المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خروج الشباب للشارع: السياسة هي السبب


بلقاسمي الجزائري
2011-01-08, 17:48
خروج الشباب للشارع: السياسة هي السبب
التاريخ: الجمعة 07 يناير 2011

| بقلم الدكتور عبد الرزاق مقري
إن ما يحدث في الجزائر هذه الأيام من اضطرابات اجتماعية في عدد غير مسبوق من مناطق الوطن في آن واحد يضع الجزائر في حالة كبيرة من الحرج وفقدان الحجة أمام الخصيم والصديق . لقد صعب على الكثيرين فهم ما يحدث بالنظر لحالة اليسر المالي غير المسبوق الذي تعرفه الجزائر منذ الاستقلال وبالنظر للتقارير والمؤشرات الاقتصادية التي لم تنفك مؤسسات الدولة المختلفة على إعلانها بنوع من الزهو والفخر.
وأستطيع أن أجزم بأن هذه الاضطرابات يمكنها أن تكون خيرا وبركة على الوطن إذا تلقف أصحاب القرار رسالتها بإيجابية ومسؤولية وعكفوا على دراستها بالاعتماد على منهج النقد الذاتي ولوم النفس بدل التنصل من الأمانة بتوجيه اللوم للغير وتفسير الأمور تفسيرا تآمريا أو تسفيه من يقوم بهذه الاحتجاجات واعتبار الأحداث عابرة ليس لها غد ولا تعبر عن أي حقيقة اقتصادية واجتماعية وسياسية. لا تدل التصريحات والتحليلات الأولى التي نسمعها في التلفزيون الجزائري أو في التحاليل غير المعلنة لبعض القريبين من الحكم بأن الرشد قائم في الموقف من هذه الاضطرابات لدى المسؤولين، البعض يقول بأن ثمة مؤامرة على رئيس الجمهورية والبعض يقول بأن هناك مجموعات مصالح تحرك الشارع والبعض يقول بأنها مجرد تحركات شبانية آنية بفعل العدوى مما يحدث في تونس. لا أريد أن أعلق على هذه الأفكار والمواقف ولكن أقول مهما كان سبب هذا التحريك ما كان ليكون له أثر لولا وجود أسباب ذاتية تتعلق بكل فرد وكل شاب ممن خرجوا للشارع وأضرموا النيران وأحرقوا المؤسسات وشتموا وضربوا ورشقوا بالحجارة كمن يطعن نفسه بخنجر دون هوادة.
إن التنبيهات لخطورة الوضع الاجتماعي ليست وليدة هذا الحراك الاجتماعي وليس هذا الحراك هو أول التنبيه وليس ما أقوله في هذا المقال هو أول ما يقال للتحذير والتذكير، فقد بدأت تحركات الشارع منذ فترة غير يسيرة في أنحاء مختلفة من الوطن أشارت لها وسائل الإعلام دون تفريط، وقد سبق لكثير من السياسيين والمحللين الاقتصاديين أن نبهوا بأن الأوضاع ليست على ما يرام مهما كانت الانجازات الكبرى التي نراها بأعيننا ومهما كانت التقارير والأرقام التي نسمع بها ولا نستطيع التأكد من دقتها.
لا يتطلب الأمر تعمقا في علم الاقتصاد والسياسة ليفهم الإنسان بأن المنظومة الاقتصادية في الجزائر متهالكة ولا تنبئ بأي حال من الأحوال بغد مشرق للوطن في مجال الرفاهية والتطور والازدهار. يستطيع أي مهتم له حد أدنى من الثقافة العامة أن يعلم بأن البحبوحة المالية الكبرى التي تعيشها الجزائر لا تحقق تنمية اقتصادية يستفيد منها المواطن العادي ولا تمثل للجزائر فرصة للخروج من التخلف والتبعية ولا توفر للبنية الاجتماعية والسياسية للوطن حماية دائمة.
لا شك أن هذا الإقرار لا يُعجب كثيرا من الأصدقاء والزملاء في الحكومة والبرلمان وفي بعض الأحزاب والمنظمات ولكنهم يعلمون بأن هذه هي الحقيقة، الحقيقة التي يعبرون عنها في ما بينهم ولا يحبون أن تُتداول بين الناس والتي يجب أن يعلنوا عنها اليوم حبا لهذا الوطن ورغبة في التصحيح والترميم. الكل يعلم بأن اقتصادنا اقتصاد ريعيٌ وأن المداخيل التي يعيش بها الوطن هي مداخيل البترول والغاز وأن المشاريع الكبرى المفتوحة على مصراعيها في مختلف أنحاء الوطن إنما هي من أموال المحروقات، وأن المواد الأساسية التي نستهلكها هي مواد اشتريت بأثمان غالية بالعملة الصعبة من أموال المحروقات ثم تباع للجزائريين مدعمة مخفضة، وأن الأجور التي يأخذها العمال الجزائريون أغلبها من هذه الأموال كذلك وحينما تَرتفع الأجور تحت ضغط المطالب فهو ارتفاع لا يعبر عن تنمية اقتصادية حقيقية تُمكّن المواطن من مواجهة التضخم وارتفاع الأسعار. ومهما حاولت السلطات الرسمية شراء السلم المدني بهذه التصرفات غير الرشيدة فإنها لن تفلح في ذلك طويلا لأنها بكل بساطة مهما تجمع لها من كنوز لن تستطيع توزيع المبالغ المالية في الطرقات للشباب البطال الذي يتنامى توافده على سوق العمل بشكل كثيف و متسارع. لا يشك أحد أن الشباب الذي خرج للشارع لا يحمل أكثرُهم مسؤولية القفة في أسرهم ولكنهم آدميون يشعرون بما يشعر به آباؤهم ولهم كرامة مخدوشة وآفاق مسدودة بعدم توفرهم على فرصة العمل وسيبقون قنبلة موقوتة في كل حين ما لم تحل مشاكلهم.
إن السبيل الوحيد لتفكيك هذه القنبلة وامتصاص هذا الطلب المتنامي للشغل هو تطوير وتوسيع نسيج المؤسسات الاقتصادية المتنوعة الفلاحية والصناعية والخدمية، التي بدورها توفر إنتاجا اقتصاديا من السلع والخدمات يزيد للناتج القومي الإجمالي قيما مضافة تحررنا من التبعية للبترول والغاز وتمنع من تبذير هذه الثروة على حساب الأجيال المستقبلية وتُحوَّل إلى سيولة مالية دائمة لتشجيع الاستثمار بما يجعل دائرة النجاح الاقتصادي ذات حلقات متكاملة يخدم بعضها بعضا.
إن كل المخططات التي استعملت من الاستقلال إلى اليوم فشلت في الالتزام بهذا النهج، ومما زاد الأمر سوءا خيبة الأمل التي صُدم بها الجزائريون في السنوات الأخيرة بالنظر لما كان متوقعا حيال الوفرة المالية والبرامج والمخططات التي أُعلن عنها والتي لم تستطع هي الأخرى أن تحقق النجاح في الاستثمار الداخلي والخارجي ولم تقدر على إنقاذ المؤسسات العمومية ولم تصل إلى إنشاء مؤسسات صغيرة ومتوسطة وكبيرة بالقدر الذي يخلق الثروة ويوفر مناصب شغل دائمة ومجدية للشباب البطال. ولن يجد أحدُنا صعوبة في فهم سبب هذه الإخفاقات إذ حينما تكون المُقدمات متكررةً تكون النتائج متماثلة. فالنظام الذي يقود البلد هو ذات النظام الذي يقوده من الاستقلال إلى هذا اليوم، تتغير والوجوه والأدوات الحاكمة ولكن جوهر الحكم وعقلية التدبير هي نفسها، إنما هي أحادية دائمة مستأثرة بالقرار ومغترة بالسلطان ومستهزئة بقدرات الشركاء في الوطن. وصدق الله العظيم إذ يقول: (( ولو دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)).
إن الذي ينقص الجزائر من الاستقلال إلى اليوم هي الرؤية الاقتصادية والتدبير الراشد للحكم ومقدرات البلد، لم يُرزق البلد إلى اليوم بحكام اهتموا بمستقبله وخططوا لنجاحه فعالجوا نقاط ضعفه وثمنوا نقاط قوته واغتنموا الفرص المتاحة له وتصدوا للتهديدات التي تحيط به وبينوا المجالات التي يستطيع أن يتفوق فيها وحددوا أجلا لنهضته وانضبطوا بما قرروه ورسموه. ولا يستطيع أحد ملكَ السلطانَ حقا في الجزائر أن يَجد لنفسه عذرا، فقد وُجدت في عصرنا هذا تجارب انطلقت من ظروف أصعب من ظروفنا وبإمكانيات أقل من إمكانياتنا وصنعت المعجزة، فالماليزيون كانوا في نفس المستوى الاقتصادي الذي كنا فيه في الثمانينيات ولكنهم حينما قرروا بأنهم سيكونون ضمن الدول الصناعية الكبرى في خمسة عشر سنة كانوا كما أرادوا، وحزب العدالة والتنمية حينما استلم الحكم وجد بلدا مفلسا راكعا لصندوق النقد الدولي وممزقا بفتنة انفصالية مع الأكراد لم تنته، وأمام خصوم شرسين في الداخل والخارج لا قبل له بهم، فاستطاع في خمس سنوات فقط بين 2002 إلى 2008 أن يجعل معدل دخل الفرد التركي يقفز من 3300 دولار إلى 10000 دولار وأصبحت الفجوة بين أعلى دخل ل 20% من المجتمع التركي وأقل دخل ل %20 منه تتدنى إلى 7% فقط والصادرات التركية تزيد من 30 مليار دولار إلى 130 مليار دولار والناتج المحلي الإجمالي يقفز من 181 مليار دولار إلى 400 مليار دولار.
ولو أردنا أن نعرف سبب هذا التخبط الاقتصادي في بلادنا فسنجده في أروقة السياسة لا غير، السياسة هي السبب. إن جوهر السياسة منذ فجر الزمن مرتبط بخدمة المصلحة العامة ولا مبرر لوجود حكم وتنافس على السلطة إلا لخدمة الوطن والمواطنين الذين يحكمهم الحاكم، وهذه الغاية غائبة في كثير من البلدان ومنها بلدنا الجزائر للأسف الشديد. لا تعذر الأحزاب والقوى المتنافسة على السلطة في البلاد المتقدمة إلا لأنها تحمل مع رغبتها للوصول للسلطة برامج وأفكار تخدم بها من تريد أن تحكمهم فإن نجحت في تحقيق وعودها بقيت في فضاء الحكم والسياسة وإن عجزت سقطت بإرادة المحكومين وقد تتوارى هذه الأحزاب كلية عن المشهد السياسي إذا استمر عجزها وقلة كفاءتها فيدفع هذا الحال السياسي إلى بروز الإبداع وصعود المبدعين الذين تحيى بهم الأوطان وتُصنع بهم الحضارات. لا يوجد شيء من هذا في جزائرنا، لا يجرؤ أحد أن يدعي بأن الأحزاب عندنا تتنافس على الأفكار والبرامج وسبب ذلك يرجع أساسا لاانغلاق الأفق السياسي واستحالة تحقيق التداول على السلطة بإحكام أصحاب القرار قبضتهم على كل ما يؤدي لذلك - خلافا لما يُعلن في القوانين والدساتير - من تزوير انتخابي وانحياز إداري وتوجيه لمسالك الثروة وتحكم في وسائل الإعلام وإعدام للمجتمع المدني وترجيح للموازين السياسية بأيادي خفية بعيدا عن الموازين الحقيقية في المجتمع فيؤدي هذا إلى بروز طبقة سياسية يائسة أو تابعة أو مترددة لا يشتغل أي منها بالفكر والإنتاج والإبداع.
والنتيجة الحتمية في الأخير هي تفرد أناس قليلين بالحكم والقرار في كل المستويات منهم من هو معروف ومنهم من هو خفي لا يشعرون بالحاجة للإبداع والتطوير ما دامت الثروة والسلطة بيدهم وإذا انفجر الوضع وجدوا أنفسهم وجها لوجه مع الفئات المتضررة بلا وسائط مجتمعية ذات مصداقية من جمعيات ومنظمات ونقابات وأحزاب ونخب، فيلجؤون إلى التفسير التآمري والبحث من وراء الأحداث وهم يعلمون بأن الاضطرابات الاجتماعية لا يستطيع أن يحركها أحد حينما يكون المجتمع عامرا بالأمن والعدل والرفاه وأن التحكم فيها في مرحلة من المراحل لن ينهيها إلى الأبد ما دامت أسبابها حاضرة.

الجزائر في 07 يناير 2011م
د.عبد الرزاق مقري
نائب رئيس حركة مجتمع السلم