المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سلسلـــة مجاهيل ومشاهير


عزالدين
2007-10-08, 20:15
سلمى الحفار.. أديبةٌ عالمية في حرير دمشقيّ





في بيتٍ دمشقيّ طيب الأعراق والآداب ولدت "سلمى الحفار" عام 1923، وفي كنف والدها "لطفي الحفار" - رئيس الوزراء السوري في فترة النضال من أجل الاستقلال عن فرنسا - تشربت "سلمى" العلوم والثقافة والفكر المستنير، والوعي المبكر بقضايا المجتمع والأمة، فتأججت فيها روحُ التمرد والمقاومة منذ نعومة أظفارها، كما نضج عقلُها وقلمها في سنٍ مبكرة؛ إذ دأبت على تدوين مذكراتها وخواطرها منذ السابعة عشرة من عمرها، تلك الكتابات التي كانت فيما بعدُ نواة لأولى رواياتها "يوميات هالة" 1950.

النشأة والبدايات

دفعَ "لطفي الحفار" بابنته "سلمى" إلى التعليم في زمنٍ عزّ فيه أن تجد فتاة عربية متعلمة، فذهبت أول ما ذهبت إلى الكتاتيب الدمشقية تستقي علومها الأولية، ثم تلقت التعليم الثانوي في مدارس راهبات الفرنسيسكان، وهناك أتقنت الفرنسية وتعلمت الإنجليزية.

أما اللغة العربيةُ فقد أتقنت فنونها على يد الأديبة الكبيرة في ذلك الوقت "ماري عجمي"، وكان ذلك في لبنان بعدما نُفي والدها إلى مدينة "أميون" اللبنانية. لتكمل في أثناء ذلك رحلتها في طلب العلم، وتحصل على تعليمها العالي بالمراسلة مع معهد اليسوعيين في بيروت.

ولا عجب أن نجد ربيبة بيت العلم والسياسة تتزوج وهي دون العشرين من "محمد كرامي"، الشقيق الأصغر للزعيم "عبد الحميد كرامي" 1941، وتنجب منه ولدها البكر "نزيه". ولكن لا يلبث زوجها أن يفارق الحياة، فتعيش "سلمى" تجربة الأرملة العائلة وهي لم تتجاوز بعدُ العشرين. ويُلحّ عليها أهلُها وأهل زوجها الراحل بالزواج ثانية؛ فتتزوج هذه المرة من الدكتور "نادر الكزبري"، الدبلوماسي السوري الذي يجوب بها آفاق العالم، وتكمل معه مسيرة الحياة، وتنجب منه ابنتين.

رحلة الزواج والأدب



بدأت "سلمى" رحلاتها مع زوجها وقد أتقنت من قبلُ العربية والفرنسية والإنجليزية، وكتبت بالفرنسية الشعر، ومع ارتحالها برفقة زوجها إلى الأرجنتين وتشيلي انضمت الإسبانية إلى قاموس لغاتها، وعندما عادت إلى دمشق في مرحلة انتقالية، نالت الدبلوم في اللغة الإسبانية من المركز الثقافي الإسباني بدمشق 1961، لذا نجدها بعد انتقالها مع زوجها إلى مدريد تنضم لعضوية جمعية الكُتاب هناك، وتُلقي بالإسبانية عدة محاضرات حول المرأة العربية وتأثيرها في التاريخ والأدب.

وقد لقيت "سلمى" التقدير البالغ من الحكومة الإسبانية لأعمالها الأدبية، وجهودها ومحاضراتها في الدراسات العربية والأندلسية بين مدريد وقرطبة وبرشلونة، فأهدتها الحكومة "شريط السيدة إيزابيلا كاتوليكا" عام 1964، وهو أحد الأوسمة الرفيعة في إسبانيا، كما منحتها جامعة "باليرمو" بصقلية جائزة البحر المتوسط تقديرا لأعمالها عام 1980.

وفي مدريد نشأت صداقة عائلية بين "سلمى" و"نزار قباني"، الذي كان يعمل حينذاك مستشارا بالسفارة السورية مع زوجها الدكتور "نادر الكزبري"، وتبادل "نزار" و"سلمى" عددا من الرسائل الأدبية التي نشرتها "سلمى" فيما بعدُ في كتاب بعنوان "ذكرياتُ إسبانية وأندلسية مع نزار قباني ورسائله" عام 2000.

كما كان من تلك التفاعلات الأدبية أن اختار لها "نزار قباني" عنوان إحدى رواياتها التي كتبتها من وحي حياتها بإسبانيا الزاخرة بآثار الحضارة الإسلامية، وهي رواية "عينان من إشبيلية".

ولم تكن "سلمى" تكتب بالعربية فقط، بل كتبت دواوين أشعارها بالفرنسية والإسبانية: "الوردة المنفردة"، و"بوح"، و"عشية الرحيل". ولم يقتصر نتاجها الأدبي على نوعٍ واحد، فإلى جانب الشعر كتبت القصص والروايات، ومنها مجموعتها القصصية "الغريبة"، كما خلفت مؤلفات في السير والتراجم، وأولاها بالذكر ما كتبتهُ عن أبيها: "لطفي الحفار- مذكراته، حياته، وعصره". وعنيت بالترجمة لأعلام النساء من جنسيات مختلفة، ومن ذلك: "جورج صاند.. حبٌ ونبوغ"، "نساء متفوقات" الذي جمع ترجمات لعدة شخصيات، و"مي زيادة.. مأساة النبوغ". وقد كان لها مع "ميّ" أمر..

مَيّ بقلم سلمى




افتتنت "سلمى" بشخصية "مي زيادة"، فعكفت لسبعة عشر عاما على دراسة حياتها وجمع سيرتها من كل المصادر التي طالتها علاقاتُها وأسفارها بين أراضي الشام ومصر، وكان همُها إظهار دور "ميّ" في النهضة الأدبية الحديثة، وإبطال بعض الشائعات المُسيئة التي راجت عنها كجنونها في آخر مراحل حياتها، وفي سبيل ذلك كتبت "سلمى" عن "ميّ زيادة" ثلاث مؤلفات: "ميّ زيادة، مأساة النبوغ" وهي ترجمة وافية تقع في جزأين، و"الشعلة الزرقاء" وهو كتاب جمعت فيه كل الرسائل المتبادلة بين "ميّ" و"جبران"، وقامت بتحقيقها بالمشاركة مع الدكتور "سهيل بشروئي"، وكذلك "مي زيادة وأعلام عصرها"، وقد جمعت فيه ما وصل إلى حوزتها -في أثناء بحثها- من رسائل متبادلة بين "ميّ" ومعاصريها من أعلام الأدباء .

وتقول "سلمى" عن تجربتها الأدبية مع "ميّ": "كان فضل مي زيادة على مسيرتي الأدبية كبيرا فما جنيته من فوائد فكرية وشخصية، وحتى أدبية بفضل مغامرتي المثيرة مع ميّ زيادة وجبران وعصرهما، وعطائهما وحياتهما، وحبهما الفريد من نوعه في تاريخ أعلام الأدب في العصر الحديث، شرقا وغربا".

وترى "سلمى" أنها وُفقت في فن كتابة السير الذاتية والتراجم أكثر من كتابتها للقصص والروايات، وربما عاد هذا إلى شغفها بالقراءة عن النساء المتفوقات اللاتي قدمن شيئا يُثري الحضارة ويرتقي بالإنسانية.

أما عن كتابة "سلمى" لسيرتها هي، فقد كان كتابُها الأول في هذا هو "يوميات هالة"-1950، الذي سبقت الإشارة إليه، وهو يؤرخ للمرحلة الأولى من حياتها. ثم أتبعت ذلك بكتاب آخر هو "عنبر ورماد" عام 1970.

تتويج الجهد

لم تكن رواية "يوميات هالة" أول ما نُشر لسلمى الحفار، فقد سبق أن نشرت بعض مقالاتٍ في الصحف والمجلات، كان أولها عام 1940 في مجلة "الأحد" الدمشقية، ولسلمى من العمر يومئذٍ ثماني عشرة سنة.

وتوالى إنتاج "سلمى الحفار" من بعدُ ليربو على عشرين مؤلفا بين مجموعات قصصية، ودواوين شعر بلُغات متعددة، وكتب السير والتراجم كما أسلفنا، إضافة إلى بعض الروايات التي نذكر منها - إضافة إلى ما سبق ذكره في المقال- "البرتقال المُر" 1974، و"الحب بعد الخمسين" 1989. هذا إلى جانب محاضراتها ودراساتها في الحضارة والأدب التي جمعتها في كتب عدة.

وكانت المفاجأة التي توجت جهد "سلمى" بعد هذه السنين، في أحد أيام ربيع 1994عندما اتصل بها رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق الدكتور "شاكر مصطفى" رحمه الله، وزف إليها بُشرى ترشيح المجمع إياها لجائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي، وطلب إليها إرسال المؤلفات المطلوبة واستيفاء الأوراق والإجراءات الخاصة لإتمام الموضوع.

وتنسى "سلمى" الأمر بعد ذلك، إلى أن يسمع أخوها "بشار الحفار" خبر فوزها بجائزة الأدب العربي بالاشتراك مع الأستاذين المصرييْن "د.حمدي السكوت"، و"د.محمد أبو الأنوار"، ويتصل بها أخوها من لندن ليزف إليها البشرى، وتتسلم "سلمى الحفار الكزبري" جائزة الملك فيصل في مارس 1995، وتكون المرأة الوحيدة بين الفائزين الثمانية في ذلك الموسم من الجائزة، وكان موضوع الجائزة: الدراسات التي تناولت أعلام الأدب العربي الحديث.

ولم يتوقف مشوار سلمى بعد نيلها للجائزة، وإنما واصلت بعد إحساسها بالمسؤولية الجسيمة بعد هذا التقدير، فأعادت تنقيح سيرة والدها "لطفي الحفار" ونشرتها في 456 صفحةٍ مطلعَ عام 1997، مدعمة بالمخطوطات والرسوم، ومُذيلة بفهرس طويل للأعلام.

رحيلٌ قرير العين

في أحد أيام الحرب الأخيرة على لبنان، وتحديدا في 13 أغسطس 2006، فاضت روح "سلمى الحفار الكزبري" في ضياع لبنان، بعد أن رفضت العودة منها إلى دمشق بعد اندلاع الحرب، وفي صخب المدافع لا يُسمع صوت، لذا فقد أدرك الناس خبر وفاتها متأخرا بعض الشيء عن حينه، لتقام لها بعد ذلك حفلات التأبين والوداع.

تقول "سلمى" في إحدى مقالاتها التي كتبتها في السنين الأخيرة، وبعد فوزها بجائزة الملك فيصل: "لقد طُلب إليّ أن أكتب سيرة حياتي منذ أن بلغت السبعين من العمر ففكرتُ مليا بالموضوع، ووجدت أن لي كتابين منشورين تضمنا فصولا من هذه السيرة الذاتية هما: "يوميات هالة" و"عنبر ورماد" الذي نشر في بيروت عام 1970 ونفد من المكتبات قديما، لذا سأنقل منهما أهم مراحل حياتي الشخصية وإنتاجي الأدبي والرحلات التي قمت بها، وأضيف عليها المراحل التي تبعتها متوخية الإيجاز قدر الإمكان، والصدق والصراحة إن شاء الله".

تُرى هل يجود تاريخ الأدب العربي بمن يرد لسلمى صنيعها في "مي زيادة"، فيجمع سيرتها وينقحها ويستزيد عليها من المصادر الحية التي عاصرت "سلمى" واحتكت بها؟ وإذا جاد تاريخُ الأدب العربي بمثلها يوما، فلربما وجدنا إجابة على هذا التساؤل.