عزالدين
2007-10-14, 15:21
حصار نوهزل.. الطريق لوسط أوروبا
بلغت الدولة العثمانية في عهد السلطان "سليمان القانوني" (926-974هـ) أعلى درجات القوة والكمال؛ حيث امتدت رقعتها، وبسطت نفوذها في قارات العالم القديم: آسيا، وإفريقيا، وأوروبا، ونعمت بالرخاء والطمأنينة، وازدهرت فيها العلوم والفنون، وارتقت العمارة والبناء، وتقدمت النظم الداخلية للدولة؛ نظرًا للقوانين التي سنَّها السلطان سليمان، الذي اشتهر بسليمان القانوني لأجلها.
ثم تعاقب بعده سلسلة من السلاطين، كان بعضهم قويَّ الهمة، عظيم الإرادة، شديد البأس، حريصا على الحفاظ على قوة الدولة وهيبتها، وكان بعضهم الآخر ضعيف النفس، خائر العزيمة، يميل للراحة والخلود إلى الدعة والسكينة، من هنا بدأ الوهن والضعف يتسربان إلى جسد الدولة رويدًا رويدًا، حتى كادا يعصفان بها، ويهددان مكانتها.
سلطان في السابعة
في وسط جو من العواصف والقلاقل التي أحاطت بالدولة من الداخل والخارج تولى "محمد خان الرابع" منصب السلطنة في (رجب 1058هـ = أغسطس 1648م) خلفًا لأبيه السلطان "إبراهيم"، الذي لقي مصرعه على يد الإنكشارية في ثورة من ثوراتهم العاصفة التي كانت تتجدد من حين إلى آخر.
كان السلطان "محمد الرابع" حين جلس على عرش الدولة في السابعة من عمره، لا يقوى على مباشرة سلطته وإدارة الدولة، فتولت مهمته جدته "كوسم مهبيكر"، وأصبحت نائبة السلطنة، واستمرت فترة نيابتها ثلاث سنوات، وأطلق المؤرخون على هذه الفترة من عهد السلطان محمد "سلطنة الأغوات" حيث سيطرت الإنكشارية على مقاليد الأمور في البلاد التي مرت بفترة عصيبة من حياتها، مخالفين بذلك أحكام الدولة، ومتجاوزين سلطة الحكومة.
لم يكن عمر السلطان "محمد الرابع" يمكنه من مباشرة سلطاته حتى بعد وفاة جدته، فتولت أمه "خديجة تارخان" نيابة السلطنة، وكانت صغيرة السن، في الرابعة والعشرين من عمرها حين تولت نيابة السلطنة، وتتمتع بذكاء شديد، وحرص على مصالح الدولة العليا؛ فاهتمت بالبحث عن الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) الذي يمكن أن تعتمد الدولة عليه؛ لكنها لم تجد بغيتها؛ فقد تعاقب على تولي هذا المنصب كثيرون من كبار رجال الدولة، عجزوا جميعًا عن الخروج بدولتهم من محنتها، حتى رشح لها مستشاروها الوزير "محمد باشا الشهير بكوبريللي"، وكان سياسيًّا ماهرًا، ورجل دولة يعتز بنفسه؛ فاشترط لقَبول هذا المنصب أن تُعطَى له الصلاحيات الكاملة لمباشرة منصبه، دون تدخل من أحد؛ فقبلت نائبة السلطنة، ولم يسبق في النظام العثماني أن يضع الوزير شروطًا لقَبول الصدارة العظمى، وباشر "كوبريللي" عمله في (1067هـ = 15 من سبتمبر 1656م)، وأعلن أن السلطان قد بلغ سن الرشد؛ فانتهت بذلك فترة نيابة أمه التي استمرت ثماني سنوات.
عائلة كوبريللي
نجح الصدر الأعظم في الفترة التي تولاها في ردع الإنكشارية، وألزمهم الهدوء والطاعة، والتفرغ لعملهم باعتبارهم جنود الدولة المكلفين بحمايتها والدفاع عنها، وليس لهم حق التدخل في إدارة شئون الدولة، واستطاع فك الحصار الذي ضربه "البنادقة" باحتلالهم بعض المواقع عند مدخل "الوردنيل"، وفرضهم الحصار على المواد التموينية الداخلة إلى الدولة؛ فارتفعت الأسعار، وتدهورت الحالة الاقتصادية، وتمكن من ردِّ اعتبار الدولة العثمانية في عَلاقتها مع بعض الدول الأوروبية.
وبعد وفاته في سنة (1072 = 1661م) خلفه ابنه "أحمد باشا كوبريللي"، وكان في السادسة والعشرين من عمره، وهو يُعَدُّ أصغر صدر أعظم في تاريخ الدولة العثمانية؛ لكنه كان على دراية كاملة بشئون أمور الدولة الداخلية والخارجية، نتيجة لتقلده عددًا من المناصب المهمة في الدولة، مثل إمارة الشام التي أصلح كثيرًا من أمورها بعد أن كانت مختلة النظام، كثيرة الفتن، وحين حلَّ المرض بوالده الصدر الأعظم ناب عنه في إدارة شئون الدولة.
كرس "أحمد كوبريللي" جهوده إلى الأمور الخارجية وخوض ميادين الجهاد، وترك متابعة الأمور الداخلية- وهو بها جدير- إلى "قرة مصطفى باشا"، وبدأ عهده بإعلان الدولة العثمانية الحرب على "النمسا"، بعد نقضها لمعاهدة "سيتفاتوروك" التي أُبرِمَت بين الدولتين، وبنائها قلعة حربية على الحدود بينهما، وعدم هدمها لها رغم إخطار الدولة العثمانية للنمسا بأن هذا العمل مخالف لبنود المعاهدة.
استسلام نوهزل
تحرك الصدر الأعظم "أحمد باشا كوبريللي" من "أدرنة"، ووصل إلى "المجر" على رأس جيش كبير، يبلغ نحو مائة وعشرين ألف جندي، ومزود بالمدافع والذخائر المحملة على ستين ألف جمل وعشرة آلاف بغل، ودخل "سلوفاكيا" ضاربًا كل الاستحكامات العسكرية التي كانت في طريقه، متجهًا إلى قلعة "نوهزل"، وهي تقع شمال غرب "بودابست"، على الشرق من "فيينا" بنحو 110كم، ومن "براتسلافيا" بنحو 80كم، وقد حصّنها الألمان، وجعلوها فائقة الاستحكام لكي تصبح أقوى قلاع أوروبا، وبدأ الجيش العثماني في حصارها في (13 من المحرم 1074هـ = 17 من أغسطس 1663م).
واستمر حصار العثمانيين للقلعة (37) يومًا؛ ما اضطر قائد حامية القلعة إلى طلب الاستسلام، ووافق الصدر الأعظم على ذلك؛ بشرط جلاء الحامية عن القلعة بغير سلاح ولا ذخائر، وقد أحدثت هذه الحملة دويًّا هائلاً في أوروبا، وأدخلت الرعب والهلع في قلوب ملوكها عامة. وبعد استسلام هذه القلعة العظيمة استسلمت حوالي (30) قلعة نمساوية.
وترتب على هذا الفتح العظيم أن تقدم "أحمد كوبريللي" بجيوشه فاتحًا إقليمي "مورافيا" (في تشيكوسلوفاكيا)، و"سيليزيا" في وسط أوروبا، وباتت "فيينا" عاصمة النمسا مهددة بالسقوط في أيدي المسلمين؛ ما دعا إمبراطور النمسا إلى طلب وساطة البابا "إسكندر الرابع" لدى "لويس الرابع عشر"، ملك فرنسا بقصد مساعدته، وكانت فرنسا أكبر أعداء إمبراطور النمسا؛ فأرسل له ملك فرنسا فرقة ممتازة مؤلفة من 5000 جندي.
غير أن هذا التحالف لم يثنِ الصدر الأعظم عن عزمه؛ فواصل تقدمه بجيوشه، ودارت بينهما عدة معارك، انتهت بتوقيع معاهدة صلح بين الدولتين، كان من أهم بنودها أن تدفع النمسا للعثمانيين غرامات حرب رمزية، قدرها 200000 سكة ذهبية، وأن تبقى كافة القلاع التي فتحتها الجيوش العثمانية تحت سيادته..
بلغت الدولة العثمانية في عهد السلطان "سليمان القانوني" (926-974هـ) أعلى درجات القوة والكمال؛ حيث امتدت رقعتها، وبسطت نفوذها في قارات العالم القديم: آسيا، وإفريقيا، وأوروبا، ونعمت بالرخاء والطمأنينة، وازدهرت فيها العلوم والفنون، وارتقت العمارة والبناء، وتقدمت النظم الداخلية للدولة؛ نظرًا للقوانين التي سنَّها السلطان سليمان، الذي اشتهر بسليمان القانوني لأجلها.
ثم تعاقب بعده سلسلة من السلاطين، كان بعضهم قويَّ الهمة، عظيم الإرادة، شديد البأس، حريصا على الحفاظ على قوة الدولة وهيبتها، وكان بعضهم الآخر ضعيف النفس، خائر العزيمة، يميل للراحة والخلود إلى الدعة والسكينة، من هنا بدأ الوهن والضعف يتسربان إلى جسد الدولة رويدًا رويدًا، حتى كادا يعصفان بها، ويهددان مكانتها.
سلطان في السابعة
في وسط جو من العواصف والقلاقل التي أحاطت بالدولة من الداخل والخارج تولى "محمد خان الرابع" منصب السلطنة في (رجب 1058هـ = أغسطس 1648م) خلفًا لأبيه السلطان "إبراهيم"، الذي لقي مصرعه على يد الإنكشارية في ثورة من ثوراتهم العاصفة التي كانت تتجدد من حين إلى آخر.
كان السلطان "محمد الرابع" حين جلس على عرش الدولة في السابعة من عمره، لا يقوى على مباشرة سلطته وإدارة الدولة، فتولت مهمته جدته "كوسم مهبيكر"، وأصبحت نائبة السلطنة، واستمرت فترة نيابتها ثلاث سنوات، وأطلق المؤرخون على هذه الفترة من عهد السلطان محمد "سلطنة الأغوات" حيث سيطرت الإنكشارية على مقاليد الأمور في البلاد التي مرت بفترة عصيبة من حياتها، مخالفين بذلك أحكام الدولة، ومتجاوزين سلطة الحكومة.
لم يكن عمر السلطان "محمد الرابع" يمكنه من مباشرة سلطاته حتى بعد وفاة جدته، فتولت أمه "خديجة تارخان" نيابة السلطنة، وكانت صغيرة السن، في الرابعة والعشرين من عمرها حين تولت نيابة السلطنة، وتتمتع بذكاء شديد، وحرص على مصالح الدولة العليا؛ فاهتمت بالبحث عن الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) الذي يمكن أن تعتمد الدولة عليه؛ لكنها لم تجد بغيتها؛ فقد تعاقب على تولي هذا المنصب كثيرون من كبار رجال الدولة، عجزوا جميعًا عن الخروج بدولتهم من محنتها، حتى رشح لها مستشاروها الوزير "محمد باشا الشهير بكوبريللي"، وكان سياسيًّا ماهرًا، ورجل دولة يعتز بنفسه؛ فاشترط لقَبول هذا المنصب أن تُعطَى له الصلاحيات الكاملة لمباشرة منصبه، دون تدخل من أحد؛ فقبلت نائبة السلطنة، ولم يسبق في النظام العثماني أن يضع الوزير شروطًا لقَبول الصدارة العظمى، وباشر "كوبريللي" عمله في (1067هـ = 15 من سبتمبر 1656م)، وأعلن أن السلطان قد بلغ سن الرشد؛ فانتهت بذلك فترة نيابة أمه التي استمرت ثماني سنوات.
عائلة كوبريللي
نجح الصدر الأعظم في الفترة التي تولاها في ردع الإنكشارية، وألزمهم الهدوء والطاعة، والتفرغ لعملهم باعتبارهم جنود الدولة المكلفين بحمايتها والدفاع عنها، وليس لهم حق التدخل في إدارة شئون الدولة، واستطاع فك الحصار الذي ضربه "البنادقة" باحتلالهم بعض المواقع عند مدخل "الوردنيل"، وفرضهم الحصار على المواد التموينية الداخلة إلى الدولة؛ فارتفعت الأسعار، وتدهورت الحالة الاقتصادية، وتمكن من ردِّ اعتبار الدولة العثمانية في عَلاقتها مع بعض الدول الأوروبية.
وبعد وفاته في سنة (1072 = 1661م) خلفه ابنه "أحمد باشا كوبريللي"، وكان في السادسة والعشرين من عمره، وهو يُعَدُّ أصغر صدر أعظم في تاريخ الدولة العثمانية؛ لكنه كان على دراية كاملة بشئون أمور الدولة الداخلية والخارجية، نتيجة لتقلده عددًا من المناصب المهمة في الدولة، مثل إمارة الشام التي أصلح كثيرًا من أمورها بعد أن كانت مختلة النظام، كثيرة الفتن، وحين حلَّ المرض بوالده الصدر الأعظم ناب عنه في إدارة شئون الدولة.
كرس "أحمد كوبريللي" جهوده إلى الأمور الخارجية وخوض ميادين الجهاد، وترك متابعة الأمور الداخلية- وهو بها جدير- إلى "قرة مصطفى باشا"، وبدأ عهده بإعلان الدولة العثمانية الحرب على "النمسا"، بعد نقضها لمعاهدة "سيتفاتوروك" التي أُبرِمَت بين الدولتين، وبنائها قلعة حربية على الحدود بينهما، وعدم هدمها لها رغم إخطار الدولة العثمانية للنمسا بأن هذا العمل مخالف لبنود المعاهدة.
استسلام نوهزل
تحرك الصدر الأعظم "أحمد باشا كوبريللي" من "أدرنة"، ووصل إلى "المجر" على رأس جيش كبير، يبلغ نحو مائة وعشرين ألف جندي، ومزود بالمدافع والذخائر المحملة على ستين ألف جمل وعشرة آلاف بغل، ودخل "سلوفاكيا" ضاربًا كل الاستحكامات العسكرية التي كانت في طريقه، متجهًا إلى قلعة "نوهزل"، وهي تقع شمال غرب "بودابست"، على الشرق من "فيينا" بنحو 110كم، ومن "براتسلافيا" بنحو 80كم، وقد حصّنها الألمان، وجعلوها فائقة الاستحكام لكي تصبح أقوى قلاع أوروبا، وبدأ الجيش العثماني في حصارها في (13 من المحرم 1074هـ = 17 من أغسطس 1663م).
واستمر حصار العثمانيين للقلعة (37) يومًا؛ ما اضطر قائد حامية القلعة إلى طلب الاستسلام، ووافق الصدر الأعظم على ذلك؛ بشرط جلاء الحامية عن القلعة بغير سلاح ولا ذخائر، وقد أحدثت هذه الحملة دويًّا هائلاً في أوروبا، وأدخلت الرعب والهلع في قلوب ملوكها عامة. وبعد استسلام هذه القلعة العظيمة استسلمت حوالي (30) قلعة نمساوية.
وترتب على هذا الفتح العظيم أن تقدم "أحمد كوبريللي" بجيوشه فاتحًا إقليمي "مورافيا" (في تشيكوسلوفاكيا)، و"سيليزيا" في وسط أوروبا، وباتت "فيينا" عاصمة النمسا مهددة بالسقوط في أيدي المسلمين؛ ما دعا إمبراطور النمسا إلى طلب وساطة البابا "إسكندر الرابع" لدى "لويس الرابع عشر"، ملك فرنسا بقصد مساعدته، وكانت فرنسا أكبر أعداء إمبراطور النمسا؛ فأرسل له ملك فرنسا فرقة ممتازة مؤلفة من 5000 جندي.
غير أن هذا التحالف لم يثنِ الصدر الأعظم عن عزمه؛ فواصل تقدمه بجيوشه، ودارت بينهما عدة معارك، انتهت بتوقيع معاهدة صلح بين الدولتين، كان من أهم بنودها أن تدفع النمسا للعثمانيين غرامات حرب رمزية، قدرها 200000 سكة ذهبية، وأن تبقى كافة القلاع التي فتحتها الجيوش العثمانية تحت سيادته..