احمد الطيباوي
2014-09-14, 23:07
أخطاء الشيخ إبن تيمية رحمه الله في حق سيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم
الدكتور البحاثة محمد السيد الصبيح
سنقف في هذه المقالة المتواضعة مع فكر الشيخ ابن تيمية وخاصة فيما يتعلق بأخطائه في حق سيد الخلق رسولنا عليه الصلاة والسلام وهي كثيرة منها:
توسّل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بحقّه وحقّ مَن سبقه من الأنبياء(عليهم السلام) :
لمّا ماتت فاطمة بنت أسد، دخل عليها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فجلس عند رأسها فقال: رحمك الله يا أُمّي...، بعد أُمّي ثمّ دعا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أُسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود يحفرون، فحفروا قبرها، فلمّا بلغوا اللحد حفره رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بيده وأخرج تُرابه بيده، فلمّا فرغ دخل رسول الله فاضطجع فيه ثم قال: «الله الذي يحيي ويميت وهو حيّ لا يموت، اغْفر لأُمّي فاطمة بنت أسد ولقِّنْها حجّتها، ووسّع عليها مدخلها، بحقّ نبيّك والأنبياء الذين من قبلي».(1)
إلى هنا تبيّن أنّ التوسّل بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبدعائه ونفسه وشخصه ومنزلته وجاهه ومقامه، أمر ندبت إليه السنّة النبوية وعمل به الصحابة، والروايات الواردة في هذا المضمار كثيرة فلا حاجة إلى التكرار.
إنّما الكلام فيما يدّعيه ابن تيمية من اتّفاق الصحابة وسلف الأُمة وأئمة المسلمين، في كلّ ما يتبنّاه من عقائد، وما يختاره من آراء، ومنها تحريم التوسّل بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في حين أنّ دراسة سيرة المسلمين والتتبُّع في غضون التاريخ يثبتان بوضوح أنّ التوسل بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بأشكاله المختلفة، كان دأب المسلمين عبر القرون، ومنذ رحيل النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد قام المحقّق السيد الشريف الدكتور محمود السيد صبيح برصد مواضع تلك التوسّلات بشكل موسّع في كتابه: «أخطاء ابن تيمية في حق رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وأهل بيته»، وقد استفدنا منه في هذا المجال، كما رجعنا إلى المصادر التي نقل عنها. وإليك نزراً منها:
«يا محمداه» شعار المجاهدين والمظلومين
قال الطبري في تاريخه في ذكر حرب المسلمين مع أهل اليمامة من أتباع مسيلمة الكذّاب: وكان شعارهم يومئذ «يا محمداه».(1)
وليس لهذا الشعار من معنى إلاّ الاستعانة بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وليست هي في الحقيقة إلاّ الاستعانة بربّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد سبق منّا أنّ العلل والأسباب تنتهي إلى الله سبحانه، فكلّ فعل وقوّة من عباد الله، فهو بحول الله وقوته سبحانه.
وروى الطبري في تاريخه وابن الأثير في الكامل أنّ عمال الحجّاج كتبوا إليه:إنّ الخراج قد انكسر وإنّ أهل الذمّة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار، فكتب الحجّاج إليهم: إنّ من كان له أصل في قرية فليخرج إليها، فخرج الناس فعسكروا فجعلوا يبكون وينادون: يا محمّداه، يا محمّداه وجعلوا لا يدرون أين يذهبون.(2) وروى ابن الأثير في الكامل في حوادث سنة (137هـ) في حرب المسلمين مع المجوس بقيادة سنباذ، قال: فلمّا التقوا قدّم سنباذ السبايا من النساء المسلمات على الجمال، فلما رأين عسكر المسلمين قمن في المحامل ونادين وامحمداه ذهب الإسلام، ووقعت الريح في أثوابهن، فنفرت الإبل وعادت على عسكر سنباذ، فتفرّق العسكر وكان ذلك سبب الهزيمة، وتبع المسلمون الإبل ووضعوا السيوف في المجوس ومن معهم.(1)
الاستعاذة برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)
أخرج مسلم عن أبي مسعود إنّه كان يضرب غلامه، فجعل يقول: أعوذ بالله، قال: فجعل يضربه فقال: أعوذ برسول الله، فتركه، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): والله، لله أقدر عليك منك عليه، فاعتقه.(2)
والشاهد في أنّ العبد قد استعاذ برسول الله بعد الاستعاذة بالله سبحانه، وقد بلغ من تكريمه لرسول الله أنّه ترك ضربه، فلو كانت الاستعاذة بالرسول كفراً وشركاً، لكان عليه أن يضربه بأشدّ من ذلك.
وأمّا لماذا لم يترك ضربه عندما استعاذ بالله سبحانه، فشرّاح الصحيح يحملونه على عدم سماعه لشدّة غضبه. وعلى كلّ حال فإن تلقّي الصحابة لهذه الكلمة يعبّر عن تكريم الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)لا الشرك بالله سبحانه.
روي عن عائشة أنّها قالت: بعثت صفيّة إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بطعام، قد صنعته له وهو عندي، فلمّا رأيت الجارية أخذتني رعدة حتى استقبلتني فضربت القصعة فرميت بها، قالت: فنظرت إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فعرفت الغضب في وجهه، فقلت: أعوذ برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يلعنّي اليوم.(3)
فهذا هو رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يسمع من زوجته الاستعاذة به، فلو كانت الاستعاذة أمراً محرّماً أو سبباً للشرك أو تجاوزاً للحدّ ووروداً في الغلو، لنهى رسول الله عائشة وكان عليه أن يغضب عليها أكثر من غضبه لضرب القصعة والرمي بها.
التقرّب إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)
روى أبو هريرة أنّ النبي قال: إنّ النساء أكثر أهل النار يوم القيامة، وعندئذ تقربت النساء بما استطعن، وكان في النساء امرأة عبد الله بن مسعود فانقلبتْ إلى عبد الله بن مسعود، فأخبرتْه بما سمعت من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وأخذت حليّها، قال ابن مسعود: أين تذهبين بهذه الحليّ؟ قالت: أتقرّب بها إلى الله ورسوله... الخ.(1)
والشاهد في قول زوجة ابن مسعود: «أتقرّب بها إلى الله ورسوله»، فجعلت التقرّب إلى الرسول في عداد التقرّب إلى الله، دون أن يستشمّ منها المقرئ الكبير ريح الشرك والغلو.
وما ذلك إلا لأنّ التقرّب إلى الرسول بما أنّه رسول الله، والمبلّغ عنه، فهو تقرّب إلى الله سبحانه، ويشهد على ذلك قوله سبحانه: (وَمَا نَقَمُوا إلاّ أنْ أغناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ)(2)، وقال سبحانه: (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنا اللهُ سَيُؤتِينا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ).(3)
ومن المعلوم أنّ إغناء الرسول وإيتائه إنّما هو بحول من الله سبحانه، فما يصدر منه هو فعل للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وفي الوقت نفسه فعل لله سبحانه، وهذا هو نفس التوحيد الأفعالي الذي يشير إليه قوله سبحانه: (وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى).(1)
ترى أنّه سبحانه يسلب عن رسوله الرمي في عين الإثبات فيقول: (وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ)، وليس هذا بتناقض ; لأنّ ما نفاه غير ما أثبته، فالأوّل هو الرمي بقوة مستقلة غير معتمدة على الله سبحانه، والثاني هو الرمي المستمدّ من حوله وقوته وإقداره.
التوبة إلى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)
روى البخاري عن عائشة أنّها اشترتْ نمرقة فيها تصاوير، فلمّا رآها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قام على الباب فلم يدخل، فعرفتْ في وجهه الكراهية، قالتْ: يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله، ماذا أذنبتْ؟...الخ.(2)
والشاهد في قولها: أتوب إلى الله وإلى رسوله، مع أنّها لم تعص إلاّ الله سبحانه، ولكن لمّا أنّ الرسول هو الذي بلّغ حكمه، كان عصياناً له أيضاً، فتابت إليهما معاً.
المفزع إلى الله ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم)
روى أحمد بإسناده إلى موسى، عن أبيه، عن عمرو بن العاص، قال: كان فزع بالمدينة فأتيت على سالم مولى أبي حذيفة وهو محتب بحمائل سيفه، فأخذت سيفاً فاحتبيت بحمائله، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «يا أيها الناس ألا كان مفزعكم إلى الله وإلى رسوله، قال: ألا فعلتم كما فعل هذان الرجلان المؤمنان»(1).
أقول: لو أنّ التكلّم بما في الرواية يُعدّ شركاً، لمّا رواها أحمد ولا مشايخه.
خطاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالسلام في التشهّد
لمّا ذهب ابن تيمية إلى انقطاع الصلة بين الأحياء والأموات، بل إلى القول بأنّ الأنبياء والأولياء أموات لا يسمعون، صار ذلك مبرراً لبعض أتباع منهجه إلى القيام بتحريف التشهد، فالمسلمون قاطبة يسلّمون على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في التشهد بصيغة الخطاب، ويقولون: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. غير أنّ بعض مقلّديه عمد إلى تحريف الكلم عن مواضعه، فحرّف التشهد إلى قوله: السلام على النبي ورحمة الله وبركاته.(2)
ولكي نقف على شذوذ هؤلاء المبتدعة، نأتي بصيغة التشهّد عند المذاهب السنيّة الأربعة، وإليك البيان:
جاء في «الموسوعة الفقهية الكويتية»، وتحت عنوان (ألفاظ التشهّد) ما يلي:(3)يرى الحنفية والحنابلة أنّ أفضل التشهد، التشهد الذي علّمه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)،عبد الله بن مسعود وهو: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته... الخ.(1)
ويرى المالكية أنّ أفضل التشهد تشهد عمر بن الخطاب وهو: التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته... الخ.(2)
وأمّا الشافعية فأفضل التشهد عندهم ما روي عن ابن عباس قال: كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يعلّمنا التشهد كما يعلّمنا السورة من القرآن،فيقول: «قولوا: التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته... الخ.(3)
وعلى هذا فالمذاهب الأربعة متّفقة على أنّ التسليم على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)هو بصورة الخطاب،فمن حرّفها إلى التسليم بصيغة الغائب، فقد حرّف الكلم عن مواضعه، واتّبع غير سبيل المؤمنين، قال سبحانه: (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبيلِ الْمُؤْمِنينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءت مَصِيراً).(4)
ومن العجيب أن يصبح السلام غير جائز على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بصيغة الخطاب، مع أنّه جائز على غيره، فقد روى مسلم عن بريدة (رضي الله عنه) قال: كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يعلّمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون، أنتم لنا فرَط، ونحن لكم تبع، نسأل الله لنا ولكم العافية.(1)
وفي حديث عائشة الذي رواه مسلم: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين والمستأخرين.(2)
ابن تيمية وعدم تمييز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أهل الحق عن أهل الباطل
ذكر العلاّمة الحلّي أنّ رسول الله قال في حق عليّ(عليه السلام): «هذا فاروق أُمّتي يفرّق بين أهل الحق والباطل». وقال عبد الله بن عمر: ما كنّا نعرف المنافقين على عهد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ ببغضهم عليّاً(عليه السلام).
وردّ ابن تيمية على العلاّمة الحلّي بكلام طويل قائلاً: ما المعنيّ بكون عليّ أو غيره فاروق الأُمة، يفرّق بين الحق والباطل؟ إن عنى بذلك أنّه يميّز بين أهل الحق وأهل الباطل فيميّز بين المؤمنين والمنافقين، فهذا أمر لا يقدر عليه أحد من البشر، لا نبي ولا غيره، وقد قال تعالى لنبيه:(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدينَةِ مَرَدُوا عَلى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ).(1)
فإذا كان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يعلم عين كلّ منافق في مدينته وفيما حولها، فكيف يعلم ذلك غيره؟(2)
لقد عزب عن المسكين أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وإن كان لا يعلمهم ما لم يتكلّموا، ولكن يميّزهم بطريق آخر صرّح به كتاب الله العزيز، قال تعالى: (وَلَوْ نَشاءُ لأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ في لَحْنِ الْقَوْلِ).(1) على أنّه قد وهم في فهم الحديث إذ المقصود من كونه الفاروق بين أهل الحق والباطل، أنّه يُميَّز بولائه أهل الحق عن غيرهم، فمن تولّى علياً(عليه السلام)وأطاعه واتّبع منهاجه، فهو من أهل الحق، ومن تولّى عنه وخالفه وعصاه، فهو من أهل الباطل.
وأيّة غرابة في أن يكون عليّ(عليه السلام)، هو الفاروق الذي يفصل بين أهل الحق والباطل، وقد صحّ عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال فيه: «إنّه لا يحبّك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق»(2)، وصحّ عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً أنّه قال:«مَن أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع علياً فقد أطاعني، ومن عصى عليّاً فقد عصاني».(3) ثمّ إنّ ابن تيمية ادّعى أنّ حديث «هذا فاروق أُمتي» حديث موضوع مكذوب على النبيّ، ولم يرو في شيء من كتب العلم المعتمدة، وليس له إسناد معروف.(4)
إنّ هذا الإصرار على ردّ الحديث والجزم بوضعه، لا يصدران من عالم يحتاط في إطلاق الأحكام الجاهزة، ولكنّ ابن تيمية يسارع إلى ردّ أو تأويل الأحاديث التي تسطع بفضائل عليّ، تعصّباً وعناداً، ومن المعلوم أنّ التعصّب داء عُضال لا دواء له.
ولا أدري كيف يقطع بتكذيب الحديث، وقد رواه الطبراني عن أبي ذر وسلمان، ورواه البزّار عن أبي ذرّ وحده(1)، ورواه ابن عساكر عن أبي ذرّ وسلمان، وعن أبي ذرّ، وعن ابن عباس(2)، ورُوي أيضاً عن أبي ليلى الغفاري.(3)
هذا وقد زاد الدكتور محمد رشاد سالم (محقّق منهاج السنّة) في الطين بِلَّة، حين قال: إنّه لم يجد الحديث المذكور لا في كتب الأحاديث الصحيحة ولا كتب الأحاديث الموضوعة!!! وهكذا يضع التعصب الذميم والتقليد الأعمى لـ(شيخ الإسلام الأمويّ) غشاوةً على العينين، فلا تبصران شيئاً يخالف هوى صاحبهما!!
ابن تيمية وعصمة الأنبياء والنبي الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)
اتّفق المسلمون على أنّ الأنبياء معصومون بعد البعثة، إلاّ من شذّ منهم ولا يعبأ به، وأمّا قبل البعثة فالأكثر على عصمتهم من الكبائر والصغائر، ومنهم من ذهب إلى عدم عصمتهم من الصغائر.
ويظهر من ابن تيمية عدم عصمتهم بعد البعثة من غير فرق بين نبي الإسلام وغيره، قال: والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه كانوا لا يؤخّرون التوبة، بل يسارعون ويسابقون إليها، لا يؤخّرون ولا يصرّون على الذنب، بل هم معصومون من ذلك، ومن أخّر ذلك زمناً قليلاً كفّر الله ذلك بما يبتليه به كما فعل بذي النون (عليه السلام).(1)
وظاهر العبارة أنّهم يرتكبون الكبيرة بعد البعثة، غير أنّهم لا يصرّون على الذنب، بل يتوبون بين كبيرة وكبيرة.
ويستدلّ على ذلك بقوله سبحانه:(إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً).(1) ثمّ وصف مَن فسّر هذه الآية وشبهها بنحو يعارض رأية بأنّه من الجهمية والباطنية.
ونقل في «منهاج السنّة» عن بعضهم: كان داود بعد التوبة خير منه قبل الخطيئة، وقال بعضهم: لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه.(2) وقال في موضع آخر: لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه.(3)
ومراده من أكرم الخلق هو النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) ومن الذنب هو الذنب الكبير، وهو ما ورد في قوله سبحانه:(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ).
ولمّا كانت الآية ذريعة لاتّهام النبي الأعظم بعدم العصمة، فلنعطف عنان الكلام إلى تفسير الآية فنقول: الذنب في اللغة وإن فُسّر بالإثم والجرم والمعصية، والجمع ذنوب،(4) لكنّ المعنى الحقيقي أوسع من ذلك وهو كلّ شيء له تبعة سيئة بشهادة قوله سبحانه حاكياً عن موسى(عليه السلام): (وَلَهُمْ عَليَّ ذَنْبٌ).(1) عنى بالذنب قتل الرجل الذي وكزه موسى(عليه السلام)فقضى عليه، وكان ذلك الرجل من آل فرعون.(2)
وقال في المقاييس: ذنب، الذال والنون والباء، أُصول ثلاثة: أحدها الجرم، والآخر مؤخّر الشيء، والثالث كالحظ والنصيب. فإذا أُريد الأوّل الذَّنْب والجُرم، والأصل الآخر الذَّنَب وهو مؤخّر الدواب.(3)
وبما أنّ الذَنْبَ والذَنَبَ من مادة واحدة وإنّما الاختلاف بالحركات فيمكن أن يقال: إنّ المادة أي الذال والنون والباء، بمعنى ما يتبع الشيء ومؤخّره، فلو يطلق على ذنب الحيوانات فلأجل كونه مؤخّر الشيء، ولو يطلق على المعصية والجرم فلأنّ له تبعة عرفية أو شرعية، فيستنتج من ذلك أنّ الذنب في ألسن المتأخّرين وإن كان هو الجرم والمعصية ولكن المعنى الحقيقي ما للشيء من التبعة، سواء أكان جرماً شرعياً أو جرماً عرفياً وغير ذلك.
إذا علمت ذلك فاعلم أنّه كان للنبي عند المشركين تبعات كثيرة حيث إنّ النبي بدعوته ونهضته وثورته على الكفر والوثنية وما وقع بينه وبين المشركين من الحروب والمغازي بعد الهجرة، صار ذا تبعة سيئة عند الكفّار والمشركين على حدّ لم يكونوا غافرين له مادامت لهم شوكة ومقدرة، وماكانوا لينسوا زهوق ملّتهم وانهدام سنّتهم وطريقتهم،ولا ثارات من قتل من صناديدهم دون أن يشفوا غليل صدورهم بالانتقام منه وإمحاء اسمه وإعفاء رسمه، غير أنّ الله سبحانه رزقه(صلى الله عليه وآله وسلم)هذا الفتح وهو فتح مكة أو فتح الحديبية المنتهي إلى فتح مكة، فذهب بشوكتهم وأخمد نارهم، فستر بذلك عليه ما كان لهم عليه(صلى الله عليه وآله وسلم)من الذنب وآمنه منهم.
فالمراد بالذنب ـ والله أعلم ـ التبعة السيئة التي لدعوته(صلى الله عليه وآله وسلم) عند الكفّار والمشركين، وهو ذنب لهم عليه كما في قول موسى لربه:(وَلَهُمْ عَليَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُون) (1)، وما تقدّم من ذنبه هو ما كان منه(صلى الله عليه وآله وسلم)بمكة قبل الهجرة، وما تأخّر من ذنبه هو ما كان منه بعد الهجرة، ومغفرته تعالى لذنبه هي ستره عليه بإبطال تبعته بإذهاب شوكتهم وهدم بنيتهم، ويؤيد ذلك ما يتلوه من قوله: (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) إلى قوله سبحانه: (وَيَنْصُرَكَ نَصْراً عَزيزاً).(2)
وبكلمة قصيرة: المراد، هو الذنب من منظار المشركين كما هو المراد في قصة موسى(عليه السلام)حيث إنّ قتل القبطي كان ذنباً عندهم.
وللإمام الثامن علي بن موسى الرضا(عليه السلام) كلام يؤيد هذا التفسير، وهو ما أجاب به المأمون الذي سأله قائلاً: فأخبرني عن قول الله تعالى:(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) فقال الرضا(عليه السلام): «لم يكن أحد عند مشركي مكة أعظم ذنباً من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ; لأنّهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنماً، فلمّا جاءهم(صلى الله عليه وآله وسلم)بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبُر ذلك عليهم وعظم وقالوا: (وَجَعَلَ الآلِهَةَ إلهاً واحِداً إنّ هذا لَشَيءٌ عُجابٌ* وَانْطَلَقَ المَلاَُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ* ما سَمِعْنا بِهذا في الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إنْ هذا إلاّ اخْتِلاقٌ)(1)، فلمّا فتح الله على نبيه مكة قال: يا محمد (إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) عند مشركي مكة بدعائك إلى التوحيد فيما تقدّم وما تأخّر».(2)
بيان آخر للآية
هناك بيان آخر للآية وهو أنّ النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) بسبب نهضته بوجه الشرك والمشركين والوثنية صار غرضاً لسهام الاتّهام والشبهات، ولأجل أن توضع الحواجز بينه وبين الناس اتّهمه المشركون بتهم كثيرة ذكرها القرآن الكريم وهي(كاهن، ساحر، يتعلّم القرآن من غيره، أو مجنون لا يعتدّ بقوله وعمله) وغير ذلك.
وكلّ هذه الأوصاف انتشرت في الجزيرة العربية بين الناس، ومن المعلوم أنّ أكثر المشركين تلقّوا ذلك بالقبول، ولذا كانوا يبتعدون عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)والإيمان به، ولمّا قام النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بهذا الفتح المبين الذي زالت به شوكتهم وكسرت قوتهم، وأصبح هو القائد المحنّك الذي أصبح قادراً على قيادة أُمّة كبيرة وإدارة أُمور لا يقوم بها إلاّ الأمثل من الرجال، فأثبت بذلك أنّه ليس بكاهن ولا ساحر ولا مجنون، وأين فتح البلاد وغزو الأقوام المسلحة، من الكهنة والسحرة والمجانين؟!
فالله سبحانه يقول: (إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)، ليترتب على ذلك زوال كلّ ما أُلصق به من صفات باطلة وتهم مزيّفة قبل الهجرة وبعدها.فعلى هذا فالآية لو لم تدلّ على عظمة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)خلقاً ومنطقاً وحنكة ، فهي لا تدلّ على أنّه كان عاصياً لله سبحانه.
ثمّ إنّ لابن تيمية ذريعة أُخرى لاتّهام النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بعدم العصمة وهو ذيل الآية، قال في «مجموع الفتاوى»: وقد قال الله لنبيّه بعد صلح الحديبية وبيعة الرضوان: (إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً* وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزيزاً)، فأخبر أنّه فعل هذا ليهديه صراطاً مستقيماً، فإذا كان هذا حاله فكيف بحال غيره.(1)
وكان عليه أن يستدلّ على ما رامه بأنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يقرأ كلّ يوم سورة الحمد ويقول:(إهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقيمَ)، فلو كان على صراط مستقيم فما معنى طلبه الهداية على الصراط المستقيم؟!
ولكنّ المقصود واضح لمن صفا قلبه وخلت روحه عن الحقد والعناد، فالمراد بـ (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقيماً) أي يثبّتك على صراط مستقيم; كما هو المراد من قوله: (إهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقيمَ). ثمّ إنّ ذيل الآية: (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزيزاً) خير دليل على أنّ المراد هو أنّه سبحانه يثبّت النبي في الطريق المتصل إلى الغاية، الذي سلكه بعد الرجوع من الحديبية وفتح خيبر، حيث بسط سلطة الدين في أقطار الجزيرة حتى تتطهر الأرض من أرجاس الشرك وأدران الوثنية، فإنّ فتح مكة والطائف صار سبباً لقطع الشرك عن مواطن التوحيد، وذلّ اليهود وخضوع نصارى الجزيرة للإسلام، وهذا لا ينال إلاّ بتثبيت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)على الصراط المستقيم الذي له ثمرات مثل ما ذكرنا.
بقيت هنا ذريعة أُخرى لمن يتّهم النبي بعدم العصمة، وهي قوله سبحانه: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى* وَوَجَدَكَ ضالاًّ فَهَدى* وَوَجَدَكَ عائلاً فَأَغْنى).(1)
فربما يتوهّم المتوهّم أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان ضالاًّ بنحو من الضلال، فهداه الله سبحانه إلى طريق التوحيد، ولكنّ هذا التفسير تفسير بالرأي، فدراسة مجموع آيات السورة يدلّ على أنّ محور الآيات هو بيان حالات النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)منذ أن ولد: كان يتيماً، فآواه; وفقيراً، فأغناه; وضالاًّ (بالضلالة الطبيعية التي تعمّ كلّ إنسان لولا هداية الله تبارك وتعالى)، فهداه، فلا مانع، إذاً من أن يكون ضالاًّ بالطبيعة حتى شملته الهداية منذ فتح عينه على الدنيا.
والضلالة الطبيعية ذاتية وهي لازمة لكلّ موجود ممكن، فتزال بتوفيق من الله سبحانه. وإن شئت التفصيل فنقول: إنّ الضلالة التي تقابل الهداية والرشاد، تُتصوّر على قسمين:
قسم تكون الضلالة فيه وصفاً وجودياً وحالة واقعية كامنة في النفس توجب منقصتها وظلمتها، كالكافر والمشرك والفاسق، والضلالة في هاتيك الأفراد صفة وجودية تكمن في نفوسهم، وتتزايد حسب استمرار الإنسان في الكفر والشرك والعصيان والتجرّؤ على المولى سبحانه، قال الله سبحانه:(ولاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسهِمْ إنّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ).(1)
فإنّ لازدياد الإثم بالجوارح تأثيراً في زيادة الكفر، وقد وصف سبحانه بعض الأعمال بأنّها زيادة في الكفر، قال سبحانه: (إِنَّما النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا).(2)
وقسم تكون الضلالة فيه أمراً عدميّاً، بمعنى كون النفس فاقدة للرشاد غير مالكة له، وعندئذ يكون الإنسان ضالاًّ بمعنى أنّه غير واجد للهداية من عند نفسه، وفي الوقت نفسه لا تكمن فيه صفة وجودية مثل ما تكمن في نفس المشرك والعاصي، وهذا كالطفل الذي أشرف على التمييز وكاد أن يعرف الخير من الشر، والصلاح من الفساد، والسعادة من الشقاء، فهو آنذاك ضالّ، لكن بالمعنى الثاني، أي غير واجد للنور الذي يهتدي به في سبيل الحياة، لا ضالّ بالمعنى الأوّل بمعنى كينونة ظلمة الكفر والفسق في روحه.
إذا عرفت ذلك، فاعلم: أنّه لو كان المراد من الضالّ في الآية، ما يخالف الهداية والرشاد فهي تهدف إلى القسم الثاني منه لا الأوّل، بشهادة أنّ الآية بصدد توصيف النعم التي أفاضها الله سبحانه على نبيّه يوم افتقد أباه ثم أُمّه فصار يتيماً لا ملجأ له ولا مأوى، فآواه وأكرمه بجدّه عبد المطلب ثم بعمّه أبي طالب، وكان ضالاًّ حسب الطبيعة الإنسانية، فهداه إلى أسباب السعادة وعرّفه وسائل الشقاء.
والالتزام بالضلالة بهذا المعنى لازم القول بالتوحيد الافعالي، فإنّ كلّ ممكن كما لا يملك وجوده وحياته، لا يملك فعله ولا هدايته ولا رشده إلاّ عن طريق ربّه سبحانه، وإنّما يفاض عليه كلّ شيء منه، قال تعالى:(يَا أَيُّها النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَميدُ)(1)، فكما أنّ وجوده مفاض من الله سبحانه، فهكذا كلّ ما يوصف به من جمال وكمال فهو من فيوض رحمته الواسعة، والاعتقاد بالهداية الذاتية، وغَناء الممكن بعد وجوده عن هدايته سبحانه، يناقض التوحيد الافعالي.
ابن تيمية وإيمان أبويّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)
سأل سائل ابن تيمية عن إسلام والديّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: هل يصحّ عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ الله تبارك وتعالى أحيا له أبويه حتى أسلما على يديه ثم ماتا بعد ذلك؟ فأجاب ابن تيمية بقوله: لم يصحّ ذلك عن أحد من أهل الحديث... لأنّ ظهور كذب ذلك لا يخفى على متديّن. ثمّ هذا خلاف الكتاب والسنّة الصحيحة والإجماع، قال تعالى:(إنّما التَّوبَةُ عَلى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَة...)(1)، فبيّن الله تعالى أنّه لا توبة لمن مات كافراً.(2)
ولا يخفى على القارئ الكريم أنّ السائل قد سلّم بأمر غير مسلّم وهو:أنّ والدا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ماتا وهما مشركان، لكن فرّع عليه ما سمعه من أنّ الله أحياهما حتى أسلما، ولكنّ الحق أنّه لم يدلّ دليل ـ ولو كان ضعيفاً ـ على أنّهما كانا مشركين، حتى يفرّع عليه ما ذكره السائل، بل القرائن تدلّ على أنّ بيت عبد المطلب كان بيت التوحيد، وأنّ خيمة التوحيد كانت قائمة في بيته، استظل تحتها الهاشميون عامّة إلاّ من شذّ منهم.
اتّفقت الإمامية على أنّ آباء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من لدن آدم إلى عبد الله بن عبد المطلب مؤمنون بالله عزّ وجلّ موحّدون، واحتجّوا على ذلك بالكتاب والأخبار، قال الله عزّ وجلّ: (الّذي يَراكَ حِينَ تَقُومُ* وَتَقَلُّبَكَ في السّاجِدينَ)(2).
وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا، ولم يدنسني بدنس الجاهلية».(3) وأجمعوا على أنّ عمّه أبو طالب مات مؤمناً، وأنّ آمنة بنت وهب كانت على التوحيد، وأنّها تحشر في جملة المؤمنين.(4) نعم الاستدلال بالآية مبني على أنّ المراد نقل روحه من ساجد إلى ساجد، وهو المروي عن ابن عباس، في قوله تعالى:(وَتَقَلُّبَكَ في السّاجِدينَ)أي من نبيّ إلى نبيّ حتى أُخرجت نبياً. وأمّا الاستدلال بالحديث فهو مبني على أنّه مَن كان كافراً فليس بطاهر، وقد قال سبحانه: (إنَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ).(1)
ويمكن الاستدلال على طهارة الوالد بما نقلت عنه من كلمات وأبيات عندما عرضت فاطمة الخثعمية نفسها عليه، فقال والد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ردّاً عليها:
أمّا الحرام فالممات دونه *** والحلّ لا حلّ فأستبينه
يحمي الكريم عرضه ودينه *** فكيف بالأمر الذي تبغينه(2)
وقد روي عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «لم أزل أُنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» ولعل فيه إيعازاً إلى طهارة آبائه وأُمهاته من العهر والزنا، بل العصيان والشرك.
وأمّا والدته(صلى الله عليه وآله وسلم) فكفى في ذلك ما رواه الحفّاظ عنها عند وفاتها فإنّها (رضي الله عنها) خرجت مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو ابن خمس أو ست سنين ونزلت بالمدينة تزور أخواله ـ أي أخوال جده(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ (3) وهم بنو عَديّ بن النّجار، ومعها أُم أيمن «بركة» الحبشية، فأقامت عندهم، وكان الرسول بعد الهجرة يذكر أُموراً حدثت في مقامه ويقول:«إنّ أُمّي نزلت في تلك الدار، وكان قوم من اليهود يختلفون وينظرون إليّ، فنظر إليّ رجل من اليهود، فقال: يا غلام ما اسمك؟ فقلت: أحمد، فنظر إلى ظهري وسمعته يقول: هذا نبي هذه الأُمّة، ثم راح إلى إخوانه فأخبرهم، فخافت أُمّي عليّ، فخرجنا من المدينة، فلمّا كانت بالأبواء توفّيت ودفنت فيها».
روى أبو نعيم في دلائل النبوّة عن أسماء بنت رهم قالت: شهدت آمنة أُمّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في علّتها التي ماتت بها، ومحمد عليه الصلاة والسلام غلام يَفَع،(1) له خمس سنين عند رأسها، فنظرت إلى وجهه وخاطبته بقولها:
إنّ صحّ ما أبصرتُ في المنام *** فأنت مبعوث إلى الأنام
فالله أنهاك عن الأصنام *** أن لا تواليها مع الأقوام
ثم قالت: كلّ حي ميّت، وكلّ جديد بال، وكلّ كبير يفنى، وأنا ميّتة، وذكري باق، وولدت طهراً.
وقال الزرقاني في«شرح المواهب» نقلاً عن جلال الدين السيوطي تعليقاً على قولها: وهذا القول منها صريح في أنّها كانت موحّدة، إذ ذكرت دين إبراهيم(عليه السلام) وبشّرت ابنها بالإسلام من عند الله، وهل التوحيد شيء غير هذا؟! فإنّ التوحيد هو الاعتراف بالله وانّه لا شريك له والبراءة من عبادة الأصنام.(2) هذا بعض ما يمكن أن يقال، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى موسوعتنا.
ابن تيمية والصلاة في غار حراء
إنّ المسلمين قاطبة عندما يعتمرون أو يحجّون، يزورون غار حراء ويتبرّكون به ويصلّون فيه، وقد تشرّف غار حراء بنزول القرآن فيه وتعبّد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فيه عدّة أعوام، ولكن ابن تيمية يريد نفي كرامة هذا المكان، ويقول في كتاب «اقتضاء الصراط»: وأصل دين المسلمين أنّه لا تختص بقعة بقصد العبادة فيها إلاّ المساجد خاصّة، وما عليه المشركون وأهل الكتاب من تعظيم بقاع للعبادة غير المساجد كما كانوا في الجاهلية يعظمون حراء، ونحوه من البقاع، هو ممّا جاء الإسلام بمحوه وإزالته ونسخه.(1)
أقول: إنّه سبحانه تبارك وتعالى أمرنا باتّخاذ مقام إبراهيم مصلّى وقال: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إبْراهيمَ مُصَلّى).(2) أوَ لا يكون مصلّى خاتم الأنبياء مثله أو أفضل منه؟
يقول الإمام النووي:وأجمع السلف والخلف على التبرّك بالصلاة في مصلّى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)في الروضة المباركة، ودخول الغار الذي دخله(صلى الله عليه وآله وسلم).(3)
وقال ابن جُزَيّ الغرناطي المالكي(المتوفّى741هـ): من المواضع التي ينبغي قصدها تبرّكاً، قبر إسماعيل(عليه السلام)وأُمّه هاجر وهما في الحجر، وقبر آدم(عليه السلام)في جبل أبي قبيس، والغار المذكور في القرآن وهو جبل أبي ثور، والغار الذي في جبل حراء حيث ابتدأ نزول الوحي على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وزيارة قبور من بمكّة والمدينة من الصحابة والتابعين والأئمة.(1)
ثمّ إنّ ابن تيمية يستدلّ على عدم جواز التبرّك بزيارة غار حراء والصلاة فيه قائلاً: بأنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أقام في مكة بعد النبوة بضع عشر سنة لم يزره ولم يصعد إليه، وكذلك المؤمنون معه بمكة، وبعد الهجرة أتى مكة مراراً في عمرة الحديبية وعام الفتح وأقام بها قريباً من عشرين يوماً وفي عمرة الجعرانة لم يأت غار حراء ولا زاره.(2)
أقول: قد تقدّم منا أنّ من خصائص ابن تيمية القضاء الباتّ في موضوعات ليس له فيها أي دليل ضعيف فضلاً عن القوي، فَمِنْ أين علم أنّ النبي لم يزره وكذلك المؤمنون؟ على أنّ عدم زيارة ذلك المحلّ لأجل أُمور هامّة كانت تقع على عاتقه، لا يدلّ على حرمته، وقد قلنا في محلّه: إنّ ترك النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الصحابة شيئاً لا يدلّ على التحريم، وهذا هو أحد المواضيع التي يتمسّك بها أبناء ابن تيمية(وهو المسمّى بالترك) وهو من الصحّة بمعزل.
إلى هنا تمّ ما ذكره ابن تيمية في حقّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يكشف عن عدم حبّه للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو عناده له(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو وإن كان يتظاهر في بعض المقامات بالحبّ والتكريم لكن بوادر كلامه تكشف عمّا كان يحمل في قرارة نفسه من بغض وكراهية تجاه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
بقي هنا شيء، وهو أنّ ابن تيمية يتمسّك ـ في عامّة المقامات ـ بفعل الصحابي، لكنّنا نراه يعدل عن ذلك الأصل في مورد تتبع عبد الله بن عمر للمواضع التي صلّى فيها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فيصلّي فيها.
ولمّا كان فعل ذلك الصحابي على خلاف رأيه وهواه، أخذ يصفه بالابتداع. يقول: وتحرّي هذا ـ أي عبد الله بن عمر ـ ليس من سنّة الخلفاء الراشدين، بل هو ممّا ابتدع، وقول الصحابي وفعله إذا خالفه نظيره ليس بحجّة فكيف إذا انفرد عن جماهير الصحابة.(1)
أقول: كيف يصف عبد الله بن عمر بالتبديع وقد عقد البخاري باباً لهذا، وقال: باب المساجد التي على طرف المدينة والمواضع التي صلّى فيها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد نقل فيه أحاديث عشرة، ننقل منها حديثاً واحداً، ومن أراد المزيد فليرجع إليه.
روى البخاري وقال: حدّثنا محمد بن أبي بكر المقدّمي قال: حدّثنا فضيل بن سليمان قال: حدّثنا موسى بن عقبة قال: رأيت سالم بن عبد الله يتحرّى أماكن من الطريق فيصلّي فيها، ويحدّث أنّ أباه كان يصلّي فيها، وأنّه رأى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّي في تلك الأمكنة. وحدّثني نافع عن ابن عمر أنّه كان يصلّي في تلك الأمكنة، وسألت سالماً فلا أعلمه إلاّ وافق نافعاً في الأمكنة كلّها، إلاّ أنّهما اختلفا في مسجد بشرف الروحاء.(1)
وروى ابن عبد البرّ في «الاستذكار» عن مالك بن محمد بن عمرو بن طلحة الديلمي، عن محمد بن عمران الأنصاري، عن أبيه أنّه قال: عدل إليّ عبد الله بن عمر وأنا نازل تحت سَرْحة بطريق مكة، فقال: ما أنزلك تحت هذه السرحة؟ فقلت: أردت ظلّها، فقال: هل غير ذلك؟ فقلت: لا ما أنزلني إلاّ ذلك، فقال عبد الله بن عمر: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا كنت بين الأخشبين من منى (ونفخ بيده نحو المشرق) فإنّ هناك وادياً يقال له السرر به شجرة سرّ تحتها سبعون نبيّاً». ثم قال ابن عبد البرّ: هذا الحديث دليل على التبرّك بمواضع الأنبياء والصالحين وآثارهم، وإلى هذا قصد ابن عمر بحديثه هذا. والله أعلم.(2)
هذا ما آثرنا إيراده من أخطاء ابن تيمية في حقّ النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وضربنا الصفح عن كثير ممّا زلت قدماه في هذا المضمار غفر الله لنا وله.
الدكتور البحاثة محمد السيد الصبيح
سنقف في هذه المقالة المتواضعة مع فكر الشيخ ابن تيمية وخاصة فيما يتعلق بأخطائه في حق سيد الخلق رسولنا عليه الصلاة والسلام وهي كثيرة منها:
توسّل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بحقّه وحقّ مَن سبقه من الأنبياء(عليهم السلام) :
لمّا ماتت فاطمة بنت أسد، دخل عليها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فجلس عند رأسها فقال: رحمك الله يا أُمّي...، بعد أُمّي ثمّ دعا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أُسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود يحفرون، فحفروا قبرها، فلمّا بلغوا اللحد حفره رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بيده وأخرج تُرابه بيده، فلمّا فرغ دخل رسول الله فاضطجع فيه ثم قال: «الله الذي يحيي ويميت وهو حيّ لا يموت، اغْفر لأُمّي فاطمة بنت أسد ولقِّنْها حجّتها، ووسّع عليها مدخلها، بحقّ نبيّك والأنبياء الذين من قبلي».(1)
إلى هنا تبيّن أنّ التوسّل بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبدعائه ونفسه وشخصه ومنزلته وجاهه ومقامه، أمر ندبت إليه السنّة النبوية وعمل به الصحابة، والروايات الواردة في هذا المضمار كثيرة فلا حاجة إلى التكرار.
إنّما الكلام فيما يدّعيه ابن تيمية من اتّفاق الصحابة وسلف الأُمة وأئمة المسلمين، في كلّ ما يتبنّاه من عقائد، وما يختاره من آراء، ومنها تحريم التوسّل بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في حين أنّ دراسة سيرة المسلمين والتتبُّع في غضون التاريخ يثبتان بوضوح أنّ التوسل بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بأشكاله المختلفة، كان دأب المسلمين عبر القرون، ومنذ رحيل النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد قام المحقّق السيد الشريف الدكتور محمود السيد صبيح برصد مواضع تلك التوسّلات بشكل موسّع في كتابه: «أخطاء ابن تيمية في حق رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وأهل بيته»، وقد استفدنا منه في هذا المجال، كما رجعنا إلى المصادر التي نقل عنها. وإليك نزراً منها:
«يا محمداه» شعار المجاهدين والمظلومين
قال الطبري في تاريخه في ذكر حرب المسلمين مع أهل اليمامة من أتباع مسيلمة الكذّاب: وكان شعارهم يومئذ «يا محمداه».(1)
وليس لهذا الشعار من معنى إلاّ الاستعانة بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وليست هي في الحقيقة إلاّ الاستعانة بربّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد سبق منّا أنّ العلل والأسباب تنتهي إلى الله سبحانه، فكلّ فعل وقوّة من عباد الله، فهو بحول الله وقوته سبحانه.
وروى الطبري في تاريخه وابن الأثير في الكامل أنّ عمال الحجّاج كتبوا إليه:إنّ الخراج قد انكسر وإنّ أهل الذمّة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار، فكتب الحجّاج إليهم: إنّ من كان له أصل في قرية فليخرج إليها، فخرج الناس فعسكروا فجعلوا يبكون وينادون: يا محمّداه، يا محمّداه وجعلوا لا يدرون أين يذهبون.(2) وروى ابن الأثير في الكامل في حوادث سنة (137هـ) في حرب المسلمين مع المجوس بقيادة سنباذ، قال: فلمّا التقوا قدّم سنباذ السبايا من النساء المسلمات على الجمال، فلما رأين عسكر المسلمين قمن في المحامل ونادين وامحمداه ذهب الإسلام، ووقعت الريح في أثوابهن، فنفرت الإبل وعادت على عسكر سنباذ، فتفرّق العسكر وكان ذلك سبب الهزيمة، وتبع المسلمون الإبل ووضعوا السيوف في المجوس ومن معهم.(1)
الاستعاذة برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)
أخرج مسلم عن أبي مسعود إنّه كان يضرب غلامه، فجعل يقول: أعوذ بالله، قال: فجعل يضربه فقال: أعوذ برسول الله، فتركه، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): والله، لله أقدر عليك منك عليه، فاعتقه.(2)
والشاهد في أنّ العبد قد استعاذ برسول الله بعد الاستعاذة بالله سبحانه، وقد بلغ من تكريمه لرسول الله أنّه ترك ضربه، فلو كانت الاستعاذة بالرسول كفراً وشركاً، لكان عليه أن يضربه بأشدّ من ذلك.
وأمّا لماذا لم يترك ضربه عندما استعاذ بالله سبحانه، فشرّاح الصحيح يحملونه على عدم سماعه لشدّة غضبه. وعلى كلّ حال فإن تلقّي الصحابة لهذه الكلمة يعبّر عن تكريم الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)لا الشرك بالله سبحانه.
روي عن عائشة أنّها قالت: بعثت صفيّة إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بطعام، قد صنعته له وهو عندي، فلمّا رأيت الجارية أخذتني رعدة حتى استقبلتني فضربت القصعة فرميت بها، قالت: فنظرت إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فعرفت الغضب في وجهه، فقلت: أعوذ برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يلعنّي اليوم.(3)
فهذا هو رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يسمع من زوجته الاستعاذة به، فلو كانت الاستعاذة أمراً محرّماً أو سبباً للشرك أو تجاوزاً للحدّ ووروداً في الغلو، لنهى رسول الله عائشة وكان عليه أن يغضب عليها أكثر من غضبه لضرب القصعة والرمي بها.
التقرّب إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)
روى أبو هريرة أنّ النبي قال: إنّ النساء أكثر أهل النار يوم القيامة، وعندئذ تقربت النساء بما استطعن، وكان في النساء امرأة عبد الله بن مسعود فانقلبتْ إلى عبد الله بن مسعود، فأخبرتْه بما سمعت من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وأخذت حليّها، قال ابن مسعود: أين تذهبين بهذه الحليّ؟ قالت: أتقرّب بها إلى الله ورسوله... الخ.(1)
والشاهد في قول زوجة ابن مسعود: «أتقرّب بها إلى الله ورسوله»، فجعلت التقرّب إلى الرسول في عداد التقرّب إلى الله، دون أن يستشمّ منها المقرئ الكبير ريح الشرك والغلو.
وما ذلك إلا لأنّ التقرّب إلى الرسول بما أنّه رسول الله، والمبلّغ عنه، فهو تقرّب إلى الله سبحانه، ويشهد على ذلك قوله سبحانه: (وَمَا نَقَمُوا إلاّ أنْ أغناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ)(2)، وقال سبحانه: (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنا اللهُ سَيُؤتِينا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ).(3)
ومن المعلوم أنّ إغناء الرسول وإيتائه إنّما هو بحول من الله سبحانه، فما يصدر منه هو فعل للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وفي الوقت نفسه فعل لله سبحانه، وهذا هو نفس التوحيد الأفعالي الذي يشير إليه قوله سبحانه: (وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى).(1)
ترى أنّه سبحانه يسلب عن رسوله الرمي في عين الإثبات فيقول: (وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ)، وليس هذا بتناقض ; لأنّ ما نفاه غير ما أثبته، فالأوّل هو الرمي بقوة مستقلة غير معتمدة على الله سبحانه، والثاني هو الرمي المستمدّ من حوله وقوته وإقداره.
التوبة إلى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)
روى البخاري عن عائشة أنّها اشترتْ نمرقة فيها تصاوير، فلمّا رآها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قام على الباب فلم يدخل، فعرفتْ في وجهه الكراهية، قالتْ: يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله، ماذا أذنبتْ؟...الخ.(2)
والشاهد في قولها: أتوب إلى الله وإلى رسوله، مع أنّها لم تعص إلاّ الله سبحانه، ولكن لمّا أنّ الرسول هو الذي بلّغ حكمه، كان عصياناً له أيضاً، فتابت إليهما معاً.
المفزع إلى الله ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم)
روى أحمد بإسناده إلى موسى، عن أبيه، عن عمرو بن العاص، قال: كان فزع بالمدينة فأتيت على سالم مولى أبي حذيفة وهو محتب بحمائل سيفه، فأخذت سيفاً فاحتبيت بحمائله، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «يا أيها الناس ألا كان مفزعكم إلى الله وإلى رسوله، قال: ألا فعلتم كما فعل هذان الرجلان المؤمنان»(1).
أقول: لو أنّ التكلّم بما في الرواية يُعدّ شركاً، لمّا رواها أحمد ولا مشايخه.
خطاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالسلام في التشهّد
لمّا ذهب ابن تيمية إلى انقطاع الصلة بين الأحياء والأموات، بل إلى القول بأنّ الأنبياء والأولياء أموات لا يسمعون، صار ذلك مبرراً لبعض أتباع منهجه إلى القيام بتحريف التشهد، فالمسلمون قاطبة يسلّمون على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في التشهد بصيغة الخطاب، ويقولون: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. غير أنّ بعض مقلّديه عمد إلى تحريف الكلم عن مواضعه، فحرّف التشهد إلى قوله: السلام على النبي ورحمة الله وبركاته.(2)
ولكي نقف على شذوذ هؤلاء المبتدعة، نأتي بصيغة التشهّد عند المذاهب السنيّة الأربعة، وإليك البيان:
جاء في «الموسوعة الفقهية الكويتية»، وتحت عنوان (ألفاظ التشهّد) ما يلي:(3)يرى الحنفية والحنابلة أنّ أفضل التشهد، التشهد الذي علّمه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)،عبد الله بن مسعود وهو: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته... الخ.(1)
ويرى المالكية أنّ أفضل التشهد تشهد عمر بن الخطاب وهو: التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته... الخ.(2)
وأمّا الشافعية فأفضل التشهد عندهم ما روي عن ابن عباس قال: كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يعلّمنا التشهد كما يعلّمنا السورة من القرآن،فيقول: «قولوا: التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته... الخ.(3)
وعلى هذا فالمذاهب الأربعة متّفقة على أنّ التسليم على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)هو بصورة الخطاب،فمن حرّفها إلى التسليم بصيغة الغائب، فقد حرّف الكلم عن مواضعه، واتّبع غير سبيل المؤمنين، قال سبحانه: (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبيلِ الْمُؤْمِنينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءت مَصِيراً).(4)
ومن العجيب أن يصبح السلام غير جائز على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بصيغة الخطاب، مع أنّه جائز على غيره، فقد روى مسلم عن بريدة (رضي الله عنه) قال: كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يعلّمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون، أنتم لنا فرَط، ونحن لكم تبع، نسأل الله لنا ولكم العافية.(1)
وفي حديث عائشة الذي رواه مسلم: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين والمستأخرين.(2)
ابن تيمية وعدم تمييز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أهل الحق عن أهل الباطل
ذكر العلاّمة الحلّي أنّ رسول الله قال في حق عليّ(عليه السلام): «هذا فاروق أُمّتي يفرّق بين أهل الحق والباطل». وقال عبد الله بن عمر: ما كنّا نعرف المنافقين على عهد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ ببغضهم عليّاً(عليه السلام).
وردّ ابن تيمية على العلاّمة الحلّي بكلام طويل قائلاً: ما المعنيّ بكون عليّ أو غيره فاروق الأُمة، يفرّق بين الحق والباطل؟ إن عنى بذلك أنّه يميّز بين أهل الحق وأهل الباطل فيميّز بين المؤمنين والمنافقين، فهذا أمر لا يقدر عليه أحد من البشر، لا نبي ولا غيره، وقد قال تعالى لنبيه:(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدينَةِ مَرَدُوا عَلى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ).(1)
فإذا كان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يعلم عين كلّ منافق في مدينته وفيما حولها، فكيف يعلم ذلك غيره؟(2)
لقد عزب عن المسكين أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وإن كان لا يعلمهم ما لم يتكلّموا، ولكن يميّزهم بطريق آخر صرّح به كتاب الله العزيز، قال تعالى: (وَلَوْ نَشاءُ لأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ في لَحْنِ الْقَوْلِ).(1) على أنّه قد وهم في فهم الحديث إذ المقصود من كونه الفاروق بين أهل الحق والباطل، أنّه يُميَّز بولائه أهل الحق عن غيرهم، فمن تولّى علياً(عليه السلام)وأطاعه واتّبع منهاجه، فهو من أهل الحق، ومن تولّى عنه وخالفه وعصاه، فهو من أهل الباطل.
وأيّة غرابة في أن يكون عليّ(عليه السلام)، هو الفاروق الذي يفصل بين أهل الحق والباطل، وقد صحّ عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال فيه: «إنّه لا يحبّك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق»(2)، وصحّ عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً أنّه قال:«مَن أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع علياً فقد أطاعني، ومن عصى عليّاً فقد عصاني».(3) ثمّ إنّ ابن تيمية ادّعى أنّ حديث «هذا فاروق أُمتي» حديث موضوع مكذوب على النبيّ، ولم يرو في شيء من كتب العلم المعتمدة، وليس له إسناد معروف.(4)
إنّ هذا الإصرار على ردّ الحديث والجزم بوضعه، لا يصدران من عالم يحتاط في إطلاق الأحكام الجاهزة، ولكنّ ابن تيمية يسارع إلى ردّ أو تأويل الأحاديث التي تسطع بفضائل عليّ، تعصّباً وعناداً، ومن المعلوم أنّ التعصّب داء عُضال لا دواء له.
ولا أدري كيف يقطع بتكذيب الحديث، وقد رواه الطبراني عن أبي ذر وسلمان، ورواه البزّار عن أبي ذرّ وحده(1)، ورواه ابن عساكر عن أبي ذرّ وسلمان، وعن أبي ذرّ، وعن ابن عباس(2)، ورُوي أيضاً عن أبي ليلى الغفاري.(3)
هذا وقد زاد الدكتور محمد رشاد سالم (محقّق منهاج السنّة) في الطين بِلَّة، حين قال: إنّه لم يجد الحديث المذكور لا في كتب الأحاديث الصحيحة ولا كتب الأحاديث الموضوعة!!! وهكذا يضع التعصب الذميم والتقليد الأعمى لـ(شيخ الإسلام الأمويّ) غشاوةً على العينين، فلا تبصران شيئاً يخالف هوى صاحبهما!!
ابن تيمية وعصمة الأنبياء والنبي الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)
اتّفق المسلمون على أنّ الأنبياء معصومون بعد البعثة، إلاّ من شذّ منهم ولا يعبأ به، وأمّا قبل البعثة فالأكثر على عصمتهم من الكبائر والصغائر، ومنهم من ذهب إلى عدم عصمتهم من الصغائر.
ويظهر من ابن تيمية عدم عصمتهم بعد البعثة من غير فرق بين نبي الإسلام وغيره، قال: والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه كانوا لا يؤخّرون التوبة، بل يسارعون ويسابقون إليها، لا يؤخّرون ولا يصرّون على الذنب، بل هم معصومون من ذلك، ومن أخّر ذلك زمناً قليلاً كفّر الله ذلك بما يبتليه به كما فعل بذي النون (عليه السلام).(1)
وظاهر العبارة أنّهم يرتكبون الكبيرة بعد البعثة، غير أنّهم لا يصرّون على الذنب، بل يتوبون بين كبيرة وكبيرة.
ويستدلّ على ذلك بقوله سبحانه:(إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً).(1) ثمّ وصف مَن فسّر هذه الآية وشبهها بنحو يعارض رأية بأنّه من الجهمية والباطنية.
ونقل في «منهاج السنّة» عن بعضهم: كان داود بعد التوبة خير منه قبل الخطيئة، وقال بعضهم: لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه.(2) وقال في موضع آخر: لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه.(3)
ومراده من أكرم الخلق هو النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) ومن الذنب هو الذنب الكبير، وهو ما ورد في قوله سبحانه:(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ).
ولمّا كانت الآية ذريعة لاتّهام النبي الأعظم بعدم العصمة، فلنعطف عنان الكلام إلى تفسير الآية فنقول: الذنب في اللغة وإن فُسّر بالإثم والجرم والمعصية، والجمع ذنوب،(4) لكنّ المعنى الحقيقي أوسع من ذلك وهو كلّ شيء له تبعة سيئة بشهادة قوله سبحانه حاكياً عن موسى(عليه السلام): (وَلَهُمْ عَليَّ ذَنْبٌ).(1) عنى بالذنب قتل الرجل الذي وكزه موسى(عليه السلام)فقضى عليه، وكان ذلك الرجل من آل فرعون.(2)
وقال في المقاييس: ذنب، الذال والنون والباء، أُصول ثلاثة: أحدها الجرم، والآخر مؤخّر الشيء، والثالث كالحظ والنصيب. فإذا أُريد الأوّل الذَّنْب والجُرم، والأصل الآخر الذَّنَب وهو مؤخّر الدواب.(3)
وبما أنّ الذَنْبَ والذَنَبَ من مادة واحدة وإنّما الاختلاف بالحركات فيمكن أن يقال: إنّ المادة أي الذال والنون والباء، بمعنى ما يتبع الشيء ومؤخّره، فلو يطلق على ذنب الحيوانات فلأجل كونه مؤخّر الشيء، ولو يطلق على المعصية والجرم فلأنّ له تبعة عرفية أو شرعية، فيستنتج من ذلك أنّ الذنب في ألسن المتأخّرين وإن كان هو الجرم والمعصية ولكن المعنى الحقيقي ما للشيء من التبعة، سواء أكان جرماً شرعياً أو جرماً عرفياً وغير ذلك.
إذا علمت ذلك فاعلم أنّه كان للنبي عند المشركين تبعات كثيرة حيث إنّ النبي بدعوته ونهضته وثورته على الكفر والوثنية وما وقع بينه وبين المشركين من الحروب والمغازي بعد الهجرة، صار ذا تبعة سيئة عند الكفّار والمشركين على حدّ لم يكونوا غافرين له مادامت لهم شوكة ومقدرة، وماكانوا لينسوا زهوق ملّتهم وانهدام سنّتهم وطريقتهم،ولا ثارات من قتل من صناديدهم دون أن يشفوا غليل صدورهم بالانتقام منه وإمحاء اسمه وإعفاء رسمه، غير أنّ الله سبحانه رزقه(صلى الله عليه وآله وسلم)هذا الفتح وهو فتح مكة أو فتح الحديبية المنتهي إلى فتح مكة، فذهب بشوكتهم وأخمد نارهم، فستر بذلك عليه ما كان لهم عليه(صلى الله عليه وآله وسلم)من الذنب وآمنه منهم.
فالمراد بالذنب ـ والله أعلم ـ التبعة السيئة التي لدعوته(صلى الله عليه وآله وسلم) عند الكفّار والمشركين، وهو ذنب لهم عليه كما في قول موسى لربه:(وَلَهُمْ عَليَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُون) (1)، وما تقدّم من ذنبه هو ما كان منه(صلى الله عليه وآله وسلم)بمكة قبل الهجرة، وما تأخّر من ذنبه هو ما كان منه بعد الهجرة، ومغفرته تعالى لذنبه هي ستره عليه بإبطال تبعته بإذهاب شوكتهم وهدم بنيتهم، ويؤيد ذلك ما يتلوه من قوله: (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) إلى قوله سبحانه: (وَيَنْصُرَكَ نَصْراً عَزيزاً).(2)
وبكلمة قصيرة: المراد، هو الذنب من منظار المشركين كما هو المراد في قصة موسى(عليه السلام)حيث إنّ قتل القبطي كان ذنباً عندهم.
وللإمام الثامن علي بن موسى الرضا(عليه السلام) كلام يؤيد هذا التفسير، وهو ما أجاب به المأمون الذي سأله قائلاً: فأخبرني عن قول الله تعالى:(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) فقال الرضا(عليه السلام): «لم يكن أحد عند مشركي مكة أعظم ذنباً من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ; لأنّهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنماً، فلمّا جاءهم(صلى الله عليه وآله وسلم)بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبُر ذلك عليهم وعظم وقالوا: (وَجَعَلَ الآلِهَةَ إلهاً واحِداً إنّ هذا لَشَيءٌ عُجابٌ* وَانْطَلَقَ المَلاَُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ* ما سَمِعْنا بِهذا في الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إنْ هذا إلاّ اخْتِلاقٌ)(1)، فلمّا فتح الله على نبيه مكة قال: يا محمد (إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) عند مشركي مكة بدعائك إلى التوحيد فيما تقدّم وما تأخّر».(2)
بيان آخر للآية
هناك بيان آخر للآية وهو أنّ النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) بسبب نهضته بوجه الشرك والمشركين والوثنية صار غرضاً لسهام الاتّهام والشبهات، ولأجل أن توضع الحواجز بينه وبين الناس اتّهمه المشركون بتهم كثيرة ذكرها القرآن الكريم وهي(كاهن، ساحر، يتعلّم القرآن من غيره، أو مجنون لا يعتدّ بقوله وعمله) وغير ذلك.
وكلّ هذه الأوصاف انتشرت في الجزيرة العربية بين الناس، ومن المعلوم أنّ أكثر المشركين تلقّوا ذلك بالقبول، ولذا كانوا يبتعدون عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)والإيمان به، ولمّا قام النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بهذا الفتح المبين الذي زالت به شوكتهم وكسرت قوتهم، وأصبح هو القائد المحنّك الذي أصبح قادراً على قيادة أُمّة كبيرة وإدارة أُمور لا يقوم بها إلاّ الأمثل من الرجال، فأثبت بذلك أنّه ليس بكاهن ولا ساحر ولا مجنون، وأين فتح البلاد وغزو الأقوام المسلحة، من الكهنة والسحرة والمجانين؟!
فالله سبحانه يقول: (إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)، ليترتب على ذلك زوال كلّ ما أُلصق به من صفات باطلة وتهم مزيّفة قبل الهجرة وبعدها.فعلى هذا فالآية لو لم تدلّ على عظمة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)خلقاً ومنطقاً وحنكة ، فهي لا تدلّ على أنّه كان عاصياً لله سبحانه.
ثمّ إنّ لابن تيمية ذريعة أُخرى لاتّهام النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بعدم العصمة وهو ذيل الآية، قال في «مجموع الفتاوى»: وقد قال الله لنبيّه بعد صلح الحديبية وبيعة الرضوان: (إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً* وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزيزاً)، فأخبر أنّه فعل هذا ليهديه صراطاً مستقيماً، فإذا كان هذا حاله فكيف بحال غيره.(1)
وكان عليه أن يستدلّ على ما رامه بأنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يقرأ كلّ يوم سورة الحمد ويقول:(إهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقيمَ)، فلو كان على صراط مستقيم فما معنى طلبه الهداية على الصراط المستقيم؟!
ولكنّ المقصود واضح لمن صفا قلبه وخلت روحه عن الحقد والعناد، فالمراد بـ (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقيماً) أي يثبّتك على صراط مستقيم; كما هو المراد من قوله: (إهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقيمَ). ثمّ إنّ ذيل الآية: (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزيزاً) خير دليل على أنّ المراد هو أنّه سبحانه يثبّت النبي في الطريق المتصل إلى الغاية، الذي سلكه بعد الرجوع من الحديبية وفتح خيبر، حيث بسط سلطة الدين في أقطار الجزيرة حتى تتطهر الأرض من أرجاس الشرك وأدران الوثنية، فإنّ فتح مكة والطائف صار سبباً لقطع الشرك عن مواطن التوحيد، وذلّ اليهود وخضوع نصارى الجزيرة للإسلام، وهذا لا ينال إلاّ بتثبيت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)على الصراط المستقيم الذي له ثمرات مثل ما ذكرنا.
بقيت هنا ذريعة أُخرى لمن يتّهم النبي بعدم العصمة، وهي قوله سبحانه: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى* وَوَجَدَكَ ضالاًّ فَهَدى* وَوَجَدَكَ عائلاً فَأَغْنى).(1)
فربما يتوهّم المتوهّم أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان ضالاًّ بنحو من الضلال، فهداه الله سبحانه إلى طريق التوحيد، ولكنّ هذا التفسير تفسير بالرأي، فدراسة مجموع آيات السورة يدلّ على أنّ محور الآيات هو بيان حالات النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)منذ أن ولد: كان يتيماً، فآواه; وفقيراً، فأغناه; وضالاًّ (بالضلالة الطبيعية التي تعمّ كلّ إنسان لولا هداية الله تبارك وتعالى)، فهداه، فلا مانع، إذاً من أن يكون ضالاًّ بالطبيعة حتى شملته الهداية منذ فتح عينه على الدنيا.
والضلالة الطبيعية ذاتية وهي لازمة لكلّ موجود ممكن، فتزال بتوفيق من الله سبحانه. وإن شئت التفصيل فنقول: إنّ الضلالة التي تقابل الهداية والرشاد، تُتصوّر على قسمين:
قسم تكون الضلالة فيه وصفاً وجودياً وحالة واقعية كامنة في النفس توجب منقصتها وظلمتها، كالكافر والمشرك والفاسق، والضلالة في هاتيك الأفراد صفة وجودية تكمن في نفوسهم، وتتزايد حسب استمرار الإنسان في الكفر والشرك والعصيان والتجرّؤ على المولى سبحانه، قال الله سبحانه:(ولاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسهِمْ إنّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ).(1)
فإنّ لازدياد الإثم بالجوارح تأثيراً في زيادة الكفر، وقد وصف سبحانه بعض الأعمال بأنّها زيادة في الكفر، قال سبحانه: (إِنَّما النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا).(2)
وقسم تكون الضلالة فيه أمراً عدميّاً، بمعنى كون النفس فاقدة للرشاد غير مالكة له، وعندئذ يكون الإنسان ضالاًّ بمعنى أنّه غير واجد للهداية من عند نفسه، وفي الوقت نفسه لا تكمن فيه صفة وجودية مثل ما تكمن في نفس المشرك والعاصي، وهذا كالطفل الذي أشرف على التمييز وكاد أن يعرف الخير من الشر، والصلاح من الفساد، والسعادة من الشقاء، فهو آنذاك ضالّ، لكن بالمعنى الثاني، أي غير واجد للنور الذي يهتدي به في سبيل الحياة، لا ضالّ بالمعنى الأوّل بمعنى كينونة ظلمة الكفر والفسق في روحه.
إذا عرفت ذلك، فاعلم: أنّه لو كان المراد من الضالّ في الآية، ما يخالف الهداية والرشاد فهي تهدف إلى القسم الثاني منه لا الأوّل، بشهادة أنّ الآية بصدد توصيف النعم التي أفاضها الله سبحانه على نبيّه يوم افتقد أباه ثم أُمّه فصار يتيماً لا ملجأ له ولا مأوى، فآواه وأكرمه بجدّه عبد المطلب ثم بعمّه أبي طالب، وكان ضالاًّ حسب الطبيعة الإنسانية، فهداه إلى أسباب السعادة وعرّفه وسائل الشقاء.
والالتزام بالضلالة بهذا المعنى لازم القول بالتوحيد الافعالي، فإنّ كلّ ممكن كما لا يملك وجوده وحياته، لا يملك فعله ولا هدايته ولا رشده إلاّ عن طريق ربّه سبحانه، وإنّما يفاض عليه كلّ شيء منه، قال تعالى:(يَا أَيُّها النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَميدُ)(1)، فكما أنّ وجوده مفاض من الله سبحانه، فهكذا كلّ ما يوصف به من جمال وكمال فهو من فيوض رحمته الواسعة، والاعتقاد بالهداية الذاتية، وغَناء الممكن بعد وجوده عن هدايته سبحانه، يناقض التوحيد الافعالي.
ابن تيمية وإيمان أبويّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)
سأل سائل ابن تيمية عن إسلام والديّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: هل يصحّ عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ الله تبارك وتعالى أحيا له أبويه حتى أسلما على يديه ثم ماتا بعد ذلك؟ فأجاب ابن تيمية بقوله: لم يصحّ ذلك عن أحد من أهل الحديث... لأنّ ظهور كذب ذلك لا يخفى على متديّن. ثمّ هذا خلاف الكتاب والسنّة الصحيحة والإجماع، قال تعالى:(إنّما التَّوبَةُ عَلى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَة...)(1)، فبيّن الله تعالى أنّه لا توبة لمن مات كافراً.(2)
ولا يخفى على القارئ الكريم أنّ السائل قد سلّم بأمر غير مسلّم وهو:أنّ والدا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ماتا وهما مشركان، لكن فرّع عليه ما سمعه من أنّ الله أحياهما حتى أسلما، ولكنّ الحق أنّه لم يدلّ دليل ـ ولو كان ضعيفاً ـ على أنّهما كانا مشركين، حتى يفرّع عليه ما ذكره السائل، بل القرائن تدلّ على أنّ بيت عبد المطلب كان بيت التوحيد، وأنّ خيمة التوحيد كانت قائمة في بيته، استظل تحتها الهاشميون عامّة إلاّ من شذّ منهم.
اتّفقت الإمامية على أنّ آباء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من لدن آدم إلى عبد الله بن عبد المطلب مؤمنون بالله عزّ وجلّ موحّدون، واحتجّوا على ذلك بالكتاب والأخبار، قال الله عزّ وجلّ: (الّذي يَراكَ حِينَ تَقُومُ* وَتَقَلُّبَكَ في السّاجِدينَ)(2).
وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا، ولم يدنسني بدنس الجاهلية».(3) وأجمعوا على أنّ عمّه أبو طالب مات مؤمناً، وأنّ آمنة بنت وهب كانت على التوحيد، وأنّها تحشر في جملة المؤمنين.(4) نعم الاستدلال بالآية مبني على أنّ المراد نقل روحه من ساجد إلى ساجد، وهو المروي عن ابن عباس، في قوله تعالى:(وَتَقَلُّبَكَ في السّاجِدينَ)أي من نبيّ إلى نبيّ حتى أُخرجت نبياً. وأمّا الاستدلال بالحديث فهو مبني على أنّه مَن كان كافراً فليس بطاهر، وقد قال سبحانه: (إنَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ).(1)
ويمكن الاستدلال على طهارة الوالد بما نقلت عنه من كلمات وأبيات عندما عرضت فاطمة الخثعمية نفسها عليه، فقال والد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ردّاً عليها:
أمّا الحرام فالممات دونه *** والحلّ لا حلّ فأستبينه
يحمي الكريم عرضه ودينه *** فكيف بالأمر الذي تبغينه(2)
وقد روي عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «لم أزل أُنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» ولعل فيه إيعازاً إلى طهارة آبائه وأُمهاته من العهر والزنا، بل العصيان والشرك.
وأمّا والدته(صلى الله عليه وآله وسلم) فكفى في ذلك ما رواه الحفّاظ عنها عند وفاتها فإنّها (رضي الله عنها) خرجت مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو ابن خمس أو ست سنين ونزلت بالمدينة تزور أخواله ـ أي أخوال جده(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ (3) وهم بنو عَديّ بن النّجار، ومعها أُم أيمن «بركة» الحبشية، فأقامت عندهم، وكان الرسول بعد الهجرة يذكر أُموراً حدثت في مقامه ويقول:«إنّ أُمّي نزلت في تلك الدار، وكان قوم من اليهود يختلفون وينظرون إليّ، فنظر إليّ رجل من اليهود، فقال: يا غلام ما اسمك؟ فقلت: أحمد، فنظر إلى ظهري وسمعته يقول: هذا نبي هذه الأُمّة، ثم راح إلى إخوانه فأخبرهم، فخافت أُمّي عليّ، فخرجنا من المدينة، فلمّا كانت بالأبواء توفّيت ودفنت فيها».
روى أبو نعيم في دلائل النبوّة عن أسماء بنت رهم قالت: شهدت آمنة أُمّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في علّتها التي ماتت بها، ومحمد عليه الصلاة والسلام غلام يَفَع،(1) له خمس سنين عند رأسها، فنظرت إلى وجهه وخاطبته بقولها:
إنّ صحّ ما أبصرتُ في المنام *** فأنت مبعوث إلى الأنام
فالله أنهاك عن الأصنام *** أن لا تواليها مع الأقوام
ثم قالت: كلّ حي ميّت، وكلّ جديد بال، وكلّ كبير يفنى، وأنا ميّتة، وذكري باق، وولدت طهراً.
وقال الزرقاني في«شرح المواهب» نقلاً عن جلال الدين السيوطي تعليقاً على قولها: وهذا القول منها صريح في أنّها كانت موحّدة، إذ ذكرت دين إبراهيم(عليه السلام) وبشّرت ابنها بالإسلام من عند الله، وهل التوحيد شيء غير هذا؟! فإنّ التوحيد هو الاعتراف بالله وانّه لا شريك له والبراءة من عبادة الأصنام.(2) هذا بعض ما يمكن أن يقال، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى موسوعتنا.
ابن تيمية والصلاة في غار حراء
إنّ المسلمين قاطبة عندما يعتمرون أو يحجّون، يزورون غار حراء ويتبرّكون به ويصلّون فيه، وقد تشرّف غار حراء بنزول القرآن فيه وتعبّد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فيه عدّة أعوام، ولكن ابن تيمية يريد نفي كرامة هذا المكان، ويقول في كتاب «اقتضاء الصراط»: وأصل دين المسلمين أنّه لا تختص بقعة بقصد العبادة فيها إلاّ المساجد خاصّة، وما عليه المشركون وأهل الكتاب من تعظيم بقاع للعبادة غير المساجد كما كانوا في الجاهلية يعظمون حراء، ونحوه من البقاع، هو ممّا جاء الإسلام بمحوه وإزالته ونسخه.(1)
أقول: إنّه سبحانه تبارك وتعالى أمرنا باتّخاذ مقام إبراهيم مصلّى وقال: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إبْراهيمَ مُصَلّى).(2) أوَ لا يكون مصلّى خاتم الأنبياء مثله أو أفضل منه؟
يقول الإمام النووي:وأجمع السلف والخلف على التبرّك بالصلاة في مصلّى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)في الروضة المباركة، ودخول الغار الذي دخله(صلى الله عليه وآله وسلم).(3)
وقال ابن جُزَيّ الغرناطي المالكي(المتوفّى741هـ): من المواضع التي ينبغي قصدها تبرّكاً، قبر إسماعيل(عليه السلام)وأُمّه هاجر وهما في الحجر، وقبر آدم(عليه السلام)في جبل أبي قبيس، والغار المذكور في القرآن وهو جبل أبي ثور، والغار الذي في جبل حراء حيث ابتدأ نزول الوحي على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وزيارة قبور من بمكّة والمدينة من الصحابة والتابعين والأئمة.(1)
ثمّ إنّ ابن تيمية يستدلّ على عدم جواز التبرّك بزيارة غار حراء والصلاة فيه قائلاً: بأنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أقام في مكة بعد النبوة بضع عشر سنة لم يزره ولم يصعد إليه، وكذلك المؤمنون معه بمكة، وبعد الهجرة أتى مكة مراراً في عمرة الحديبية وعام الفتح وأقام بها قريباً من عشرين يوماً وفي عمرة الجعرانة لم يأت غار حراء ولا زاره.(2)
أقول: قد تقدّم منا أنّ من خصائص ابن تيمية القضاء الباتّ في موضوعات ليس له فيها أي دليل ضعيف فضلاً عن القوي، فَمِنْ أين علم أنّ النبي لم يزره وكذلك المؤمنون؟ على أنّ عدم زيارة ذلك المحلّ لأجل أُمور هامّة كانت تقع على عاتقه، لا يدلّ على حرمته، وقد قلنا في محلّه: إنّ ترك النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الصحابة شيئاً لا يدلّ على التحريم، وهذا هو أحد المواضيع التي يتمسّك بها أبناء ابن تيمية(وهو المسمّى بالترك) وهو من الصحّة بمعزل.
إلى هنا تمّ ما ذكره ابن تيمية في حقّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يكشف عن عدم حبّه للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو عناده له(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو وإن كان يتظاهر في بعض المقامات بالحبّ والتكريم لكن بوادر كلامه تكشف عمّا كان يحمل في قرارة نفسه من بغض وكراهية تجاه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
بقي هنا شيء، وهو أنّ ابن تيمية يتمسّك ـ في عامّة المقامات ـ بفعل الصحابي، لكنّنا نراه يعدل عن ذلك الأصل في مورد تتبع عبد الله بن عمر للمواضع التي صلّى فيها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فيصلّي فيها.
ولمّا كان فعل ذلك الصحابي على خلاف رأيه وهواه، أخذ يصفه بالابتداع. يقول: وتحرّي هذا ـ أي عبد الله بن عمر ـ ليس من سنّة الخلفاء الراشدين، بل هو ممّا ابتدع، وقول الصحابي وفعله إذا خالفه نظيره ليس بحجّة فكيف إذا انفرد عن جماهير الصحابة.(1)
أقول: كيف يصف عبد الله بن عمر بالتبديع وقد عقد البخاري باباً لهذا، وقال: باب المساجد التي على طرف المدينة والمواضع التي صلّى فيها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد نقل فيه أحاديث عشرة، ننقل منها حديثاً واحداً، ومن أراد المزيد فليرجع إليه.
روى البخاري وقال: حدّثنا محمد بن أبي بكر المقدّمي قال: حدّثنا فضيل بن سليمان قال: حدّثنا موسى بن عقبة قال: رأيت سالم بن عبد الله يتحرّى أماكن من الطريق فيصلّي فيها، ويحدّث أنّ أباه كان يصلّي فيها، وأنّه رأى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّي في تلك الأمكنة. وحدّثني نافع عن ابن عمر أنّه كان يصلّي في تلك الأمكنة، وسألت سالماً فلا أعلمه إلاّ وافق نافعاً في الأمكنة كلّها، إلاّ أنّهما اختلفا في مسجد بشرف الروحاء.(1)
وروى ابن عبد البرّ في «الاستذكار» عن مالك بن محمد بن عمرو بن طلحة الديلمي، عن محمد بن عمران الأنصاري، عن أبيه أنّه قال: عدل إليّ عبد الله بن عمر وأنا نازل تحت سَرْحة بطريق مكة، فقال: ما أنزلك تحت هذه السرحة؟ فقلت: أردت ظلّها، فقال: هل غير ذلك؟ فقلت: لا ما أنزلني إلاّ ذلك، فقال عبد الله بن عمر: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا كنت بين الأخشبين من منى (ونفخ بيده نحو المشرق) فإنّ هناك وادياً يقال له السرر به شجرة سرّ تحتها سبعون نبيّاً». ثم قال ابن عبد البرّ: هذا الحديث دليل على التبرّك بمواضع الأنبياء والصالحين وآثارهم، وإلى هذا قصد ابن عمر بحديثه هذا. والله أعلم.(2)
هذا ما آثرنا إيراده من أخطاء ابن تيمية في حقّ النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وضربنا الصفح عن كثير ممّا زلت قدماه في هذا المضمار غفر الله لنا وله.