المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رموز تبقى في التاريخ


leprence30
2013-09-07, 12:13
ابن نفيس
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبد الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد .. فإن مسيرة الحضارة في تاريخنا الإسلامي قد بلغت شأوا عظيماً وحققت إنجازات باهرة وسطع في سمائها نجوم لا زالت قوافل العلماء تهتدي بمعارفهم ومختلف الشعوب تنتفع بخبراتهم.

ومن تلك الشخصيات الفذة ابن النفيس الذي نتحدث عنه في هذه الحلقة للأسباب التالية:

1. تقديم صورة عملية لالتزام المسلمين بالمنهجية العلمية القائمة على التحقيق والضبط والجدية والإنصاف.

2. تقديم برهان من واقع تاريخنا المجيد على خطأ ما يتوهمه البعض من أنه بعد صدر الخلافة العباسية (لا يوجد عالم واحد من المسلمين قد تميز بالتمكن في مجال من مجالات العلوم الكونية)، وفارس برهاننا هنا طبيب عظيم من أعيان القرن السابع الهجري.

3. تنبيه المسلمين للحذر من تصديق أكاذيب وافتراءات الأعداء الذين يتنكرون للواقع ويعملون على طمس الحقائق والوقائع ومن ذلك أنهم ينسبون اكتشاف الدورة الدموية للانكليزي هارفي أو للإسباني سافيتوس مع أن مكتشفها هو طبيبنا المسلم ابن النفيس.

4. البرهنة الواقعية على أن العلماء المسلمين لم يتوقفوا عند حد قراءة علوم غيرهم وتمثل معارفهم بل إنهم أبدعوا أشياء جديدة وابتكروا أموراً عديدة في كل تخصص فأثروا بذلك مسيرة المعرفة الإنسانية ودفعوها في اتجاه سعادة البشرية جمعاء.

5. وسنرى في شخصية ابن النفيس البرهان على إمكانية محافظة الإنسان على تنفيذ مستلزمات التدين في أداء عملي متسق بدون إفراط ولا تفريط.

فمن هو ابن النفيس الذي نترجم له في هذه الصفحات ؟ وما هي ميزاته ؟ وما أبرز نشاطاته ؟ وهل كان له منهج متميز. وهل خلف لنا آثاراً علمية رفد بها مسيرة تراثنا الخالد ؟ هذا ما نجد الإجابة عليه في هذه الأسطر، وبالله التوفيق.

أولاً: نشأته ومعالم شخصيته


هو أبو الحسن علاء الدين ابن أبي الحزم المعروف بابن النفيس القرشي، طبيب عربي مسلم وفيلسوف وفقيه ولغوي، ولد عام 607هـ في دمشق وتوفي بالقاهرة 687هـ، ولقد نشأت في دمشق ودرس الطب على يد مهذب الدين الدخوار أشهر أطباء عصره وكذلك تتلمذ على عمران الإسرائيلي ومارس الطب ببراعة ونجاح ثم حضر إلى القاهرة زمن الملك الكامل الأيوبي والقاهرة آنئذ مركز العلوم والفنون وبلد إشعاع فكري، فمارس الطب هناك، ثم إن السلطان بيبرس اختاره طبيباً خاصاً له فأصبح عميداً للمستشفى المنصوري، بل عميداً للأطباء في مصر، مع مزاولته مداواة المرضى في داره الفارهة والتي كان يقال عنها: لا مثيل لها، بل إن هذه الدار بما فيها وقفها على البيمارستان المنصوري.

كان ابن النفيس رجلاً طويل القامة نحيل الجسم جم الذكاء واسع المعرفة متضلعاً في مختلف العلوم مستقيماً في كل الشؤون عاش قرابة ثمانين سنة قضاها في طاعة الله مؤدياً أمانة دينه حكيماً في مزاولة مهنة الطب، ثم إنه عرف بطول البال ولين الجانب وعزف عن الزواج لكي يتفرغ للعلم وأهله، ولقد كان باحثاً من الطراز الممتاز ألف في الطب كما ألف في علوم أخرى مثل المنطق والفلسفة واللغة والبيان والحديث وأصول الفقه، وكان واثقاً من نفسه متمكناً في ما يقول، واضح العبارة سهل الأسلوب، وكان يتمتع بشجاعة أدبية، مع حسن سيرة وطيب عشرة، حاضر البديهة يغلب عليه الهدوء مع الاتزان، والتنزه عما لا يليق والحكمة في التصرفات، يروى أنه مرض في آخر عمره فوصف له النبيذ فرفض أن يأخذه قائلاً: (لا ألقى الله وفي بطني شيء من الخمر).

ثانياً: منهجه العلمي والمسلكي:


لقد تميز ابن النفس بأصالة الرأس واستقلال الفكر واعتماد المنهج التجريبي في إثبات الحقائق العلمية: من رصد، ومشاهدة، ومقارنة، وملاحظة، وإجراء تجارب، كما أنه كان يؤمن بحرية القول وضرورة الاجتهاد، وكان لا يتردد في نقد أخطاء كبار الأطباء السابقين كجالينوس وابن سينا وغيرهم، كما كانت طريقته في العلاج تعتمد على تنظيم الغذاء أكثر من استخدام الأدوية، ثم إنه كان يفضل الأدوية المفردة على المركبة ولذلك يقول الدكتور محمد أمين فرشوخ: (وابن النفيس كان يخضع أبحاثه لمنهج علمي واضح، فقد درس أعمال من سبقه من العلماء والأطباء قبل أن يحكم على غير السليم منها ويعتمد الجيد لبناء نظريات جديدة، وقد اهتم بالظواهر والعوامل المؤثرة في جسم الإنسان أكثر من اهتمامه بالطب العلاجي، لذلك يمكننا اعتباره عالماً محققاً، بل كان رائداً في علم وظائف الأعضاء، مع تسجيلنا إنجازاته التي سبق بها عصره، كما أنه كان الأول فيمن كتب في أصول الفقه وعلم الطب.

ثالثاً: بعض صفات ومآثر ابن النفيس في الطب


- كانت طريقته في معالجة المرضى تعتمد على تنظيم الغذاء أكثر من الاعتماد على الأدوية والعقاقير.

- كان ذا أفق رحيب علمياً، وتفكير شامل ونشاط مستمر في التجارب.

- ويذكر الدكتور عامر النجار عنه ما يؤكد أنه: (كان عالماً بالتشريح حاذقاً بهذا الفن على الرغم من أنهم زعم أنه لم يمارس التشريح بوازع الشريعة والرحمة – فكتاباته العلمية الدقيقة عن التشريح تؤكد دقته به).

- وأما عن غزارة علمه فتحدثنا الدكتورة زيغريد هونكة فتقول: (ويروي الرواة أنه كان كتب كتبه دون الرجوع إلى أي مرجع وكأنه سيل عرم متدفق، وبينما كان مرة في أحد حمامات القاهرة التي بلغت عدداً جاوز 1200 وهو منهمك في دلك جسمه بصابون زيت الزيتون النقي إذ به يخرج فجأة من حوض الحمام إلى القاعة الخارجية ويطلب ورقاً وريشة وحبراً ويبدأ في كتابة رسالته عن النبض حتى إذا ما انتهى منها رجع ثانية إلى الحمام وكأن شيئاً لم يحدث.
- كان يحفظ كتاب القانون لابن سينا عن ظهر قلب، ولذلك كان يلقي المحاضرات عن جالينوس وعن ابن سينا دون أي سابق تحضير، ولقد قال بخصوص كتبه التي ألفها: (لو لم أكن واثقاً من أن كتبي ستعيش بعدي مدة عشرة آلاف سنة لما كتبتها).


- نبوغه في فن المداواة من خلال جدارة ومهارة مسلكية منقطعة النظير حتى قيل عنه بأنه كان موسوعة في المعرفة تمشي على قدمين.

- أصالة تفكيره حيث كان يخضع ما يقرؤه للنظرة النقدية الممحصة.

- بل إنه كسر طوق التقيد بالطرق الموروثة عن السابقين ودعا إلى التحرر من هيمنة الأفكار التي ظهر فسادها في الوقت الذي كان غيره يرهب من انتقادها أو مخالفتها.

- أمانته العلمية وإنصافه وعدم تنكره لفضل العلماء الآخرين وقد كان يقول بصدد مخالفته لابن سينا: (خالفناه في أشياء يسيرة ظننا أنها من أغاليط النساخ).

- جمعه بين مختلف العلوم بشكل منسجم لا تفاوت فيه.

رابعاً: اكتشاف ابن النفيس للدورة الدموية


لقد تتبع ابن النفيس مسار الدم في العروق ولاحظ سريانه في الجسد لذلك فإنه قد استطاع – ولأول مرة في التاريخ – وصف الدورة الدموية فكان بذلك هو المكتشف الأول لها قبل سيرفيتوس الأسباني وهارفي الانكليزي، ولقد أثبت ابن النفيس أن الدم ينقى في الرئتين، فقد اهتدى إلى أن تجاه الدم ثابت وأنه يمر من التجويف القلبي الأيمن إلى الرئة حيث يخالط الهواء، ومن الرئة عن طريق الشريان الوريدي – الوريد الرئوي – إلى التجويف الأيسر، فالدم يأتي غليظاً من الكبد إلى التجويف الأيمن حيث يلطف ثم يمر من الشريان الوريدي إلى الرئة حيث ينقسم إلى قسمين: قسم رقيق يصفى في مسام الشريان الرئوي. وقسم غليظ يتبقى في الرئة عن طريق القصبة الهوائية ويدخل الشريان الوريدي – الوريد الرئوي – عبر جدارها النحيف ثم يصل الدم الرقيق المخلوط بالهواء إلى التجويف الأيسر حيث تتكون الروح التي ترج منه إلى الأورطة فالشرايين فالأنسجة، وأما غذاء القلب فيكون عن طريق أوعية خاصة تمر في صميم عضلة القلب.

خامساً: قصة فضح الفرية التي تنسب اكتشاف الدورة الدموية لهارفي وغيره

من المؤسف أن يردد بعض كتاب المسلمين والمنتسبين للعربة كذب أعدائنا حيث يذكرون أن هارفي الانجليزي أو سيرفيتوس الإسباني قد اكتشفا الدورة الدموية حيث إن هذا الكذب قد استمر قروناً ثلاثة إلى أن قبض الله من يفضح الكذب ويصحح الخطأ.

ها هو الطالب المصري محي الدين التطاوي قد جاء إلى مدينة فرايبورغ في ألمانيا ليدرس الطب هناك وأثناء متابعته مسيرة أبحاثه اكتشف مخطوطة لابن النفيس تثبت بدون شك أن سيرفيتوس وهارفي قد استقوا المعلومات التي نحلوها لأنفسهم وظهر للعالم على أنهم قد اكتشفوا الدورة الدموية، لذلك فقد اطلع الطبيب أساتذته على اكتشافه هذا مظهراً لهم النصوص من واقع مخطوطة ابن النفيس وهم بدورهم أرسلوا تلك النصوص العربية المقتبسة من كتاب ابن النفس – بعد أن أخرجوا من مكتبة الدولة كل المخطوطات القديمة وأشبعوها بحثاً وتنقيحاً ومقارنة – إلى زميلهم المستشرق الألماني مايرهوف نزيل القاهرة يسألونه عن رأيه في ادعاء الطبيب المصري، وأذهل الاكتشاف مايرهوف فأبلغ زملاءه بصحة ما ذهب إليه تلميذهم التطاوي وأرسل بالخبر إلى المؤرخ الكبير، سار ثم على جناح السرعة فأدرجه في نهاية كتابه الذي كان يعده وهو مقدمة في تاريخ العلم ثم أثبته في الطبعة الثانية من كتاب دائرة المعارف الإسلامية فتأكد الحق، وهو أن ابن النفيس هو مكتشف الدورة الدموية الصغرى. ثم إنه قد أثبت مؤرخ الطب الفرنسي بي ني وتلميذه الدكتور عبد الكريم شحادة أن سيرفيتوس قد اطلع على ترجمة كلام ابن النفيس فأفاد منها وتكلم عنها دون أن يذكر أنه استقاها من كلام ابن النفيس. وكذلك فعل هارفي عندما نقل عنه هذا الاكتشاف، ولكن لم يشر إلى مصدره الذي هو ابن النفيس.

فكم من فارق بين أمانة المسلمين عندما نقلوا علوم غيرهم فلم ينتحلوا لأنفسهم المعلومات التي استقوها وبين خيانة الذين كانوا يعبون الحقائق العلمية التي خلفها أجدادنا ثم ينسبونها إلى أنفسهم وكفى بها خيانة ).

إن مستشرقة أوربية قامت بتكذيب ذلك حيث قالت عن ابن النفيس إنه: (أول من نفذ ببصره إلى أخطاء جالينوس ونقدها ثم جاء بنظرية الدورة الدموية. لم يكن مارفيتوس الأسباني ولا هارفي الانكليزي بل كان رجلاً عربياً أصيلاً من القرن الثالث عشر الميلادي، وهو ابن النفيس الذي وصل إلى هذا الاكتشاف العظيم في تاريخ الإنسانية وتاريخ الطب قبل هارفي بأربعمائة عام، وقبل سارفيتوس بثلاثمائة عام).

ومن المدهش جداً أن مجلة عربية تصدر في بلد عربي مسلم ويدعي القائمون عليها أنهم يلتزمون الموضوعية وينشدون التقدم يم ينشرون في مجلتهم صدى أكاذيب أعدائنا فيساهمون بذلك في طمس معالم الحق وترويج الهراء والإفك ويا للأسف.

سادساً: أهم أعمال ومنجزات ابن النفيس


1- معرفة تركيب الرئة والأعوية الشعرية وشرح حقيقة الحويصلات الرئوية على الوجه الصحيح.

2- فهم وظائف الرئتين والأوعية الدموية التي بين القلب والرئتين وبذلك خالف فهم ابن سينا، ومن قبله أرسطو، كما يؤكد ذلك د. عبد الله الدفاع.

3- اكتشاف الدورة الدموية الصغرى وباكتشافها قضى على خطأ جالينوس السابق في هذه القضية.

4- فهم وظائف الشرايين الإكليلية وتصحيح الخطأ الذي مفاده أن تغذية القلب من البطين الأيمن وبالتالي فهو أول من اكتشف الدورة الدموية في الشرايين الإكليلية وبذلك صحح خطأ آخر كان سائداً من (أن أوردة الرئة فيها هباب وهو رأي جالينوس).

5- شرح حقيقة تجدد الدم بالهواء من الرئتين خلافا لما كان سائداً من رأس جالينوس في هذه القضية.

6- كشفه الاتصال بين أوردة الرئتين وشرايينها حيث إن ذلك يكمل رسم صورة الدورة الدموية ضمن الرئة.

7- وكما أشرنا في الفقرة (5) فإنه قد سبق إلى تصحيح خطأ جالينوس فقرر أن الشرايين في الرئة تحتوي الدم وليس فيها هباب.

8- اكتشف غلظ جدران أوردة الرئتين بشكل اكثر من شرايينهما.

9- جزمه بعدم وجود فتحة بين البطينين في اقلب خلافاً لرأي جالينوس.

وملاحظة التدرج بالمداواة من المفرد إلى المركب عند الاقتضاء.

11- فهم علاقة العين بالدماغ وأنها (ألة للبصر وليست باصرة).

سابعاً: أهم مؤلفات ابن النفيس


(علماً بأن الدكاترة فروخ وحلاق في كتابهم: تاريخ العلوم عند العرب أوصلوها لـ24 مؤلفا). إلا أننا نكتفي بالقول:

لعل أهم مؤلفات ابن النفيس تلك الموسوعة التي بدأ بتأليفها في علوم الطب وكان من المتوقع أن تبلغ ثلاثمائة جزء. ولكن المنية عاجلته ولم يتم منها إلا كتابة ثمانين جزءاً فقط، وكما ذكر د. عبد الحليم المنتصر فإن اسم هذا الكتاب – الموسوعة – هو: (الشامل)، والجزء الذي أنجزه منه وبيضه ثمانون سفراً، هو الأن وقف بالبيمارستان المنصوري في القاهرة).

ونشير هنا إلى أن أهم مؤلفات ابن النفيس هي:

1- الشامل في الطب والموجود منه ثمانون جزءاً.

2- شرح القانون وهو عدة أسفار، والمقصود بالقانون كتاب ابن سينا.

3- موجز القانون وهو اختصار لكتاب ابن سينا (القانون).

4- كتاب شرح تقدمة المعارف، وكتاب التقدمة هو لأبقراط.

5- كتاب تشريح القانون، وفيه وصف للرئة.

هذا وعلى الله القصد، والحمد لله رب العالمين.

leprence30
2013-09-07, 12:22
ابو الطيب المتنبي

فلسفة الحياة لدى شاعر الحكمة والطموح

أبو الطيب المتنبي، أعظم شعراء العرب، وأكثرهم تمكناً باللغة العربية وأعلمهم بقواعدها ومفرداتها، صاحب كبرياء وشجاع طموح محب للمغامرات. في شعره اعتزاز بالعروبة، وتشاؤم وافتخار بنفسه، أفضل شعره في الحكمة وفلسفة الحياة ووصف المعارك، إذ جاء بصياغة قوية محكمة. إنه شاعر مبدع عملاق غزير الإنتاج يعد بحق مفخرة للأدب العربي، فهو صاحب الأمثال السائرة والحكم البالغة والمعاني المبتكرة. وجد الطريق أمامه أثناء تنقله مهيئاً لموهبته الشعرية الفائقة لدى الأمراء والحكام، إذ تدور معظم قصائده حول مدحهم. لكن شعره لا يقوم على التكلف والصنعة، لتفجر أحاسيسه وامتلاكه ناصية اللغة والبيان، مما أضفى عليه لوناً من الجمال والعذوبة. ترك تراثاً عظيماً من الشعر القوي الواضح، يضم 326 قصيدة، تمثل عنواناً لسيرة حياته، صور فيها الحياة في القرن الرابع الهجري أوضح تصوير، ويستدل منها كيف جرت الحكمة على لسانه، لاسيما في قصائده الأخيرة التي بدأ فيها وكأنه يودعه الدنيا عندما قال: أبلى الهوى بدني. لنتعرف على هذا الشاعر العظيم ونقترب أكثر من سيرة حياته:

ظهور الموهبة الشعرية:

هو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكوفي الكندي. ولد في كندة بالكوفة سنة 303 هـ=915 م. وتقع حالياً على مسافة عشرة كيلومترات من النجف وخمسة وستون من كربلاء تقريباً. يقال إن والده الحسين سماه أحمد و لقبه بأبي الطيب، ويقال إنه لم يعرف أمه لموتها وهو طفل فربته جدته لأمه. قضى طفولته في كندة (304-308 هـ= 916-920م)، اشتهر بحدة الذكاء واجتهاده وظهرت موهبته الشعرية باكراً، فقال الشعر صبياً، وهو في حوالي العاشرة، وبعض ما كتبه في هذه السن موجود في ديوانه. في الثانية عشر من عمره رحل إلى بادية السماوة، أقام فيها سنتين يكتسب بداوة اللغة العربية وفصاحتها، ثم عاد إلى الكوفة حيث أخذ يدرس بعناية الشعر العربي، وبخاصة شعر أبي نواس وابن الرومي ومسلم بن الوليد وابن المعتز. وعني على الأخص بدراسة شعر أبي تمام وتلميذه البحتري. انتقل إلى الكوفة والتحق بكتاب (309-316 هـ=921-928م) يتعلم فيه أولاد أشراف الكوفة دروس العلوية شعراً ولغة وإعراباً. اتصل في صغره بأبي الفضل في الكوفة، وكان من المتفلسفة، فهوسه وأضله. كان أبو الطيب سريع الحفظ، فقيل أنه حفظ كتاباً نحو ثلاثين ورقة من نظرته الأولى إليه.

من البادية إلى السجن:

لم يستقر أبو الطيب في الكوفة، اتجه خارجاً ليعمق تجربته في الحياة وليصبغ شِعره بلونها، أدرك بما يتملك من طاقات وقابليات ذهنية أن مواجهة الحياة في آفاق أوسع من آفاق الكوفة تزيد من تجاربه ومعارفه، فرحل إلى بغداد برفقة والده، وهو في الرابعة عشرة من عمره، قبل أن يتصلب عوده، وفيها تعرف على الوسط الأدبي، وحضر بعض حلقات اللغة والأدب، ثم احترف الشعر ومدح رجال الكوفة وبغداد. غير أنه لم يمكث فيها إلا سنة، ورحل بعدها برفقة والده إلى بادية الشام يلتقي القبائل والأمراء هناك، يتصل بهم و يمدحهم، فتقاذفته دمشق وطرابلس واللاذقية وحمص. دخل البادية فخالط الأعراب، وتنقل فيها يطلب الأدب واللغة العربية وأيام الناس، وفي بادية الشام التقي القبائل والأمراء، اتصل بهم ومدحهم، وتنقل بين مدن الشام يمدح شيوخ البدو والأمراء والأدباء. قيل أنه تنبأ في بادية السماوة بين الكوفة والشام فتبعه كثيرون، وقبل أن يستفحل أمره خرج إليه لؤلؤ أمير حمص ونائب الإخشيد، فأسره وسجنه سنة 323-324 هجرية، حتى تاب ورجع عن دعواه. كان السجن علامة واضحة في حياته وجداراً سميكاً اصطدمت به آماله وطموحاته، فأخذ بعد خروجه منه منهك القوى يبحث عن فارس قوى يتخذ منه مساعداً لتحقيق طموحاته. عاد مرة أخرى يعيش حياة التشرد والقلق، فتنقل من حلب إلى أنطاكية إلى طبرية.

شاعر لا يقل عن الأمير منزلة:

وفيها التقى ببدر بن عمار سنة 328 هجرية، وهو أول من قتل أسداً بالسوط، فنعم عنده حقبة من الزمن، راضياً بما لقيه عنده من الراحة بعد التعب والاستقرار بعد التشرد، إلا أنه أحس بالملل في مقامه وشعر بأنه لم يلتق بالفارس الذي كان يبحث عنه والذي يشاركه في ملاحمه وتحقيق آماله. فعاوده الضجر الذي ألفه والقلق الذي لم يفارقه، فسقم من حياة الهدوء ووجد فيها ما يستذل كبرياءه. فهذا الأمير يحاول أن يتخذ منه شاعراً متكسباً كسائر الشعراء، وهو لا يريد لنفسه أن يكون شاعر أمير، وإنما يريد أن يكون شاعراً فارساً لا يقل عن الأمير منزلة. فلم يفقده السجن كل شيء لأنه بعد خروجه منه استعاد إرادته وكبرياءه. فالسجن أسهم في تعميق تجربته في الحياة، وتنبيهه إلى أنه ينبغي أن يقف على أرض صلبة لتحقيق ما يريده من طموح. لذلك أخذ يبحث عن نموذج الفارس القوي الذي يشترك معه لتنفيذ ما يرسمه في ذهنه. أما بدر فلم يكن هو ذاك، ثم ما كان يدور بين حاشية بدر من الكيد لأبي الطيب ومحاولة الإبعاد بينهما، جعل أبا الطيب يتعرض لمحن من الأمير ومن الحاشية تريد تقييده بإرادة الأمير. لقد رأى ذلك إهانة وإذلالاً، عبّر عنه بنفس جريحة ثائرة بعد فراقه لبدر متصلاً بصديق له هو أبو الحسن علي بن أحمد الخراساني في قوله : لا افتخار إلا لمن لا يضام. وعاد المتنبي بعد فراقه لبدر إلى حياة التشرد والقلق ثانية، وعبر عن ذلك أصدق تعبير في رائيته التي هجا بها ابن كروس الأعور أحد الكائدين له عند بدر.

الاندفاع المخلص نحو سيف الدولة:

ظل باحثاً عن أرضه وفارسه غير مستقر عند أمير ولا في مدينة حتى حط رحاله في إنطاكية حيث أبو العشائر ابن عم سيف الدولة سنة 336 ه، وعن طريقه اتصل بسيف الدولة بن حمدان، صاحب حلب، سنة 337 ه، انتقل معه إلى حلب فمدحه وحظي عنده. في مجلس هذا الأمير وجد أفقه وسمع صوته، وأحس أبو الطيب بأنه عثر على نموذج الفروسية الذي كان يبحث عنه، وسيكون مساعده على تحقيق ما كان يطمح إليه، فاندفع الشاعر مع سيف الدولة يشاركه في انتصاراته. ففي هذه الانتصارات أروع ملاحمه الشعرية، استطاع أن يرسم هذه الحقبة من الزمن وما كان يدور فيها من حرب أو سلم، فانشغل انشغالاً عن كل ما يدور حوله من حسد وكيد، ولم ينظر إلا إلى صديقه وشريكه سيف الدولة. فلا حجاب ولا واسطة بينهما. شعر سيف الدولة بهذا الاندفاع المخلص من الشاعر، واحتمل منه ما لا يحتمل من غيره من الشعراء، وكان هذا كبيراً على حاشية الأمير. ازداد أبو الطيب اندفاعاً وكبرياء واستطاع في حضرة سيف الدولة استطاع أن يلتقط أنفاسه، وظن أنه وصل إلى شاطئه الأخضر، وعاش مكرماً مميزاً عن غيره من الشعراء. وهو لا يرى إلا أنه نال بعض حقه، ومن حوله يظن أنه حصل على أكثر من حقه. وظل يحس بالظمأ إلى الحياة، إلى المجد الذي لا يستطيع هو نفسه أن يتصور حدوده، إلى أنه مطمئن إلى إمارة عربية يعيش في ظلها وإلى أمير عربي يشاركه طموحه وإحساسه. وسيف الدولة يحس بطموحه العظيم، وقد ألف هذا الطموح وهذا الكبرياء منذ أن طلب منه أن يلقي شعره قاعداً وكان الشعراء يلقون أشعارهم واقفين بين يدي الأمير، واحتمل أيضاً هذا التمجيد لنفسه ووضعها أحياناً بصف الممدوح إن لم يرفعها عليه. ولربما احتمل على مضض تصرفاته العفوية، إذ لم يكن يحس مداراة مجالس الملوك والأمراء، فكانت طبيعته على سجيتها في كثير من الأحيان.

خيبة الأمل وجرح الكبرياء:

وهذا ما كان يغري حساده به فيستغلونه ليوغروا صدر سيف الدولة عليه حتى أصابوا بعض النجاح. وأحس الشاعر بأن صديقه بدأ يتغير عليه، وكانت الهمسات تنقل إليه عن سيف الدولة بأنه غير راض، وعنه إلى سيف الدولة بأشياء لا ترضي الأمير. وبدأت المسافة تتسع بين الشاعر وصديقه الأمير، ولربما كان هذا الاتساع مصطنعاً إلا أنه اتخذ صورة في ذهن كل منهما. وأحس أبو الطيب بأن السقف الذي أظله أخذ يتصدع، وظهرت منه مواقف حادة مع حاشية الأمير، وأخذت الشكوى تصل إلى سيف الدولة منه حتى بدأ يشعر بأن فردوسه الذي لاح له بريقه عند سيف الدولة لم يحقق السعادة التي نشدها. وأصابته خيبة الأمل لاعتداء ابن خالوية عليه بحضور سيف الدولة ولم يثأر له الأمير، وأحس بجرح لكرامته، لم يستطع أن يحتمل، فعزم على مغادرته، ولم يستطع أن يجرح كبرياءه بتراجعه، وإنما أراد أن يمضي بعزمه. فكانت مواقف العتاب الصريح والفراق، وكان آخر ما أنشده إياه ميميته في سنة 345 ه ومنها: لا تطلبن كريماً بعد رؤيته. فارق أبو الطيب سيف الدولة وهو غير كاره له، وإنما كره الجو الذي ملأه حساده ومنافسوه من حاشية الأمير. فأوغروا قلب الأمير، فجعل الشاعر يحس بأن هوة بينه وبين صديقة يملؤها الحسد والكيد، وجعله يشعر بأنه لو أقام هنا فلربما تعرض للموت أو تعرضت كبرياؤه للضيم. فغادر حلباً، وهو يكن لأميرها الحب، لذا كان قد عاتبه وبقي يذكره بالعتاب، ولم يقف منه موقف الساخط المعادي، وبقيت الصلة بينهما بالرسائل التي تبادلاها حين عاد أبو الطيب إلى الكوفة من مصر حتى كادت الصلة تعود بينهما.

الممدوح الجديد:

فارق أبو الطيب حلباً إلى مصر وفي قلبه غضب كثير، وكأنه يضع خطة لفراقها ثم الرجوع إليها كأمير عاملاً حاكماً لولاية يضاهي بها سيف الدولة، ويعقد مجلساً يقابل سيف الدولة. من هنا كانت فكرة الولاية أملا في رأسه ظل يقوي وأظنه هو أقوى الدوافع. دفع به للتوجه إلى مصر حيث كافور الذي يمتد بعض نفوذه إلى ولايات بلاد الشام. في مصر واجه بيئة جديدة ومجتمعاً آخر وظروفاً اضطرته إلى أن يتنازل في أول الأمر عما لم يتنازل عنه. ثم هو عند ملك لا يحبه، ولم يجد فيه البديل الأفضل من سيف الدولة إلا أنه قصده آملاً، ووطن نفسه على مدحه راضياً لما كان يربطه في مدحه من أمل الولاية، وظل صابراً محتملاً كل ذلك. وأخذ يخطط إلى أمله الذي دفعه للمجيء إلى هنا، ويهدأ كلما لاح بريق السعادة في الحصول على أمله، وهو حين يراوده نقيض لما يراه من دهاء هذا الممدوح الجديد ومكره يحس بالحسرة على فراقه صديقه القديم. في هذه البيئة الجديدة أخذ الشعور بالغربة يقوى في نفسه بل أخذ يشعر بغربتين غربته عن الأهل والأحبة، وعما كان يساوره من الحنين إلى الأمير العربي سيف الدولة. ويزداد ألمه حين يرى نفسه بين يدي غير عربي، إلا أنه حين يتذكر جرح كبريائه يعقد لسانه ويسكت. وغربته الروحية عمن حوله والتي كان يحس بها في داخله إحساساً يشعره بالتمزق في كثير من الأحيان. وظل على هذا الحال لا تسكته الجائزة، ولا يرضيه العطاء، وظل يدأب لتحقيق ما في ذهنه ويتصور أنه لو حصل عليها لحقق طموحه في مجلس كمجلس سيف الدولة تجتمع فيه الشعراء لمدحه، فيستمع لمديحه وإكباره على لسان الشعراء، بدلاً من أن يؤكد كبرياءه هو على لسانه. ولربما كان يريد إطفاء غروره بهذا. إلا أن سلوكه غير المداري وعفويته مثلت باباً سهلاً لدخول الحساد والكائدين بينه وبين الحاكم الممدوح، ثم حدته وسرعة غضبه وعدم السيطرة على لسانه. كان كل ذلك يوقعه في مواقف تؤول عليه بصور مختلفة وفق تصورات حساده ومنافسيه. وأكاد أعتقد أنه كان مستعداً للتنازل عن كل جوائزه وهباته لمن كان يتصور أنه كان يريد أن يتربع على عرش الشعر من أجل جائزة كافور وعطائه، ثم يصوره بصورة تشوه إحساسه وتزور مشاعره. وذلك هو الذي يغيظه ويغضبه ويدفعه إلى التهور أحياناً وإلى المواقف الحادة. كل ذلك يأخذ طابعاً في ذهن الحاكم مغايراً لما في ذهن الشاعر.

صريح في الرضا والسخط:

بدأت المسافة تتسع بينه وبين كافور، وكلما اتسعت كثر في مجالها الحاسدون والواشون، وكلما أحس الشاعر ولو وهما بانزواء كافور عنه تيقظت لديه آفاق جديدة لغربته، وثارت نفسه وأحس بالمرارة إحساساً حاداً. لقد أحس بأنه لم يطلب فوق حقه ولم يتصرف بما هو خطأ، لأنه لم يصدر منه تجاوز على حق أحد. إلا أن هذا التصور البريء في ذهن الشاعر بعيد عن واقع الصورة التي في ذهن حاشية كافور. وما يصل إلى كافور من أقوال عن الشاعر، وعادة المتملقين من الوجهاء يتوصلون إلى الحاكم بواسطة حاشيته وإغراء بعض أفرادها بأن يكونوا جسوراً بينهم وبين سيدهم. هذه الجسور قد تقطع عند الحاجة بين الحاكم وبين خصومهم. أما أبو الطيب فلم يحسن هذا اللون من التظاهر ولم يفكر فيه، وإنما كان صريحاً بكل شيء في رضاه وسخطه صريحاً بما يرغب دون احتيال ولا محاورة، فما دام يشعر بالحق طالب به دون تأجيل. هذه الصراحة كثيراً ما أوقعته في مواقف حرجة، عند سيف الدولة، وهنا أيضاً عند كافور. لذا صارت للمتنبي صورة سلبية في نفس كافور، وخشي على ملكه إذا أعطاه ما يمكنه من ذلك. ظل أبو الطيب يرغب ويلح في طلبه، وظل كافور يداوره ويحاوره. كافور يحسن الاحتيال والمداورة وأبو الطيب صريح لا يحسن من ذلك شيئاً حتى وصل إلى حالة لم يستطع بعدها أن يبقى صامتاً. وشعر كافور برغبته في مغادرته فظن أن تشديد الرقابة عليه وإغلاق الحدود دونه سيخيفه ويمنعه من عزمه، ويخضعه كما يفعل مع غيره من الشعراء بالترهيب حيناً والذهب حيناً آخر. إلا أن أبا الطيب لم يعقه ذلك كله عن تنفيذ ما عزم عليه بعد أن أحس باليأس من كافور، وندم على ما فعل بنفسه في قصده إياه، وهو عند أكثر أصدقائه إخلاصاً وحباً. وظل يخطط إلى الهرب ويصر على تحدي كافور ولو بركوب المخاطر حتى وجد فرصته في عيد الأضحى. وخرج من مصر، وهجاً كافوراً بأهاجيه المرة الساخرة. إن تحديه لكافور في هروبه وركوبه كل المخاطر، ثم هذه الطاقة المتفجرة من السخط والغضب في هجائه يدل على مبلغ اليأس والندم في نفسه، ويبدو أنه كان حائراً حين فارق سيف الدولة، وحاول أن يمنع نفسه من التوجه إلى كافور. إلا أنه رجح أمر توجهه إلى مصر بعد إطالة فكر. ويبدو أنه فكر بهذه النتيجة اليائسة من ملك مصر أراد أن يتقدم من نفسه على ارتكابه خطيئة التوجه إليه واحتمالها مدحه، والتقيد بأوامره حينا. فهو حاول بأي وجه أن يشعر بالانتصار على هذه السلطة، عندما تحداه في هروبه، وفخره بالشجاعة والفروسية في اقتحام المخاطر في طريقه إلى الكوفة في مقصورته: ضربت بها التيه ضرب القمار.

مدح ابن العميد:

بعد عودته إلى الكوفة، زار بلاد فارس، فمر بأرجان، ومدح فيها ابن العميد، وكانت له معه مساجلات.

مدح عضد الدولة:

ثم رحل إلى شيراز، فمدح عضد الدولة ابن بويه الديلمي.

معركة العودة:

ثم عاد من شيراز يريد بغداد فالكوفة، فعرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي في الطريق بجماعة من أصحابه، ومع المتنبي جماعة أيضاً. فاقتتل الفريقان حتى قتل أبو الطيب وابنه محسد وغلامه مفلح (354 هـ= 965 م) بالنعمانية بالقرب من دير العاقول في الجانب الغربي من سواد بغداد. وفاتك هذا هو خال ضبة بن يزيد الأسدي العيني، الذي هجاه المتنبي بقصيدته البائية المعروفة، وهي من سقطات المتنبي. وكان التمس منه خفارة لبعض الرجالة ليسلكوا به الطريق ويحموا عنه فلم يفعل، وقال معي سيفي ورمحي أخفّر. ويقال إن الذين خرجوا عليه من بني كلاب مع ضبة بن محمد العيني لما هجاه به: ما أنصف اليوم ضبُ. وكان الفرسان نحو خمسين فارساً، فقتل منهم جماعة وجرح جماعة وأثخن فيهم عدة، وقدرت الحرب من ضحوة إلى الأولى، ثم كلّ أبو الطيب وولده ومملوكه، فلما تطاول الأمر استرسل وظفروا به. فقتلوه وولده والمملوك. وأخذ جميع ما كان معه، ودفنوه في الموضع، وكان له قيمة كثيرة، ولم يكن طلبهم ما معه سوى نفسه. والذي تولى قتله منهم فاتك بن فراس بن بداد وكان قرابة لضبّة. ويقال أنه لما قرب منه فاتك كان معه عبد يقال له سراج، فقال له: يا سراج أخرج إليّ الدرع، فأخرجها ولبسها، وتهيأ للقتال، ثم قال هذه القصيدة.

أفرغ الدرع يا سراج وأبصر ما ترى اليوم ها هنا من قتال
فلئن رحت في المكر صريعا فأنعَ للعالمين كل الرجال

ثم قال له فاتك: قبحاً لهذه اللحية يا سبّاب. فقال فاتك ألست الذي تقول:

الخيل والليل والبيداء تعرفني والطعن والضرب والقرطاس والقلم

فقال أنا عند ذاك يابن اللخناء العفلاء. ثم قاتل وبطح نفساً أو نفسين، فخانته قوائم فرسه، فغاصت إحداها في ثقبة كانت في الأرض، فتمكن منه الفرسان وأحاطوا به وقتلوه واقتسموا ماله ورحله، وأخذوا ابنه المحسّد وأرادوا أن يستبقوه، فقال أحدهم لا تفعلوا، واقتلوه، فقتلوه. وحكى الشريف ناصر قال: عبرت على بدنه وكان مفروقاً بينه وبين رأسه، ورأيت الزنابير تدخل في فيه وتخرج من حلقه. أعاذنا الله من كل سوء ومكروه بمنّه وطوله. وكتب في سنة ثلث وثمانين وأربع مائة.


عصر أبي الطيب:

شهدت الفترة التي نشأ فيها أبو الطيب تفكك الدولة العباسية وتناثر الدويلات الإسلامية التي قامت على أنقاضها. فقد كانت فترة نضج حضاري وتصدع سياسي وتوتر وصراع عاشها العرب والمسلمون. فالخلافة في بغداد انحسرت هيبتها والسلطان الفعلي في أيدي الوزراء وقادة الجيش ومعظمهم من غير العرب. ثم ظهرت الدويلات والإمارات المتصارعة في بلاد الشام، وتعرضت الحدود لغزوات الروم والصراع المستمر على الثغور الإسلامية، ثم ظهرت الحركات الدموية في العراق كحركة القرامطة وهجماتهم على الكوفة. لقد كان لكل وزير ولكل أمير في الكيانات السياسية المتنافسة مجلس يجمع فيه الشعراء والعلماء يتخذ منهم وسيلة دعاية وتفاخر ووسيلة صلة بينه وبين الحكام والمجتمع، فمن انتظم في هذا المجلس أو ذاك من الشعراء أو العلماء يعني اتفق وإياهم على إكبار هذا الأمير الذي يدير هذا المجلس وذاك الوزير الذي يشرف على ذاك. والشاعر الذي يختلف مع الوزير في بغداد مثلاً يرتحل إلى غيره فإذا كان شاعراً معروفاً استقبله المقصود الجديد، وأكبره لينافس به خصمه أو ليفخر بصوته. في هذا العالم المضطرب كانت نشأة أبي الطيب، وعى بذكائه الفطري وطاقته المتفتحة حقيقة ما يجري حوله، فأخذ بأسباب الثقافة مستغلاً شغفه في القراءة والحفظ، فكان له شأن في مستقبل الأيام أثمر عن عبقرية في الشعر العربي. كان في هذه الفترة يبحث عن شيء يلح عليه في ذهنه، أعلن عنه في شعره تلميحاً وتصريحاً حتى أشفق عليه بعض أصدقائه وحذره من مغبة أمره، حذره أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل في اللاذقية، فلم يستمع له وإنما أجابه مصرا ً: أبا عبد الإله معاذ أني. إلى أن انتهى به الأمر إلى السجن.

نسب شريف:

في نسب أبو الطيب خلاف، إذ قيل أنه ابن سقاء كان يسقي الماء بالكوفة، وقيل أنه ابن عائلة فقيرة، وقيل أن أصوله من كندة، وهم ملوك يمنيون. ودس خصومه في نسبه، لكن الأستاذ الشاعر محمد السويدي يرجح أن نسب أبو الطيب نسب شريف، واستدل على ذلك بالتحاقه في مدرسة الأشراف العلويين وهو صغير.

leprence30
2013-09-07, 12:26
ابـن زيــــــدون حياته و تآليفــــــه
د مسلك ميمون

 ابن زيدون : حياته ، بيئته السياسية، و الاجتماعية،و الفكرية والأدبية… و غرامه .
 تآليـف ابن زيدون : في الشعــر و النثــر .
 ديـوان ابن زيــدون .


أ ـ ابن زيـدون : حياتـه .

تنقسم حياة ابن زيدوه أبي الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب المخزومـي ، إلى حقبتين هامتـين .الحقبة الأولى وتبدأ بولادته سنة 394 هـ / 1003م وتنتهــي بقـيام دولـة بني جهــور سنــة 422 هـ /1031م أما الحقبة الثانيـة فهـي التي عاشها في كنف بني جهور و بني عبـاد .
ولد في قرطبة ، زمن الدولة العامـرية ، من قبيلة بني مخزوم القرشية التي جـاء بعـض رجالاتها مع الفتح الإسلامي ، فساندوا الحكم الأموي .كان والده قاضياً فقيها على المذهب المالــكي (( واسـع الثقافة ، غزير العلم ، مشهوراً بالبلاغة ، معروفاً بمكارم الأخلاق ، وكـان على حظ وافرمن الثراء أتاح له ـ مع علمه وخلقه و فصاحته ـ أن يكون ذا شأن في بـلده ، وكان معدودا في علّية القوم .)) و كلّ هذا انعكس على طفولة ابن زيدون ، و إن كان قد تلقى حظاً وافراً مـن علوم عصره على يد علماء و فقهاء قرطبة. فـدرس اللّغة ، و الأدب ، والشّعـر ، والتّاريـخ ، و السّير… فساعده كلّ ذلك على ذيوع صيته و شهرته . حيث قرض الشّعر ، و نبغ فيه ، و هو في الـعشرين من عمـره .
بيـئـتـه السيـاسيــة :

لاشك أن ابن زيدون ، عـايش فترة عصيبة في السياسة الأندلسية .إذ انتقـل الحكـم من الأمويين إلى ملـوك الطوائف ، فمزّق أيّ ممزق بين زعماء و قـادة ، كلّ استقل بإقليم جعل منه دولة و جيشاً ، و حدّد حدوداً ، و نظّم نظـاماً و من ذلك :
ـ الدّولة الزّيريـة في غرنـاطـة ( 403هـ / 483هـ ) ـ (1011 م / 1089 م )
ـ الدولة الحمودية في قرطبة ومالقة (407 هـ / 450 هـ ) ـ (1015 م / 1057 م )
ـ الدولة الـهودية في سرقسطـة ( 410 هـ / 536 هـ ) ـ ( 1018 م / 1140 م )
ـ الدولة العامريـة في بلنسيــة ( 412 هـ / 478 هـ ) ـ ( 1020 م / 1085 م )
ـ الدولة العباديـة في إشبيلـيـة ( 414 هـ / 484 هـ ) ـ ( 1022 م / 1091 م )
ـ دولـة بني الأفطس في بطليوس ( 421 هـ / 487هـ ) ـ ( 1029 م / 1094 م )
ـ الدولـة الجهورية في قرطبــة ( 423 هـ / 461 هـ ) ـ ( 1031 م / 1069 م )
ـ دولـة ذي النون في طليطلـة ( 427 هـ / 487 هـ ) ـ ( 1035 م / 1094 م )

و في ظرف عـقدين من الـزّمن ، كانت الأندلس قـد جزّئت ، دويلات متنـاحرة . يتربص بها عدو مشترك ، بل يفرض على بعضها الجزية و تعطيهـا في ذلّ و صغار …و قد واكب ابن زيدون عملية الجزية ، إذ كان عمره ثلاث عشْرة سنة ، مع قيام الدولة الزيريـة ، و أصبـح عمره ثلاثاً و ثلاثين سنة ، مع قيام دولة ذي النّون ، في طليطلــة . و إن كان يهمنا من هذه الدول، دولتـين : الدّولة العبّادية ، و الدّولة الجهورية. إذ كان عمر ابن زيدون مع قيام الدولة العبادية عشرين سنة.و مع قيـام الدّولـة الجهورية ، كان تسعاً وعشرين سنة .فبنو جهور : عرب حكموا قرطبة . زعيمهم : جهور بن محمـد ( ت 435هـ / 1043 م ) و هو من وزراء بني عامر ، استحوذ على قرطبة ، بعد انهيار الدولة الأمويـة .
أمّا بنو عباد ، فهم أيضاً عرب ، أسّس دولتهم : أبو القاسم محمد بن عبّاد . الذي كان قاضياً بإشبيلية ، و استمرّت إلى عهد المعتمد بن عبّاد ، حيث قضى عليها المرابطون في عهد السلطان أبي يعقوب يوسف بن تاشفين .و في خضم هذا الشّتات ، و التّمزيق ، و الصّراعات ، و الثّورات ، و الفتن ، و الانقلابات السياسية … التي أعـقبت وفاة الحكم المستنصر … وما تلا ذلك من صراع على السلطة بين دويلة وأخرى ، و فرق إثنية كالعرب ، و غير العرب ، و ا لمسلمين و غير المسلمين ، و البرابرة ، و الصقالبة و المولديـن وغير المولديـن …
الشيء الذي جعل ابن زيدون ينغمس في عمق التيار ، فيجرفه بعيداً ، ليصبح طرفاً في الصراع . بلْ له الفضل في الثّورة على الأمويين ، وقد أفلّ نجمهم . و معاضدة الثائرين ، من بني جهور ، و بني عباد ، و قد شعّ بريـقهم ، و خفـقتْ بيـارقهم . و لكنّ دروب السياسة وعرة ، و غير آمنة . فلـقد قادت ابن زيدون إلى الوزارة في عهد أبي الحزم بن جهور ، جزاء ما قدمه للدولة الفتية . و لكن الأحداث و الوشاة ، ساقت ابن زيدون إلى غياهب السّجن ، بتهمة التــآمر على النظـام … وقـدْ تمـكن من الـفرار ، و هام على وجهه ، يختـفي هنا و هناك.إلى أن مات أبو الـحزم ، وخلفه ابنه الوليد ، فظفر عنده بأعلى مكانة . إلا أن أيام السعد لم تدم طويلاً .إذ أحسّ أنّ الوشاة ـ ومـن جديد ـ قد أفسدوا ما كان بينه و بين الوليد . ففرّ إلى ا لمعتـضد بإشبيلية ، ولازمه غير أن الوشــاة أعادوا الكرّة ـ حسداً ـ ولكنّهم لم يـفلحوا . و لما مات المعتضد ، أعادوا أساليـب الوشايـة ـ حـقداً وضغينة ـ لما أصبح يتمتع به من حظوة عند ا لمعتمد بن عباد . غير أن هذا الأخـير لم يعبـأ بـهم ، بل وقرعهم أشد تـقريع .و مكث ابن زيدون في رفـقة المعتمد ، ونـار الحسد متأججـة حوله حـتى أدركتـه الوفاة ، وهو في مهمة في إشبيلية ، لتهدئـة الأوضاع هناك . فـقام بـها أحسن قيام ، رغم المرض ، و الحمّى … و هو يدرك أن حساده ، هم الذين أوزعوا للمعتمد إرسالـه إلى إشبيلية، قصد إبعاده . فلم يرحموا شيخوخته ، و مرضه ، ولم يكن ليخالف للمعتمـد طلبـا . فاشتـدت به الحـمـى ، وأنهكه السّقم ، فمات في الخامس عشرة من رجب سنـة ثلاث و ستين و أربعمائة هجريـة . فحـزن لموتـه أهل إشبيلية ، و دفن فيها . ولما وصل نعيه إلى قرطبة ، عمّها حـزن شـديد... ورغم ذلك : (( سوف يـظل ابن زيدون من قبل ، ومن بعد ، مـن الجديد الذي لا يبلى ، و الـغصن الذي لا يذبـل .))
بيئتـه الاجـتـماعيـة :

إنَّ المجتمع الأندلسي على عهد ابن زيدون ، كان خليطا من الأجناس ، و الإثنيات التي تشكـل فسيفساء غير متجانسة . رغم كل المحاولات اليائسة في جـعل المجتمع الأندلسي ، ينصهر في بوتـقة واحدة .فمنهم العرب الوافدون مع موسى بن نصير ، و ما تلاه من وفـود الفتح القـادمة مــن المشرق العربي . و كانت لهم سلطة الحكم ، وحظوة الاقتصاد و ا لمال . و هناك الأسالـمة ، و هم الأسبان الذين أسلموا ، إمّا عن اقتناع ، أو مدارات للـمسلمين ، حتى يحافظوا على مصالحهم . ثم هناك المولدون ، و هم من ولدوا لأباء من الأسبان ، وكانوا جميعاً يشتغلون بالزّراعة ، و التّجارة ، و الصّناعة. أمّا العرب أو غير العرب ، فكانت تستقطبهم مهنة الطب ، و الصيدلة ، والمعاملات المالية . ثم هناك الصقالبة ، و هم أجناس غير إسبانية كالإطاليين والجرمانيين ، و الفرنسيين ، و غيرهـم من جزر ا لبحر الأبيض المتوسط . وكانت لهم مراكز هامـة في المجتمع و السياسة و الجيش … و كان لهم دور بارز في تدبير ا لمؤامرات و الانقلابات ، ثم هناك الأمازيغ ، من شمال إفريقيا الذين دخلوا الأندلس مع الفاتحين العرب ، و كانوا يشكلـون الأكثرية من ا لمسلمين .و لعلّ هذا التجمع من الأجناس المختلفة و ما شاع بينهم من زواج و اختلاط أفرز عدة معطيات : كاللَّهو، والمجون ، و الغناء و الاهتمام بالفتنة ، و التأنق ، والجمال ، والاهتمام بالعمارة ، والصناعة ، والزراعة و كثرة الجواري و القيان ، و كثرة الشّراب ، و تحرر المرأة ، و التّسامح ، و البعد عن التّعصب ، و الاعتناء بالنّظافة ، و الأزيـاء ، و الموسيقـى …

بيـئتـه الـفكريـة و الأدبـيـة :

رغم أن عصر ملوك الطوائف ، كان عصر صراعات و اقتتال . فإنه أيضاً ، كان عصر علم ، و فكر، و أدب . إذ كان يتوافد على إسبانيا المسلمـة طلبة من مختلف الأصقاع الأوروبية لدراسة فكر أرسطو باللّغة العربية . في حين كان معظم الناس في الأندلس يقرؤون ، و يكتبون ، على عكس غيرهم في أوروبا ، حيث كان ظـلام الجهـل ، جاثمـاً منتشراً …
فقد اعتنى الأندلسيون ببناء المساجد ، و كانت للعبادة و الدرس و التّحصيل .كما اهتموا بتعليم البنات ، والبنين ، فشادوا المدارس ، والمعاهد. فحسبنا ـ في ذلك العهد ـ أن قرطبـة كانـت تضم ثمانين مدرسة عامـة .
و لقد اهتم الأندلسيون بعلوم الدين ، اهتماماً بالغاً . كما اهتموا بعلوم اللّغـة ، و ضـروب الأدب . و انصرف بعضهم إلى الطب ، و الفلك ، و الهندسة .و برعوا في تلك الميادين ، و آثارهم تدل علـى ذلك … و إنْ كان اهتمامهم بالفلسفة ضئيلاً . لما حيك حول الفلسفة و الفلاسفة من شبهات ، أدت إلى إحراق كتبهم . غير أن ذلك لم يدمْ طويلا . إذ شهد عهد ملوك الطوائف ، و ما تـلاه ، بـوادر الاهتمام بالفلسفة . و قد برز من أعلام هذا العصر ، ابن حزم المتوفى 456 هـ و الذي بلغت مؤلفاتـه أربعمائة مجلد:في الفقه ، و الحديث ، و الجدل ، و النسب ، و المنطق ،و الفلسفة، و الشعر… ومـن أشهر كتبه : طوق الحمامة ، و الفصـل في الملل و النحل . و من أعلام العصر أيضـاً ، ابـن سيده المتوفى سنة 458 هـ صاحب المخصص و المحكم . و من المؤرخين ابن حيان ، المتوفى سنة 469 هـ و من كتبه : المبين ( في ستين مجلدا ) . و من أشهر الأدباء : المظفر بن الأفطس ، حاكم بطليوس المتوفى سنة 460 هـ و كتابه المظـفري ( في خمسين مجلدا )
أما في الطب ، فقد نبغ الزهراوي المتوفى سنة 500 هـ و كتابه التصريف لمن عجز عن التأليف ، الذي ظل مرجعاً لأوروبا منذ أن ترجم للاتينية في القرن الخامس عشر . و من كتاب التراجم ، ابن بسام ، و كتابه الذخيرة . و من العلماء ابن بشكوان ، وكتابه الصلة ، و ابن الأبار ، و كتابه التكملة … هذا فضلاً عن العناية بالمكتبات الخاصة ، و اقتناء الكتب من مختلف الأصقاع ، و الاهتمام بالمكتبات العامة التي أنشأها الخلفاء الأمويون لعامة الناس . فقد أنشأ الحكم مكتبة في قرطبة،عدد كتبها أربعمائة ألف مجلد وكتاب ، و يقال إنّ في غر ناطة وحدهـا كانت سبعون مكتبـة .
و قد ألف الأندلسيون الأدباء ، الـتقليد ، و المحافظة ، ردحاً من الزمن . غير أنّـهم في عصر ملوك الطوائف بدءوا يتحررون قليلاً من ذلك .ظهر في شعرهم و نثرهم … ولم تعد تلك الصّلة الوطيدة بالمشرق العربي ، إذ عمدوا إلى الخلق و الإبتكـار و التّجديد فنظموا الأراجيز التاريخيـة ، و الأدب القصصي ، و الموشحات ، و الرحلة الخيالية ، (التوابع والزوابع ) لابن شهيد ، و الأزجال ، و وصف الطبيعة ، الذي اشتهر بـه الكثير مثـل ابن زيدون ، وابن خفاجة ، وابن حمديس …
و قد استفاد ابن زيدون من أعلام عصره ، إذ تتلمذ في الـفقه على يد والده ، القاضي أبي بكر عبد الله ، و لما مات ، و ابن زيدون في سنته الحادية عشر’ كفله جده لأمـه ، القاضي أبو بكر فـعلّمه من علمـه الشّيء الكثـير . وأخذ اللّغة ، و الأدب على يد أبي العباس بن ذكوان ، و أبي بكر أفلح … حتى أمسى شاعر الأندلس ، بفضل علمه ودراسته ، و موهبتـه و اجتهـاده .
غــرام ابن زيــدون :

إنّ ابن زيدوه عاش قصة حبّ فريدة ، شحذت خياله الفني ، و أثرت في إبداعه و خياله و شعره . لقد شغف حباً بولادة بنت المستكفي ، آخر خلفاء بني أمية في قرطبة .كانت أديبة شاعرة . لـها ناد لرواد العلم ، و الأدب ، وكانت على حظ كبير من الجمال …فكتب عنها أجمل القصائد . قال غراسية غوميس في القصيدة النونية لابن زيدون بأنـها : (( أجمل قصيدة حب نظمها الأندلسيون المسلمون ، وغـرة من غـرر الأدب العـربي كله)) و يقـول صاحـب ( الـدر ا لمنثـور …) عـن ولادة بأنها ( كانت نهاية في الأدب و الظـرف ، و كـان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصــر ، و فناؤها ملعباً لجياد النظم و النثر . و قيل إنها في المغرب كعلية ابنة المهدي العبـاسي بالمشرق . إلا أنّ ولادة تزيد بمزية الحسن ، وأمّا الأدب و الشّعر و النّوادر و خفّـة الرّوح فـلمْ تكن تـقصر عنهـا ، وكـانت لها صنـعة في الـغناء ، و لها نوادر كثـيرة مع الأدباء و الشعراء .)) فحين تقرب منها ابن زيدون بادلته حباً بحـب ، قبل أن يظهـر ابن عبدوس في حياتهما ، إذ استطاع أن يستولي على قلب ولادة ، مسـتغلا ًظروفاً سياسية ، شارك فيها ابن زيدون مع ابن جهور ضدّ خلافة بني أمية المهترئة ، الشيء الذي جعـل ولادة تميل إلى ابن عبدوس . الذي لم تجد فيه ما كان لها في ابن زيدون .ولكـن ، كلّ ذلك ترك أثـراً عميقـاً في نفس ابن زيدون . تبلور في شكل قصائد عتاب و لوم … و تذكـير بمـا مضى …

ب ـ مـؤلّـفـات ابن زيـدون :
يـقول الأستاذ علي عبد العظيم : (( لم تبق لدينا من آثار ابن زيدون الكتابية إلا طائفة قليلة من رسائله الأدبية ، و سطور من كتابه في تاريخ بني أمية ، و مقطوعة وصفية ، ونظرة نقدية ، أمّا رسائـله السياسية ، فـقـد ضـاعت جـميعـها . ))
1 ـ الرّسالـة الـهزليــة :
و قد كتبها ابن زيدون على لسان ولادة إلى ابن عبدوس . وهي مشبعة بالسخرية و التهكم من هذا الأخير . وتوجـد في المصـادر التالية :
ـ سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدوه ، لجمال الدين بن نباتة المصري ، المطبعة الأميرية، القاهرة .
ب ـ نهايـة الأرب ، للنـويري ، الجـزء السابع ، دار الكتب الـمصريـة 1929
ج ـ مسودة التحريرات النصرية ، لنصر الهوريني ، نسخة مخطوطة رقم 8845 أدب بدار الكتب المصرية
د ـ ديوان ابن زيدون ، رسائله ، أخباره ، شعر الملكين ، لكامل الكيلاني و عبد الرحمن خليفة ،
الطبعة الأولى 1351 هـ 1932 م رقم 474 مطبعة مصطـفى البابي الحلبي و أولاده ، مصر .
ه ـ ديوان ابن زيدون ورسائلـه شــرح وتحقيق علي عبد العظيم ، نهضة مصـر 1957
2 ـ الرّسالـة الجـدّيـة :
وكتبها في السّجن ، مستعطفا أبا الحزم ، و مذكراً بخدماته السّابقة ، عسى أن يحظى بالعفو ، فيطلق سراحه . وهي كسابقتها ، فيها حشد ( للأسماء ، والأحداث ، والاقتباس ، و التّضمين ، و التّرادف … وتوجـد في :
أ ـ الذخيرة لابن بسام ، الجزء الأول ، مطبعة لجنة التأليف و الترجمة و النشر بالقاهرة 1939
ب ـ تمـام المتون في شرح رسالة ابن زيدون ، نسخة مخطوطة رقم 248 أدب بدار الكتب
ج ـ نهايـة الأرب للنـويري .
د ـ ديوان ابن زيدون ورسائله ، شرح وتحقيق الأستاذ علي عبد العظيم .
ه ـ ديوان ابن زيدون ، رسائله ، أخباره ، شعـر الملكـين .
3 ـ مـا تبقـى من رسائـلـه :
يوجد في الجزء الأول من الذخيرة لابن بسام ، مطبعة لجنة التأليف والترجمة و النشر 1939

4 ـ نـظرتـه النّـقديـة :
يوجد جزء منها في نفح الطيب للمقري ، ليدن 1855 / 1861 و جزء آخر في نزهة الجلساء للسيوطي مخطوط رقم 138 تيمور بدار الكتب المصرية

5 ـ الكـتابـة الـتّاريخيـة :
لقد نُسب للشّاعر كتاب في التاريخ تحت عنوان ( التيين ) وذكر منـه جـزء في نفـح الطيب للمقري باعتباره من كتاب التبيين لابن زيدون .و لكن دراسة لأستاذنا الدكتور محمد بنشريفـة نفت ذلك ، و أثبتت أن كتاب ( التبيين ) هو كتاب في التاريـخ لأبي الوليد بن زيدون ( الحفيـد) و ليس الشــاعر المعروف . و هـذا يعني أن ابن زيدون الشّاعر لم يكتب في التاريخ ، كما توهم بعض الدارسين من عرب و مستشرقين ومنهم الأستاذ علي عبد العظيم الذي حقّق الديـوان .
ج ـ ديـوان ابن زيـدون :

لابن زيدون ديوان كبير ، اهتــم له العلماء و الأدباء اهتماماً خاصاً . لـما وجدوا فيـه من انعكاس خالص للحياة في الأندلس أيام ملـوك الطوائف . ولحسن الطالــع وُجدت للديـوان عـدة مخطوطات، سواء في دار الكتب المصرية ، أو في المكتبـة التيموريـة ، أوفي المكتبـة الأزهرية . و قد قام المستشرق هيرت hirt سنة 1777 بنشــر قصائد منه كما قام المستشرق أوغوست كور A.Cour بنشر مجموعة من القصائد سنة1920 وفي سنة 1932 طبعت شركة مطبعة ومكتبة مصطفى البـابي الحلبي بمصر ، ديوان ابن زيدون طبعته الأولى وقد حققها وشرحها كامل كيلاني و عبدالرحمن خليفة وفي سنة 1951 طبع الديوان في بيروت بتحقيق وشرح كــرم البستاني .
في سنة 1957 ظهرت طبعته الجيدة ، وهي بتحقيق وشرح الأستـاذ علي عبـد العظيم . و في سنة 1965 ظهرت في مصر أيضاً طبعة أخرى للديوان بتحقيق وشـرح الأستاذ محمد سيد كيلاني ثم ظهر الديوان بحلة جديدة ، بتحقيق الأستاذ حنا الفاخوري سنة 1410هـ/ 1990 م عن دار الجيل ببيروت . وفي سنة 1996 ظهرت طبعة جديدة بدار الفكر العربي ببيروت شرح و تحقيق الأستاذ عباس إبراهيم . وفي سلسلـة ( شعراؤنـا ) ظهرت طبعة بشرح الدكتـور يوسف فرحات، عن دار الكتاب العربي .
و لـقد تبين أن الديوان ـ من خلال شروحه و عمليات تحقيقه ـ لم يصل سالمـاً من التّحريف . إذ ورد في مـقدمة ( ديوان ابن زيدون رسائله ، أخباره ،شعر الملكـين ) ما يلـي : (( ولقد كنا نقرأ القصيدة مرات ، و كأننا ـ لشدة ما فيها من تحريف و اضطراب ـ أمام طلسم غامض لا سبيل إلى حلّه … و ما نزعم أننا قد برأنا هذا الديوان من كلّ عيب ، و نزهناه من كلّ تحريف،و لكننا نـجرؤ ونزعم أننا لم نأل جهداً في تبرئته من كلّ عيب.و تنزيهه عن كلّ تحريف)) ثم يأتي المحققان بأمثلـة للتحريف . وتكملة بعض الأبيات الناقصة بما يلائمها . و قـد فعـل ذلك أيضاً الأستـاذ علي عبد العظيم في تحقيقه للديوان ، إذ يقـول : (( أما الديوان فليس عندنا ما يثبت أنه جمعه بنفسه ، أو أنّ أحداً جمعه في عصره . و إنْ كـان أوغوست كور A COUR يذكــر أنَّ معاصـري الشاعر جمعـوا ديوانه ، و بخاصة ابن حيان … ولم نجـد في المراجع التي عنيت بتسجيل الكتب أي إشارة إلى الديوان .و أول خبر يصلنا عن ديوان الشّاعر ما ذكره ابن نباتة المتـوفى سنة 768 هـ من أنّـه وقـف على ديوان شعر لابن زيدون و على كثير من ترسله . ))

يبـقى أن نشـيـر أن محقـقي الديـوان ، اعتمدوا على مخطوطـاته الأربـع :

1 ـ المخطوطة رقم 496 أدب بدار الكتب المصرية تقع في 179صفحة ، مجهولة الكاتب و هي
الأقدم و الأدق .
2 ـ المخطوطة رقم555 أدب بدار الكتب المصرية كتبها عبد الرحمن بن عبد الله الحسيني
البغدادي سنة 1288 هـ في 153صفحة .
3 ـ المخطوطة 76 شعر ، تيمور ، بالمكتبة التيمورية كتبت سنة 1308 هـ و هي الأجود خطـاًً .
4 ـ المخطوطة رقم 443 أدب بمكتبة الأزهر ، و كاتبها محمد عبد الله الزمراني .

leprence30
2013-09-07, 12:32
الخوارزمي عالم من الطراز الأول

الخوارزمي واكتشاف علم الجبرإذا انتقلنا إلى الرياضيات والفلك فسنلتقي منذ البدء بعلماء من الطراز الأول، ومن أشهر هؤلاء العلماء أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي!!

ليست تلك المقولة من تعبيري، وإنما هي لأحد المستشرقين الذين عُنُوا بعلوم المسلمين، وعرفوا فضل إسهاماتهم، وهو المستشرق "ألدو ميلي".

فالخوارزمي الرياضي والجغرافي والفلكي يُعَدُّ من أكبر علماء المسلمين، ومن العلماء العالميين الذين كان لهم تأثير كبير على العلوم الرياضية والفلكية. وهو مؤسس ومبتدع علم الجبر كعلمٍ مستقلٍّ عن الحساب، وقد أخذه الأوربيون عنه، كما أنَّه أول من استعمل كلمة "جبر" للعلم المعروف الآن بهذا الاسم، فحتى الآن ما زال الجبر يعرف باسمه العربي في جميع اللغات الأوربية، وترجع كل الكلمات التي تنتهي في اللغات الأوربية بـ "algorism/algorithme" إلى اسم الخوارزمي، كما يرجع إليه الفضل في تعريف الناس بالأرقام العربية؛ ولهذا كان الخوارزمي أهلاً لتسميته بأبي الجبر[1].

وتعود أصول الخوارزمي إلى خوارزم (أوزبكستان اليوم)، وعاش في بغداد فيما بين سنة 164 وسنة 235 هجرية (الموافق 780 - 850 ميلادية) وتُوُفِّي هناك. وبرز في زمن خلافة المأمون (مدة خلافته من 198 - 218هـ)، ولمع في علم الرياضيات والفلك.

لما كان والد المأمون (الخليفة هارون الرشيد) يريد توطيد العلم في أنحاء العالم الإسلامي المترامي الأطراف، فقد سار على دربه ابنه (المأمون) وأسَّس بيت الحكمة، الذي كان يحتوي على مكتبة تضم نصوصًا مترجمة لأهم الكتب اللاتينية، ثم عيَّن الخوارزمي رئيسًا له، وعهد إليه بجمع الكتب اليونانية وترجمتها، الأمر الذي أفاد الخوارزمي كثيرًا؛ حيث درس الرياضيات، والجغرافيا، والفلك، والتاريخ، إضافةً إلى إحاطته بالمعارف اليونانية والهندية، حتى كان نبوغه في حدود سنة 205 هجرية[2].

وقد حدثت تغييرات عديدة في اسمه عند الغربيين بعد وفاته، حيث عُرِف بـ (alchwarizmi) و(al-karismi) و(algoritmi) و(algorismi) و(algorism) وقد أصبحت الكلمة الأخيرة (algorism) تعني الحساب في اللغة الإنجليزية الحديثة[3].

الخوارزمي وعلم الجبر
كلمة جبر تعبير استخدمه (الخوارزمي) من أجل حَلِّ المعادلات بعد تكوينها، ومعناه أن طرفًا من طرفي المعادلة يكمل ويزداد على الآخر وهو الجبر، والأجناس المتجانسة في الطرفين تسقط منها، وهو المقابلة أي أنَّ: ب س + ج= أ س2 + 2ب س- جـ

تصبح بعد الجبر ب س+ 2جـ= أ س2+ 2ب س.

وتصبح بالمقابلة 2جـ= أ س2+ ب س.

واسم الجبر في جميع لغات العالم مشتق من الكلمة العربية (الجبر)، وهي التي استخدمها (الخوارزمي) في كتابه (الجبر والمقابلة) كما سيأتي الحديث عنه.

وقد اشتغل المسلمون بالجبر واستعملوه حتى نبغوا فيه، بينما كان بمثابة الألغاز بالنسبة للأوربيين؛ يقول الدكتور ديفيد يوجين سميث في كتابه (تاريخ الرياضيات - المجلد الثاني): "إنَّ الجبر عُرِفَ في اللغة الإنجليزية في القرن السادس عشر الميلادي بالجبر والمقابلة، ولكنَّ هذا الاسم اختُصِرَ في النهاية من مخطوطة محمد بن موسى الخوارزمي الذي نال الشهرة العظيمة عام 825م، وذلك في بيت الحكمة في بغداد حيث ألَّف هناك كتابه القيم "الجبر والمقابلة"، وفيه حلَّ الكثير من المعادلات ذات الدرجة الأولى والثانية من ذات المجهول الواحد".

واعترف رام لاندو في كتابه (مآثر العرب في الحضارة) بأنَّ الخوارزمي "ابتكر علم الجبر، ونقل العدد من صفة البدائية الحسابية لكمية محدودة إلى عنصر ذي علاقة وحدود لا نهاية لها من الاحتمالات، ويمكننا القول بأن الخطوة من الحساب إلى الجبر هي في جوهرها الخطوة من الكينونة إلى الملائمة، أو من العالم الإغريقي الساكن إلى العالم الإسلامي المتحرك الأبدي الرباني"[4].

وقد طوَّر الخوارزمي علم الجبر كعلمٍ مستقل عن الحساب؛ ولذا ينسب إليه هذا العلم في جميع أنحاء المعمورة، فقد ابتكر الخوارزمي في بيت الحكمة الفكر الرياضي بإيجاد نظام لتحليل كل معادلات الدرجة الأولى والثانية ذات المجهول الواحد بطرق جبرية وهندسية[5].

ولذا فقد سمَّى جورج سارتون في كتابه (مقدمة من تاريخ العلوم) النصف الأول من القرن التاسع بـ "عصر الخوارزمي"؛ وذلك لأن الخوارزمي كان أعظم رياضيٍّ في ذلك العصر على حَدِّ تعبير سارتون، ويستطرد سارتون فيقول: "وإذا أخذنا جميع الحالات بعين الاعتبار فإنَّ الخوارزمي أحد أعظم الرياضيين في كل العصور".

وإضافةً إلى ذلك أكَّد الدكتور أي وايدمان أن أعمال الخوارزمي تتميز بالأصالة والأهمية العظمى وفيها تظهر عبقريته، كما قال الدكتور ديفيد بوجين سميث ولويس شارلز كاربينسكي في كتابهما (الأعداد الهندية والعربية): "إنَّ الخوارزمي هو الأستاذ الكبير في عصر بغداد الذهبي؛ إذ إنه أحد الكُتّاب المسلمين الأوائل الذين جمعوا الرياضيات الكلاسيكية من الشرق والغرب، محتفظين بها حتى استفادت منها أوربا المتيقظة آنذاك. إنَّ لهذا الرجل معرفةً كبيرة، ويدين له العالم بمعرفتنا الحإلية لعلمي الجبر والحساب"[6].

وقد وجد الخوارزمي متسعًا من الوقت لكتابة علم الجبر حينما كان منهمكًا في الأعمال الفلكية في بغداد، ويختص كتابه "الجبر والمقابلة" بإيجاد حلول لمسائل عملية واجهها المسلمون في حياتهم اليومية[7].

إنَّ الرياضيات التي ورثها المسلمون عن اليونان تجعل حساب التقسيم الشرعي للممتلكات بين الأبناء معقدًا للغاية إن لم يكن مستحيلاً، وهذا هو ما قاد الخوارزمي للبحث عن طرق أدق وأشمل، وأكثر قابلية للتكيف فابتدع علم الجبر.

وقد استعمل الخوارزمي الطريقة البيانية لإيجاد جذر المعادلة بكل نجاح؛ لذا فإن الخطأ بين موضعين يُعتبر من ابتكاره، وهذه الطريقة لعبت دورًا مهمًا في التحليل العددي، وتُعرَف في اللغة الإنجليزية باسم (false positions).

وعرف الخوارزمي الوحدة المستعملة في المساحات، واستخدم (التكسير) ويقصد بذلك المساحة، سواء كانت سطحية أو حجمية، كما تطرق إلى إيجاد مساحات بعض السطوح مستقيمة الأضلاع والأجسام، والدائرة، والقطعة، والهرم الثلاثي والرباعي، والمخروط والكرة، كما استعمل النسبة التقريبية وقيمتها ط = 8/ 22 أو 10، لذا فإن الخوارزمي أثرى علم الجبر باستعماله بعض الأفكار الجبرية لمعرفة المساحة.

وكان الخوارزمي يعرف أن هناك حالاتٍ يستحيل فيها إيجاد قيمة للمجهول (الكميات التَّخيُّلية) وسماها: (الحالة المستحيلة)، وبقيت معروفةً بهذا الاسم بين علماء الرياضيات حتى بدأ العالم السويسري ليونارد أويلر leonhard euler (1707- 1783م) في تعريف الكميات التخيلية بأنها: الكمية التي إذا ضربت بنفسها كان الناتج مقدارًا سالبًا، وأعطى كثيرًا من الأمثلة على هذا.

ثم جاء العالم الألماني كارل قاوس (1777 – 1855م) فركز على دراسة الكميات التخيلية وخواصها. والجدير بالذكر أن الكميات التخيلية قادت في النهاية إلى معرفة علم التحليل المركَّب الذي يُعتبر من أهم العلوم الرياضية في العصر الحديث، ومما لا يقبل الجدل والتأويل أن الفضل في ذلك يرجع أولاً للعالم المسلم محمد بن موسى الخوارزمي.

ولم يكتشف الخوارزمي علم الجبر ونظرية الخطأين (وهما أداة أساسية في التحليل العلمي الرياضي) فحسب، وإنما وضع كذلك أسس البحث التجريبي الحديث باستخدام النماذج الرياضية، كما نشر أول الجداول العربية عن المثلثات للجيوب والظلال، وقد تُرجِمت إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر[8].

وإضافةً إلى إسهاماته الكبرى في الحساب، أبدع الخوارزمي أيضًا في علم الفلك، وأتى ببحوث جديدة في المثلثات، ووضع جدولاً فلكيًّا (زيجًا)، وقد كان لهذا الزيج الأثر الكبير على الجداول الأخرى التي وضعها العرب فيما بعد، إذ استعانوا به واعتمدوا عليه وأخذوا منه. وكان من أهم إسهامات الخوارزمي العلمية التحسينات التي أدخلها على جغرافية بطليموس سواء بالنسبة للنص أو الخرائط[9].

مؤلَّفات الخوارزمي
يقول محمد خان في كتابه (نظرة مختصرة لمآثر المسلمين في العلوم والثقافة): "إنَّ الخوارزمي يقف في الصف الأول من صفوف الرياضيين في جميع العصور، وكانت مؤلفاته هي المصدر الرئيسي للمعرفة الرياضية لعدة قرون في الشرق والغرب"[10].

وقد اهتم الخوارزمي في بداية الأمر بالاكتشافات في علم الرياضيات والفلك، ثم بعدها بدأ التأليف فصنَّف كتبًا كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر:

1 - كتاب (الجبر والمقابلة)، وهو الكتاب الرئيسي ذو الأثر الحاسم، والذي درس فيه تحويل المعادلات وحلها، وقد ترجمه إلى اللاتينية "جيراردو دي كريمونا" ونشر النص العربي (روزن) مع ترجمة إنجليزية في لندن سنة 1851م.

وترجم له أيضًا "يوحنا الأسباني" الذي ترجم من العربية إلى اللاتينية عدة مؤلفات في الفلك والنجوم، من بينها كتب للخوارزمي، بفضلها انتقل الحساب الهندي والنظام العشري في الحساب إلى أوربا؛ حتى عرفت العمليات الحسابية باسم Alguarismo. والغريب أنها ترجمت إلى العربية باسم "اللوغاريتمات" وهي في الأصل منسوبة إلى الخوارزمي!! والصحيح أن تترجم "الخوارزميات" أو "الجداول الخوارزمية".

وقد أصبح الكتاب مصدرًا أساسيًا في الرياضيات في الجامعات الأوربية حتى القرن السادس عشر، وكان معظم ما ألَّفه مَنْ جاء بعده في علم الجبر مستندًا عليه، وقد نقله من اللغة العربية إلى اللاتينية روبرت أوف شستر ( Robert of chester) فاستنارت به أوربا.

وحديثًا حقق الدكتوران علي مصطفى مشرفة ومحمد مرسي هذا الكتاب، وذلك في سنة 1968م[11].

2 - كتاب في الجغرافيا شرح فيه آراء بطليموس.

3 - كتاب جداول للنجوم وحركاتها من مجلدين.

4 - كتاب شرح فيه طريقة معرفة الوقت بواسطة الشمس.

5 - كتاب جمع فيه بين الحساب والهندسة والموسيقى والفلك، ويقول البروفيسور جورج سارتون في كتابه (المدخل إلى تاريخ العلوم) عن هذا الكتاب: إنه "يشتمل على خلاصة دراساته لا على ابتكاراته العظيمة".

6 - كتاب العمل بالإسطرلاب.

7 - كتاب صنع الإسطرلاب.

8 - كتاب وضح فيه طريقة الجمع والطرح.

9 - كتاب صورة الأرض وجغرافيتها.

10 - كتاب صورة الأرض، نشر سنة 1929م.

11 - كتاب المعرفة، وهو يبحث في علم النجوم.

12 - كتاب زيج الخوارزمي الأول.

13 - كتاب زيج الخوارزمي الثاني، وهو جداول فلكية سماه (السند هند)، جمع فيه بين مذهب الهند والفرس.

14 - رسالة عن النسبة التقريبية وقيمتها الرياضية.

15 - رسالة وضح فيها معنى الوحدة المستعملة في المساحات والحجوم.

16 - رسالة ذكر فيها برهانًا آخر لنظرية فيثاغورث مستخدمًا مثلثًا قائم الزاوية ومتساوي الساقين.

17 - رسالة مفصلة وضح فيها قوانين لجمع المقادير الجبرية وطرحها وضربها وقسمها.

18 - رسالة شرح فيها طريقة إجراء العمليات الحسابية الأربع على الكميات الصم.

19 - كتاب رسم الربع المعمور.

20 - كتاب الجمع والتفريق.

21 - كتاب الرُّخامة (الرخامة قطعة من الرخام مخططة تساعد على معرفة الوقت عن طريق الشمس).

22 - كتاب هيئة الأرض.

23 - كتاب المعاملات، ويتضمن المعاملات التي يقوم بها الناس من بيع وشراء[12].

لقد عاش الخوارزمي حياةً عمادُها العلمُ؛ بحثًا واكتشافًا وتأليفًا ابتغاء مرضاة الله، وسعيًا وراء راحة البشرية، ورقي الحضارة، وظلَّ كذلك حتى وافته المَنِيَّة سنة 235هـ/ 850م. فرحمه الله رحمةً واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

[1] راجع محمد علي عثمان: مسلمون علَّموا العالم ص74، 75، أكرم عبد الوهاب: 100 عالم غيروا وجه العالم ص20.

[2] انظر ابن النديم: الفهرست ص333، إليان سيركيس: معجم المطبوعات 1/841، أكرم عبد الوهاب: 100 عالم غيروا وجه العالم ص20، علي عبد الله الدَّفّاع: العلوم البحتة في الحضارة العربية الإسلامية ص148.

[3] انظر علي عبد الله الدفاع: مبتكر علم الجبر.. محمد بن موسى الخوارزمي، مجلة البحوث الإسلامية – الرياض، العدد الخامس، الإصدار من المحرم إلي الثانية لسنة 1400هـ 5/173، أكرم عبد الوهاب: 100 عالم غيروا وجه العالم ص20.

[4] انظر علي عبد الله الدفاع: مبتكر علم الجبر.. محمد بن موسى الخوارزمي، مجلة البحوث الإسلامية – الرياض، العدد الخامس، الإصدار من المحرم إلي الثانية لسنة 1400هـ 5/173.

[5] انظر كرم حلمي فرحات أحمد: التراث العلمي للحضارة الإسلامية في الشام والعراق خلال القرن الرابع الهجري ص642، 643، وانظر أيضًا المصدر السابق ص172.

[6] انظر علي عبد الله الدفاع: مبتكر علم الجبر.. محمد بن موسى الخوارزمي، مجلة البحوث الإسلامية 5/172، 173، وله أيضًا: العلوم البحتة في الحضارة العربية والإسلامية ص149.

[7] علي عبد الله الدفاع: مبتكر علم الجبر.. محمد بن موسى الخوارزمي، مجلة البحوث الإسلامية 5/187، وله أيضًا: روائع الحضارة العربية الإسلامية في العلوم ص76.

[8] علي عبد الله الدفاع: مبتكر علم الجبر.. محمد بن موسى الخوارزمي، مجلة البحوث الإسلامية 5/187، وله أيضًا: روائع الحضارة العربية الإسلامية في العلوم ص76.

[9] انظر أكرم عبد الوهاب: 100 عالم غيروا وجه العالم ص20 - عبد الحليم منتصر: تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه ص108.

[10] علي عبد الله الدفاع: مبتكر علم الجبر.. محمد بن موسى الخوارزمي، مجلة البحوث الإسلامية 5/172.

[11] الدفاع: مبتكر علم الجبر.. محمد بن موسى الخوارزمي، مجلة البحوث الإسلامية 5/187، وله أيضًا: روائع الحضارة العربية الإسلامية في العلوم ص77، ومحمد علي عثمان: مسلمون علَّموا العالم ص77، وعبد الحليم منتصر: تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه ص65.

[12] انظر ابن النديم: الفهرست ص333، إليان سيركيس: معجم المطبوعات 1/841، علي عبد الله الدفاع: مبتكر علم الجبر.. محمد بن موسى الخوارزمي، مجلة البحوث الإسلامية 5/186، 187، وله أيضًا: العلوم البحتة ص172، 173.

leprence30
2013-09-07, 12:33
ابن سينا


برز في صرح الحضارة الإسلامية علماء أعلام وجهابذة عظام، عزَّ تاريخ الإنسانية في القديم والحديث أن يجود بمثلهم؛ ولا غَرْوَ فهم أعلام الحضارة، وهم صور رائعة تعكس سمو هذه الحضارة الإسلامية الإنسانية، حتى التصق اسمهم بها؛ فغدا ذِكْرهم ذِكْرًا لهذه الحضارة، وغدتْ دراسة حياتهم دراسة لها أيضًا.

ومن هؤلاء الأفذاذ الشيخ الرئيس ابن سينا (ت 428هـ/ 1037م) الذي ظل لسبعة قرون متوالية المرجع الرئيسي في علم الطب، وبقي كتابه (القانون) في الطب العمدة في تعليم هذا الفنِّ حتى أواسط القرن السابع عشر في جامعات أوربا[1]! ويُعَدُّ ابن سينا أوَّل من وصف التهاب السَّحايا الأوَّليِّ وصفًا صحيحًا، ووصف أسباب اليرقان[2]، ووصف أعراض حصى المثانة، وانتبه إلى أثر المعالجة النفسانية في الشفاء[3].

وهو أبو علي الحسين بن عبد الله.. الملقب بالشيخ الرئيس، والمعروف عند الأوربيين باسم (Avicenna)، وهو من أعظم علماء المسلمين، ومن أشهر مشاهير العلماء العالميين، وقد احتلَّ مكانًا سامقًا في الفكر والفلسفة والطب؛ فكان فيلسوفًا، وطبيبًا، ورياضيًّا، وفلكيًّا.. بل إنه لم يترك جانبًا من جوانب العلوم النظرية أو التطبيقية إلاَّ وتعرَّض له، تعرُّض العالم المتخصِّص المحقِّق؛ حتى كانت له إسهاماته الفعالة وإبداعاته الفريدة في كل مجالات المعرفة والعلوم.

مولده وتعليمه

وُلِدَ ابن سينا قرب بخارى -في أوزبكستان حاليًا- سنة (370هـ/ 980م)، ونشأ نشأة علمية؛ حيث تعهَّده والده بالتعليم والتثقيف منذ طفولته، فأحضر له الأساتذة والمربِّين، حتى شبَّ ابن سينا الطفل محبًّا للقراءة والعلم، والاطلاع الواسع في شتى المعارف والعلوم، وقد بلغ فيها ما لم يبلغه غيره، وكل ذلك وهو دون العشرين سنة.

وقد قرأ ابن سينا كتاب إيساغوجي على الناتلي، ثم أحكم عليه علم المنطق، وإقليدس والمجسطي، وفاقه أضعافًا كثيرة؛ حتى أوضح له منها رموزًا وفهمه إشكالات لم يكن للناتلي يد بها، أمَّا تعلُّم الطب فقد تَعَلَّمَه في أقلِّ مدَّة، حتى فاق فيه الأوائل والأواخر -كما يُعَبِّر ابن خلِّكان- وأصبح فيه عديم القرين، فقيد المثل، وقد اختلف إليه فضلاء هذا الفنِّ وكبراؤه؛ يقرءون عليه أنواعه والمعالجات المقتبسة من التجربة، وسنُّه إذ ذاك نحو ست عشرة سنة[4].

وفي لفتة إنسانية فإن ابن سينا لما نبغ في الطب قام بعلاج المرضى تأدُّبًا وبالمجَّان، لا تكسُّبًا أو لجمع المال؛ وذلك حبًّا للخير والاستفادة بالعلم، وقد واتته فرصة عظيمة عندما نجح في علاج الأمير نوح بن منصور وهو في السابعة عشرة من عمره، ذلك الأمر الذي عجز عنه مشاهير الأطباء، فنال بذلك شهرة عظيمة، كما جعل أمراء هذا البيت يُنْعِمُون عليه، ويفتحون له دور كتبهم؛ ليعبَّ منها علمًا غزيرًا لم يتوفر ولم يتحصَّل لغيره، وعمره لم يأتِ بعدُ الثامنة عشرة[5].

وبعد العشرين من عمره انصرف ابن سينا إلى التأليف والكتابة والاشتغال بالفلسفة والطب، حتى إذا ما وصل إلى سن الثانية والعشرين كان أشهر أطباء عصره، وقد أسند إليه منصب رئيس وزراء شمس الدولة أمير ولاية همذان، ثم خدم الأمير علاء الدين في أصفهان، ولم يكن لاشتغاله بتدبير الدولة أي أثر على إنتاجه ودراساته[6].

ابن سينا.. منهج فريد

في بحوثه ودراساته كان لابن سينا منهج مغاير لِمَا كان عليه العلماء السابقون، وبخاصَّة علماء وأساطين الفكر اليوناني؛ فقد نزع إلى الاستقلال في الرأي، والتحرُّر من أي فكرة لا يُؤَدِّي إليها نظرٌ عقلي، وقد أدَّاه ذلك إلى ألاَّ يتقيَّد بآراء مَنْ سبقه، بل يبحث ويدرس ويُعمل العقل والمنطق والخبرة التي اكتسبها، فإن أوصلته هذه كلها إلى تلك الآراء الصحيحة أخذ بها، وإن أوصلته إلى غير ذلك نبذها وبيَّن فسادها.

وبذلك فإن ابن سينا خالف أرسطو وأفلاطون، وغيرهما من فلاسفة اليونان في كثير من الآراء؛ فلم يتقيَّد بها، بل أخذ منها ما ينسجم مع تفكيره، وزاد على ذلك كله بقوله بأن: الفلاسفة يخطئون ويصيبون كسائر الناس، وهم ليسوا معصومين من الخطأ والزلل. وهو ما لم يجرؤ على التصريح به الفلاسفة والعلماء في تلك الأزمان[7].

وأكثر من ذلك أن ابن سينا جعل للتجربة مكانًا عظيمًا ومنزلة سامقة في دراساته وبحوثه، وبالأخصِّ الطبية منها، وقد توصَّل عن طريقها إلى ملاحظات دقيقة ونتائج جديدة مبتكرة، في تشخيص الأمراض واكتشاف العلاج وتحضير الأدوية، وفي ذلك يقول ابن سينا: "تعهَّدت المرضى؛ فانفتح عليَّ من أبواب العلاجات المقتبسة من التجربة ما لا يُوصف"[8].

وإن هذا المنهج العلمي الذي يعتمد على التجربة هو الذي جعل ابن سينا ينأى بعلم الطب عن السحر والخرافة والشعوذة؛ حيث توصَّل إلى أنه لا بُدَّ أن يكون لكل مرض سبب.

أمَّا أروع ما يميِّز هذا المنهج فكان فيما تجلَّى من اتصال دائم بالله ، وترى ذلك في حديثه حين يقول: "... فكل حُجَّة كنتُ أنظر فيها أُثبت مقدِّمات قياسية، وأُرَتِّبُها في تلك الظهور[9]، ثم نظرتُ فيما عساها تُنْتِج، وراعيتُ شروط مقدِّماته، حتى تحقّق لي حقيقة الحقّ في تلك المسألة، وكلما كنتُ أتحيَّر في مسألة ولم أكن أظفر بالحدِّ الأوسط في قياسٍ تردَّدْتُ إلى الجامع، وصلَّيْتُ وابتهلتُ إلى مبدع الكل، حتى فتح لي المنغلق، وتيسَّر المتعسِّر"[10].

ابن سينا.. ابتكارات سبقت عصرها

استطاع الشيخ الرئيس ابن سينا -بفضل ما منَّ به الله عليه من العقل والعلم وسعة الاطّلاع والولع الشديد بالمعرفة- أن يُقَدِّم للإنسانية أعظم الخدمات والاكتشافات والابتكارات التي فاقت عصرها بالقياس إلى إمكانات ذلك العصر ومدى ما وصلت العلوم فيه آنذاك، وبالأخصِّ في جانب الطب؛ فإليه يرجع الفضل في اكتشاف العديد من الأمراض التي ما زالت منتشرة حتى الآن؛ إذ إنه أول من كشف عن طفيلة (الإنكلستوما)، وسماها في كتابه (القانون في الطب) في الفصل الخامس الخاص بالديدان المعوية: الدودة المستديرة، ووصفها بالتفصيل لأول مرة، وتحدَّث عن أعراض المرض الذي تُسَبِّبه[11].

وعن هذا الفتح الكبير كتب الأستاذ الدكتور محمد خليل عبد الخالق مقالاً في مجلة الرسالة، جاء فيه: "... قد كان لي الشرف في عام (1921م) أن قمت بفحص ما جاء في كتاب القانون في الطب، وتبيَّن لي أن الدودة المستديرة التي ذكرها ابن سينا هي ما نسميه الآن بالإنكلستوما، وقد أعاد (دوبيني) اكتشافها بإيطاليا عام (1838م)، أي بعد اكتشاف ابن سينا لها بتسعمائة سنة تقريبًا، ولقد أخذ جميع المؤلفين في علم الطفيليات بهذا الرأي في المؤلفات الحديثة، كما أخذت به مؤسسة (روكلفر) الأمريكية التي تعني بجمع كل ما كُتِبَ عن هذا المرض... ولذلك كتبتُ هذا ليطلع عليه الناس، ويُضيفوا إلى اكتشافات ابن سينا العديدة هذا الاكتشاف العظيم لمرض هو أكثر الأمراض انتشارًا في العالم الآن"[12].

ثم إنه تطرَّق إلى بعض أنواع الديدان الطفيلية التي تعيش بعيدًا عن القناة الهضمية؛ مثل: ديدان العين، التي تُفَضِّل منطقة العين، وديدان الفلاريا المسبِّبَة لداء الفيل، فتراه يقول عن الأخير: "هو زيادة في القدم وسائر الرِّجْل على نحو ما يعرض في عروض الدوالي فيغلظ القدم ويكثفه"[13].

كما أنه أول من وصف الالتهاب السحائي، وأول من فرَّق بين الشلل الناجم عن سبب داخلي في الدماغ والشلل الناتج عن سبب خارجي، ووصف السكتة الدماغية الناتجة عن كثرة الدم، مخالفًا بذلك ما استقرَّ عليه أساطين الطب اليوناني القديم، فضلاً عن أنه أوَّل من فرَّق بين المغص المعوي والمغص الكلوي[14].

وكان ابن سينا صاحب الفضل في علاج القناة الدمعية بإدخال مسبار معقَّم فيها! وابن سينا هو الذي أوصى بتغليف الحبوب التي يتعاطاها المريض، وكشف في دقَّة بالغة عن أعراض حصاة المثانة السريرية، بعد أن أشار إلى اختلافها عن أعراض الحصاة الكُلوية، يقول الدكتور خير الله في كتابه الطب العربي: "ويصعب علينا في هذا العصر أن نُضيف شيئًا جديدًا إلى وصف ابن سينا لأعراض حصى المثانة السريرية"[15].

كما كان لابن سينا باع كبير في مجال الأمراض التناسلية؛ فوصف بدقَّة بعض أمراض النساء؛ مثل: الانسداد المهبلي, والإسقاط، والأورام الليفية. وتحدَّث عن الأمراض التي يمكن أن تُصيب النفساء؛ مثل: النزيف، واحتباس الدم، وما قد يسبِّبه من أورام وحميات حادَّة، وأشار إلى أن تَعَفُّن الرحم قد ينشأ من عسر الولادة أو موت الجنين، وهو ما لم يكن معروفًا من قبلُ. كما تعرَّض -أيضًا- للذكورة والأنوثة في الجنين, وعزاها إلى الرجل دون المرأة، وهو الأمر الذي أكَّده مؤخَّرًا العلم الحديث[16].

كما كشف ابن سينا -لأوَّل مرَّة أيضًا- طرق العدوى لبعض الأمراض المعدية كالجدري والحصبة، وذكر أنها تنتقل عن طريق بعض الكائنات الحية الدقيقة في الماء والجو، وقال: "إن الماء يحتوي على حيوانات صغيرة جدًّا لا تُرى بالعين المجرَّدة، وهي التي تسبِّب بعض الأمراض"[17]. وهو ما أكَّده (فان ليوتهوك) في القرن الثامن عشر والعلماء المتأخِّرُون من بعده، بعد اختراع المجهر.

ويُظهر ابن سينا براعة كبيرة ومقدرة فائقة في علم الجراحة؛ فقد ذكر عدَّة طرق لإيقاف النزيف؛ سواء بالربط، أو إدخال الفتائل، أو بالكي بالنار، أو بدواء كاوٍ، أو بضغط اللحم فوق العرق. كما تحدَّث عن كيفية التعامل مع السِّهام واستخراجها من الجروح، وحذَّر المعالجين من إصابة الشرايين أو الأعصاب عند إخراج السهام من الجروح، كما نبَّه إلى ضرورة أن يكون المعالج على معرفة تامَّة بالتشريح[18].

ابن سينا.. ابتكارات سبقت عصرهاوإلى جانب كل ما سبق -وهناك غيره كثير- كان ابن سينا على دراية واسعة بطب العيون والأسنان, وكان واضحًا دقيقًا في تحديده للغاية والهدف من مداواة نخور الأسنان حين قال: "الغرض من علاج التآكل منع الزيادة على ما تآكل؛ وذلك بتنقية الجوهر الفاسد منه، وتحليل المادَّة المؤدِّية إلى ذلك...". ونلاحظ أن المبدأ الأساسي لمداواة الأسنان هو المحافظة عليها, وذلك بإعداد الحفرة إعدادًا فنيًّا ملائمًا مع رفع الأجزاء النخرة منها، ثم يعمد إلى ملئها بالمادَّة الحاشية المناسبة لتعويض الضياع المادي الذي تَعَرَّضَتْ له السنُّ؛ ممَّا يُعِيدها بالتالي إلى أداء وظيفتها من جديد[19].

ودرس ابن سينا الاضطرابات العصبية وتوصَّل إلى بعض الحقائق النفسية والمرضية عن طريق التحليل النفسي، وكان يرى أن العوامل النفسية والعقلية لها تأثير كبير على أعضاء الجسم ووظائفها[20].

وإضافةً إلى هذا فإن ابن سينا قد درس وعمل بحوثًا في الزمان والمكان، والحيز، والقوة والفراغ، وقال بأن: شعاع العين يأتي من الجسم المرئي إلى العين. وعمل تجارب عديدة في الوزن النوعي ووَحدة الوزن النوعي لمعادن كثيرة، كما بحث في الحركة وتناول الأمور المتعلِّقَة بها، وموضع الميل القسري والميل المعاون، وقد خرج الأستاذ مصطفى نظيف إلى أن دراسات ابن سينا في هذا المضمار -إضافةً إلى دراسات علماء مسلمين آخرين- قد ساهمت في التمهيد لبعض معاني علم الديناميكا الحديث، وأن ابن سينا مع بقية هؤلاء العلماء المسلمين قد أدركوا القسط الأوفر في المعنى المنصوص عليه في القانون الأول من قوانين نيوتن الثلاثة في الحركة، وأوردوا على ذلك نصوصًا صريحة[21].

ولابن سينا أيضًا بحوث نفيسة في المعادن وتكوين الجبال والحجارة، كانت لها مكانة خاصة في علم طبقات الأرض، وقد اعتمد عليها العلماء في أوربا، وبقيت معمولاً بها في جامعاتهم حتى القرن الثالث عشر للميلاد[22].

وقد تُرجمت كتب ابن سينا في الطب إلى اللاتينية ومعظم لغات العالم، وظلَّت حوالي ستة قرون المرجع العالمي في الطب، واستُخْدِمَتْ كأساس للتعليم في جامعات فرنسا وإيطاليا جميعًا، وظلَّت تدرس في جامعة مونبلييه حتى أوائل القرن التاسع عشر[23].

هذا، وبعد حياة مثمرة حافلة بالعطاء، وبعد أن باتت مؤلفاته وابتكاراته منهجًا يسير عليه الغرب لعديد من القرون في تدريس الطب، وبعد أن ترك بصماته الواضحة على نمو وتقدُّم الفكر والعلم.. توفي ابن سينا في همذان سنة (428هـ/ 1037م)، فرحمة الله عليه.

د. راغب السرجاني

[1]انظر: شوقي أبو خليل: الحضارة العربية الإسلامية ص511.
[2]اليرقان: حالة مرضية تمنع الصفراء من بلوغ المِعَى بسهولة، فتختلط بالدم فتصفر بسبب ذلك الأنسجة. انظر: الزبيدي: تاج العروس، باب القاف فصل الهمزة مع الراء 25/8، والمعجم الوسيط ص1064.
[3]ابن خلكان: وفيات الأعيان 1/152، وشوقي أبو خليل: الحضارة العربية الإسلامية ص511.
[4]ابن خلكان: وفيات الأعيان 2/158.
[5]انظر: ابن أبي أصيبعة: طبقات الأطباء 3/74،75، وابن خلكان: وفيات الأعيان 2/158.
[6]للاستزادة من سيرته انظر المصادر السابقة، وقدري حافظ طوقان: علماء العرب وما أعطوه للحضارة ص158، وعامر النجار: في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية ص120.
[7]قدري حافظ طوقان: علماء العرب وما أعطوه للحضارة ص160.
[8]ابن أبي أصيبعة: طبقات الأطباء 3/73.
[9]تلك الظهور: أي تلك الحالات والمشاهدات التي ينظرها.
[10]ابن أبي أصيبعة: طبقات الأطباء 3/73، وابن خلكان: وفيات الأعيان 2/158.
[11]انظر: ابن سينا: القانون في الطب 4/186 وما بعدها.
[12]أحمد فؤاد باشا: التراث العلمي للحضارة الإسلامية ومكانته في تاريخ العلم والحضارة ص180، 181.
[13]ابن سينا: القانون في الطب 4/428.
[14]انظر: عامر النجار: في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية ص133.
[15]المصدر السابق ص134.
[16]راجع في ذلك: ابن سينا: القانون 2/586.
[17]علي بن عبد الله الدفاع: رواد علم الطب في الحضارة الإسلامية ص298.
[18]انظر: محمود الحاج قاسم: الطب عند العرب والمسلمين ص118.
[19]انظر: ابن سينا: القانون 1/192.
[20]علي بن نايف الشحود: الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل 5/311.
[21]انظر: قدري حافظ طوقان: علماء العرب وما أعطوه للحضارة ص163.
[22]المصدر السابق، الصفحة نفسها.
[23] جوستاف لوبون: حضارة العرب ص490.

رابطة هوازن
2013-09-13, 10:46
شكرا جزيلا لك ... احترامي لك

leprence30
2013-09-13, 15:33
من علمني حرفا صرت له عبدا مشكور اخي الكريم على الخلق النبيل

mifofo15
2013-09-16, 17:15
تاريخ المغول


يلقي كتاب تاريخ المغول منذ حملة جنكيز خان حتي قيام الدولة التيمورية ، الذي اصدره المجمع الثقافي بابوظبي حديثا للعام الحالي، الضوء علي أمة روعت التاريخ أمداً طويلاً، وكان اسمها مرادفاً للرعب بكل معانيه.
درس مؤلف الكتاب وهو عباس اقبال أمة المغول ، في نشأتها وتطورها وتوحدها حتي صارت قوة متماسكة اكتسحت أجزاء شاسعة من العالم. وذكر في كتابه تاريخ ملوك المغول وزعمائهم وسياساتهم وغزواتهم ومواقفهم من جيرانهم، وكيف كانت هزيمتهم علي يد المسلمين نعمة سُعد بها العالم آنذاك. كما تعرض الكتاب الذي ترجمه الي العربية الدكتور عبد الواحد علوب للجوانب الحضارية والمصرفية، والصناعية والأدبية والتاريخية، متطرقاً إلي أعلام الثقافة من المغول ومن الذين ارتبطوا بهم.
ويشمل هذا الكتاب الذي يقع في 561 صفحة تاريخ إيران منذ بداية ظهور جنكيز خان حتي قيام الدولة التيمورية، أي منذ أوائل القرن السابع الهجري حتي النصف الثاني من القرن التاسع، ويتضمن تاريخ سيطرة الإيلخانيين المغول علي إيران، والأسر الحاكمة الفرعية التي حكمت بعض أجزاء من إيران في فترة القرنين ونصف القرن المذكورين.
يتألف الكتاب، إضافة إلي مقدمة وبحثٍ في مجموعة من المصطلحات التركية التي استخدمها، من تسعة فصول تناولت علي التوالي: أوضاع دول آسيا إبان الغزو المغولي، قيام دولة المغول، سياسة جنكيز خان ونتائج الغزو المغـــــولي، ولاية خلــــفاء جنكــــيز حتي عهد هولاكو، غزو هولاكو لإيران وزوال الخلافة العباسية، سلاطـــين مغول إيران الإيلخانيون، إيلخانات إيران، الفترة بين العهدين الإيلخاني والتيموري، الحضارة والمعارف والصناعات في العصر المغولي.
تناول المؤلف في الفصل الأول الأوضاع الجغرافية لآسيا الوسطي والشرقية، وهي منطقة شاسعة تتميز بتنوع تضاريسها، حيث الجبال والهضاب والقفار والوديان الخصيبة، أما الغلبة فيها فهي للصحاري والمرتفعات التي يصعب اجتيازها. وكانت غالبية سكانها من البدو الرحل، الذين كانوا في سعي دائب إلي المناطق العامرة التي يتوفر فيها الرزق، وقد تركزت غزواتهم دائماً علي أحد طرفي بلادهم، الصين وإيران، اللتين كانتا عرضة للتهديد والخطر من جانبهم باستمرار. واضطر الصينيون والفرس لمهادنة هؤلاء البدو أو دفع الجزية والخراج وإقامة علاقات ودية معهم في للحفاظ علي طرق اتصالهم بالدول الأخري، وعلي مصالحهم، ولضمان استمرار طرق القوافل بين شرق آسيا وغربها مفتوحة.
وفي المنطقة المحصورة بين جبال خينجان ويابلونوي وأكتاي وجبال سايان، أي حوض بحيرة بايكال وأنهار سلنجا وأرفون وكيرولين وروافدها، كان يستوطن المغول والتتار، وهم طائفة من الشعوب الصفراء، الذين استولوا بزعامة جنكيز خان وأبنائه علي دول آسيا الشرقية والوسطي والغربية وروعوا شعوبها.
وتناول الكتاب في الفصل الثاني قيام دولة المغول، متطرقاً بالتفاصيل لفترة ظهور جنكيز خان المولود في منغوليا نحو العام 549هـ، واسمه الأصلي تيموجين، ومواجهتـه ـ وهو لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره ـ للمصاعب غداة وفاة والده يسوكاي، الذي كان زعيم قبيلة قيات المغولية، ومن ثم إخضاعه للعديد من طوائف المغول، وإزالة دولة الأويغور، وإسقاط دولة النايمان، والحملات علي ممالك الخوارزمشاهية وفتح بخاري 616هـ، وسمرقند 617هـ، وخراسان وهرات 618هـ، وطالقان وباميان وطخارستان، وحرب السند.. حتي وفاته في العالم 624هـ.
وخُصص الفصل الثالث لتقييم سياسة جنكيز خان ونتائج الغزو المغولي... ولا شك في أن جنكيز خان يعد أحد أكثر الفاتحين، الذين سجل التاريخ أسماءهم، بطشاً وسفكاً للدماء. فما أريق من دم وما ضرب من مدن بأمر منه لم يعرفه التاريخ في أي من عصور الفتوحات . وأفرد المؤلف مقاطع من كتابه للحديث عن مستشاري جنكيز، وعادات وتقاليد المغول، ونظام الدولة والجيش عندهم، وأساليبهم في الحروب وموقفهم من المغلوبين.. وصولاً إلي تحديد أسباب انتصارات المغول والآثار الناجمة عن غزواتهم، ومن ثم تقسيم ممالكهم.
وتطرق المؤلف في الفصل الرابع لولاية خلفاء جنكيز حتي عهد هولاكو، واستهل الفصل بالحديث عن القائد الإسلامي العظيم، السلطان جلال الدين خوارزم شاه، الذي كرس حياته لقتال المغول والتتار، والتصدي لهم في عهدي جنكيز خان وأقطاي قاآن، فحاربهم في أصفهان وكرجستان وأرمينيا وغيرها من المدن وفتح تفليس وأخلاط، لكنه هُزم بسبب الخيانة وغياب وحدة المسلمين الذين كانوا يتناحرون فيما بينهم، إلي أن قُتل علي يد أحد الأكراد العام 628 هـ. وقد ابتدأ المؤلف بولاية أقطاي قاآن 616 هـ، الإبن الثالث لجنكيز خان، الذي عمل علي تعمير البلاد والإحسان إلي الرعية وإصلاح ما حدث من تخريب، وساعده في ذلك الوزير الحكيم كيلو جوت ساي، بينما انشغل جيشه بالقتال وتوسيع الإمبراطورية. وتولي من بعده ابنه الأكبر جيوك خان 639هـ، الذي نجحت أمه، توراكينا خاتون، بحكمتها وذكائها ومساعيها في الحفاظ علي العرش لابنها. وكان جيوك خان، علي عكس أبيه، رجلاً محارباً وفاتحاً أشبه بجده جنكيز خان منه بأبيه أقطاي. وبعد وفاته تولي الحكم منجو قاآن 648هـ، وهو من الفرع الثاني من أسرة جنكيز خان، وأحد أبناء تُولي ابن جنكيز خان الثاني بعد أقطاي. وكان حريصاً علي قواعد الياسا الجنكيزية وعادات المغول وتقاليدهم، وبعد أن نظم الشؤون الإدارية وانتهي من إعادة ترتيب الأوضاع الداخلية للمملكة، شرع منجو في مواصلة أعماله الحربية، فكلف أخاه الأصغر، هولاكو، بقمع الإسماعيلية وإخضاع خليفة بغداد، وأسند إلي قوبيلاي، أخيه الأوسط، مهمة إخضاع الممالك التابعة لأسرة سونج أي الصين الجنوبية. وتوج قوبيلاي قاآن 658هـ نفسه خاناً وإمبراطوراً لأمة المغول، بدلاً من أخيه الأصغر أريق بركا الذي أراده منجو زعيماً لأمة المغول قبيل وفاته. واتخذ قوبيلاي من بكين عاصمة له، ويعد بصورة عامة أقوي حكام المغول، فبعد غزوه الصين شرع علي الفور في إشادة المباني وجمع الحرفيين والصناعيين، وازدهرت التجارة، وبعدما عبد كثيراً من الطرق في عهده.
وأفرد إقبال الفصل الخامس لغزو هولاكو لإيران وزوال الخلافة العباسية، فبدأه بإعطاء صورة عامة عن الحكم في إيران في عصر المغول حتي هولاكو 654 ـ 618 هـ، وأشار بإيجاز إلي ولايات كل من: جنتمور 630 هـ، نوسال 633 هـ، جوجوز 637 هـ، جورماغون 654 ـ 641 هـ. وتطرق بعدها إلي مهمة هولاكو لقمع الإسماعيلية 654 ـ 651هـ، الذين كانت لهم قلاع حصينة في قهستان وألموت والوديان الجنوبية لسلسلة جبال ألبرز، وعلي الرغم من الكوارث التي عاناها المسلمون منذ بدء الغزو المغولي، فقد استمر الشقاق قائماً بينهم، فلم يكن الأمراء الأيوبيون علي وفاق فيما بينهم، أو مع السلاطين السلاجقة بآسيا الصغري، ومع سائر أمراء الجزيرة، فكانوا يتناحرون علي قلعة أو شبر من الأرض ويتبادلون المكائد فيما بينهم. وبعد أن قضي هولاكو علي الإسماعيلية وأغار علي حصونهم العام 654 هـ، فتح بغداد وأزال الخلافة العباسية 656 ـ 655 هـ، وكان ذلك في عهد الخليفة المستعصم بالله 656 ـ 640 هـ، الذي استعرض المؤلف فترة خلافته في عجالة، قبل أن يتناول اجتياح بغداد وتخريب المغول للمدينة شبراً شبراً، وقتل الخليفة وأبنائه وسادات بغداد وأئمتها وقضاتها وأعيانها، حتي بلغ عدد الضحايا حوالي ثمانمئة ألف قتيل. وبعد أن استولي المغول علي بغداد، نهب هولاكو أموالاً طائلة من خزائن الخلفاء العباسيين، وأرسلها إلي آذربيجان مع غنائم كرجستان وأرمينيا وبلاد الروم واللر والأكراد، واختار مراغة عاصمة لهم، غزا الجزيرة والشام العام 657هـ، وهُزم في موقعة عين جالوت في فلسطين العام 658 هـ، بعد أن تصدي له سيف الدين قطز الذي وحد المسلمين بعد تفرقهم وتشتتهم، وهو أحد أمراء الأسرة الخوارزمشاهية الفارين وابن أخت السلطان جلال الدين كما يزعم البعض. وقد توفي هولاكو في العام 663هـ عندما سقط مريضاً بجوار نهر جغاتو جنوب بحيرة أرومية.
واستعرض المؤلف في الفصل السادس تاريخ سلاطين مغول إيران بعد وفاة هولاكو، فبدأ بعهد الإيلخانيين 756 ـ 663هـ، حيث تُوج أباقا خان 680 ـ 663 هـ علي عرش إيران إلايلخانية، وهو ابن هولاكو، اشتهر طوال مدة حكمه بأنه سعي إلي القضاء علي الإسلام بعون من البابا وملوك أوروبا المسيحية، وشن حروباً ضد مصر والشام، وخاض معارك معهم من أشهرها: موقعة البيرة 671 هـ، موقعة أبلستين 675 هـ، موقعة حمص 680 هـ. وبعد وفاته تولي الحكم تكودار 683 ـ 681 هـ، الإبن السابع لهولاكو، وهو أول من أشهر إسلامه من ملوك المغول وسمي نفسه أحمداً، أعلن نفسه مدافعاً عن الإسلام وعن شريعة الرسول محمد صلي الله عليه وسلم، وكان لذلك تأثير طيب للغاية علي المسلمين، وتبعته جماعة من المغول في اعتناق الإسلام. وذكر المؤلف خلال فترة حكم أحمد تكودار حادثة مقتل مجد الملك 681 هـ وثورة الأمير أرغون علي السلطان أحمد، الذي رأي نفسه، وهو ابن أباقا خان، أحق بالملك الإيلخاني من تكودار. وقُتل السلطان أحمد تكودار العام 683 هـ علي يد جماعة من المغول. تُوج الأمير أرغون بن أباقا لمنصب الإيلخان 690 ـ 683 هـ وتولي الوزارة في عهده سعد الدولة اليهودي بعد مقتل خواجة شمس الدين صاحب الديوان، وسادت من جديد الياسا الجنكيزية والتقاليد المغولية محل شريعة الإسلام. وتولي الحكم من بعده أخيه كيخاتو خان 694 ـ 690 هـ ووزيره صدر خان الزنجاني، الذي طبعت في عهده العملة الورقية جاو 693 هـ. ثم جاءت ولاية بايدو خان حفيد هولاكو 694 هـ، الذي قُتل علي يد غازان، الذي اعتنق الإسلام في العام نفسه.
وركز الكاتب في الفصل السابع علي حكم الإيلخانات منذ ولاية غازان 703 ـ 694هـ، الذي لُقب بالسلطان محمود غازان خان، ومن جاء بعده، وهم علي التوالي: السلطان محمد خدابنده أولجايتو، أبو سعيد بهادُر خان، أرباجون، موسي خان، ساتي بيك، طغا تيمور خان، شاه جهاد تيمور خان، سليمان خان، أنوشيروان العادل. وظل الإسلام هو الدين الرسمي لإيران منذ جلوس غازان حتي زوال دولة الإيلخانات. وقامت حكومتهم علي أساس الشريعة الإسلامية إلي أن انتهت دولتهم العام 756هـ.
وبحث الفصل الثامن تطورات الفترة بين العهدين الإيلخاني والتيموري، التي شهدت تفتت الممالك الإيلخانية إلي عدة أجزاء بعد وفاة أبي سعيد بهادُر خان، حيث ظهرت خمس أُسر في مناطق مختلفة في إيران: آل جلاير في بغداد، الجوبانيون في آذربيجان، آل مظفر في فارس، آل إينجو في فارس أيضاً، السربداريون في سبزوار. وإلي جانبها كان هناك عدد من الأمراء الآخرين في: هرات آل كرت، وفارس الأتابكة السلغوريون، وكرمان القراخطائيون، ويزد أتابكتها، ولرستان أتابكتها أيضاً.كانت لهم حكومات محلية شبه مستقلة، لكن لم يكن لهذه الأسر وأمرائها وملوكها أهمية سياسية كبيرة، وقد زالت فيما بعد إما بقضاء كل منها علي الأخري، أو بقضاء الأمير تيمور جوركان علي دولها، ونشوء الدولة التيمورية.
أما في الفصل التاسع والأخير، لم يفت المؤلف بعد التطرق إلي الجانب العسكري من حياتهم، أن يهتم بالحضارة والمعارف والصناعات في العصر المغولي. فعلي الرغم من أن حقبة المئتي سنة التي تم تناولها في الفصول الثمانية السابقة، تعد واحدة من الحقب الحزينة في تاريخ العالم الإسلامي عامة وإيران خاصة، فإنها تعد من أكثر العهود إشراقاً في تاريخ العلم والفلسفة والأدب في إيران، لأنها أعقبت قرون النهضة العلمية والأدبية التي شهدها العصر العباسي، ولم تكن النتائج السلبية للاحتلال المغولي قد ظهرت بعد، فهي حقبة متميزة من عدة نواح، خاصة من ناحية تعدد الشخصيات الكبري التي عاشت من تلك الفترة وحملت مشاعل العلوم والآداب الفارسية. فقد عاش فيها عدد من أكبر شعراء إيران وأدبائها وحكمائها كمولانا جلال الدين الرومي، وأفصح المتكلمين سعدي الشيرازي، ولسان الغيب حافظ الشيرازي، وعطا مالك الجويني، وخواجه رشيد الدين فضل الله الوزير، وحمد الله المستوفي، والعلامة قطب الدين الشيرازي وخواجه نصير الدين الطوسي. ويمكن القول أنه منذ أواخر العصر التيموري، بدأ انحطاط العلوم والآداب الفارسية، وبلغت ذروتها في عصر الدولتين الصفوية والأفشارية، فظهرت النتائج السلبية لاحتلال المغول والتيموريين.
وفي ختام كتابه، قدم المؤلف قائمة بأسماء المصادر التاريخية التي استقي منها تاريخ تلك الحقبة وسير المؤرخين. وعرض لحضارة المغول، وعرف القارئ بعلومها وآدابها، وفنونها وآثارها، وعلاقاتها التجارية، وأشهر علمائها وحكمائها، وكتابها ومؤرخيها وشعرائها.

faceamari
2013-09-20, 17:46
amarimohamed504@gmail.com

faceamari
2013-09-20, 17:47
ادا اردت أن تحيا سعيدا اربط حياتك باهداف وليس باشخاص

leprence30
2013-09-21, 14:55
ادا اردت أن تحيا سعيدا اربط حياتك باهداف وليس باشخاص

اخي الكريم انا احترم رايك الخاص ولكن لا ننسى ان الله سبحانه وتعالى جعلى هؤلاء الاشخاص سببا في ما نحن عليه الان
فالقدوة الحسنة نقتدي بها اما السيئة فالعكس اسال نفسك هل انت ما عليه الان لولا هؤلاء الاشخاص وشكرا

Sofiane-dz
2013-11-15, 16:21
بارك الله فيك على الموضوع الرائع