرات عن الثورة الكمالية ونتائجها وعماكان للأيدي الغربية من دور فيها نقلناه بكل تجرد وإخلاص خدمة للتاريخ.

yacine414
2011-03-18, 16:43
كيف استقبل المسلمون الثورة الكمالية ؟

لما قام مصطفى كمال، بوحي من السلطان وحيد الدين، بثورته التي أرادها السلطان عثمانية إسلامية وجعلها مصطفى كمال غربية علمانية، لم يكن المسلمون يعلمون عن أسراراها وخفاياها شيئاً فخدعوا بظاهرها وبالدعايات التي كانت ترافقها وأولوها كل دعم وتأييد واكبروا همة وإخلاص باعثها وذلك لأن العالم الإسلامي كان قد فقد صوابه بعد انهيار الدولة العثمانية دولة الخلافة الإسلامية وكان على استعداد تام لتأييد أية حركة تقوم في أية ناحية من العالم لنصرة الإسلام وإعادة الخلافة أو أنه كان كالغريق يرفع يديه إلى السماء ليتمسك بحبال الهواء.

لقد عايشت - الدكتور إحسان حقي - الحركة الكمالية منذ يومها الأول وأدركت كل أدوارها وقد أخذت بها وخدعت كما أخذ غيري وخدع من المسلمين إذ ظنناها حركة إسلامية ولم يكن من شيء يعزينا عما نحن فيه، بعد اندحار الدولة العثمانية، إلا الإسلام. فقد أصبحنا غرباء في أوطاننا أشقياء في بلادنا تعساء في مجتمعنا. أو نحن كالأيتام على مأدبة اللئام ليس لنا وطن ندعيه لأن الغريب يستعمره ولا لنا دولة نستند إليها لأن الأغراب يحكموننا. وصرنا نسمع سفهاء الناس يشتمون ديننا في وجوهنا ومن كان منهم مهذباً ولم يشتم قال لنا : لقد ولى زمانكم ونحن اليوم أسيادكم وإن لم يقولوها بألسنتهم قالوها بأفعالهم. وكنا نتطلع يمنة ويسرة فلا نجد على سطح الأرض كلها، وعلى كثرة عدد المسلمين فيها، دولة إسلامية واحدة مستقلة حرة نستطيع أن ندعيها أو ننتسب إليها لنعتز بها بل كان العالم الإسلامي كله مستعمرات غربية أو شبه مستعمرات.

لهذه الأسباب كان سرورنا بالثورة الكمالية عظيماً ولا حدود له لأننا كنا نستطيع أن نقول بأنه قام مسلم من بين المسلمين يقف في وجه الغرب ويعلن ثورته عليه وأنه غداً سيعيد إلى المسلمين الخلافة الإسلامية ويعيد إلينا شأننا وعظمتنا. وكما سررنا وانتعشنا بثورة مصطفى كمال فقد سررنا وانتعشنا بثورة أنور باشا ولكن سرورنا بثورة مصطفى كمال كان أعظم لاسباب كثيرة منها :

1-إن بلاد الأناضول متصلة ببلادنا العربية اتصالاً مباشراً وان وجود دولة إسلامية إلى جوارنا أفضل من وجود دولة غربية عدوة.

2-إن الدولة العثمانية هي أمنا التي غذينا بلبانها وكنا جزءاً منها فرجوع الحياة إليها هو بعث لنا.

3-إن مصطفى كما يعمل للخلافة الإسلامية بينما أنور باشا يعمل لإقامة دولة إسلامية وليس هذه كتلك.

4-إن السلطان يؤيد حركة مصطفى كمال ولم نسمع أنه كان يؤيد حركة أنور باشا.

5-إن هالة الدعاية التي أحيطت بها الثورة الكمالية كانت أعظم وأحكم من هالة الدعاية التي رافقت حرب أنور باشا.

6-إن الثورة الأنورية ماتت سنة 1922 بموت قائدها ولم يبق أمامنا إلا الثورة الكمالية.

7- إن الغربيين أرادوا أن يصرفوا تفكير العالم الإسلامي إلى الثورة الكمالية لكي يستهلكوا آلام المسلمين ويخففوا على نفوسهم أثر الصدمة التي أنزلوها بهم بإزالة الخلافة فأولوا الثورة الكمالية كل عنايتهم ودعموها برعايتهم لأنهم كانوا يعلمون نتائجها مسبقاً على اعتبار أنهم هم الذين صنعوها.

وكما أن الغربيين قد نجحوا في مخططهم وجعلوا العالم الإسلامي كله يسير فخوراً بضع سنوات وراء الثورة الكمالية فقد استغل مصطفى كمال عواطف المسلمين وأموالهم إلى أبعد حدود الاستغلال وكسا ثورته لباساً إسلامياً، سواءً بأحاديثه وتصريحاته وخطبه، أو بمعاملته لزعماء المسلمين. فمن ذلك أنه استعان بالزعيم الليبي الشهير السيد أحمد السنوسي وجعله مستشاراً له وكان يبرق إليه، كما قال لي صديقي الأمير شكيب ارسلان، إذا اراد شن هجوم على مكان ما قائلاً: إننا ننوي الهجوم غداً أو بعد غد على مكان ما فاقرأوا البخاري الشريف على نية النجاح والتوفيق، واستغل أيضاً أعمال وأقوال جميعة الخلافة الهندية التي قامت بزعامة الأخوين شوكة علي ومحمد علي واستغل الشعراء فمدحوه والأدباء فأثنوا عليه ومشايخ الطرق فرفعوه إلى مقام الولاية.

كان مصطفى كمال يبطن غير ما يظهر وينوي أن يفعل غير ما يقول إذ أنه ما كاد ينتصر نهائياً ويطمئن إلى مصيره حتى ألغى الخلافة وطرد الخليفة من البلاد وطرد السيد أحمد السنوسي وتنكر لكل القيم الإسلامية وسار بسيرة ليس فيها أية مصلحة للإسلام ولا للمسلمين لا بل ليس فيها أية مصلحة لتركيا نفسها، فها هي تركيا بعد مضي ستين سنة على هذه الثورة ما زالت بلداً نامياً ضعيفاً لا حول له ولا طول فالحركة العلمية فيها ضعيفة والأمية سائدة والحياة الاجتماعية متأخرة والحالة الاقتصادية في الحضيض، وكل ما فعلته هذه الثورة أنها أشغلت الناس بأمور جانبية تافهة مثل إلقاء الطربوش وسفور النساء ولو كان هذان الأمران تركا للزمن لتكفل بتحقيقهما من غير ثورة كما حدث في كل البلاد الإسلامية حتى في أشدها تعصباً ومحافظة مثل اندونيسيا وباكستان والهند وأفغانستان وحتى إيران حيث كان ذكر المرأة على اللسان في هذه البلدان يعد عورة، فأصبحت المرأة في هذه البلاد وفي بحر سنوات قليلة قد تخطت التركية وهي تماشي الغربية. وإذا كان السفور قد تحقق في بعض المدن التركية الكبيرة حيث لم تكن المرأة متحجبة حجاباً كاملاً فإن المرأة في بعض المدن الكبيرة الأخرى وفي الأرياف ما زالت كما كانت وما زالت متأخرة ولم ينفع السفور في تقدمها.

ما هي نتائج الثورة الكمالية ؟

خرج مصطفى كمال من ثورته منصوراً يكلل هامته تاج العز والفخار لأنه أعاد إلى تركيا حياتها واستقلالها وقد تقبل نصف العالم الإسلامي هذا النصر بسرور عظيم لأنهم خدعوا بظاهره وهذا النصف هو النصف الجاهل أو الغبي أو الذي لا يعرف من الأمور إلا ظاهرها، وأما النصف الآخر العاقل المفكر الذي ينظر إلى خلفيات الأمور بمنظار الحقيقة فقد أدرك مدى الكارثة التي حلت بالعالم الإسلامي كله وليس بتركيا وحدها.

لقد أشغل مصطفى كمال المسلمين بأمور جانبية تافهة أرضى بها الشبان التواقين إلى الأخذ بالمظاهر وأخذ المعول وهدم الكيان التركي من جذوره. واذا جاز لنا أن نسمي ما قام به مصطفى كمال ثورة فهي ولا شك ثورة على الدين وعلى الثقافة وعلى التاريخ وعلى العالم الإسلامي عامة والأمة التركية بصورة خاصة.

لقد أبطل مصطفى كمال الأبجدية العربية وأحلَّ محلها الأبجدية اللاتينية فقطع بعمله هذا صلة الأمة التركية بالعالم الإسلامي وقطع صلتها بماضيها وهدم أمجادها وقضى على ثقافة ترجع إلى ألف سنة فيها الكثير الجيد من العلوم والفنون والأدب والشعر والتاريخ.

لقد قضى مصطفى كمال الأمة التركية وطمس معالمها وعراقتها وخلقها أمة جديدة وكأنها ليست من هذا العالم أو كأنها كما يقول المثل مقطوعة من شجرة. ولم يقدم البلاد ولا أهلها خطوة واحدة إلى الأمام بل أرجعها خطوات إلى الوراء من كل ناحية بدليل تقدم بعض البلاد التي كانت جزءاً من الدولة العثمانية وفصلت عنها وقد تقدمت، بفعل الزمن، خطوات واسعة في الفن والأدب والعلم والعمران. وما دامت تركيا لم تتقدم فهي إذن متأخرة.

ثم إنه بقضائه على الخلافة جردها من سلاح ماض كان في يدها تهزه متى شاءت في وجه الأعداء وكانت الدولة العثمانية حتى في أخريات أيامها، يوم لم يكن لها حول ولا طول، مرهوبة الجانب يخشاها القريب والبعيد ويحترمها العدو قبل الصديق لأنها كانت تحمل صولجان الإسلام الذي كانت تهدد به العالم فأصبحت اليوم بفضل مصطفى كمال دولة ثانوية مثل غيرها من الدول الصغيرة ليس لها وزن سياسي إلا بقدر ما لمركزها الاستراتيجي من أهمية وبقدر حاجة الدول إليه وليس لها مركز علمي ولا اقتصادي حتى ولا سياحي على الرغم من جمال تركيا وما فيها من جبال وبحار وغابات وأنهار لو كانت في بلاد أخرى لاستغلت أحسن استغلال في السياحة والاقتصاد.

إننا إذا أخذنا في تقييم هذه الثورة نجد أنها كانت وبالاً على تركيا وعلى العالم الإسلامي لأنها قضت على كل ثروات تركيا المعنوية وسلبتها عظمتها التي كانت تقوم على الإسلام وعلى اللغة العربية وهي عظمة لن تعود ابداً.

إن ما فعله مصفى كمال كان في مصلحة الغرب وليس في مصلحة تركيا ولا في مصلحة الشعب التركي. لقد قطع مصطفى كمال كل صلة للاتراك باخوانهم المسلمين حتى أنه غير أسماء الناس وغير اسمه. لقد قضى مصطفى كمال على هذه الأمة بالعقم الأبدي وأجهض مقدماً كل حركة إصلاحية يمكن أن تقوم في البلاد لخير البلاد وخير أهلها.

لقد كانت الخلافة، على ضعف الخلفاء، وتخاذلهم وجهل بعضهم لا بل ورذائلهم، سلاحاً ماضياً بيد المسلمين يزعج الغربيين فعملوا حتى قضوا عليه. ولو كان مصطفى كمال أبقى على الهيكل الإسلامي ولم يمس اللغة لكان خلق تركيا خلقاً جديداً سليماً ولكانت اليوم سيدة العالم الإسلامي كما كانت من قبل ولو تقلصت أطرافها.

وإذا نظرنا إلى السياسة التي انتهجها السلطان الظاهر بيبرس والسياسة التي انتهجها مصطفى كمال نجد الفرق بين تفكير الرجلين بعيداً جداً إذ بينما استند بيبرس على الخلافة وأحياها في مصر، بعد أن تلاشت في بغداد فرفع بذلك من شأن نفسه ومن شأن المسلمين في كل مكان وكانت الخلافة له ولخلفائه من بعده قوة ودعماً ودرعاً واقياً، نجد مصطفى كمال قد استند على الانكليز لهدم الخلافة ليرفع نفسه ويهدم تركيا.

لقد كان باستطاعة مصطفى كمال، بعد أن انتصر على اليونان أن يتنكر للغربيين ويقلب لهم ظهر المجن فيخدم بذلك بلده وأمته ولم يكن الغربيين يستطيعون، آنذاك، أن ينالوه بأذى لأن العالم كله كان معه ولكنه لم يفعل لأن الخطة الغربية كانت تسلير هواه وهذا من سوء حظ المسلمين وحظ البلاد التركية في الدرجة الأولى. وما تشاؤون إلا أن يشاء الله.

لماذا دعّم الغرب الثورة الكمالية أو لم يناهضوها ؟

قد يتساءل المرء، حينما يرى دول الحلف الغربي، التي هزمت، في حرب دامت أربع سنوات ونيف، الامبراطورية العثمانية ومعها امبراطوريتين قويتين هما المانيا والنمسا ومملكة البلغار، كيف عجزت عن الانتصار على ثورة قام بها قائد عثماني هو نفسه كان قد انهزم أمام الانكليز في جبهة فلسطين ثم عند جبال طوروس يوم كانت إمكاناته أكثر وقوته أكبر ؟

وهو تساؤل وجيه ومعقول لا سيما وأن مصطفى كمال ظل نحو سنتين في شرق الأناضول وهو لا يستطيع أن يتقدم لمواجهة أعدائه بل كان أعداؤه اليونان هم الذين يتقدمون حتى وصلوا مشارف انقره.

وللجواب على هذا السؤال نقول : إن الفرق بين الحالين كان كبيراً جداً وذلك لأنه الحلف الغربي كان في الحالة الأولى يريد دحر الدولة العثمانية، دولة الخلافة الإسلامية، التي كانت قذى في عيون أهل الغرب وحسكةً في حلوقهم، ولذا فقد وضع، في ميدان المعركة، كل طاقاته وإمكاناته وعمد إلى كل السبل فسلكها وعمل بكل الوسائل حتى بلغ ما يريد، بينما الأمر لم يكن كذلك مع ثورة مصطفى كمال، إن أهل الحلف الغربي وعلى رأسهم انكلترا وفرنسا كانتا حريصتين كل الحرص على انتصار مصطفى كمال على اليونان لأسباب مر ذكرها كما أنهما كانتا حريصتين على بقاء بلاد الأناضول لأصحابها على أن تكون تابعة للغرب بعيدة عن الإسلام والمسلمين وكانتا تعلمان مسبقاً أن مصطفى كمال سيحقق لهما هذه البغية.

كانت دول الغرب حريصة على القضاء على الدولة العثمانية لأنها دولة إسلامية قادرة باسم الإسلام على أن تهدد العالم كله وليس الغرب وحده إذا استعملت هذا السلاح المعنوي استعمالاً صحيحاً وسليماً. ولذا فإن كل الحروب التي شنها أهل الغرب على الدولة العثمانية وكل المعاهدات والاتفاقات التي عقدوها كانت تدور حول هذه النقطة وهذا الهدف.

إن الحروب الصليبية بدأت منذ ظهر الإسلام ولكنها ظهرت بثوب عملي في القرن الحادي عشر الميلادي، يوم ضعفت البلاد الإسلامية، واشتدت يوم بدأت الدولة العثمانية تغزو أوروبا في عقر دارها. ومع أن دول الغرب مجتمعة ظلت أكثر من ثلاثة قرون تعمل للقضاء على هذه الدولة الإسلامية دون أن تبلغ ما تريد، على الرغم مما أصاب الدولة العثمانية من تضعضع، فانها قد ذهلت وارتبكت حينما تم لها هذا النصر بهذا الشكل الذي حدث والذي لم تكن تتوقعه ولا تتصوره أيضاً وذلك بأن ترى الامبراطورية العثمانية ومعها حليفاتها تنهار أمامها في بحر أسابيع أو شهور قليلة، بعد أن ثبتت أمام ضرباتها أربع سنوات لا بل وانتصرت عليها مرات.

قلت في بحر أسابيع لأن الحرب في سنواتها الأولية كانت سجالاً بين المتخاصمين، لا بل كانت في بعض الجبهات انتصاراً للحلف العثماني ولم يكن ما يبعث على الاعتقاد بحدوث هذا الانهيار، ولكن وقوف العرب إلى جانب الحلف الغربي وحماقات ارتكبها بعض رجال الاتحاد والترقي وامكانات الحلف الغربي المادية والمعنوية الواسعة واستسلام البلغار المفاجئ، كل أولئك غيرت وجه الحرب فاسفرت عما اسفرت عنه من انهيار ثلاث امبراطوريات كانهيار قصور الكرتون أو بيوت الرمال.

فهذا النصر الساحق الذي أحرزه الحلف الغربي على الحلف العثماني قد فرّح الغربيين ولكنه ادهشهم وأذهلهم ايضاً لا بل قد كانت دهشتهم أكبر من فرحتهم إذ كان شأنهم شأن الفقير المعدم الذي تهبط عليه ثروة كبيرة فجأة من السماء لم يكن يحلم بها فيحتار في أمره ويحتار فيما يفعل بهذه الثروة الطارئة وكيف ينفقها.

أدرك الغربيون بعد أن تم لهم هذا النصر أن اللقمة التي امامهم أكبر من أفواههم وأنهم لا يستطيعون هضمها وأنه لا بد لهم من إعادة النظر على برامجهم السابقة، وعلى الرغم من أنهم كانوا قد اقتسموا تركة ( الرجل المريض ) فيما بينهم مرات وأنهم باعوا جلد الدب قبل أن يصطادوه الا أن أوضاعهم اليوم تختلف عما كانوا عليه من قبل اذ مات أحد الورثة قبل موت الامبراطورية العثمانية واعني به امبراطورية موسكو بنشوب الثورة الشيوعية فيها، وماتت ايضاً كل من الامبراطورية الألمانية والامبراطورية النمسوية بسبب تحالفهما مع الدولة العثمانية. فاصبحتا في جانب التركة لا في جانب الورثة، ولذا فقد كان من البديهي أن يتغير التقسيم وتتغير الأهداف لا سيما وأنه لم يعد في الميدان إلا انكلترا وفرنسا، وأما إيطاليا واليونان فقد كان بالامكان إرضاؤهما بالقليل لأن إيطاليا كانت في بداية الحرب حليفة للدولة العثمانية ثم تركتها وانضمت إلى الحلف الغربي وهي لم تهضم بعد البلاد الليبية التي استولت عليها سنة 1911 ولم تكن الدولة العثمانية قد اعترفت بعد بتنازلها عنها، واليونان دولة صغيرة لا حول لها ولا طول وبالتالي فليس لها حساب. وأما امريكا، التي كانت السبب في انتصار الحلف الغربي، فانها كانت، بشخص رئيسها ولسن، تريد الحرية للجميع فإذا لم تصل إلى هذه الغاية تركت الدنيا لأهل الدنيا وانصرفت وهذا ما حدث. وكان كليمنصو رئيس وزراء فرنسا يقول : أنا في حيرة من أمري بين رجلين : الأول يظن نفسه المسيح والثاني يحسب نفسه نابليون. ويعني بذلك ولسن رئيس الولايات المتحدة، الذي كان مشبعاً بالروح الانساني، ولويد جورج، رئيس وزراء بريطانيا الذي كان مليئاً بالغرور.

غير أن الذي كان يخيف الغالبين هي روسيا التي وإن كانت قد خرجت من الحرب مغلوبة بسبب نشوب الثورة الشيوعية فيها، تلك الثورة التي كان الفضل الأكبر في نجاحها لألمانيا، التي زودت لينين بالمال والسلاح وأرسلته إلى روسيا ليقلب الحكم فيها، فإن حلفاءها القدامى أي انكلترا وفرنسا ومن معهما، كانوا يعلمون بأن ضعفها لن يطول أمده وأنه لا بد لها من أن تنهض وتقف على ساقيها ثم لا بد لها من أن تطالب بإرثها وأن تسعى إلى تحقيق مطامعها في البحر الأسود وفي الممرين المائيين، ولذا فقد كان لا بد للانكليز وهم سادة البحار، آنذاك، من أن يفكروا بهذه النتيجة وأن يتداركوا عواقبها قبل حلولها. وكان الحل هو إبقاء الأناضول لاصحابها.

فمن جهة كانت انكلترا وفرنسا تخشيان الدب الروسي الرابض على حدود الأناضول. ومن جهة ثانية كانتا قد تقاسمتا البلاد العربية فأخذت فرنسا سوريا ولبنان وأخذت انكلترا العراق وفلسطين بالإضافة إلى ما كانت تسيطر عليه من قبل من شواطئ الجزيرة العربية بدءاً بمستعمرة عدن فالمحميات فمسقط فمشيخات الخليج العربي بما فيها البحرين والكويت.

وفي الوقت الذي اتفقت فيه الدولتان الانكليزية والافرنسية على هذا التقسيم سراً كانتا قد أعطتا فلسطين للصهيونيين لتكون وطناً قومياً لهم، ووعدتا الشريف حسين بامبراطورية عربية تشمل الوطن العربي كله، أو أن الشريف حسين ظن أن رغبته حقيقة واقعة وأن مطالبه أوامر تعطى لحلفائه فتنفذ، فبات خاليالبال مرتاح الخاطر يعيش هو وكل العرب في حلم لذيذ معتمدين على صدق الحلفاء وإخلاصهم ويصدقون كل ما يقال لهم، ويكتفون من العهود بالوعود لا بل بالوعود الغامضة، ولم يكونوا يدرون أن عهود أهل الغرب الكلامية هراء والمكتوبة منها قصاصات ورق يمكن تمزيقها وحرقها في كل وقت حتى اذا كانوا مغلوبين فكيف بهم إذا كانوا غالبين ؟

اقتنع الشريف حسين بحسن نوايا حليفته بريطانيا على الرغم من أن تصرفات رجالها كانت تدل بوضوح على المراوغة والخداع. ولكن أنى للمسلم الشريف أن يسيء الظن بمن يتودد إليه ويظهر له الاخلاص ؟

ظل الشريف حسين ثابتاً على مبدئه محسناً الظن بالانكليز على الرغم من أن رجال الثورة الشيوعية، بعد أن استلموا الحكم في البلاد، فضحوا الاتفاقية السرية ( اتفاقية سايكس ـ بيكو ) المعقودة بين انكلترا وفرنسا وروسيا لتقسيم الامبراطورية العثمانية، وعلى الرغم من أن جمال باشا نبه العرب في الكلمة التي القاها في بيروت بتاريخ 30/11/1917 إلى هذه الحقيقة. وقد أعرب مندوبا انكلترا وفرنسا المقيمان في الحجاز صراحة عن سوء نية حكومتهما حينما رفضا الحفلة التي أقيمت في جدة احتفاءً بمبايعة الشريف حسين ملكاً على البلاد العربية. وقد تمت المبايعة في مكة المكرمة في 4/11/1916 وأقيم الاحتفال في جدة لكي يتسنى لهذين المندوبين حضوره ولكنهما لم يحضرا لأن حكومتيهما لم تعترفا بالشريف حسين ملكاً على البلاد العربية بل ملكاً على الحجاز ورفضتا منحه لقب صاحب الجلالة بل دعته بصاحب السيادة وأحياناً بصاحب السمو.

كانت الأمور، اذن، ظاهرة منذ البداية ولكن الشريف حسين لم يعد قادراً على الرجوع كما أنه كان صادقاً في ثورته وظل يحسن الظن بانكلترا.

فلما انجلت الحرب ورأى العرب أنفسهم أنهم أصبحوا أكثر فرقة وشتاتاً مما كانوا عليه من قبل وانهم أصبحوا محكومين بأسماء مخترعة، منها الانتداب والحماية والتحالف والاستعمار والقوة، بعد أن كانوا شركاء الدولة العثمانية في الحكم، اسقط في أيديهم وكانت ردة فعلهم عنيفة ويأسهم من حلفاء الأمس عظيماً ولكنهم لم يتحركوا بل ظلوا يعيشون بالآمال، اللهم إلا ما قيل عن مراسلات جرت بين الشريف حسين وبين مصطفى كمال ومراسلات جرت بين بعض رجالات سوريا وبين مصطفى كمال أيضاً ولكنها دفنت في المهد. وبدهي أن هذه المراسلات لم تكن تنفع شيئاً لأن مصطفى كمال نفسه كان بحاجة إلى المعونة من جهة ثم إنه لم يكن من الناس الذين يحبون العرب أو يعطفون عليهم من جهة ثانية.

ولعل السبب في عدم قيام العرب بحركة هو تقطيع أوصالهم وانعدام القيادة الموحدة فيهم وفقدان التنظيم السياسي وعدم وجود جيوش نظامية ثم وجود جيوش فرنسية وانكليزية في البلاد وهي لم تعد جيوشاً حليفة بل أصبحت جيوشاً غازياً.

وبينما كان العرب غارقين في بحور تأملاتهم يستجدون عطف حلفائهم تنبه السلطان وحيد الدين للأمر وأدرك أن بقاء الأناضول بلداً مستقلاً أمر لازم لأعداء الدولة العثمانية كما أن أدرك بأن الحصول على الاستقلال لن يتم إلا بالسعي إليه فاوعز إلى مصطفى كمال بأن يقوم بثورة مسلمة وكان ما كان مما أسلفنا ذكره.

هذا ما كان من أمر المغلوبين وأما ما كان من أمر الغالبين فقد ادركت انكلترا، وهي التي تحتل استانبول، انها لا تستطيع ابتلاع البلاد العثمانية كلها وان حصتها من البلاد العربية كافية لها وأن تماديها في استفزاز الشعور الإسلامي قد ينقلب عليها ويضر بمصالحها ولا سيما في شبه الجزيرة الهندية والباكستانية، التي كان يهمها امرها كثيراً، وأن الثورة التركية انما هي الخطوة الأولى وربما تبعتها ثورات وبالتالي فإنه لا بد من الهاء العالم الإسلامي بهذه الثورة، التي علق عليها المسلمون كل آمالهم في إحياء الخلافة، وعلق الغربيون عليها آمالهم بأن تكون هدماً للخلافة واجتثاثاً لجذور الإسلام من البلاد حتى لا تقوم لها قائمة، ولذا فان نجاحها كان يهم الانكليز أكثر مما يهم المسلمين، لأنها بهذه الثورة تصرف العرب عن التفكير بانفسهم وتعلق آمالهم على الثورة التركية، من جهة، وتكون، من جهة ثانية، قد ثبتت أقدامها وأقدام حليفتها فرنسا في البلاد العربية فإذا صحا العرب لا يجدون لأنفسهم مخرجاً مما وقعوا فيه.

عمل الانكليز جهدهم لإنجاح الثورة التركية بدليل أنهم لم يساعدوا اليونان بشيء، وبما قاموا به من دعاية للثورة ذاتها ولشخص مصطفى كمال حتى جعلوا الناس يظنون أن الخلافة الإسلامية أصبحت في متناول أيديهم وأنها قد استعادت مجدها وأن مصطفى كمال هو نور الدين زنكي أو صلاح الأيوبي أو حتى عمر بن الخطاب ونسي المسلمون مصائبهم فرحاً بانتصارات مصطفى كمال التي اعتبروها الخطوة الأولى نحو تحقيق آمالهم الإسلامية. غير أن ما حدث بعد ذلك خيب آمال المسلمين، ولكن الفرصة كانت قد فاتت ولم يعد بمقدورهم أن يفعلوا شيئاً بعد أن تفرق شملهم، وبعد أن انتزع عبد العزيز بن السعود الملك من الحسين، خليفة المسلمين المنتظر، فأخذه الانكليز وسجنوه في قبرص إلى أن توفي وجازوه جزاء سنمار.

كان الغرب عامة والانكليز خاصة يفضلون وجود دولة تركية ضعيفة مشذبة الأطراف بعيدة فكراً ومبدأ وروحاً عن البلاد العربية المجاورة على أن يسيطروا هم على الأناضول لأن وجود أية دولة أوروبية في الأناضول باسم الاستعمار أو الحماية أو الانتداب سيجعل الاحتكاك مع الروس مستمراً بينما وجود دولة تركية ضعيفة سائرة في ركاب الغرب أضمن للغرب وأنفع له.

وإذا كان الانكليز قد نكثوا عهودهم مع العرب لأنهم أدركوا ضعفهم وشتات كلمتهم وعدم اتفاقهم على رأي ولأنهم كانوا يعلمون بأنهم لن يتنازلوا عن دينهم ولا عن قوميتهم الإسلامية فإنهم قد ساعدوا مصطفى كمال، أو إن شئت فقل أنهم لم يناهضوه، لأنهم كانوا يعلمون أنه سيعطيهم كل ما يطمعون به وذلك لأن الاستعمار لم يعد، في أيامنا هذه، استعمار أرض وسماء وسيطرة عسكرية وحكماً مباشراً بل أصبح استعمار أفكار ومبادئ وأهداف، وقد أصبحت تركيا مستقلة في ظاهرها وفيما لا يضر الغرب ولكنها مستعمرة في أفكارها ومبادئها.

لقد جرب الانكليز العرب وامتحنوا إخلاصهم فوجدوهم لا يصلحون لصداقتهم لأنهم صادقون مع أنفسهم وإذا كان الملك حسين قد رضي بالسجن والنفي ولم يرض بأن يسجل التاريخ عليه أنه رضي بالوطن القومي اليهودي، مع أن رضاه أو عدمه لم يكن ليقدم ولا ليؤخر شيئاً، فمن البدهي الا يكون أداه طيعة في أيدي أهل الغرب ولذا فقد لاقى منهم العداوة والبغضاء.

لقد فرح المسلمون في العالم كله بنجاح الثورة التركية ولكن فرحتهم لم تطل بعد أن أدركوا ابعادها ومراميها ورأوا نتائجها ولمسوها في أنفسهم وفيما يعانون من أوضاع. ويحاول اليوم كثير من الأتراك المخلصين الرجوع إلى ماضيهم ولكنهم لا يستطيعون لأن الثورة قد ضربت بينهم وبين ما يبتغون سداً منيعاً لا يقدرون على النفوذ منه بعد أن قطعتهم الثورة من جذورهم وأبعدتهم عن تاريخهم ولغتهم وثقافتهم.

لقد ربح أهل الغرب بهذه الثورة شيئاً كثيراً لم يكونوا يحلمون به ولكن هذا الربح لم يأتهم مجاناً وهم نائمون بل لقد علموا له قروناً "وأن ليس الإنسان إلا ما سعى".

yacine414
2011-03-18, 16:44
السلام عليكم بفضل الله أكملت نسخ كامل سلسلة التاريخ الإسلامي، أرجو أن تنال إعجاب الجميع.

لقاء الجنة
2011-03-21, 10:48
http://m002.maktoob.com/alfrasha/ups/u/26978/31670/395819.gif

yacine414
2011-03-22, 16:30
شكرا لك يا أخت لقاء الجنة اتمنى أن يكون هذا الموضوع قد أعجبك

هاني_سات
2011-03-22, 17:56
بارك الله فيك أخي على هذا الموضوع أظن أنك تعبت ؟؟؟

laytitya
2011-03-22, 17:59
merciiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiii iiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiii

thankssssssssssssssssss:mh31::mh31::mh31::mh31:
:mh31::mh31::mh31::mh31:
:mh31::mh31::mh31::mh31:

yacine414
2011-03-23, 19:35
السلام عليكم، شكرا على التعلليقات، و بالنسبة للتعب فانه يزول عندما أرى تعليقاتكم التي ترفع من المعنويات و تجعلني أبذل جهد اكبر في جلب مواضيع أخرى.

لقاء الجنة
2011-03-25, 13:42
شكرا لك يا أخت لقاء الجنة اتمنى أن يكون هذا الموضوع قد أعجبك

......

كيف لا يا اخي...

و انت تبذل قصارى جهدك من اجلنا...

و الله يا اخي اتمنى ان يوفقك الله لما هو خير و ان يجعل كل ايامك سعادة و سلام....

ارق تحية مني اليك اخي...

http://i393.photobucket.com/albums/pp13/black_orchide/1498039uqif17d7oh.gif

ISMAIL12
2011-04-07, 16:31
الفتح الإسلامي لبلاد المغرب وأبعاده الحضارية
كتب: د. نعيم الغالي *
14/12/1431 الموافق 20/11/2010

مقدمـة:
امتدت الدولة الإسلامية في عهد الخليفة عثمان بن عفان (23-35 هـ) على مجال شاسع من خراسان وأذربيجان شرقا إلى طرابلس غربا، وكانت الحملات الاستطلاعية الأولى التي قامت بها الجيوش الإسلامية باتجاه بلاد المغرب منذ سنة 27 هـ تهدف إلى اختبار الجيش البيزنطي الذي تراجع نحو المناطق الشمالية لإفريقية، غير أن فتح بلاد المغرب استغرق فترة زمنية طويلة نسبيا تعددت خلالها الحملات إلى حين وصولها إلى المغرب الأقصى والأندلس، ومهّد هذا الفتح إلى تلاقح الثقافتين الإسلامية والإفريقية مما أفرز تحولات حضارية جذرية شملت جميع المجالات الثقافية والعلمية والاجتماعية والعمرانية أدخلت بلاد المغرب كطرف فاعل في الحضارة الإنسانية.
يهدف هذا المقال إلى تحديد أهم مراحل فتح بلاد المغرب وانعكاساته الحضارية.
I – مراحل انتشار الإسلام ببلاد المغرب (27 – 82 هـ):
لم تكن عملية فتح بلاد المغرب يسيرة حيث تعددت الحملات العسكرية وتخللتها عدة صعوبات أفضت في النهاية إلى انتشار الإسلام في كامل شمال إفريقيا والأندلس.
1 – المرحلة الأولى لفتح بلاد المغرب (27 – 64 هـ):
منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب فكر عمرو بن العاص في فتح إفريقية سنة 22 هـ ،وذلك بعد أن فتح ليبيا الحالية، ولكن الخليفة عمر بن الخطاب لم يوافق على ذلك ،وقد يكون سبب هذا الرفض أن الحدود الشرقية لإفريقية كانت منيعة ،حيث كتب عمر بن الخطاب "لا إنها ليست بإفريقية ولكنها المفرقة غادرة مغدور بها، لا يغزوها أحد ما بقيت" (ابن عبد الحكم، فتوح إفريقية والأندلس، ص33).
- حملة عبد الله بن سعد بن أبي سرح:لما عينه الخليفة عثمان بن عفان عاملا على مصر قام بأول حملة عسكرية باتجاه إفريقية سنة 27 هـ/647 م فتمكن من التقدم والتقى بالجيش البيزنطي عند مشارف سبيطلة وانتصر الجيش الإسلامي وقتل القائد البيزنطي جرجير، واكتفت هذه الحملة بتحقيق أول انتصار على البيزنطيين في بلاد المغرب ،وجمعت الغنائم ،وحصل اتفاق بين عبد الله بن سعد وزعماء القبائل على أن يأخذ منهم مالا ويخرج من بلادهم فلم يول عليهم أحدا، وكانت هذه الحملة الأولى مجرد اختبار لمدى قوة دفاعات البيزنطيين والتعرف على طبيعة المنطقة واستكشافها تمهيدا للحملات الموالية.
- حملات معاوية بن حُديج:قام بثلاث حملات لفتح بلاد المغرب كانت الأولى مع جيش عبد الملك بن مروان سنة 34 هـ حيث اتجه من الفسطاط إلى بلاد قمونية (موضع مدينة القيروان) ثم قاد حملة ثانية سنة 40 هـ وثالثة سنة 46 هـ ،واستقر في جبل القرن شمال القيروان ،وأرسل الجيوش لفتح المناطق القريبة ففتح عبد الله بن الزبير سوسة وعبد الملك بن مروان جلولاء.
- حملة عقبة بن نافع الفهري: اتجه إلى إفريقية سنة 50 هـ 670 م قادما إليها من الصحراء ومعه عشرة آلاف فارس فاتخذ القيروان معسكرا واختار موضعها على سهل فيضي تتوفر فيه المراعي وغابات الزياتين ،وهي بعيدة عن البحر لتفادي الغزوات البيزنطية ،وجعلها قاعدة للجيش الإسلامي وعاصمة لكامل بلاد المغرب، وواصل عقبة تقدمه باتجاه الغرب متفاديا الصدام مع البيزنطيين المتواجدين على السواحل الشمالية الشرقية لإفريقية، وفي سنة 55 هـ تم تعيين أبي المهاجر دينار واليا على القيروان فسلك سياسة مرنة مع البربر أدت إلى تراجع الغنائم والجباية ،فقرر الأمويون إعادة تنصيب عقبة بن نافع واليا على إفريقية والمغرب سنة 62 هـ فواصل حملته على القبائل البربرية مثل لواتة وهوارة وزناتة ومكناسة ،ووصل إلى طنجة ووليلى وبلاد السوس ،وبلغ المحيط الأطلسي، وكانت القبائل البربرية قد أعدت نفسها للانتقام والثأر من عقبة ،واستعانت في ذلك بالجيش البيزنطي ،واستغلت بقاء عقبة في عدد قليل من الجنود لتباغته في بسكرة جنوب جبال أوراس بجيش يضم 50000 جندي يقودهم كسيلة البربري فقتل عقبة سنة 64 هـ 684 م ومثلت هذه المعركة نهاية لمرحلة الانتصارات الإسلامية الأولى ببلاد المغرب وبداية لفترة صعوبات واجهت الانتشار الإسلامي.
2 – مرحلة الصعوبات ومواصلة الفتح باتجاه الغرب:
كان لمقتل عقبة بن نافع الأثر الإيجابي القوي على القبائل البربرية الرافضة لانتشار الإسلام وللبيزنطيين الذين يحكمون سواحل إفريقية، فتبنت هذه الأطراف حركة مسلحة تهدف إلى صدّ الحملات القادمة من الشرق.
أ – حركة كسيلة :استقر القائد البربري كسيلة بالقيروان بعد أن هجرها عدد كبير من المسلمين باتجاه مصر بعد مقتل عقبة بن نافع، وهكذا أصبحت السلطة في إفريقية مقسمة بين كسيلة بالقيروان والبيزنطيين بقرطاج،وانتهت هذه المرحلة سنة 69 هـ عندما أرسل الخليفة عبد الملك بن مروان زهير بن قيس البلوي في جيش لاستعادة إفريقية، ووقعت المعركة في ممس غرب القيروان قتل فيها كسيلة ،واستعاد فيها المسلمون سيطرتهم على كامل بلاد المغرب إلى حدود نهر ملوية، واضطر زهير إلى الرجوع إلى المشرق على إثر اندلاع حركة عبد الله بن الزبير، وفي طريق العودة هاجمه أسطول بيزنطي في برقة بليبيا وقتل سنة 71 هـ. ،وتواصل تأثير الأحداث السياسية بالمشرق الإسلامي في فتح بلاد المغرب ،حيث تعطلت الحملات إلى حين القضاء على الحركة الزبيرية ،فأرسل الخليفة الأموي حسان بن النعمان على رأس جيش يعد 40000 مقاتل سنة 76 هـ ،وتمكن حسان من إخضاع القيروان ،وانتصر على البيزنطيين والبربر ،ودخل قرطاج ،وطرد الروم البيزنطيين منها.
ب – حركة الكاهنة: برزت حركة مقاومة بربرية أخرى قادتها القبائل الزناتية البدوية بجبال أوراس بالمغرب الأوسط (الجزائر) وتزعمتها امرأة وهي داهيا بنت ماتية بن تيفان أطلق عليها لقب الكاهنة ،وجهزت جيشا لمنع تقدم المسلمين فاتجه إليها حسان ،ودارت بينهما معركة في جبال أوراس انتهت بانتصار الكاهنة وتراجع الجيش الإسلامي إلى الجريد ثم إلى قابس ،وفي النهاية استقر في برقة، وهكذا تمكنت الكاهنة من بسط نفوذها على كامل بلاد المغرب من جديد ،وأعادت بناء مملكة كسيلة في حين انحسر الوجود العربي في منطقة برقة.
واعتمدت الكاهنة سياسة الأرض المحروقة ،فخربت العمران وأحرقت الزرع واقتلعت الأشجار وخربت البلاد حتى لا يطمع فيها المسلمون، إلا أن هذه السياسة تسببت في نقمة عدد كبير من البربر والأفارقة والروم على الكاهنة ففروا باتجاه الجيوش الإسلامية، وفي سنة 82 هـ دارت معركة بوسط إفريقية انتهت بانتصار حسان بن النعمان ومقتل الكاهنة ،واسترجع المسلمون نفوذهم على كامل بلاد المغرب من جديد ،وساهم هذا الانتصار في نشر الإسلام واللغة العربية في صفوف القبائل البربرية التي لم تكن ترفض الدين الجديد وإنما انساقت في معظمها وراء الطامعين في إنشاء إمارة بربرية.
وبشكل عام فإن عملية فتح بلاد المغرب كانت صعبة وبطيئة استغرقت حوالي نصف قرن متأثرة بأزمات الخلافة الإسلامية بالمشرق ،وكذلك بمحاولات التصدي التي تزعمها بعض القادة من البربر ودعمها الروم البيزنطيون.
ج – فتح المغرب الأقصى والأندلس:
عينت السلطة الأموية موسى بن نصير واليا جديدا لبلاد المغرب سنة 85 هـ فاتخذ القيروان عاصمة لولايته وواصل حملاته العسكرية باتجاه المغرب الأقصى فأخضع المناطق الغربية لوادي ملوية وصولا إلى المحيط الأطلسي وجعل من مدينة طنجة قاعدة بحرية لتجهيز الجيش والأسطول لدخول الأندلس مستغلا انتشار الإسلام في صفوف البربر الذين اندمجوا في الجيش الإسلامي وكذلك الانقسامات السياسية التي كانت تشهدها الأندلس.
وبدأت الغارات الأولى على السواحل الجنوبية للأندلس منذ سنة 91 هـ ثم عين موسى بن نصير طارق بن زياد وهو من أصل بربري على جيش من 7000 مقاتل أغلبهم من القبائل البربرية مثل مكناسة وزناتة وهوارة... وانطلق الأسطول من طنجة سنة 92 هـ/711 م وحقق انتصارا حاسما على جيش لذريق، والتحق موسى بن نصير بالأندلس ليدخل طليطلة وسرقسطة واشبيلية سنة 94 هـ ،ولم تتوقف الفتوحات الإسلامية بل تواصلت على كامل الأندلس ،ثم وصل عبد الرحمن الغافقي إلى مدينة بواتيي الفرنسية سنة 114 هـ/ 732 م وانهزم أمام شارل مارتال.
تؤكد هذه المعارك والحملات التي قادها المسلمون في إفريقية وبلاد المغرب وصولا إلى الأندلس أهمية المشروع الحضاري الذي حمله المسلمون في مغارب الأرض والمتمثل في نشر الدين الإسلامي وتعاليمه لإخراج هذه المناطق من سيطرة المسيحيين الروم والبيزنطيين من جهة ومن الديانات الأخرى التي انتشرت في صفوف البربر، ولم يكن طول المرحلة الزمنية التي استوجبها فتح بلاد المغرب سوى دليل على أهمية الصراع بين الدعوة إلى الإسلام والمقاومة التي تزعمها أصحاب النفوذ السياسي والاجتماعي الرافضين للدين الجديد الذي سلبهم تلك الزعامة والنفوذ ،ونزع عنهم كل سلطة تمكنهم من بسط سيطرتهم على السكان الأصليين للمنطقة أي البربر، كما تدل هذه الأحداث على أن أغلب القبائل البربرية دخلت الإسلام اقتناعا ورفضا للمعتقدات السابقة ولم تسلم نتيجة الحروب وحدة السيف والدليل على ذلك سهولة اندماج البربر في الحضارة الإسلامية ومساهمتهم في انتشارها ورقيها على غرار تزعم طارق بن زياد وهو بربري للجيش الفاتح للأندلس رغم تعدد القادة العرب، وتشهد الحضارة الإسلامية لبلاد المغرب على شدة اندماج العنصر الأصلي البربري في المجتمع الإسلامي الجديد من خلال المعالم الثقافية والعلمية والعمرانية لبلاد المغرب والتي قام فيها البربر بدور فعال وبنّاء.
Ii – الأبعاد الحضارية لانتشار الإسلام في بلاد المغرب:
تعددت مظاهر الازدهار الحضاري لبلاد المغرب بعد الفتح الإسلامي ،ومن بينها اندماج البربر في الحضارة العربية الإسلامية المتواصل إلى زمننا الحاضر ،وإثراء الحضارة الإنسانية بعدد هام من العلماء والمفكرين والمبدعين فضلا عن تطور الفنون كالعمارة والزخرفة...
1 – اندماج البربر في الحضارة الإسلامية:
واجهت الجيوش الإسلامية في بلاد المغرب قبائل بربرية تجيد فن القتال ومتمرسة في الحروب إلى جانب الجيش النظامي البيزنطي، وكانت تلك القبائل متحررة في أغلب الحالات من ولاءات أو أحلاف تجمع بينها وبقية القبائل في ما عدا المصالح المشتركة بحيث لم تكن توجد مظاهر وحدة تجمع بينها وتجعلها تتضامن وتتحالف للوقوف بقوة أمام التحديات الخارجية، ولهذا السبب كانت منطقة شمال إفريقيا منذ فجر التاريخ معرضة للغزوات المتتالية من الفينيقيين والرومان والبيزنطيين والوندال... فغياب المصير المشترك ووحدة العقيدة والثقافة أمران جعلا من القبائل البربرية تبحث عن هويتها المشتتة بين ولاء بعضها للبيزنطيين واستقلال البعض الآخر على أرضه طالما أنه قادر على الدفاع عنها. ولما جاء الإسلام فإنه مثل عامل وحدة ثقافية واجتماعية وعقائدية وسياسية اجتمعت حوله مختلف القبائل تتهافت على القيام بدور لبناء هذا الصرح العملاق المتمثل في "خير أمة أخرجت للناس" والمساهمة في تدعيم المكاسب كنشر الإسلام في الأندلس ودعم الحضارة الإسلامية بمعالم وشخصيات علمية لا يزال أثرها قائما إلى يوم الناس هذا، ويتشابه دور الدين الإسلامي في هذا المجال مع الدور الذي لعبه في الجزيرة العربية لما حثّ الرسول محمّد صلى الله عليه وسلم على تأسيس نظام سياسي يتجاوز الإطار القبلي ،وأدى إلى نشأة الدولة الإسلامية التي يتساوى فيها جميع الناس بقطع النظر عن انتماءاتهم القبلية.
ولئن كانت بداية عملية اندماج البربر بطيئة فإنها توسعت وفق السياسة التي اتبعها الولاة ،حيث شجع أبو المهاجر دينار – وهو غير عربي – البربر على اعتناق الإسلام وكان مرنا معهم وأسلم على يده الكثير منهم مثل القائد كسيلة.
وفي سنة 65 هـ كان ثلث جيش زهير بن قيس البلوي من البربر، كما أن كسيلة لما دخل القيروان لم يدمرها وأمّن أهلها وكذلك فعلت الكاهنة، ومن جهة أخرى ساهمت سياسة القائد حسان بن النعمان في اندماج البربر في الحضارة الإسلامية لما اشترط على القبائل المنهزمة نحو 12000 رهينة لينشر في صفوفهم الدين الإسلامي ويدعم بهم الجيش لتحقيق الانتصارات ،كما ساهم هؤلاء الرهائن في نشر الإسلام بين ذويهم فيما بعد ،وشاركوا في الفتوحات ،ونالوا نصيبهم من الغنائم ومن الأراضي ،وارتقى العديد منهم في الرتب العسكرية، وتعتبر كل هذه الأمثلة نماذج إسلامية لكيفية تعامل القادة مع السكان الأصليين ،حيث إن المسلمين لم يصلوا إلى بلاد المغرب ناهبين ومخربين وقاهرين ومستبدين وإنما جاؤوا لرسالة أسمى ونظرة أرقى تتلخص في نشر كلمة التوحيد ورفع راية الإسلام إلى أبعد ما تسمح به الظروف والإمكانيات المتاحة، وكان رد الفعل من طرف البربر بالمثل ،حيث أقبلت جل القبائل على الإسلام واندمجت في المجتمع الإسلامي الجديد ليس بقوة السيف ،وإنما بالاقتناع وترسيخ العقيدة الإسلامية لدى فئات واسعة من السكان.
وليس غريبا عن هذه الحضارة الجديدة ببلاد المغرب أن يعين الوالي - وهو عربي – رجلا من البربر وهو طارق بن زياد ليتولى قيادة الجيش الإسلامي لفتح الأندلس، وأن يتكون جند موسى بن نصير من 17000 من العرب و12000 من البربر ،وبذلك نجح المسلمون في نقل مجال الصراع من داخل بلاد المغرب إلى الخارج ،وأصبح كل من العرب والبربر في خط واحد لمواجهة القوط الغربيين ولنشر الإسلام في الأندلس.
هذه المعالم أتت لتؤسس لحضارة جديدة لم يسبق لها مثيل لدى السكان الأصليين فأمر موسى بن نصير بتعليم القرآن للبربر ،وأرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز عشرة علماء إلى بلاد المغرب لترسيخ القرآن والسنة النبوية وتعاليم الإسلام في صفوف البربر.
كما ساهم استيطان العرب ببلاد المغرب واختلاطهم بالسكان الأصليين في بناء المجتمع الإسلامي الجديد، فمنذ الفتوحات الأولى وفد إلى بلاد المغرب أكثر من 180000 رجل من المقاتلة العرب استقر أغلبهم فيما بعد بالقيروان وقد كتب اليعقوبي "في مدينة القيروان أخلاط من الناس من قريش ومن سائر بطون العرب من مضر وربيعة وقحطان وبها أصناف من العجم من أهل خراسان ومن كان وردها مع عمال بني هاشم من الجند وبها عجم من عجم البلد البربر والروم وأشباه ذلك"(اليعقوبي، البلدان ص 348).
ولم تقف مظاهر الحضارة الإسلامية ببلاد المغرب عند هذا الحد بل شملت ميادين كانت مجهولة من قبل مثل العلوم والفنون والعمارة.
2 – تطور العلوم ببلاد المغرب بعد الفتح الإسلامي:
شهد المغرب الإسلامي نهضة علمية تبرز معالمها من خلال تعدد مراكز العلم كجامع عقبة بالقيروان وجامع الزيتونة بتونس وجامع القرويين بفاس وجامع قرطبة بالأندلس... وقد اشتهر الولاة والأمراء بحذقهم للعلوم واللغات والفنون والآداب مثل إبراهيم بن الأغلب الذي أجاد الشعر والبلاغة ،والمعز لدين الله الفاطمي الذي تكلم عدة لغات كالبربرية والرومية والسودانية، وبرز في إفريقية العديد من العلماء المتخرجين من جامعة القيروان فاشتهر في اللغة والأدب ابن الطرماح وأحمد اللؤلؤي ومحمد بن جعفر القزاز، وفي الفلسفة أبو بكر القمودي وسعيد بن الحداد، كما تأسست بالقيروان مدرسة للطب ،واشتهر فيها عدد من الأطباء مثل إسحاق بن عمران ومحمد بن الجزار ،وخاصة أحمد بن الجزار صاحب كتاب "زاد المسافر"
كما تطور علم الجغرافيا واستغل في أغراض تطبيقية كالتجارة، وعلم التاريخ والأنساب ،وقد اشتهر فيه ابن حيان وابن حزم القرطبي والقاضي النعمان.
وقد ساهم الغرب الإسلامي مساهمة فعالة في إثراء الحضارة الإسلامية خاصة في المجال الفكري، فبرز العديد من المفكرين ومن أبرزهم ابن رشد الفقيه والقاضي والفيلسوف والطبيب الذي ولد سنة 530 هـ/1126 م بقرطبة وعاصر الفيلسوف ابن طفيل والطبيب ابن زهر، وعاش ابن رشد بين الأندلس والمغرب الأقصى ،وألف العديد من الكتب أهمها "تهافت التهافت" و"فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال" و"الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة" و"الكليات في الطب" وصنّف فيه ابن رشد الأدوية حسب فعالياتها وآثارها، كما شرح ابن رشد فلسفة أرسطو ونقلها إلى الغرب ،ولخص مؤلفات جالينوس في الطب ،وأقبل الغرب المسيحي على مؤلفاته باعتباره أبرز مفكري التيار العقلاني داخل الفكر العربي الإسلامي ومرجعا هاما في الفكر الأوروبي ،فشكل بذلك نقطة تواصل وتفاعل بين الثقافتين الإسلامية والمسيحية.
كما أفرزت الحضارة الإسلامية ببلاد المغرب عالما اشتهر بمؤلفاته الجغرافية رغم أنه كتب في علم النبات والأدوية وهو الإدريسي الذي ولد في مدينة سبتة بالمغرب الأقصى في أواخر القرن الخامس هجري وتنسب عائلته إلى الأشراف الأدارسة العلويين ودرس في قرطبة ،ثم تنقل في عدة بلدان ،وألّف عدة كتب من أهمها "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" و"الأدوية المفردة". وأسس الإدريسي جغرافيته على مفاهيم علمية صحيحة أهمها كروية الأرض ووجود خط الاستواء والأقاليم المناخية ،وتأثير الجبال في تكييف المناخ وتوجيه الرياح ونزول الأمطار، كما أنجز الإدريسي خريطة العالم المعروف في ذلك الوقت على شكل كروي ،وذلك قبل أن يثبت العلم الحديث صحة هذا الشكل.
وتجاوز الإشعاع العلمي لبلاد المغرب حدود المنطقة الإفريقية ،حيث انتقل الإدريسي إلى جزيرة صقلية ،وعاش في قصر ملكها روجار الثاني الذي كلفه بتأليف كتاب شامل في وصف مملكته والبلدان المعروفة في ذلك العهد، وقد أشار ابن خلدون إلى تلك العلاقة حينما كتب "ونحاذي بذلك ما وقع في كتاب نزهة المشتاق الذي ألفه العلوي الإدريسي الحمودي لملك صقلية من الإفرنج وهو روجار بن روجار عندما كان نازلا عليه بصقلية... وكان تأليفه للكتاب في منتصف المائة السادسة ،وجمع له كتبا جمّة للمسعودي وابن خرداذبة والحوقلي وابن إسحاق المنجّم وبطليموس والعذري وغيرهم..." (ابن خلدون، المقدمة، ص 68).
ولم يقتصر دور الحضارة العربية الإسلامية ببلاد المغرب على العلوم والثقافة بل تجاوز ذلك إلى الفنون والعمران بما جعله قادرا على الإسهام في تطوير التراث الإنساني وإثرائه بإضافات بناءة كانت منطلقا للنهضة الأوروبية الحديثة.
3 – ازدهار فن العمارة الإسلامية ببلاد المغرب:
شهد الغرب الإسلامي نهضة عمرانية لم يسبق لها مثيل تميزت بتعدد المدن إلى حد بروز شبكة حضرية متكونة من مدن كبرى ووسطى وصغرى، واشتهرت المدن الهامة بتنوع خصوصياتها المعمارية كالجوامع والقصور المتميزة بأشكالها الفنية المزخرفة.
أ – تعدد المدن الكبرى بالغرب الإسلامي
تأسست بالغرب الإسلامي شبكة حضرية متمحورة حول المدن الكبرى التي أسسها الأمراء واتخذوها عواصم لدولهم وقواعد لجيوشهم ،مثل القيروان وفاس وسجلماسة وتيارت (تاهرت) وقرطبة بالأندلس، ونشأت المدن المتوسطة والصغرى على طول المسالك والطرقات التي اتجهت نحو المشرق وباتجاه بلاد السودان جنوبا.
- مدينة القيروان: تم اختيار موضع القيروان على سهل فسيح حيث شيدت على أنقاض حصن بيزنطي من طرف عقبة بن نافع، وكانت القيروان في موقع حصين بعيدة عن البحر لتفادي غزوات البيزنطيين وهي في سهل خصب تتوفر به المراعي وعلى طريق المسالك التجارية الرابطة بين الشرق والغرب وبين الشمال والجنوب، وفي عهد الخليفة هشام بن عبد الملك تم تجهيز المدينة بفسقيات ،وهي مواجل كبيرة الحجم تقع شمال المدينة وجنوبها تجمّع بها المياه لحاجة السكان كما توسعت أسواقها وأحيطت بسور يبلغ عرضه خمسة أمتار، وامتدت المدينة خاصة في العهد الأغلبي فشيدت القصور خاصة في العباسية ورقّادة وصبرة المنصورية وازدهرت صناعاتها وقصدها الناس من كل مكان للتعلّم والتجارة والإقامة حتى أصبحت من أهم الحواضر الإسلامية.
- مدينة المهدية: تقع المهدية على الساحل الشرقي لإفريقية، أسسها عبيد الله المهدي سنة 302 هـ على موقع روماني قديم يسمى جُمّة واختارها عاصمة للدولة الفاطمية عوضا عن القيروان، وقسم المهدي عاصمته إلى قسمين أحدهما مقر الدولة والجامع والأسواق ودار الصناعة والميناء المنقور في الصخر ويدعى المهدية وأحاطها بسور، والثاني لعامة الناس ويدعى زويلة ،ويفصل بين المدينتين باب الفتوح، ولا تزال معالم المهدية الفاطمية قائمة إلى يومنا هذا شاهدة على شموخ الحضارة الإسلامية بالغرب الإسلامي رغم الحروب والحملات التدميرية التي تعرضت لها، ذكر البكري حول المهدية "ولمدينتها بابا حديد لا خشب فيهما زنة كل باب ألف قنطار وطوله ثلاثون شبرا في كل مسمار من مساميرها ستة أرطال... وفي المهدية من المواجل العظام 360... ومرساها منقور من حجر صلد يسع ثلاثين مركبا وعلى طرف المرسى برجان بينهما سلسلة من حديد... وكان لها أرباض كثيرة آهلة عامرة أقربها إليها ربض زويلة فيه الأسواق والحمامات..." (البكري، المسالك ص 29-31).
- مدينة سجلماسة: هي مدينة صحراوية تقع في تافيلالت تنطلق منها القوافل التجارية إلى بلاد السودان جنوبا وإلى فاس شمالا، تأسست سجلماسة سنة 140 هـ لتكون عاصمة لبني مدرار الصفريين ومركزا تجاريا صحراويا هاما، شيدت بها القصور والمصانع والمساجد ولها سور يفتح بواسطة 12 بابا ولها أرباض كثيرة، وكان ازدهار سجلماسة مرتبطا بنشاط التجارة الصحراوية حيث تراكمت إيرادات الذهب من بلاد السودان ومرت بها القوافل قادمة من فاس وأغمات والسوس والسودان وحققت تجارتها أرباحا طائلة.
- مدينة فاس: أنشأها الأدارسة سنة 172 هـ وتقع أسفل جبال الأطلس الأوسط في سهل فسيح واشتهرت بجامع القرويين الذي يعتبر من أهم معالم المدينة إلى يومنا هذا.
تعتبر هذه المدن الكبرى أمثلة معبرة عن حركة التعمير والتمدين التي شهدها الغرب الإسلامي بعد الفتح ،ولا تزال هذه المدن قائمة إلى اليوم لتؤكد تواصل الحضارة الإسلامية ببلاد المغرب على عكس المدن التي شيدت زمن الفينيقيين والرومان والبيزنطيين والتي لم يبق منها سوى بعض الآثار.
ب – تطور فن العمارة بالغرب الإسلامي
يبرز ازدهار الفن المعماري ببلاد المغرب من خلال العمارة الدينية والمتمثلة في المساجد والجوامع والرباطات، والعمارة المدنية المتكونة من القصور والمنازل والمنشآت المائية الكبرى.
- المساجد والجوامع: شيدت المساجد والجوامع في جميع مناطق المغرب الإسلامي بالأرياف والمدن وهي تدل على متانة العلاقة القائمة بين السكان والدين الجديد، وكانت خطة بناء الجوامع متشابهة حيث تكوّن أغلبها من الصحن وقاعة الصلاة والمحراب مع تواجد الأعمدة الرخامية والشمسيات البلورية والقباب.
ويعتبر جامع القيروان من أهم المنشآت الدينية ببلاد المغرب، شيّد على مراحل عديدة وتم توسيعه عدة مرات. تنقسم قاعة الصلاة إلى 17 بلاطة أعرضها البلاطة الوسطى التي تؤدي إلى المحراب، ويقوم الجامع على أعمدة تعلوها تيجان ومسندات خشبية وحوامل عقود وعقود تضمن الإضاءة والتهوئة، ويضم الجامع قبة المحراب وقبة البهو ومنارة قاعدتها ذات شكل مربع تعلوها قبة، أما المحراب فتغطيه لوحات رخامية تعلوها الزخارف الجصية والخشب المذهب.
جامع عقبة بن نافع بالقيروان
- الرباطات: الرباط منشأة دينية وتعليمية وعسكرية تبنى على السواحل لمراقبتها من الغزوات البحرية وكانت الرباطات عبارة عن حصون دفاعية تتكون من عدة غرف ومسجد وتوجد أبراج دائرية في زواياه ويحتوي كل رباط على منارة مستديرة الشكل. ومن أهم الرباطات ما شيد على ساحل سوسة والمنستير وكذلك رباطات المدن المغربية.
- القصور: يعتبر تشييد القصور دليلا على أوج الرخاء الاقتصادي والرفاه الاجتماعي الذي تحقق خاصة للفئات الثرية المقيمة بالمدن وخاصة بالقيروان ،مثل قصر الصحن برقادة وكان يتكون من 109 غرفة ويحيط به سور ضلعه 104 مترا، كما تعددت القصور بفاس وسجلماسة وكذلك بمدن الأندلس وخاصة الزهراء وقرطبة، ولا تزال آثار هذه القصور قائمة إلى اليوم.
وتميزت العمارة المغربية بالزخرفة كالنقوش والعقود والأعمدة والتيجان والحنيات ،وكانت هذه الأشكال الفنية تنحت وتنقش على الرخام والحجارة والجص والخشب إضافة إلى الرسوم والألوان التي زينت المواد الخزفية وتكونت من أشكال طبيعية مثل ورق العنب والبراعم وجريد النخل إضافة على الأشكال الهندسية كالظفائر المعقدة والحروف العربية المكتوبة بالقلم الكوفي.
خــاتمة:
كانت بلاد المغرب قبل الفتح الإسلامي خاضعة لقوى أجنبية متتالية كالفينيقيين والرومان والبيزنطيين ،ولم يكن للبربر والأفارقة دور هام في الحضارة المغربية بل كانوا مستغلين من طرف الغزاة عن طريق الجباية والتجنيد والعبودية والسبي... فعلى مر العصور لم يدخل البربر التاريخ البشري ،ولم تكن مساهمتهم في الحضارة الإنسانية هامة إلى حين دخولهم الإسلام، ومثل فتح بلاد المغرب منعرجا حاسما في تاريخ المنطقة حيث اندمجت العناصر المحلية في المجتمع الجديد ليحصل التلاقح الثقافي بين المسلمين والبربر ومهّد لنشأة حضارة مضيئة في تاريخ الإنسانية لا تزال معالمها قائمة إلى يومنا هذا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* جامعة منوبة تونس
المراجع:
- ابن خلدون، المقدمة، المكتبة التجارية الكبرى، مصر
- ابن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، دار المعرفة، مصر
- ابن عذاري المراكشي (ألف سنة 712 هـ/1312 م) البيان المغرب في أخبار المغرب
- أحمد عبد الرزاق أحمد، 1990، الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، القاهرة
- البلاذري (279 هـ/892 م) فتوح البلدان
- البكري، المسالك
- الواقدي (207 هـ/822 م): كتاب فتوح افريقية
- عبد الرحمن بن عبد الحكم (257 هـ/ 871 م): فتوح مصر والمغرب والأندلس
- سعد زغلول عبد الحميد، 1965، تاريخ المغرب العربي
- محمد الطالبي، 1985، الدولة الأغلبية (184-296 هـ) التاريخ السياسي
- لبيب عبد الستار، 1986، الحضارات، دار المشرق بيروت
- موسوعة بهجة المعرفة، 1982، طرابلس
- المركز الوطني البيداغوجي، 2005، كتاب التاريخ للسنة الثانية آداب وعلوم.
المصدر : موقع منارات إفريقيا