المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نظرات في العصر العباسي


dmd39
2011-02-12, 22:55
العصر العباسي يطلق على الفترة التي حكم فيها الخلفاء من بني العباس ، وتمتد من سنة 132 هـ / 750م إلى سنة 656 هـ / 1258 م ، وكان عدد الخلفاء فيها 37 أولهم عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب المعروف بالسفاح ، وآخرهم أبو أحمد عبد الله المستعصم بالله الذي قُتل على أيدي التتار بعد اكتساحهم بغداد سنة 656هـ .
ويقسم المؤرخون هذا العصر إلى عصرين :
العصر العباسي الأول ، ويمتد من سنة 132 هـ وهي السنة التي بويع فيها للسفاح إلى سنة 232 هـ وهي السنة التي توفي فيها الخليفة الواثق بن المعتصم بالله ، وعدد الخلفاء الذين تولوا الحكم فيه تسعة خلفاء ، وامتدت مساحة الدولة الإسلامية فيه من نهر السند إلى المحيط الأطلنطي، وشملت بلاد السند (الشمال الغربي من الهند)، وبلوخستان وأفغانستان، والتركستان، وفارس، والعراق ، وديار بكر ، وأرض الجزيرة العربية ، وأرمينية، والشام، وفلسطين وقبرص، وكريت (إقريطش) ومصر، وشمالي أفريقية، غير أنه قد استقلت عنها الأندلس بأسرها بعد أن فر إليها عبد الرحمن بن معاوية الملقب بعبد الرحمن الداخل أو صقر قريش ، وكانت عدوى العصبية قد انتقلت إلى العرب المقيمين بها ، يمنية ومضرية ، فوحدهم تحت رايته ، وأنشأ بالأندلس إمارة مستقلة ، مثلت أول دولة مستقلة عن دولة الخلافة ..
وقد امتاز العصر العباسي الأول هذا بقوة الدولة ، وسيطرة الخلفاء على مقاليد الحكم سيطرة كاملة ، وارتفاع راية الجهاد بها ، وانتشار العلم في ربوع ديارها ، وأخذها بحظ وافر في شتى جوانب الحضارة والمعرفة ، حتى صارت المدن الإسلامية الكبرى مصدر إشعاع للبشرية في مشارق الأرض ومغربها ، يؤكد على ذلك قول ابن طباطبا : كانت كثيرة المحاسن، جمة المكارم، أسواق العلوم فيها قائمة، وبضائع الآداب فيها نافقة، وشعائر الدين فيها معظمة، والخيرات فيها دائرة، والدنيا عامرة، والحرمات مرعية، والثغور محصنة، وما زالت على ذلك حتى أواخر أيامها، فانتشر الشر، واضطرب الأمر.
وقبل أن نتحدث عن أبرز ملاح هذا العصر التي تؤكد صدق كلام ابن طباطبا نُذكّرُ أنه قد بويع للسفاح أول الخلفاء العباسيين في الكوفة التي كانت معقل التشيع أيام الأمويين ، وذلك في ليلة الجمعة لثلاث عشرة خلت من ربيع الآخر سنة 132هـ ، وكان مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين ما زال على رأس الحكم بالشام ، لكنه تقهقر أمام جيوش العباسيين حتى دخل مصر ، وقتل بها في قرية تسمى " بوصير " قرب الفيوم ، وذلك بعد تفرق شيعته عنه واشتعال نار العصبية العمياء بين اليمانية والمضرية دون أن يشعروا بالخطر المحدق بهم ، حتى إنهم جعلوا في كل مسجد بدمشق وقت حصار الجيش العباسي لهم محرابين للقبلتين ومنبرين وإمامين يخطبان يوم الجمعة على المنبرين ، وهذا من عجيب ما وقع ، وغريب ما اتفق ، وفظيع ما أحدث بسبب الفتنة والهوى والعصبية كما قال ابن كثير. وظلوا على تلك الحالة حتى اقتحمت عليهم جيوش العباسيين ..
وقد أفرط السفاح أولا في سفك دماء بني أمية والموالين لهم من أهل الشام ؛ حتى لا يفكر الناس في استرجاع دولتهم ، ثم فاء إلى رشده بعد أن استدعى الأوزاعي ـ وكان فقيه الشام في عصره ـ فأوقفه بين يديه وقال له : يا أوزاعي أتعد مقامنا هذا أو مسيرنا رباطا ؟ فقال له : جاءت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لامرأة يتزوجها أو دنيا يصيبها فهجرته إلى ما هاجر إليه " .
فنكت السفاح بخيزرانة في يده نكتا شديدا ، ثم رفع رأسه فقال : يا أوزاعي ما تقول في دماء بني أمية ؟ فقال الأوزاعي : جاءت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ، الزنا بعد إحصان ، والمرتد عن الإسلام ، والنفس بالنفس ، فأعاد السفاح الضرب بالخيزرانة ضربا شديدا ، وأطرق مليا ثم رفع رأسه فقال : يا أوزاعي ما تقول في أموال بني أمية ؟ فقال الأوزاعي : إن كانت لهم حراما فهي عليك حرام ، وإن كانت لهم حلالا فما أحلها الله لك إلا بحقها ، فأعاد الضرب بالخيزرانة ، وأطرق مليا ثم رفع رأسه فقال : يا أوزاعي هممت أن أوليك القضاء ، فقال : أصلح الله الأمير ، وقد كان انقطاعي إلى سلفك ومن مضى من أهل بيتك ، وكانوا بحقي عارفين ، فإن رأى الأمير أن يستتم ما ابتدأه آباؤه فليفعل ، فقال : كأنك تريد الإذن فقال: إن ورائي لحرما بهم حاجة إلى قيامي بهم ، وسِتْري لهم ، فقال السفاح : فذاك لك .
وفي رواية أخرى أنه سأله عن الخلافة وصية لنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال له الأوزاعي : "لو كانت وصية من النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك علي بن أبي طالب أحدا يتقدمه ".
وكان لذلك الموقف من الأوزاعي الذي لا يقفه إلا قلة من العلماء المخلصين الشجعان أمام السفاح الثائر الغاضب أثر في حقن ما تبقى من دماء الناس .
وفضلا عن ذلك فقد رفع من مقام الأوزاعي حتى في قلب السفاح نفسه ؛ حيث رآه بصلابته أهل لأن يقلده القضاء فقال : "يا أوزاعي هممت أن أوليك القضاء " فيمتنع الأوزاعي وهو في هذا الموقف الحرج ليقول للعلماء خلفه : ها أنا ذا وقفت في وجه السفاح الثائر وأنا أعلم أنه غضبه واندفاعه قد يكون سببا في إراقة دمي ، ولم أرض أن أداهنه حتى في قبول تولي منصب القضاء ، فما لأحد منكم بعدي عذر في أن يحيد عن منهج الله سبحانه وتعالى ويخون العلم الذي تعلمه ويفتي بحل سفك دم الأبرياء أو اغتصاب أموالهم ..
وقد ارتفعت مكانة الأوزاعي أكثر عندما تصرف في جائزة السفاح ، فلا هو ردها ولا هو أخذها ، يقول الراوي: وبعد خروجه إلى بيروت جاءه البريد يقول له : إن الأمير غفل عن جائزتك ، وقد بعث لك بمائتي دينار ، فأخذها منه ثم لم يبرح صاحب البريد مكانه حتى رآه قد فرقها في الأيتام والأرامل والفقراء ..
وازداد تعلق الخلفاء العباسيين به فيما بعد لما رءوا من صدقه وإخلاصه ، وأنه لا يجامل أحدا على حساب شرع الله ، فقد كتب إليه أبو جعفر المنصور يوما يقول : "أما بعد فقد جعل أمير المؤمنين في عنقك ما جعل الله لرعيته في عنقه ، وأمره أن يكتب إليه بما يرى فيه المصلحة للمسلمين " فكتب إليه الأوزاعي : " أما بعد فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين يعلمني أنه قد جعلت في عنقي ما جعل الله لرعيته في عنقه ، ويأمرني أن أطلعه طلعهم ، وأكتب إليه بما رأيت فيه المصلحة لهم وبما أحببت وبدا لي ، فعليك يا أمير المؤمنين بتقوى الله ، وتواضع يرفعك الله يوم يضع المتكبرين في الأرض بغير الحق ، واعلم أن قرابتك من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لن تزيد حق الله عليك إلا عظما ، ولا طاعته إلا وجوبا ، ولا الإياس فيما خالف ذلك منه إلا إنكارا
وفي موطن آخر يقول الأوزاعي : بعث إلي أبو جعفر المنصور وأنا بالساحل فلما وصلت إليه سلمت عليه بالخلافة فرد علي واستجلسني ثم قال : ما الذي بطأ بك عنا يا أوزاعي ؟ قلت : وما الذي تريد يا أمير المؤمنين ( كأنه أراد أن يقول له : إن العلماء حوله كثير ) ما الذي يريد أمير المؤمنين ؟ قال : أريد الأخذ عنكم والاقتباس منكم ، فقال : انظر يا أمير المؤمنين لا تجهل شيئا مما أقول لك ، فقال المنصور : وكيف أجهله وأنا أسألك عنه ، وفيه وجهت إليك وأقدمتك له ، قلت : أن تسمعه ولا تعمل به .. ثم قال : يا أمير المؤمنين من كره الحق فقد كره الله ، إن الله هو الحق المبين ، فلما سمعه الربيع ( رئيس حرس المنصور ) أهوى بيده إلى السيف ، فانتهره المنصور وقال : يا هذا ! إنه مجلس مثوبة لا مجلس عقوبة ..
فلما سمع الأوزاعي ذلك من المنصور تيقن أن جاد وقال : فطابت نفسي وانبسطت في الكلام ، فقلت : يا أمير المؤمنين : حدثني مكحول عن عطية بن بسر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيما عبد جاءته موعظة من الله في دينه فإنما هي نعمة ، وقالوا : سيقت إليه ، فإن قبلها يشكر ، وإلا كانت حجة من الله عليه ، وقالوا : ليزداد بها إثما ، ويزداد الله عليه سخطا ..
يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عطية بن بسر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أيما وال بات غاشا لرعيته حرم الله عليه الجنة ، يا أمير المؤمنين من كره الحق فقد كره الله عز وجل ، إن الله هو الحق المبين ..
يا أمير المؤمنين : إن الذي لين قلوب أمتكم لكم حين ولوكم أمورهم لقرابتكم من نبيهم ، فقد كان بهم رءوفا رحيما مواسيا لهم بنفسه في ذات يده ، وعند الناس لحقيق أن يقوم له فيه بالحق وأن يكون بالقسط له فيهم .. ولعوراتهم ساترا لم تغلق عليه دونهم الأبواب ، ولم تقم دونهم الحجاب يبتهج بالنعمة عندهم ، ويتأيس بما أصابهم من سوء ، يا أمير المؤمنين قد كنت في شغل شاغل من خاصة نفسك عن عامة الناس الذين أصبحت تملكهم ، أحمرهم وأسودهم مسلمهم .. وكافرهم ، وكل له عليك نصيب من العدل ، فكيف بك إذا اتبعك منهم قيام وراء قيام ، ليس منهم أحدا إلا وهو يشكو شكوة ..
يا أمير المؤمنين هل تدري ما جاء في تأويل هذه الآية عن جدك : " ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها " ؟ : الصغيرة التبسم والكبيرة الضحك ، فكيف بما عملته وأحصته الألسن ؟!!..
يا أمير المؤمنين بلغني أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال : لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضيعة لخفت أن أسأل عنها ، فكيف بمن حُرم عدلك وهو على بساطك ، يا أمير المؤمنين تدري ما جاء في تأويل هذه الآية عن جدك : " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى " ..قال : يا داود إذا قعد الخصمان بين يديك فكان لك في أحدهما هوى فلا تتمنين في نفسك أن يكون الحق له فيفلج على صاحبه فأمحوك من نبوتي ثم لا تكون خليفتي .
والتزم المنصور بتلك التوجيهات التي أملاها عليه الأوزاعي ، وحاول أن يلتزم بنهج النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يرى هو ومن تبعه من الخلفاء أنهم أحق به من غيرهم على اعتبار أنهم بنو عمه ، ولم ينحرفوا عن ذلك إلا بحسب ما تمليه النفس البشرية الميالة للهوى والأمارة بالسوء وما جلبت عليه من حب الملك والتشبث به .
فقد خطب يوما فقال : الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا العدل، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه. .
وكان المنصور مع صلاحه صاحب همة قلما توفرت في ملك من الملوك ، ولذا يعد المؤسس الحقيقي للدولة العباسية ، ومثبت أركانها ، ومن دلائل همته أنه لما خرج عليه إبراهيم بن عبد الله بن حسن ظل مشغولا به لا يهتم حتى بتغيير ملابسه بضعا وخمسين يوما إلى أن جاءته البشرى بالقضاء عليه ، وقد قيل له في غضون ذلك: إن نساءك قد خبثت نفسهن لغيبتك عنهن ، فانتهر القائل وقال: ويحك ليست هذه أيام نساء..
وقال بعضهم: دخلت على المنصور وهو مهموم من كثرة ما وقع من الشرور، وهو لا يستطيع أن يتابع الكلام من كثرة همه، وما تفتق عليه من الفتوق والخروق، وهو مع ذلك قد أعد لكل أمر ما يسد خلله به، وقد خرجت عن يده البصرة والأهواز وأرض فارس والمدائن وأرض السواد، وفي الكوفة عنده مائة ألف مغمدة سيوفها تنتظر به صيحة واحدة ، فيثبون مع إبراهيم، وهو مع ذلك يعرك النوائب ويمرسها ولم تقعد به نفسه وهو كما قال الشاعر:
نفس عصام سودت عصاما **وعلمـته الكـر والأقـداما
فصيـرتـه ملكـا همامـا
وقد ولى بعض العمال على بلد من بلدان الخلافة فبلغه أنه قد تصدى للصيد ، وأعد لذلك كلابا وبزاة ، فكتب إليه ثكلتك أمك وعشيرتك ، ويحك إنا إنما استكفيناك واستعملناك على أمور المسلمين، ولم نستكفك أمور الوحوش في البراري، فسلم ما تلي من عملنا إلى فلان ، وألحق بأهلك ملوما مدحورا
ومن العجب أن المنصور رغم المشاكل والمشاعل التي عاشها لم ينس يوما أن مدارسة العلم هي خير ما ينتفع به الإنسان ، فقد أوصى المهدي عند موته بقوله : يا بني لا تجلس مجلسا إلا وعندك من أهل الحديث من يحدثك، وقد كان في شبيبته يطلب العلم من مظانه والحديث والفقه فنال جانبا جيدا وطرفا صالحا ، فقيل له يوما: يا أمير المؤمنين هل بقي شيء من اللذات لم تنله ؟ قال: شيء واحد، قالوا: وما هو ؟ قال: قول المحدث للشيخ من ذكرت رحمك الله .
فاجتمع وزراؤه وكتابه وجلسوا حوله فيما يشبه العمل المسرحي وقالوا له : ليمل علينا أمير المؤمنين شيئا من الحديث ( ليسترضوه ويجلسوه مجلس العالم ) فقال : لستم بهم ( أي الذين يصلحون لسماع العلم والحديث ) إنما هم الدنسة ثيابهم ، المشققة أرجلهم ، الطويلة شعورهم، رواد الآفاق وقطاع المسافات، تارة بالعراق وتارة بالحجاز، وتارة بالشام، وتارة باليمن .
ولما عزم على الحج في السنة التي توفي فيها دعا ولده المهدي فأوصاه في خاصة نفسه وبأهل بيته وبسائر المسلمين خيرا، وعلمه كيف تفعل الأشياء وتسد الثغور، وأوصاه بوصايا يطول بسطها ، وحرج عليه أن لا يفتح شيئا من خزائن المسلمين حتى يتحقق وفاته ، فإن بها من الأموال ما يكفي المسلمين لو لم يُجبَ إليهم من الخراج درهم عشر سنين، وعهد إليه أن يقضي ما عليه من الدين هو ثلاثمائة ألف دينار ، فإنه لم ير قضاءها من بيت المال.
إننا الآن قد نجلس ونقارن بين حال المنصور وحال كثير من الولاة في عصرنا فنرى البون واسعا ، ولكننا نسى أننا إذا كنا قد افتقدنا حكاما مثل المنصور فإنا لم نجد من العلماء أيضا من يتشبه بالأوزاعي في إخلاصه وجرأته وعفته ، ولكي نجد أمثال المنصور لابد أن نوجد أولا من العلماء أمثال الأوزاعي فالكون لا يصلح إلا بهما معا . .

dmd39
2011-02-13, 20:43
عندما دخل المغول بغداد كان الخليفة حينها هو المستعصم بالله، وقد اختلف حول شخصيته، ومما قرأناه عنه، فهو شخصية ذات دين وأخلاق وقيم، إلا أنه لا يمتلك الخبرة والنضوج اللتين تؤهلانه للخلافة، وكانت الأمور في عهده مضطربة، خصوصاً في بغداد لا سيما الفتن الطائفية بين السنة والشيعة ؛ مما نتج عنها سفك الدماء وإحراق الدور، ففي السنة السابقة للاحتلال المغولي وقعت حرب شديدة بين السنة والشيعة، نهبت على إثرها مدينة الكرخ التي كانت تضم بيوت أقرباء ابن العلقمي( وهو ممثل الشيعة ) الذي كان يتظاهر بأنه يسعى للإصلاح بينهم.
في هذه الأثناء كان المغول يزحفون نحو بغداد بقيادة هولاكو حفيد جنكيز خان، الذي تمكن من السيطرة على ملك فارس، واتخذ من مدينة "همدان" مقرا لقيادته.
فأرسل هولاكو إلى المستعصم بالله يدعوه إلى أن هدم حصون بغداد وأسوارها وردم خنادقها، وأن يسلم المدينة إليه، فرد الخليفة العباسي عليه بشدة ودعاه إلى العودة إلى بلاده، فأرسل هولاكو رسالة ثانية ذكر له فيها أنه سوف يبقيه في منصبه بعد أن يقر بالتبعية للدولة المغولية، ويقدم الجزية له؛ فاعتذر الخليفة العباسي بأن ذلك لا يجوز شرعا، وأنه على استعداد لدفع الأموال التي يطلبها هولاكو مقابل أن يعود من حيث أتى.
وفي سنة 655هـ توجه هولاكو بجيشه نحو بغداد ، بينما قام الوزير ابن العلقمي بصرف الجيش وإسقاط أسمائهم من السجلات، حتى جعلهم عشرة آلاف جندي بعدما كانوا مئة ألف، وأخذ بمكاتبة المغول يخبرهم عن حال بغداد، وتذكر الروايات أن جواسيس هولاكو كانت على صلة بالوزير ابن العلقمي .
وبعد عدة معارك خسرها المسلمون، أحاط جيش هولاكو ببغداد، فاستشار الخليفة من حوله، فأشار عليه ابن العلقمي باسترضاء هولاكو وتقديم الهدايا له، غير أن مجاهد الدين أيبك المعروف بـ"الدويدار الصغير" رفض ذلك، متهما ابن العلقمي بالخيانة ؛ فقرر الخليفة المقاومة، وكان هولاكو قد طلب من الخليفة أن يسلمه الدويدار فرفض.
فأرسل الخليفة جيشاً بقيادة الدويدار، فانهزم جيش المسلمين، فتقدم هولاكو من الجانب الشرقي لبغداد، بينما تقدم جيشه من الجانب الغربي، فلما شعر الخليفة بالخطر طلب الصلح، فرفض هولاكو، وأخذ يضرب بغداد بالمناجيق ، فاشتد القتال، فكتب هولاكو على سهامه (من لم يقاتل فهو آمن)، فلم يستسلم جيش المسلمين، وبعد أحد عشر يوما من الحصار لم يستطع المسلمون أن يستمروا في قتالهم، فخرج ابن العلقمي لملاقاة هولاكو، ثم عاد إلى الخليفة فأشار عليه بالاستسلام، فخرج الخليفة إلى هولاكو ومعه أعيان بغداد وعلماؤها، فقتل كل من كان مع الخليفة، وقام بإرسال الخليفة إلى بغداد ليحث الناس على إلقاء السلاح، ومعه ابن العلقمي والطوسي اللذين كانا يحثان هولاكو على قتل الخليفة.
وهكذا سلمت بغداد إلى جيش هولاكو يوم (4 صفر656هـ= 1258م)، وبقي هولاكو خارج بغداد ، ففتكوا بأهلها، فهجموا على المساجد وخربوها واحرقوها وسرقوا ذهب قبابها ، وقتلوا الخطباء والقرّاء، وأتلفوا الكتب القيمة ، واستمر هذا الوضع نحو أربعين يوما، كلما دخلوا منطقة أشعلوا فيها النيران، وخربت أكثر الأبنية وجامع الخليفة، وقد قدر بعض المؤرخين الضحايا بالمليون، حتى صعد الناس إلى السطوح فسالت الميازيب بدمائهم، ولم ينج أحد منهم إلا اليهود والنصارى، وكانوا يذبحون الناس كما يذبحون الشاة، ولم يعد في بغداد إلا شواذ الناس والقتلى في الطرقات كأنها التلول كما وصفها ابن كثير ، وانتشر الوباء والغلاء، وتعطّلت المساجد والجمعات لعدة أشهر ....
وفي 9 صفر دخل هولاكو إلى بغداد، فقتل الخليفة وولديه وخواصه، ليتوجه بعدها إلى احتلال سوريا.
وكان (الطوسي) هو الذي يكتب لـ(هولاكو) الرسائل العربية التي يرسلها إلى الملوك العرب، أمّا ابن العلقمي فقد توفي بعد ثلاثة أشهر غماً ونكداً، فبرغم أنه تولى أحد المناصب، إلا أن مكانته كانت أقل بكثير من مكانته عندما كان مع المستعصم بالله، فقد كان الوزير الأول في الدولة، حتى إن امرأة قالت له: يابن العلقمي، هكذا كان بنو العباس يعاملونك ؟ فانقطع في داره حتى مات ...... لتنتهي بذلك الخلافة العباسية التي استمرت ( 524) عام.

nnihal
2011-02-13, 22:05
*-شششششششششششششششششكرا

dmd39
2011-02-14, 12:56
http://islamroses.com/zeenah_images/w6w2005041919345643d1e4f8.gif

نهرين
2011-02-14, 14:31
شكرا أخي...

dmd39
2011-02-14, 18:34
http://islamroses.com/zeenah_images/4.gif

فارس المسيلي
2011-02-14, 20:20
شكرا لك وبارك الله فيك موضوع مميز تحياتي لك

halodz
2011-02-15, 02:21
http://www.nsaayat.com/up/uploads/nsaayat632b27691f.gif

dmd39
2011-02-15, 22:17
لا بد من الإشارة ها هنا إلى أن الحركة القرمطية من الحركات الباطنية المتطرفة التي لم تدرس في عصرنا الدراسة الموضوعية؛ التي تلتزم جانب الإسلام وتعالج هذا الموضوع بأمانة وتجرد، بعيدًا عن الغرض والهوى والإسقاط التاريخي.
فالباحثون ذوو الاتجاه الماركسي لم يدّخِروا جهدًا في كيل المديح لهذه الحركة الهدَّامة والثناء عليها، والدعوة إلى اتباع نهجها وفاءً لها وإيمانًا بأفكارها؛ لأنها قضت في زعمهم على التميز الطبقي، وأنصفت الفقراء والعمال والفلاحين.
ونذكر -على سبيل المثال- كتابًا ألفه أحد الباطنيين سماه "الحركات السرية في الإسلام"، وخص القرامطة بفصل عنوانه: (القرامطة.. تجربة رائدة في الاشتراكية) (1)، وقال عنهم كلامًا أكثر مما يقوله أبو سعيد الجنّابي عن نفسه ، وهذه جرأة لا يحمد عليها مؤلف الكتاب الدكتور محمود إسماعيل، أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة عين شمس بالقاهرة.
وهؤلاء قد اتبعوا المستشرقين في افتراءاتهم؛ إذ يرى فان فولتن وبيكر بأن الإسلام لم يكن في أدواره الأولى دينا بقدر ما كان علامة امتياز للأرستقراطية المنتصرة والمذهب الرسمي للدولة التي تمثله ، وعلى هذا فإن الشيعة الثورية (القرامطة) كانت النتيجة الطبيعية في وسط ثيوقراطي لثورة الطبقات المظلومة؛ الفارسية والسامية على السواء (2).
إن الدارس للحركة القرمطية يلاحظ أنها عملية مرحلية لها أهداف معينة في تلك الفترة، وتعد خطوة من خطوات الدعوة الإسماعيلية التي كانت تتحرك وفق مخطط عملي مدروس ومنظم، يقوم على خداع الجماهير باستغلال عاطفتهم نحو آل البيت، وتعتمد على التنظيم السري والعسكري، وهدفها: إحياء أمجاد فارس، وإبطال حقيقة الإسلام.
والناظر في أوائل زعماء ودعاة القرامطة يجد أنهم من الفرس: كأبي سعيد الجنابي -وهو من أهل جنابة بفارس- وزكرويه بن مهرويه، وذكيرة الأصفهاني، والفرج بن عثمان، ودندان، وعبد الله بن ميمون القداح، وغيرهم (3).
أما إذا بحثنا في مضمون حركة القرامطة فسوف نجد أن هذه الحركة استفادت من ظروف البيئة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في سواد العراق؛ حيث كان منظمها الأكبر "حمدان قرمط" قرويًّا عارفًا بالمساوئ التي يشكو منها أهل السواد ، ولا يمكن فهم روح الحركة إلا بعد معرفة:
أ- ما المبادئ التي بشرت بها؟
ب- ما الجماعات التي انتظمت لها؟
ظروف نشأة حركة القرامطة :
جدير بالإشارة أن إلقاء الضوء على أحوال العصر وظروف نشأة هذه الحركة سيمكننا -بلا ريب- من الإجابة على السؤالين المهمين السابقين.
الحالة السياسية:
كان للضعف الذي ألمَّ بالخلفاء العباسيين بعد موت الواثق سنة 232هـ ، وسيطرة الأعاجم عليهم وضياع نفوذ الخلافة، الأثرُ الكبير في كثرة الانفصالات عن الدولة العباسية، واستقلال بعض الأسر المشهورة؛ كالصفاريين والسامانيين والعلويين واليعفريين والطولونيين (4). ولم يبقَ للعباسيين في كثير من الأقاليم سوى الدعاء لهم يوم الجمعة والعيدين، ونزر يسير من الهدايا (5).
كما أثار الزنج -وهم طائفة من عبيد إفريقية- القلق والرعب في حاضرة الخلافة العباسية، وكان مسرح ثورتهم الجامحة العنيفة التي دامت أكثر من أربع عشرة سنة المستنقعاتُ الممتدة بين البصرة وواسط ، وقد كلفت هذه الثورة الدولة العباسية كثيرًا من الجهود والأموال والأرواح(6). وظهر القرامطة في سواد العراق والبحرين؛ حيث أعانهم على ذلك تشاغل الخليفة العباسي بفتنة الزنج (7)، وظهر ابن حوشب في اليمن حيث نشر دعوة المهدي، وظهر أبو عبد الله الشيعي الذي نشر الدعوة الفاطمية في المغرب(8) .
الحالة الاجتماعية والاقتصادية:
أما الحالة الاجتماعية والاقتصادية فإن المجتمع العباسي في هذه الفترة كان ينقسم إلى ثلاث طبقات رئيسة:
أ- الطبقة العليا: وتشتمل على الخلفاء والوزراء والقادة والولاة، ومن يلحق بهم من الأمراء وكبار التجار وأصحاب الإقطاع.
ب- الطبقة الوسطى: وتشتمل على رجال الجيش وموظفي الدواوين والتجار والصناع (9) .
ج- الطبقة الدنيا: وتشمل أغلبية الناس من الزراع وأصحاب الحرف الوضيعة والخدم والرقيق (10).
وفي خضم هذه الظواهر الاجتماعية والاقتصادية التي طبَعَها ما روي من الترف والمجون والفساد والفقر والجهل، وما صاحب ذلك من دجل وخرافة وشعوذة وسحر وطلاسم وتنجيم (11) ظهر القرامطة واستغلوا هذه الأجواء المشحونة لإذكاء نار الفتنة بين الناس، مذكرين إياهم ما يلقونه من ظلم وعنت، وأن ساعة الخلاص من الظلم والاضطهاد قريبة؛ مما جعل هؤلاء إزاء هذه الحالة الاقتصادية والاجتماعية السيئة على أتم استعداد للخروج على ولاة أمورهم.
وكذلك انتشرت هذه الدعوة بين أهل الحرف وعوام المدن الذين كان مستوى معيشتهم متواضعًا وظلوا جهلة لا يفهمون الشريعة، ويرون أوامرها يمكن تركها متى تطلّبت المصلحة ذلك ، وهذا الجهل جعلهم طعمة سهلة للدعوة القرمطية الماكرة، خاصة في مدن الأحساء والقطيف والبحرين ، حيث استمرت دعوة حمدان قرمط؛ إذ أنشأ أحد دعاته وهو الحسين الجنابي دولة في الخليج، مطبقًا روح تعاليم سلفه بكل حماس، مستغلاًّ حالة التذمر من الفقر والفاقة التي كانت سائدة في تلك الجهات، خاصة بين أهل البادية الذين كان فقرهم مضرب الأمثال.
تعاليم القرامطة وعلاقتهم بالباطنية:
من الثابت أن الحركة القرمطية فرقة باطنية من جماعات الدعوة الإسماعيلية؛ حيث من المسَلَّم به وجود علاقات عضوية أساسية بين الفئتين في مجال العقائد والأفكار(12)، بينما مر تاريخ العلاقات السياسية بينهما بأطوار تباينت فيه المواقف، ووصلت إلى حد المواجهات المسلحة في بعض الأحيان (13).
ومعلوم أن من أسماء الإسماعيلية التي اشتهرت بها "الباطنية"؛ ذلك لأنها قالت بالتأويل وبوجود علم ظاهري عام وعلم باطني خاص، وعلى هذا الأساس يكون معنى القرامطة هو الباطنية؛ لأنهم ادعوا أن: "لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري مجرى اللب من القشر، وأنها تُوهم الأغبياء صورًا، وتُفهم الفطناء رموزًا وإشارات إلى حقائق خفية، وأن من تقاعد عن الغوص على الخفايا والبواطن متعثر، ومن ارتقى إلى علم الباطن انحط عن التكليف واستراح من أعبائه"(14).
تعريف القرامطة:
ومن أفضل ما قيل في تعريف القرامطة ما أورده ابن العديم في كتابه (بغية الطلب) حيث قال: "... زعموا أنهم يرجعون إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر بن علي، ونسبوا إلى قرمط؛ وهو حمدان بن الأشعث، كان بسواد الكوفة، وإنما سمي قرمطًا؛ لأنه كان رجلاً قصيرًا وكانت رجلاه قصيرتين، وكان خطوه متقاربًا؛ فسمي بهذا السبب قرمطًا.. وذكر بعض العلماء أن لفظة قرامطة: إنما هي نسبة إلى مذهب يقال له: (القرمطة) خارج مذاهب الإسلام، فيكون على هذه المقالة عزوُه إلى مذهب باطل لا إلى رجل" (15).
ثم إن الرأي الأخير يتوافق مع ما ذهب إليه بعض الباحثين المعاصرين من القول بأن كلمة "قرمطة" هي كلمة أرامية تعني العلم السري (16).
وقد استغل القرامطة وغيرهم من الباطنية الأوضاع الاجتماعية المتدهورة، والأحوال الاقتصادية المزرية، والنزاعات السياسية، فبثوا فكرة الإمام المهدي المنتظر الذي سيحرر الناس من الظلم والحيف، ومن كافة الأغلال والقيود.
وعن طريق هذه الفكرة تغلغل تأثيرهم الموجه إلى محيط العامة وجميع الفئات المهمشة اجتماعيًّا، خاصة في الأرياف، وبعثوا في نفوسهم الأمل بدنوِّ النصر وقرب ساعة التحرير، وما ذلك إلا وسيلة لاستقطابهم وجذبهم إلى عقائدهم وأفكارهم.
عقائدهم:
تقوم تعاليمهم في مجال العقائد (الإلهيات والنبوات) على إنكار وجود الله i وجحد أسمائه الحسنى وصفاته العُلا، والقول بقدم العالم، وتحريف شرائع النبيين والمرسلين، مع التستر بدعوى التأويل حينًا والتجديد حينًا آخر، وتذرعوا بأحاديث يختلقونها أو بنصوص يحرفونها أو يؤولونها، وعامة تأويلاتهم مبنية على أصول المجوس وبعض نظريات الفلاسفة كأرسطو.
وقد نقل الغزالي مذهبهم في الإلهيات في كتابه (فضائح الباطنية) بقوله: "وقد اتفقت أقاويل نقلة المقالات من غير تردد أنهم قائلون بإلهين قديمين لا أول لوجودهما من حيث الزمن؛ إلا أن أحدهما علة لوجود الثاني، واسم العلة السابق واسم المعلول التالي، وأن السابق خلق العالم بواسطة الثاني لا بنفسه، وقد يسمى الأول عقلاً والثاني نفسًا" (17) ، وهذا إلحاد لا شك فيه.
أما اعتقادهم في النبوات فهو قريب من اعتقاد الفلاسفة: وهو أن النبي عبارة عن شخص فاضت عليه من السابق بواسطة الثاني قوة قدسية صافية مهيأة لأنْ تنتقش عند الاتصال بالنفس الكلية بما فيها من الجزئيات، كما قد يتفق ذلك لبعض النفوس الزكية في المنام حتى تشاهد من مجاري الأحوال في المستقبل، ويعتقدون أن جبريل عبارة عن العقل الفائض عليه، لا أنه شخص متجسم متركب عن جسم لطيف أو كثيف يناسب المكان حتى ينتقل من علو إلى أسفل (18) .
والقرآن الكريم في نظرهم عبارة عن ظواهر هي رموز إلى بواطن يفهمها -بزعمهم- الإمام المعصوم فيتعلمونها منه (19) . وقد أنكروا القيامة، وأوَّلوا القيامة الواردة في النصوص وقالوا: إنها رمز إلى خروج الإمام وخروج قائم الزمان، وأنكروا بعث الأجساد والجنة والنار (20).
أما اعتقادهم في التكاليف الشرعية فهو الإباحة المطلقة، واستحلال المحرمات، ورد أحكام الشريعة بحجة أن المدركين للحقائق تسقط عنهم التكاليف (21) .
وفي الإمامة يقولون بأنه لا يكون بعد النبي محمد إلا سبعة أئمة هم: علي الإمام الرسول، الحسن، الحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، ومحمد بن إسماعيل بن جعفر؛ وهو الإمام القائم وخاتم النبيين. وقالوا: إن الرسول انقطعت رسالته في حياته في اليوم الذي أمر فيه بتنصيب أمير المؤمنين علي بغدير خم، فصارت الرسالة من ذلك اليوم إليه، وصار النبي تابعًا لعلي محجوبًا به (22).
ومن جهة استحلالهم للأموال والفروج وسفكهم دماء المخالفين والشهادة عليهم بالكفر والشرك (23) ؛ فهم على مذهب البهيسية والأزارقة من الخوارج .
حالهم عند التمكين:
وعلى العموم فإن السرية والتكتم غالبان عليهم في حالة الاستضعاف، أما عند الظهور والغلبة فكانوا ينادون بآرائهم جهارًا ،ويعلنون ما كانوا يخفون؛ فعندما وقع لهم التمكين في البحرين أظهروا تكذيب الأنبياء وتعطيل الشرائع، وأخذوا الناس بلعن الأنبياء جهارًا في الأسواق، وتصدروا لإحراق المصاحف، وأعلنوا براءة الذمة ممن ترك عنده شيئًا من المصاحف أو التوراة والإنجيل وجميع ذلك كله، والأمر بطرحه في الحشوش والاستنجاء به، ونادوا بنكاح الأمهات والأخوات وذوات المحارم، وإباحة اللواط (24) .
وفي زمن الخليفة المقتدر، كان مَنْ في بغداد من الباطنية قد راسلوا أبا طاهر بن أبي سعيد في البحرين بضعف السلطان، وطلبوا منه أن يركب إلى بغداد ليستولي عليها، فسار القرامطة إلى العراق يقتلون وينهبون، وقال قائلهم: ما بقي شيء ينتظر، وما جئنا لإقامة دولة ولكن لإزالة شريعة (25) .
ومن أعمالهم الشنيعة أنهم أغاروا على الحُجاج في بيت الله، وسلبوا البيت وقلعوا الحجر الأسود وحملوه معهم إلى الأحساء (26) ، وسبوا من النساء العلويات والهاشميات وسائر الناس نحو عشرين ألفًا (27) .
أساليب القرامطة في الدعوة:
- إظهار الإسلام وإبطان الكفر:
فهم يتسترون بالإسلام وبقراءة القرآن وبالصلاة والصيام (28) ، ويظهرون حب آل البيت والعفاف والزهد وترك الدنيا والإعراض عن الشهوات، ويأمرون بالصدق والأمانة والمعروف (29) ، وفي حقيقة الأمر هم على خلاف ذلك؛ إذ يبطنون الكفر والزندقة والتعطيل وبغض الأنبياء والرسل، ويميلون إلى المجون والخلاعة والانغماس في اللذات والشهوات (30) .
وفي كل ذلك قد أوثقوا أمورهم بالسرية، وبأخذ الأيمان والعهود على من أجابهم بكتمان ما يبوحون له به من أسرارهم، ولا يكشفون أمرهم إلا بالتدرج على قدر طمعهم في الشخص (31) .
- الاستدراج والحيلة:
إنهم يتصلون بالناس سرًّا، وينقلونهم عن الإسلام بالحِيَل والأيمان الخادعة، ويستدرجونهم إلى مذهبهم من حيث يوافق رأيه لا يشعرون شيئًا فشيئًا، ويخاطبون كل فريق بما يوافق رأيه بعد أن يظفروا منه بالانقياد لهم والموالاة لإمامهم (32) ؛ إذ يوصون دعاتهم فيقولون للداعية: إذا وجدت من تدعوه فاجعل التشيع دينك، وادخل عليه من جهة ظلم الأمة لعلي، وقتلهم الحسين وسبيهم لأهله، والتبرأ من تيم وعدي وبني أمية وبني العباس، وقل بالرجعة، وأن عليًّا يعلم الغيب. فإذا تمكنت منه أوقفته على مثالب علي وولده، ثم بيَّنت له بطلان ما عليه أهل ملة محمد وغيره من الرسل (33) .
وإن كان يهوديًّا فادخل عليه من جهة انتظار المسيح، وأن المسيح هو محمد بن إسماعيل بن جعفر؛ وهو المهدي، واطعن في النصارى والمسلمين، وإن كان نصرانيًّا فاعكس، وإن كان صابئيًّا فتعظيم الكواكب، وإن كان مجوسيًّا فتعظيم النار والنور، وإن وجدت فيلسوفًا فهم عمدتنا؛ لأننا نتفق وهم على إبطال النواميس والأنبياء، وعلى قدم العالم (34) .
ومن رأيته زيديًّا أو إماميًّا فأظهر له بغض أبي بكر وعمر، ثم أظهر له العفاف والتقشف وترك الدنيا والإعراض عن الشهوات، ومر بالصدق والأمانة، فإذا استقر عنده ذلك فاذكر له ثلب أبي بكر وعمر (35) ، وإن كان سنيًّا فاعكس (36)، وإن كان مائلاً إلى المجون والخلاعة فقرِّر عنده أن العبادة بَلَهٌ والورع حماقة، وإنما الفطنة في اتباع اللذة وقضاء الوطر من الدنيا الفانية (37) .
- خداع الناس:
وقد اتخذوا التظاهر بحب آل البيت والتستر بالتشيع وسيلة للتحايل على الناس، وخداعهم أثناء دعوتهم لهم.
ومن أساليبهم في خداع الناس اتخاذ الدين مطية لبلوغ أهدافهم، واستغلال ظروف الناس المعيشية المتدنية وعواطفهم الملتهبة للإصلاح برفع شعارات براقة؛ فعندما ثار القرامطة سنة 315هـ كانت لهم أعلام بيض مكتوب عليها: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5](38) .
- مكان دعوتهم:

كانوا يقصدون بدعوتهم الأماكن النائية والمنعزلة التي يوجد بها الديلم والأعراب الذين قلَّ بحثهم ونظرهم، ويذهبون إلى الأطراف البعيدة التي استولى على أهلها الغفلة والجهلة والطيش (39) ، ويقطعونهم عن البحث والاستدلال بالعهود والأيمان المغلظة، ويجتهدون في زلزلة عقائد الناس بإلقاء المتشابه؛ فإن سكت محدثهم سكتوا، وإن ألحَّ قالوا: عليك العهد والميثاق على كتمان هذا السر، ثم يخبرونه ببعض الشيء ويقولون: هذا لا يعلمه إلا آل رسول الله ، ويقولون: هذا الظاهر له باطن، وفلان يعتقد ما نقوله ولكنه يستره، ويذكرون له رجلاً فاضلاً ببلد بعيد (40) .

الهوامش :
1 ـ انظر: محمود إسماعيل: الحركات السرية في الإسلام ص117.
2 ـ برنارد لويس: أصول الإسماعيلية ص149.
3 ـ النويري: نهاية الأرب 5/68، 191، 233؛ والقاضي عبد الجبار: تثبيت دلائل النبوة 2/386، 594، 595؛ والمقريزي: المقفى الكبير في تراجم أهل مصر والوافدين عليها 3/294.
4 ـ الطبري: تاريخ الرسل والملوك 9/306، 308، 363، 381؛ والنويري: نهاية الأرب 25/81، 331، 373.
5 ـ ظاهر العمر: الخلافة العباسية في عصر الفوضى العسكرية ص244، 245.
6 ـ النويري: نهاية الأرب 25/119، 125، 132، 138.
7 ـ المصدر السابق 25/229.
8 ـ المصدر نفسه 28/77.
9 ـ أحمد أمين: ظهر الإسلام 1/114؛ وحسن أحمد محمود: العالم الإسلامي في العصر العباسي ص177.
10 ـ المرجع نفسه 1/114.
11 ـ النويري: نهاية الأرب 28/68.
12 ـ سهيل زكار: مقدمة الجامع في أخبار القرامطة ص21؛ وبرنارد لويس: أصول الإسماعيلية ص135-137؛ وعارف تامر: القرامطة ص120.
13 ـ المقريزي: المقفى الكبير 3/297.
14 ـ ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 12/289.
15 ـ بغية الطلب في تاريخ حلب (الجامع في أخبار القرامطة ص277)، وانظر كذلك: المقفى للمقريزي 3/300.
16 ـ سهيل زكار: مقدمة الجامع في أخبار القرامطة ص29.
17 ـ الغزالي: فضائح الباطنية ص38.
18 ـ المصدر نفسه ص40، 41.
19 ـ المصدر نفسه ص52.
20 ـ المصدر نفسه ص44.
21 ـ المصدر نفسه ص47.
22 ـ المصدر نفسه ص44.
23 ـ المقريزي: اتعاظ الحنفاء ص158.
24 ـ القاضي عبد الجبار: تثبيت دلائل النبوة 2/387.
25 ـ المصدر نفسه 2/383.
26 ـ ابن الأثير: الكامل في التاريخ 6/203.
27 ـ القاضي عبد الجبار: تثبيت دلائل النبوة 2/385.
28 ـ المصدر نفسه 2/376.
29 ـ ابن الجوزي: المنتظم 12/293.
30 ـ القاضي عبد الجبار: تثبيت دلائل النبوة 2/380، 386، 387، 388.
31 ـ المصدر نفسه 2/376.
32 ـ الغزالي: فضائح الباطنية ص37.
33 ـ ابن الجوزي: المنتظم 12/293.
وهكذا يتسم أسلوب دعوتهم بالمرحلية: ففي المرحلة الأولى ينادون بالتشيع لآل البيت، وفي المرحلة الثانية يقولون بالرجعة وأن عليًّا يعلم الغيب، وفي المرحلة الثالثة يشرعون للمدعو مثالب علي وأولاده، وبطلان ما عليه أهل ملة الإسلام.
34 ـ المصدر نفسه 12/293.
35 ـ البغدادي: الفرق بين الفرق ص227.
36 ـ ابن الجوزي: المنتظم 12/294.
37 ـ البغدادي: الفرق بين الفرق ص226.
38 ـ ابن الأثير: الكامل في التاريخ 6/194.
39 ـ القاضي عبد الجبار: تثبيت دلائل النبوة 2/376.
40 ـ ابن الجوزي: المنتظم 12/294.

dmd39
2011-02-17, 15:55
خطط القرامطة لإغواء الناس:
المتأمل في خطط القرامطة يجد أنها تدل على دهاء وخبث وحنكة وذكاء في الأمور السياسية والاجتماعية، ومعرفة بنفسيات الناس وبظروفهم وبيئاتهم؛ فقد كانوا يختارون بعناية الزمان والمكان والأشخاص.
أما الزمان: فهو ضعف الدولة العباسية في العصر العباسي الثاني المعروف بعصر نفوذ الأتراك؛ حيث أخذت الرغبة تزداد في نفوس القادة الأتراك بانتزاع السلطة منذ عهد المتوكل، وقويت شوكتهم وتوطد سلطانهم، وأصبحوا هم أصحاب الحل والعقد، يدبرون المؤامرات لعزل الخلفاء أو قتلهم واستبدالهم بغيرهم (1).
وقد كان للضعف الذي ألمّ بالدولة العباسية أثر واضح في انفصال كثير من الأقاليم عن جسم الدولة وظهور حركات مناوئة تحكمهم؛ كحركتي القرامطة والزنج.
أما المكان: فكانوا يختارون الأقاليم والمدن المغمورة الواقعة في أطراف الدولة أو في المناطق النائية، كوقوع اختيارهم على مدينة سلمية بالشام إلى الشرق من حماة، وهي تتمتع بموقع ممتاز؛ إذ بالإضافة لخصبها فهي وثيقة الصلة بالبادية وأهلها، ووقع اختيار الدعوة الإسماعيلية عليها لهذه المزايا (2).
كما أن الأحساء واحة ينبغي لبلوغها من العراق -مركز الدولة العباسية- اجتياز صحراء واسعة (3) .
أما الأشخاص: فكانوا يختارون لدعوتهم أناسًا تظهر فيهم صفات: الصبر، والجلد، وعلو الهمة، والذكاء، والمعرفة بنفسيات الناس ومظاهر التذمر والرضا لديهم؛ فعندما وقع اختيار ميمون القداح على شاب يدعى علي بن الفضل للدعوة إلى مذهبه، قام بالعمل لصالحهم داعيةً لمذهبهم في نواحي اليمن وإليه ينتسب الباطنية هناك.
لقد كانوا قوة خفية نشطت واستعملت أساليب متنوعة ووسائل مختلفة، وبرعت في استغلال سخط مجموعة من الفئات الاجتماعية ودفعها إلى التخريب والإفساد، وتغيير الحياة العامة في كثير من مظاهرها.
الفئات التي انضمت إلى الحركة القرمطية:
فإذا كانت تلك هي أساليبهم وطرقهم في الدعوة...؛ فمن أتباعهم إذًا؟
1- ضعاف العقول: الذين قلّت بصائرهم، وغلبت عليهم البلادة والسذاجة والبَلَه، ولم يعرفوا شيئًا من العلوم؛ كعوام المدن، وأهل البوادي والأرياف، وجفاة الأعاجم، وسفهاء الأحداث.
2- الحاقدون: وهم المجوس والشعوبية من أهل فارس الذين انقطعت دولة أسلافهم بدولة الإسلام؛ كأبناء الأكاسرة والدهاقين، فهؤلاء موتورون قد استكنّ الحقد في صدورهم، ويعملون لإزالة دولة الإسلام وإعادة الملك إلى العجم.
3- الطامعون: الذين لهم تطلّع إلى التسلط والاستيلاء، ولكن الظروف لا تساعدهم، فإذا رأوا طريق الظفر إلى مقاصدهم سارعوا إليه.
4- الشاذون في آرائهم: الذي يحبون التميز عن الناس ويزعمون أنهم يطلبون الحقائق، وأن أكثر الخلق في رأيهم كالبهائم.
5- أتباع الإلحاد والزندقة: كالفلاسفة والثنوية الذين اعتقدوا الشرائع السماوية قوانين مصطنعة، والمعجزات مخاريق مزخرفة، فإذا رأوا من يتجاوب معهم مالوا إليه.
6- أصحاب اللذة المباحة: الذين مالوا إلى اللذات العاجلة بإطلاق، ولم يكن لهم علم ولا دين صحيح، فإذا صادفوا من يرفع عنهم الحجر والمنع مالوا إليه (4) .
كيان القرامطة على الصعيد السياسي :
من المعلوم أن القرامطة فرقة سياسية وحركة عسكرية؛ لم تكن دولة بالمعنى الصحيح، ولكنها كانت كيانًا منظمًا يعتمد على البدو، ويستطيع إقلاق راحة الدول المجاورة، ويعتمد في حياته على الغارات التي يشنها على البلاد المجاورة، ويغنم منها وتعود جيوشه إلى مركزها في الأحساء والبحرين.
على أن القرامطة كانوا أعداء ألداء للدولة العباسية؛ لأنها كانت دولة سنية تقف بالمرصاد لغلاة الشيعة من الباطنية (5) . أما علاقتهم مع الفاطميين أو العبيديين فكانت علاقة مذهبية في أول الأمر. ولما أصبح العبيديون حكام مصر انقلب عليهم القرامطة، وأخذوا يشنون الغارات على مصر والشام (6) .
وهذا الموقف لا ينبغي أن ينسينا أن الحزب الواحد يتمزق ويرمى أفراده بعضُهم بعضًا بأقسى التهم وأشنعها، ومردُّ ذلك إلى التنافس على السلطة؛ فالملك عقوق عقيم، والإنسان في السلطة هو غيره في الواقع النظري، ومقتضيات السياسة شيء ومقتضيات المثل والمبادئ شيء آخر، لا سيما في الكيانات التي اتخذت الدنيا غاية تتصارع على حطامها ومتاعها.
لكنْ رغم ذلك لم تنقطع العلاقات بالكلية بين العبيديين والقرامطة؛ إذ ظل أولئك يمارسون نوعًا من الضغط والتأثير على هؤلاء؛ فعندما أغار القرامطة على مكة وسرقوا الحجر الأسود وأخذوه إلى الأحساء، بقي هناك حتى أعادوه بواسطة الحاكم العبيدي عبيد الله المهدي (7) .
لقد ظلت الدعوة القرمطية تنشط في السر إلى أن جاء أبو سعيد الجنابي، الحسينُ بن بهرام، من جنابة ببلاد فارس، فأقام في البحرين تاجرًا، ثم جعل يدعو الناس إلى نِحْلته الفاسدة، فانتشرت في البحرين، كما أنشأ لها فرعًا كبيرًا في الأحساء، وتبعها فئام من الناس (8) .
وحين ظهر أمر أبي سعيد وقوي صيته قاتل بمن أطاعه مَنْ عصاه، فنزل الأحساء (9) ، ثم حاصر القطيف، وحاصر هجر عاصمة البحرين آنذاك شهورًا يقاتل أهلها، فاستولى عليها (10) ، وقتل كثيرًا من الناس، وخرب المساجد وأحرق المصاحف، وفتك بالحُجَّاج وهاجم قوافلهم (11) . ثم خلفه ابنه سعيد الذي سلم الأمر إلى أخيه أبي طاهر بعد ذلك (12 ) ، فسار هذا الأخير من البحرين، وخرب منازل الحاج وقد كانت في الأمن والعمارة كالأسواق القائمة، وأغار على مكة، وقتل وسلب ونهب، وأثخن في المسلمين (13) .
وتذكر المصادر أن قتلاه أكثر من قتلى بابك وصاحب الزنج (14) .
وقد ملك القرامطة كثيرًا من البلدان هي: البحرين، والأحساء، والقطيف، واليمن، وعمان، وبلاد الشام، وجنوب العراق، وحاولوا احتلال مصر، لكن محاولتهم باءت بالفشل (15) .
أما كيانهم السياسي فكان يحكمه شخص واحد هو أبو سعيد الجنابي، يعاونه في الحكم مجلس مؤلف من أتباعه المقربين، وممن تربطه بهم رابطة العقيدة القرمطية والنسب. ويذكر ابن حوقل بعض الأفراد ووظائفهم (16) .
ولما توفي أبو سعيد الجنابي انتقلت الحكومة إلى مجلس شورى مؤلف من ستة دعاة ينظرون في القضايا والمسائل المختلفة، ويصدرون أوامرهم بالاتفاق، ولهم ستة وزراء (17) .
سياسة فرض الضرائب المختلفة على الأتباع :
يؤكد القرامطة على أهمية الناحية المادية. ولاستقطاب الناس، خاصة الفقراء والمنعدمين وذوي الحاجة منهم؛ فقد اتسمت سياستهم المالية في بادئ الأمر بفرض حمدان قرمط الضرائب على أنصاره، وكانت هذه الضرائب على نوعين؛ إجبارية واختيارية. وكانت تسمى بأسماء متعدد، منها "الفطرة": وهي درهم على الجميع، ومنها "الهجرة": وهي دينار على البالغين، ومنها "البلغة": وهي سبعة دنانير، زعموا أن ذلك بلاغ من يريد الإيمان (18) .
كما فرضوا على أتباعهم دفع "أخماس" ما يملكون وما ينتجون؛ فكانت المرأة تُخرِج خُمس ما تغزل، والرجل خمس ما يكسب. وفرضوا على أتباعهم "الألفة": وهي أن يجمعوا أموالهم في موضع واحد ويشتركوا فيها؛ حيث تكون ملكًا للجميع، فلا يملك أحد منهم إلا سلاحه (19) .
وكان القرامطة يغرون بنصيب من هذه الأموال الفقراءَ لاجتذابهم بإعطائهم جزءًا مما يجمعون، ويمنّونهم بأن تكون لهم الخيرات التي يتمتع بها الموسرون والحكام، قائلين لهم: إن ساعة الخلاص منهم ومن استعبادهم قريبة، وأظهروا للناس إبطالاً للسلم والرفاه اللذين وعد بهما العباسيون من قبل ولم يحققوها، فأطاعوهم وساروا وراءهم (20) .
وعلى العموم، تمكن القرامطة بمقتضى سياستهم المالية المتدرجة من أن يعدوا العُدَّة لصراع طويل ضد السلطة الحاكمة، فاشتروا السلاح الكثير بالمال الذي جمعوه من الضرائب المختلفة.
- مجال الخدمات:
عندما قام سلطان القرامطة في الأحساء والبحرين تغيرت سياستهم المالية لكسب ولاء وود الأنصار والأتباع من جهة، وللدعاية للمذهب من جهة أخرى.
فقد كانوا لا يأخذون عشورًا من الرعية، وإذا افتقر إنسان أو استدان يتعهدونه حتى يتيسر عمله، وكل غريب ينزل في مدينتهم وله حرفة يعطى ما يكفيه من المال حتى يشتري ما يلزم صناعته من عدد وآلات، ويرد إلى الحاكم ما أخذ حيث يشاء. وإذا خرب بيت أو طاحون أحد الملاك، ولم يكن لديه القدرة على الإصلاح، أمروا عبيدهم أن يذهبوا إليه ويصلحوا المنزل أو الطاحون، ولا يطلبون من المالك شيئًا (21) .
وفي الأحساء مطاحن مملوكة لزعيمهم تقوم بطحن الحبوب للرعية مجانًا، ويدفع هو أجور العمال ونفقات الإصلاح (22) .
- تغطية النفقات:
كانت تغطية تلك النفقات وسد النقص في موارد الدولة تتم عن طريق أسلوب الغزو والنهب والسلب؛ إذ كانوا يشنون الغارات على البصرة والكوفة تارة، وعلى الحجاز تارة أخرى، ويعترضون قوافل الحجاج في طريق مكة؛ فينهبون الأموال ويسبون النساء (23 ) . ويتم كذلك فرض الإتاوات والغرامات التي كانت تدفعها مدن وقرى العراق وبلاد الشام (24) .
ومن ناحية ثانية كان الكيان القرمطي يبحث عن موارد تقوم باحتياجاته بدون أن يشعر الناس للحفاظ على ولائهم؛ فوضعوا ضريبة على المراكب التي كانت تمخر الخليج العربي، ثم ضريبة على الحجاج، وضريبة على صيادي اللؤلؤ في مياه البحرين (25) .
- التجارة:
وفي ميدان التجارة احتكرت الحركة القرمطية التجارة الداخلية؛ إذ وضع أبو سعيد الجنابي مالية جماعية بين يديه يقوم بتوزيعها على أتباعه؛ فلا يأخذ أحدهم إلا ما يعينه له؛ حيث قبض على منتجات البلد من ثمار وحنطة وشعير، واستولى على المواشي والحيوانات وعيّن لها رعاة، ومعهم قوم، لحفظها والتنقل معها على نُوب معروفة (26) .
كما احتكر القرامطة التجارة الخارجية، وفتحوا سوقًا لهم بالخارج (البصرة)، وضربوا نقودًا لهم من الرصاص لا تصرف خارج منطقة نفوذهم (27) ؛ وذلك حتى لا تتسرب الثروة العامة إلى الخارج.
- الزراعة وتنظيم أعمال الحرف:
في ميدان الزراعة قام أبو سعيد الجنابي بإصلاح أراضي المزارع وأصول النخل، ونصّب الأمناء على ذلك (28) ، وأسس ما يمكن أن يطلق عليه مصرفًا زراعيًّا لتسليف الفلاحين وتشجيعهم في أعمالهم (29) ، وكان يشتغل بالزراعة وفلاحة البساتين ثلاثون ألف زنجي وحبشي (30) .
أما أعمال الحرف والمهن فأقام العرفاء على أصحابها، وكانت الشاة إذا ذبحت يتسلم هؤلاء العرفاء اللحم ليفرقوه على من يُرسم لهم، ويدفع الرأس والكراع والبطن إلى العبيد والإماء، ويجز الصوف والشعر من الغنم ويفرق على من يغزله، ثم يدفع إلى من ينسجه عبيًا وأكسية وغرائر وجوالقات، ويفتل منه الحبال، ويسلم الجلد إلى الدباغ ثم إلى خرازي القرب والروايا بعد ذلك، وما كان يصلح منه نعالاً وخفًّا عمل منه، ثم توضع هذه المنتوجات في خزائن (31) ؛ استعدادًا لتوجيه ذلك لاقتصاد الغزو وتوظيفه في أعمال النهب والسلب.
وهكذا استولى القرامطة في البحرين والأحساء -آنذاك- على وسائل الإنتاج، واحتكروا الحوانيت والمستودعات والأفران والحمامات، واحتكروا مصادر الثروة الزراعية؛ للإمساك بزمام القوى الاقتصادية والسياسية والعسكرية والتشريعية، والتحكم في مجتمعهم وتوجيه وجهة تتفق مع الأهداف التي رسموها لحركتهم.
على الصعيد الاجتماعي:
في هذا المجال: يروى ارتباطهم بمذهب مزدك الذي كان يحل النساء ويبيح الأموال، ويجعل الناس شركاء فيهما كاشتراكهم في الماء والكلأ والنار، بذريعة استئصال أسباب المباغضة بين الناس؛ لأن ما يقع -في زعمهم- من الخالفة والبغضاء إنما هو بسبب النساء والأموال (32) .
والثغرة الخطيرة في كيان القرامطة هي مشكلة الرقيق؛ ذلك أنهم احتفظوا بنظام الرقيق وجعلوه أداة للإنتاج، وقامت دولتهم من حيث الواقع على طبقتين اجتماعيتين، الأولى: الأحرار وجلهم من المقاتلين الأعراب (33) ، والثانية: العبيد؛ إذ كان لهم في ذلك الوقت ثلاثون ألف زنجي وحبشي يشتغلون بالزراعة وفلاحة البساتين (34) .
وهذا الوضع يصطدم مع العدالة والمساواة التي كانوا ينادون بها. على أن مبدأهم -الذي يجعل ما يأخذه الفرد يتناسب وحاجتَه، بينما جعل مركزه الاجتماعي يتناسب وقدرتَه على خدمة الجموع- يذهب أدراج الرياح ويفقد مصداقيته على أرض الواقع.
وقد دفع هذا التناقص، بين الواقع الاجتماعي والبنية الفكرية للقرامطة، بعض الباحثين إلى القول بأن دولة القرامطة لم تكن دولة اشتراكية، وإنما كانت دولة تطبق رأسمالية الدولة (دولة المحاربين)، بينما صنفها آخرون دولة اشتراكية، بينما ذهب فريق ثالث إلى أن دولة القرامطة في البحرين والأحساء قامت في منطقة خضعت دائمًا للتأثير الفارسي في الإقطاع الساساني الذي عرف بنظام إقطاعيات الفرسان (35) .
على الصعيد الديني:
في مجال التدين يروى أن أبا سعيد أعفى أتباعه من الصلاة والصوم، وأصبح مرجعهم في كل شيء، ولذلك حين يُسألون عن مذهبهم يقولون: (إنا أبو سعيديون) (36) . وليس بمدينة الأحساء -آنذاك- مسجد جمعة، ولا تقام بها صلاة أو خطبة (37) .
ويؤمن القرامطة بالرجعة؛ لذا كانوا قد وضعوا على باب قبر أبي سعيد حصانًا مهيأ بعناية، عليه طوق ولجام، يقف بصفة مستمرة، معتقدين أن أبا سعيد سيركبه حين يرجع إلى الدنيا (38) .
وحين أغاروا على مكة في موسم الحج انتزعوا الحجر الأسود من مكانه ونقلوه إلى الأحساء، زاعمين أنه مغناطيس يجذب الناس إليه من أطراف العالم (39) ، وما فقهوا أن اعتدال الإسلام وعدله هما اللذان يجذبان الناس.
وفي عاصمتهم الأحساء -آنذاك- تباع لحوم الحيوانات كلها؛ الحلال والمحرمة: من قطط وكلاب وحمير وبقر وخراف وغيرها. ويسمنون الكلاب كما تعلف الخراف، ثم يذبحونها ويبيعونها لحمًا (40) .
وفي موقفهم هذا إشارة إلى استباحة المحظورات، وعدم انقيادهم للشرع في مسائل الأحكام.

في الميدان الحربي :
كان زعيمهم أبو سعيد الجنابي يجمع الأطفال الذين تعرضوا للسبي في دور خاصة، ويجعل لهم علامة يُعرفون بها لئلاّ يختلطوا بغيرهم، وينصِّب لهم عرفاء، ثم يأخذ في تدريبهم على ركوب الخيل والرماية وأساليب الفروسية، وبذلك ينشئون لا يعرفون إلا الحرب، وتصير دعوته طبعًا لهم (41) ، حتى يكون ولاؤهم له وحده.
الخاتمة :
إن تقويم حركة القرامطة بعد دراسة ظروف نشأتها وتعاليمها، وأساليبها في الدعوة، وكيانها، والنظر في أسلوب عملها ونمط حياة زعمائها، يقود إلى القول بأنها حركة باطنية إباحية هدَّامة قامت على الأشلاء والدماء، وعبثت بالقيم والأخلاق؛ فدمرت القرى والمدن، وقتلت الشيوخ والنساء والأطفال، ووصل بها الأمر إلى انتهاك حرمة الأماكن المقدسة، وقتل حجاج بيت الله الحرام.
إنها لا تختلف عن الحركات الثورية اليسارية التي شهدها العالم المعاصر؛ إذ نجد قاسمًا مشتركًا بينها وبين المنظمات السرية كالماسونية، والمذاهب الفوضوية كالشيوعية، التي تنادي بالإباحية والحرية بلا قيود، والمساواة دون النظر إلى الجنس والدين، وترى أن الدين هو العدو الحقيقي للبشرية، وأنه لا بد من العمل لتهميشه والقضاء عليه.

الهوامش :
1 ـ الطبري: تاريخ الرسل والملوك 11/62، 75، 97 (طبعة دار الفكر).
2 ـ الجامع في أخبار القرامطة، حاشية رقم 2، ص212.
3 ـ ناصر خسرو: سفرنامة ص158.
4ـ ابن الجوزي: المنتظم 12/297، 298؛ والبغدادي: الفرق بين الفرق ص227، 228.
5ـ ثابت بن قرة: تاريخ أخبار القرامطة (انظر: الجامع في أخبار القرامطة) ص16، 17.
6ـ المصدر نفسه، (انظر: الجامع ص5763).
7ـ ابن الأثير: الكامل 6/204؛ والمقريزي: اتعاظ الحنفاء ص185.
8ـ الطبري: تاريخ الرسل والملوك 10/75؛ والقاضي عبد الجبار: تثبيت دلائل النبوة 2/378.
9ـ المقريزي: المقفى 3/294.
10ـ القاضي عبد الجبار: تثبيت دلائل النبوة 2/380.
11ـ البغدادي: الفرق بين الفرق ص218؛ والحفني: موسوعة الفرق ص319.
12ـ ثابت بن قرة: تاريخ أخبار القرامطة (الجامع ص35).
13ـ القاضي عبد الجبار: تثبيت دلائل النبوة 2/384، 385.
14ـ الجامع في أخبار القرامطة ص157168.
15ـ المقريزي: اتعاظ الحنفاء ص160، 161، 166، 177، 182، 188؛ والمقفى الكبير؛ ومحمد بن مالك: كشف أسرار الباطنية، (الجامع ص222225) 3/294297.
16ـ ابن حوقل: المسالك والممالك.
17ـ ناصر خسرو: سفرنامة ص159.
18ـ المقريزي: المقفى 3/289، 290.
19ـ المصدر نفسه 3/290.
20ـ محمد علي حيدر: الدويلات الإسلامية في المشرق ص38.
21ـ ناصر خسرو: سفرنامة ص160.
22ـ المصدر نفسه ص160.
23ـ النويري: نهاية الأرب 25/176، 284، 285؛ والجامع في أخبار القرامطة ص157.
24ـ مصطفى غالب: الحركات الباطنية في الإسلام ص172.
25ـ المرجع نفسه ص172.
26ـ المقريزي: اتعاظ الحنفاء ص161.
27ـ ناصر خسرو: سفرنامة ص160.
28ـ المقريزي: اتعاظ الحنفاء ص164.
29ـ مصطفى غالب: الحركات الباطنية في الإسلام ص172.
30ـ ناصر خسرو: سفرنامة ص159.
31ـ المقريزي: اتعاظ الحنفاء ص164.
32ـ الشهرستاني: الملل والنحل 1/249.
33ـ مثل: بني الأضبط من كلاب، وبني عقيل وبني سنبر. انظر: المقريزي: المقفى الكبير 3/289؛ والطبري: تاريخ الرسل 10/71؛ وابن كثير: البداية 11/92.
34ـ ناصر خسرو: سفرنامة ص159.
35ـ سهيل زكار: مقدمة الجامع ص31.
36ـ ناصر خسرو: سفرنامة ص159.
37ـ المصدر نفسه ص160.
38ـ المصدر نفسه ص160.
39ـ المصدر نفسه ص160.
40ـ المصدر نفسه ص167.
41ـ المقريزي: اتعاظ الحنفاء ص161.

dmd39
2011-02-20, 17:55
اعلموا -أسعدكم الله- أنّ ضرر الباطنيّة على فرق المسلمين أعظم من ضرر اليهود والنصارىوالمجوس عليهم، بل أعظم من مضرّة الدهرية وسائر أصناف الكفرة عليهم، بل أعظم من ضررالدجّال الذي يظهر في آخر الزمان؛ لأنّ الذين ضلّوا عن الدين بدعوة الباطنيّة منوقت ظهور دعوتهم إلى يومنا أكثر من الذين يضلّون بالدجّال في وقت ظهوره، لأنّ فتنةالدجّال لا تزيد مدّتها على أربعين يوماً ، وفضائح الباطنيّة أكثر من عدد الرملوالقطر " الإمام الإسفرائيني.
مع سطوع شمس الإسلام وبداية إشراقها على منجاورها من الدول والإمارات، قاضيةً بذلك على نفوذ بعض النفعيين الذين كانوا يقتاتونعلى خيرات تلك الشعوب والأمم لجهلها وبعدها عن خالقها ،كما كان يفعل اليهود فيالمدينة المنوّرة واليمن، والمجوس في فارس، والرومان في بلاد الشام وشمال أفريقيا،فحين فتح المسلمون تلك البقاع وطهّروا الأرض من رجسهم ونقلوا العباد من عبادةالعباد إلى عبادة ربّ العباد، لم يرقْ ذلك لأعداء الله لأنّه بعبادة الناس لربّهمخسرانٌ لهم وانحسارٌ لنفوذهم، ولقوّة شوكة الإسلام وضعفهم، وجدوا أنّ خير أسلوبلبثّ حقدهم هو السير على درب بولس محرّف دين النصارى... ألا وهو الدخول في الإسلامظاهراً ،والعمل على نقض عُراه من الداخل... وأوّل من بدأ بذلك مؤسّس دين الرافضة عبدالله بن سبأ اليهودي الصنعاني حين ألّب الناس على أمير المؤمنين عثمان بن عفّانمُحدثاً الفتنة الشهيرة التي انتهت بمقتل عثمان ، ثمّ بدأ بتطبيق الخطوة الثانيةبالدعوة إلى سيّدنا عليّ بن أبي طالب ، وإظهار التفاني في حبّه ،وتلفيق بعض القصصوالروايات المكذوبة عن أحقّيته بالخلافة وما شابه ذلك، حتّى إنّ بعض أتباع الصنعانيألصقوا صفة الألوهيّة بعليّ والعياذ بالله، فقتلهم الخليفة عليّ وحرّقهم.
أمّا بالنسبة للمجوس فإنّهم وإن تتلمذوا على يد اليهود في الكيد للإسلام،إلاّ أنّ الفرصة لم تواتيهم، إلى أن دبّ الضعف في أطراف الدولة الإسلامية ،وانتشرالجهل بين عامّة المسلمين، عندئذ وجدوا الفرصة الذهبية للانتقام من المسلمين وإعادةأمجادهم السابقة، فأنشأوا مذاهبَ ومللاً ظاهرها الإسلام وباطنها المجوسيّة ليلبسواعلى المسلمين دينهم، ومن ذلك أنّهمقالوا:" يجب أن يوضع في كلّ مسجد مجمرة يوضع عليها البخّور "، ومقصدهم من ذلك أن يحوّلوهامن بيوت لله إلى بيوت للنار.
وإذا نظرنا خلال التاريخ الإسلامي لوجدناأنّ كلّ من أنشأ خرقاً في الإسلام كان من أحفاد اليهود أو النصارى، وأغلب مُنشئيمذاهب الباطنيّة من المجوس، قصدهم بذلك هدم الإسلام وإعادة عبادة النيران، ومن ضمنهذه الطوائف الباطنيّة، الطائفة التي نحن بصددها.
نشأة القرامطة وأهم معتقداتهم:
تشير أكثر المصادرإلى أنّ مؤسّس مذهب القرامطة هو حمدان بن الأشعس الملقّب بقرمط، وكان أكاراً منالكوفة وأصله فارسيّ مجوسيّ، وقيل صابئيّ، وكان قد دخل في بداية حياته في مذهبالإسماعيلية الباطنيّة على يد حسين الأهوازي ابن مؤسّس المذهب الإسماعيلي العبيديعبد الله بن ميمون بن ديعان القدّاح اليهودي، وقد عُرف عن حمدان شخصيّته القويّةوعلاقاته الاجتماعية الكثيرة ورأيه المقنع، وكان يعيش ضمن مجتمع يحقد على الخلافةالعبّاسية، كلّ هذه الأمور مجتمعة ساعدته على نشر مذهبه، لكنّ حمدان القرمطي سرعانما انقلب على الإسماعيليّة الباطنيّة منشئاً مذهبه الخاصّ به، كما أنشأ مركزاً لهفي الكوفة عام 277هـ أسماه دار الهجرة.
ومن هذا المركز بدأ حمدان بإرسال دعاتهالذين انتقاهم بدقّة لنشر دعوته بين جهلة الناس عامّة وبين المجوس المتستّرينوأحفاد اليهود بصورة خاصّة، ومن أشهر دعاته أخوه مأمون وزكرويه بن مهرويه الذي ورثعن أبيه كره الإسلام وأمل القضاء عليه وتأسيس دولة فارسية على أنقاضه تقوم على أساسالدين المجوسي، وكذلك كان ابن عمّ حمدان وصهره عبدان مفكّر القرامطة ، وأبو الفوارسقائد تمرّدهم عام 289، وأبو سعيد الجباني في البحرين، ومن أشهر من كتب لهم محمّد بنأحمد النسفي صاحب كتاب المحصول، وأبو يعقوب السجزي المعروف ببذاته صاحب كتاب( أساسالدعوة وكتاب تأويل الشرائع وكتاب كشف الأسرار) لاحظ أن للخميني كتاب بنفس الاسم.
عــقــيــدتــهــم:

اعتمدتعقيدة القرامطة كغيرها من فرق الباطنيّة على إخفاء ما يؤمنون به وإظهار أنفسهم علىأنّهم مسلمون ليسهل عليهم الاندماج في المجتمع والدعوة إلى دينهم، حتّى إذا وثقوامن تابعهم أطلعوه على خفايا عقيدتهم، وهم يتأوّلون الأحكام الشرعية على ما يوافقضلالاتهم وأهوائهم، فيتأوّلون قوله سبحانه وتعالى ": وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَالْيَقِينُ"الحجر: 99 على أنّه من عرفالتأويل فقد أتاه اليقين، وعليه فمن عرف معنى العبادة فقد سقط عنه فرضها، وأوّلواكذلك أركان الشريعة: فالصلاة عندهم موالاة إمامهم، والحجّ زيارته وإدمان خدمته،والصوم هو الإمساك عن إفشاء سرّ الإمام لا الإمساك عن الطعام والشراب، والمرادبالزنا عندهم إفشاء سرّهم بغير عهد وميثاق.
وقد اختلف المؤرّخون والمصنّفونفي أصل مذهبهم، فمنهم من قال بأنّهم صابئة، ومنهم من ذكر بأنّهم من المجوسالإباحيّة أتباع فزدك المؤبد ،كما ذكر ابن حزم الظاهري حين وصفهم فقال: ومن هذهالأصول الملعونة حدثت الإسماعيلية والقرامطة، وهما طائفتان مجاهرتان بترك الإسلامجملة، قائلتان بالمجوسيّة المحضة، ثمّ مذهب مزدك المؤبد... وكان يقول بوجوب تواسي(تساوي) الناس في النساء والأموال.
وقد نسبهم الإمام عبد القاهر الإسفرائينيإلى الدهرية الزنادقة،فيقول: " الذي يصحّ عندي من دين الباطنيّة أنّهم دهرية زنادقة ، يقولون بقدم العالم ، وينكرونالرسل والشرائع كلّها، لميلها إلى استباحة كلّ ما يميل إليه الطبع ".
ويستدلّ علىقوله برسالة عبد الله بن الحسين القيرواني إلى سليمان بن الحسين بن سعيد الجَنَّابيفي كتابهم ( السياسة والبلاغ الأكيد والناموس الأعظم ) يوصيه فيها: ادع الناس بأنتتقرّب إليهم بما يميلون إليه، وأوهم كلّ واحد منهم بأنّك منهم، فمن آنست منه رشداًفاكشف له الغطاء وإذا ظفرت بالفلسفي فاحتفظ به فعلى الفلاسفة مُعَوَّلُنا، وأناوإيّاهم مجموعون على ردّ نواميس الأنبياء، وعلى القول بقدم العالم لولا ما يخالفنافيه بعضهم من أنّ للعالم مدبّراً لا نعرفه...
وأنا أميل إلى أنّهم قد جمعوابين الدهرية الزنادقة والمجوسية الإباحية ،فقدقال القيرواني في آخر رسالة له إلى سليمانبن الحسن: " وما العجب من رجل يدّعي العقل ثمّيكون له أخت أو بنت حسناء وليست له زوجة في حسنها يحرّمها على نفسه وينكحها منأجنبيّ، ولو عقل الجاهل لعلم أنّه أحقّ بأخته وبنته من الأجنبي، وما وجه ذلك إلاّأنّه صاحبهم حرّم عليهم الطيّبات ،وخوّفهم بغائب لا يعقل، وهو الإله الذي يزعمونه،وأخبرهم بكون ما لا يرونه أبداً من البعث من القبور والحساب والجنة والنار حتّىأتعبَهم بذلك عاجلاً، وجعلهم له في حياته ولذرّيته من بعد وفاته خَولاً (عبيداً أوخدماً) واستباح بذلك أموالهم بقوله: " لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّاالْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى" [الشورى: 23]. فكان أمره معهم نقداً وأمرهم معه نسيئة، وقد استعجل منهم بذل أرواحهم وأموالهم علىانتظار موعد لا يكون، وهل الجنّة إلاّ هذه الدنيا ونعيمها، وهل النار وعذابها إلاّما فيه أصحاب الشرائع من التعب والنصب في الصلاة والصيام والجهاد والحجّ..
وأنت وإخوانك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس، وفي هذه الدنيا ورثتمنعيمها ولذّاتها المحرّمة على الجاهلين المتمسّكين بشرائع أصحاب النواميس، فهنيئاًلكم على ما نلتم من الراحة عن أمرهم ".
ومما ذكرت آنفاً يتبيّن أخذهمبعقيدة المجوسيّ من ناحية زواج الأخت والبنت، واتّباعهم لمذاهب الدهرية الزنادقة مننفي النبوّة والرسالة والشرائع.
نـشـرمـذهـبـهـم:


لقد استغلّ القرامطة -كغيرهم من الحركات الباطنيّة الهدامة- الظروف المحيطة بهم، خاصّة وأنّ بدايةدعوتهم وافقت القضاء على حركة الزنج، ولقد كانت الدولة الإسلاميّة آنذاك في بدايةضعفها وتسلّط العسكر عليها من ناحية، وانتشار الشعوبيّون في أرجائها، وعمّ الجهل فيتعاليم الإسلام بين أبنائها، ولقد ركّز القرامطة في دعوتهم على الأراضي الخصبةبنظرهم، كالموالي والعبيد الحاقدين على أسيادهم والأُجراء والمزارعين الناقمين علىأصحاب المهن والأراضي، لاعتقادهم بأنّهم لا يعطونهم ما يستحقّونه لقاء كدّهموتعبهم، ولكي يستقطبوهم ابتدعوا فكرة إشاعة المال وشيوعيّة الأراضي، وكذلك بثّوابين الشعوبيّين الحاقدين على دولة الإسلام وعدهم بالقضاء على المسلمين وسلطانهموإعادة الملك لهم ،سواءً كانوا مجوساً أو هنوداً أو يهوداً ونصارى... وبقي عندهمالعنصر الرئيسي ألا وهو الشباب، الوقود الأساسي لكلّ تمرّد وثورة.. ووجدوا أن خيرأسلوب لجذبهم هو بثّ الفكر الانحلالي وجذبهم بالشهوات.. فاستباحوا الزنا والخمرواللواط وسائر المحرّمات، وجعلوا النساء مشاعاً بينهم، وأباحوا نكاح الأقارب منأخوات وبنات وما شابه هذا، بالإضافة إلى التخطيط الدقيق والإرهاب والبطش.. كلّ ذلكجعل العنصر الشبابي ينجذب إليهم انجذاب الفراش للنار...
وقد اعتمدوا في نشردعوتهم على مراحل وأقسام أسموها - كما ذكرها الإمام عبد القاهر الإسفرائيني- علىالنحو التالي: التفرّس، والتأنيس، والتشكيك، والتلقين، والربط، والتدليس، والتأسيس،والمواثيق بالأيمان والعهود، وآخرها الخلع والسلخ.
فالتفرّس: أن يعرف الداعي من يدعو وكيف يدعوه، مميّزاً من يطمع في إغوائه ممّن لا يطمع فيه،وقد قالوا في وصاياهم لدعاتهم: لا تضعوا بذرتكم في أرض سبخة، ولا تتكلّموا في بيتفيه سراج، يقصدون من عنده علم، ومن شروط الداعي عندهم أن يكون عالماً بأنواع الناسوأصنافهم واختلاف مذاهبهم ونقاط ضعفهم والأبواب التي يدخل على كلّ واحد منهم.. فمنكان مشتغلاً بالعبادة حبّبها إليه وحضّه عليها، ثمّ سأله عن معاني العبادات وعللالفرائض، وشكّكه فيها حتى أبدعها وأدخله مذهبه، ومن كان رافضيّاً جاراه في تعظيم آلالبيت وحبّ عليّ ويطعن في أبي بكر الصديق وعمر بن الخطّاب وخيار الصحابة، ثم يبغضهفي بني تميم لكون الصدّيق منهم وبني عديّ لانتساب الفاروق إليهم، ويبغض في بنيأميّة لكون عثمان ومعاوية رضي اللـه عنهما منهم، وكذلك الأنصار لعدم وقوفهم مع عليّومطالبتهم بحقّه في الخلافة.. ثمّ يدخل عليه من باب الولاية والتأويل حتّى يخرجه منالدين.
وإن رآه ممّن يحبّ الشيخان مدحهما عنده ورفع من شأنهما وذكر له بأنّصحبة الرسول لأبي بكر في الغار كان القصد منها تعليمه التأويل، فإذا سأله المسكينعن التأويل يكون قد وقع في المصيدة، ووصل درجة التأنيس.. وأمّا إن كان المراد جذبهمن أهل الفسق والمجون، فإنّه هو الصيد السهل، فيذكر أمامه قول الشاعر الماجن:
أَتُركَلذَّة الصهباء صرفاً لما وعدوه من طم و ضمر **حياةٌ ثمّ موتٌ ثم نشرٌ حديث خرافةيا أمَّ عمرو

ويشجّعونه على الانغماس فيالمعاصي واستباحة الحرمات وإنكار البعث والثواب والعقاب وإنكار اللـه والخروج منالإسلام.
ثم تأتي المرحلة الثانية،التأنيس: وهو التفرّس تقريباً، إلاّ أنّه بعد أن يزيّنللصيد مذهبه ويشكّكه فيه لما يسأله عن التأويل.. فإذا سأله المدعو عن علم ذلك أجابهبأنّ علمه عند الإمام.. ويكون قد انتقل إلى مرحلة التشكيك، وهو الوصول بالضحية إلىالاعتقاد بأنّ المراد بالفرائض والظواهر شيئاً آخر غير معناها اللغوي أو الشرعي.. ينهون عليه ترك الفرائض وارتكاب الموبقات، ويكون قد أصبح جاهزاً لمرحلة الربط،والربط عندهم طلب المدعوّ إلى معرفة تأويل أركان الشريعة، فيتأوّلونها به، فإنقبلَها على الوجه الذي دفعوها إليه، وإلا بقي على الشكّ والحيرة فيها.
أمّاالتدليس.. فهو قولهم للضحية الجاهل : إن الظواهرعذاب وباطنها فيه الرحمة.. ويستدلّون بقوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌبَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِالْعَذَابُ} [الحديد: 13]، وإنّ لكلّ عبادة أوأمر ظاهراً هو كالقشر وباطنه كاللّب، واللبّ خير من القشر، فإذا سألهم عن تأويلباطن الباب.. طلبوا منه وأخذوا منه المواثيق والأيمان المغلّظة كالطلاق والعتاق،وتسبيل الأموال والبراءة من اللـه ورسوله.. إلى آخر هذه الأيمان والنذور.. بأن لايحدّث أحداً بما سيخبرونه إلاّ بإذنٍ من الإمام صاحب الزمان، أو المأذون له فيدعوته، وأن يستر أمرهم ويحمي جماعتهم.
فإن فعل المقرّر به ذكروا له حقيقةدينهم واعتقادهم، فإن قبل الجاهل مذهبهم فقد انسلخ من الملّة وخلع الإسلام من عنقه،وإن رفض الدخول في عقيدتهم لعدم تقبّله لها واستهجانه بها لم يستطع أن يذيع سرّهمويدلّ عليهم، بل إنّه يكتم أمرهم، وقد يساعدهم، وذلك لما أخذوه منه من أيمانومواثيق ونذر يظنّ لجهله أن لا فكاك منها ولا يمكن حلّها.. وبذلك يضمن القرامطة عدمإفشاء سرّهم حتّى وإن لم يقبل المغرّر به الدخول في مذهبهم ودينهم

لقاء الجنة
2011-03-21, 13:26
http://images.lakii.com/images/Oct10/summer2010_sigpic213531_5.gif

أبو عبد الإله السنوسي
2011-05-13, 11:23
لكل شيء إذا ما تم نقصان ......................... فلا يغر بطيب العــيــش إنسانُ
هي الأمور كما شاهدتها دول …………..….... من سرهُ زَمنٌ ساءته أزمانُ
وهذه الدار لا تُبقي على أحد …………………….... ولا يدوم على حال لها شانُ
يُمزق الدهرُ حتماً كلّ سابغة ............................ إذا نبت مشرفيات وخرصانُ
وينتضي كل سيف للفناء ولو ……………..... كان ابن ذي يزنٍ والغمد غمدانُ
أين الملوك ذوي التيجان من يمن ………….... وأين منهم أكاليلٌ وتيجانُ؟
وأين ما شادهُ شدّاد في إرم .................... وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ؟
وأين ما حازه قارون من ذهبٍ ........................... وأين عادٌ وشدادٌ وقحطانُ؟
أتى على الكل أمر لا مرد له ....................... حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
وصار ما كان من ملك ومن ملكٍ ……..... كما حكى عن خيال الطيف وسنانُ
فجــــائع الدهر أنواع منوعةٌ ............... وللزمان مــســــراتٌ وأحزانُ
دار الزمان على (دارا) وقاتله ........................... وأم كسرى فما آواه إيـــوانُ
كأنما الصعب لم يسهل له سببٌ ………….………..... يوماً ولا ملك الدنيا سليمانُ
وللحوادث سلــوان يسهلها .......................... وما لما حـــــلَّ بالإسلام سلوانُ
دهى الجزيرة أمر لا عزاء له …………….... هوى له أحــــدٌ وانهدّ ثهلانُ
أصابها العين في الإسلام فارتأزت ……...... حتى خلت منه أقطار وبلدانُ
فاسأل (بلنسية) ما شأن (مرسية) ................... وأين (شاطبة) أم أينَ (جيان)؟
وأين (قرطبة) دار العلوم فكم ....................... مـن عالم قد سما فيها له شان؟
وأين (حمص) وما تحويه من نزه ……………....... ونهرها العذب فياض وملانُ
قواعدٌ كن أركان البلاد فما ........................... عسى البقاء إذا لم تبق أركــــانُ
تبكي الحنيفية البيضاء من أسف ...................... كما بكى الفراق الألف هيمانُ
على الديار من الإسلام خالية ........................... قد أقفرت ولها بالكفر عمرانُ
حيث المساجد قد صارت كنائس مـا …………...... فيهن إلا نواقيس وصلبانُ
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة .................... حتى المنابر ترثي وهي عيدانُ
يا غافلاً وله في الدهر موعظة ....................... إن كنتَ في سنةٍ فالدهر يقظانُ
وماشياً مرحاً يلهيه موطنه .................... أبعد (حمص) تغر المرء أوطانُ !!!؟
تلكَ المصيبةُ أنْسَـــتْ ما تَقَـدَّمَه….... ومــالهَا مــن طوالِ الدَّهـرِ نِسيــانُ
يا راكبينَ عــتاقَ الخيلِ ضــامرةً ……....... كـــأنَّها في مجـــالِ السَبـقِ عُقبانُ
وحاملينَ سيـوفَ الهنـدِ مــُرهَفةً …... كــأنَّها في ظَـلامِ النَّقــعِ نــيرَانُ
أَعنــدكُم نبأٌ مـــن أهــلِ أنــدلُسٍ .................. فقد ســرى بحــديثِ القــومِ رُكبــانُ
كَم يستغيثُ بنا المستضعفــونَ وهُم ..... قَتلـى وأســرَى فمـا يهتــزُ إنسانُ
لماذا التـــقاطعُ في الإســلامِ بينكمُ ………...... وأنتــــم يا عبــادَ اللــهِ إخْــــوانُ
يا مــن لـــذلَّةِ قــومٍ بعدَ عــزَّتِهِم ......... أحـالَ حـالهُمْ جــورٌ وطُغيـانُ
بالأمــسِ كانُوا مُـلُوكاً في مــنازلهِم …...... واليـومَ هـم في بــلادِ الكفـرِ عُبدانُ
فـلو تــراهُم حَيَارى لا دليـلَ لهـم .......... عليهِـمْ مِـن ثيـابِ الـذُّلِ ألوَانُ
يا ربَّ أمٍ وطفــلٍ حِيــلَ بينهُـــما …………..... كـمـــا تُــفــــرَّقُ أرواحٌ وأبـدانُ
وطفلـةٌ مثـلَ حُسـنِ الشمـسِ إذ ........... طلعـت كأنَّما هي ياقــوتٌ وَمَرجانُ
يقودُها العِلْـجُ للمكــروُهِ مكــرَهةً ……...... والعــــينُ باكيـــةٌ والقَـلـبُ حيـرانُ
لمثلِ هـذا يبكِي القـلبُ مِن كَمـدٍ......إن كـانَ في القَلـبِ إســلامٌ وإيمانُ

أبو بقاء الرندي في رثاء الأندلس

أبو عبد الإله السنوسي
2011-05-13, 11:24
يا حسرة على دنيا............