مشاهدة النسخة كاملة : قصص لبعض الانبياء عليهم السلام
غصن زيتون
2013-07-11, 00:29
قصة شـــــــــــــــــــــعيب عليه الســـــــــــــــــــــــــــــــلام
قصة نبي الله شعيب عليه السلام
لم ترد قصة شعيب عليه السلام إلا في اربع سور من القرآن الكريم هي: الأعراف وهود والشعراء والعنكبوت.
وشعيب لقب بخطيب الانبياء لما أعطي من منطق حسن وأسلوب لين، وقد بعثه الله الى مدين او أصحاب الأيكة، وهؤلاء قوم ابتلاهم الله بنقص في المكيال والميزان، فكانت دعوة شعيب لهم بأن لا ينقصوا المكيال والميزان، لأن ذلك يعد غشا وكذبا وخداعا والله لا يرضى بذلك.
إذن بعد توحيد الله لابد من معاملة الناس بالعدل والاحسان، قال تعالى: “والى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره، قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الارض بعد اصلاحها، ذلكم خير لكم ان كنتم مؤمنين” الآية رقم 85 من سورة الاعراف.
لكن قوم شعيب كغيرهم صاروا يستهزئون بنبيهم ويقولون له: أصلاتك تأمرك بهذا؟
عندئذ حل بهم العذاب قال تعالى: “فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين”. ويقول في آية اخرى: “فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة انه كان عذاب يوم عظيم” الآية رقم 189 من سورة الشعراء.
يقول الاستاذ سميح عاطف الزين في كتابه قصص الانبياء في القرآن:
ابتلي قوم شعيب بالحر الشديد، لا يروي ظمأهم ماء ولا تقيهم ظلال ولا تمنعهم جبال ففروا هاربين، ورأوا سحابة مظلة لهم من وهج الشمس وحسبوها ستارا من شدة الحر فاجتمعوا تحتها، ولكن ما ان اكتمل عددهم حتى بدأت الغمامة ترميهم بالشرر، وجاءت الصيحة وعذاب الظلة من السماء، وزلزلت الارض من تحت أقدامهم فأهلكوا وصاروا من الغابرين عندئذ تأسف عليهم نبي الله شعيب وقال بعد ان تولى عنهم: “يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين” الآية رقم 93 من سورة الاعراف.
أقول: وينبغي ان نقف مع نبي الله شعيب وقومه أهل مدين وقفتين:
1- أهل مدين هم اصحاب الأيكة على أرجح الأقوال كما يقول ابن كثير وقد قال بأن الحديث الذي يقول: ان قوم مدين واصحاب الأيكة أمتان بعث الله اليهما شعيبا عليه السلام حديث غريب.
والأيكة شجرة كان أهل مدين يعبدونها من دون الله، وعندما بعث شعيب كانوا متلبسين بعملين مشينين:
الأول: الاشراك بالله في العبادة.
الثاني: التطفيف في المكيال والميزان، حيث إنهم كانوا اذا وزنوا للناس او كالوا يخسرون فيهما، واذا وزنوا او كالوا لأنفسهم زادوا في الميزان والمكيال، وليس بعد هذا جور أبدا.
2- الصلاة ليست معروفة في الاسلام فقط بل حتى الديانات او الأمم الاخرى عرفت الصلاة، بدليل ان قوم شعيب قالوا لشعيب أصلاتك تأمرك ان نترك ما يعبد آباؤنا او ان نفعل في أموالنا ما نشاء؟
وبالمناسبة هذه الشهادة من أهل مدين بجدوى الصلاة في بتر جذور المنكر، تعزز الآية الكريمة التي تقول: ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، فالذي أمرت به أمة محمد أمر به من قبلها أيضا.
3 برزت في مهمة نبي الله شعيب مع قومه مشكلة المال ومحاربة الفساد، فشعيب جاء ليطهر المجتمع من الامراض الاجتماعية التي هي من قبيل الكذب والغش والتطفيف في المكيال والميزان، لأن كل هذه من أكل أموال الناس بالباطل.
ولكن قوم شعيب اعتبروا شعيبا خارجا عليهم جاء ليحد من حرياتهم الشخصية، فلو تركوه يمضي في طريقه الاصلاحي هذا فإنهم سوف يخسرون المال والجاه والمنصب، كيف لا وقد تعودوا ان يظلموا الضعفاء ويستعلوا عليهم بقوة سلطانهم؟
غصن زيتون
2013-07-11, 00:31
قصة ابـــــــــــــــراهيم عليه الســــــــــــــــــلام
خليل الله، اصطفاه الله برسالته وفضله على كثير من خلقه، كان إبراهيم يعيش في قوم يعبدون الكواكب، فلم يكن يرضيه ذلك، وأحس بفطرته أن هناك إلها أعظم حتى هداه الله واصطفاه برسالته، وأخذ إبراهيم يدعو قومه لوحدانية الله وعبادته ولكنهم كذبوه وحاولوا إحراقه فأنجاه الله من بين أيديهم، جعل الله الأنبياء من نسل إبراهيم فولد له إسماعيل وإسحاق، قام إبراهيم ببناء الكعبة مع إسماعيل.
سيرته:
منزلة إبراهيم عليه السلام:
هو أحد أولي العزم الخمسة الكبار الذين اخذ الله منهم ميثاقا غليظا، وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد.. بترتيب بعثهم. وهو النبي الذي ابتلاه الله ببلاء مبين. بلاء فوق قدرة البشر وطاقة الأعصاب. ورغم حدة الشدة، وعنت البلاء.. كان إبراهيم هو العبد الذي وفى. وزاد على الوفاء بالإحسان.
وقد كرم الله تبارك وتعالى إبراهيم تكريما خاصا، فجعل ملته هي التوحيد الخالص النقي من الشوائب. وجعل العقل في جانب الذين يتبعون دينه.
وكان من فضل الله على إبراهيم أن جعله الله إماما للناس. وجعل في ذريته النبوة والكتاب. فكل الأنبياء من بعد إبراهيم هم من نسله فهم أولاده وأحفاده. حتى إذا جاء آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، جاء تحقيقا واستجابة لدعوة إبراهيم التي دعا الله فيها أن يبعث في الأميين رسولا منهم.
ولو مضينا نبحث في فضل إبراهيم وتكريم الله له فسوف نمتلئ بالدهشة. نحن أمام بشر جاء ربه بقلب سليم. إنسان لم يكد الله يقول له أسلم حتى قال أسلمت لرب العالمين. نبي هو أول من سمانا المسلمين. نبي كان جدا وأبا لكل أنبياء الله الذين جاءوا بعده. نبي هادئ متسامح حليم أواه منيب.
يذكر لنا ربنا ذو الجلال والإكرام أمرا آخر أفضل من كل ما سبق. فيقول الله عز وجل في محكم آياته: (وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) لم يرد في كتاب الله ذكر لنبي، اتخذه الله خليلا غير إبراهيم. قال العلماء: الخُلَّة هي شدة المحبة. وبذلك تعني الآية: واتخذ الله إبراهيم حبيبا. فوق هذه القمة الشامخة يجلس إبراهيم عليه الصلاة والسلام. إن منتهى أمل السالكين، وغاية هدف المحققين والعارفين بالله.. أن يحبوا الله عز وجل. أما أن يحلم أحدهم أن يحبه الله، أن يفرده بالحب، أن يختصه بالخُلَّة وهي شدة المحبة.. فذلك شيء وراء آفاق التصور. كان إبراهيم هو هذا العبد الرباني الذي استحق أن يتخذه الله خليلا.
حال المشركين قبل بعثة إبراهيم:
يتحدث القرآن عن ميلاده أو طفولته، ولا يتوقف عند عصره صراحة، ولكنه يرسم صورة لجو الحياة في أيامه، فتدب الحياة في عصره، وترى الناس قد انقسموا ثلاث فئات:
فئة تعبد الأصنام والتماثيل الخشبية والحجرية.
وفئة تعبد الكواكب والنجوم والشمس والقمر.
وفئة تعبد الملوك والحكام.
نشأة إبراهيم عليه السلام:
وفي هذا الجو ولد إبراهيم. ولد في أسرة من أسر ذلك الزمان البعيد. لم يكن رب الأسرة كافرا عاديا من عبدة الأصنام، كان كافرا متميزا يصنع بيديه تماثيل الآلهة. وقيل أن أباه مات قبل ولادته فرباه عمه، وكان له بمثابة الأب، وكان إبراهيم يدعوه بلفظ الأبوة، وقيل أن أباه لم يمت وكان آزر هو والده حقا، وقيل أن آزر اسم صنم اشتهر أبوه بصناعته.. ومهما يكن من أمر فقد ولد إبراهيم في هذه الأسرة.
رب الأسرة أعظم نحات يصنع تماثيل الآلهة. ومهنة الأب تضفي عليه قداسة خاصة في قومه، وتجعل لأسرته كلها مكانا ممتازا في المجتمع. هي أسرة مرموقة، أسرة من الصفوة الحاكمة.
من هذه الأسرة المقدسة، ولد طفل قدر له أن يقف ضد أسرته وضد نظام مجتمعه وضد أوهام قومه وضد ظنون الكهنة وضد العروش القائمة وضد عبدة النجوم والكواكب وضد كل أنواع الشرك باختصار.
مرت الأيام.. وكبر إبراهيم.. كان قلبه يمتلأ من طفولته بكراهية صادقة لهذه التماثيل التي يصنعها والده. لم يكن يفهم كيف يمكن لإنسان عاقل أن يصنع بيديه تمثالا، ثم يسجد بعد ذلك لما صنع بيديه. لاحظ إبراهيم إن هذه التماثيل لا تشرب ولا تأكل ولا تتكلم ولا تستطيع أن تعتدل لو قلبها أحد على جنبها. كيف يتصور الناس أن هذه التماثيل تضر وتنفع؟!
__________________
مواجهة عبدة الكواكب والنجوم:
قرر إبراهيم عليه السلام مواجهة عبدة النجوم من قومه، فأعلن عندما رأى أحد الكواكب في الليل، أن هذا الكوكب ربه. ويبدو أن قومه اطمأنوا له، وحسبوا أنه يرفض عبادة التماثيل ويهوى عبادة الكواكب. وكانت الملاحة حرة بين الوثنيات الثلاث: عبادة التماثيل والنجوم والملوك. غير أن إبراهيم كان يدخر لقومه مفاجأة مذهلة في الصباح. لقد أفل الكوكب الذي التحق بديانته بالأمس. وإبراهيم لا يحب الآفلين. فعاد إبراهيم في الليلة الثانية يعلن لقومه أن القمر ربه. لم يكن قومه على درجة كافية من الذكاء ليدركوا أنه يسخر منهم برفق ولطف وحب. كيف يعبدون ربا يختفي ثم يظهر. يأفل ثم يشرق. لم يفهم قومه هذا في المرة الأولى فكرره مع القمر. لكن القمر كالزهرة كأي كوكب آخر.. يظهر ويختفي. فقال إبراهيم عدما أفل القمر (لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) نلاحظ هنا أنه عندما يحدث قومه عن رفضه لألوهية القمر.. فإنه يمزق العقيدة القمرية بهدوء ولطف. كيف يعبد الناس ربا يختفي ويأفل. (لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي) يفهمهم أن له ربا غير كل ما يعبدون. غير أن اللفتة لا تصل إليهم. ويعاود إبراهيم محاولته في إقامة الحجة على الفئة الأولى من قومه.. عبدة الكواكب والنجوم. فيعلن أن الشمس ربه، لأنها أكبر من القمر. وما أن غابت الشمس، حتى أعلن براءته من عبادة النجوم والكواكب. فكلها مغلوقات تأفل. وأنهى جولته الأولى بتوجيهه وجهه للذي فطر السماوات والأرض حنيفا.. ليس مشركا مثلهم.
استطاعت حجة إبراهيم أن تظهر الحق. وبدأ صراع قومه معه. لم يسكت عنه عبدة النجوم والكواكب. بدءوا جدالهم وتخويفهم له وتهديده. ورد إبراهيم عليهم قال:
أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) (الأنعام)
لا نعرف رهبة الهجوم عليه. ولا حدة الصراع ضده، ولا أسلوب قومه الذي اتبعه معه لتخويفه. تجاوز القرآن هذا كله إلى رده هو. كان جدالهم باطلا فأسقطه القرآن من القصة، وذكر رد إبراهيم المنطقي العاقل. كيف يخوفونه ولا يخافون هم؟ أي الفريقين أحق بالأمن؟
بعد أن بين إبراهيم عليه السلام حجته لفئة عبدة النجوم والكواكب، استعد لتبيين حجته لعبدة الأصنام. آتاه الله الحجة في المرة الأولى كما سيؤتيه الحجة في كل مرة.
سبحانه.. كان يؤيد إبراهيم ويريه ملكوت السماوات والأرض. لم يكن معه غير إسلامه حين بدأ صراعه مع عبدة الأصنام. هذه المرة يأخذ الصراع شكلا أعظم حدة. أبوه في الموضوع.. هذه مهنة الأب وسر مكانته وموضع تصديق القوم.. وهي العبادة التي تتبعها الأغلبية.
مواجهة عبدة الأصنام:
خرج إبراهيم على قومه بدعوته. قال بحسم غاضب وغيرة على الحق:
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (الأنبياء)
انتهى الأمر وبدأ الصراع بين إبراهيم وقومه.. كان أشدهم ذهولا وغضبا هو أباه أو عمه الذي رباه كأب.. واشتبك الأب والابن في الصراع. فصلت بينهما المبادئ فاختلفا.. الابن يقف مع الله، والأب يقف مع الباطل.
قال الأب لابنه: مصيبتي فيك كبيرة يا إبراهيم.. لقد خذلتني وأسأت إلي.
قال إبراهيم:
يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) (مريم)
انتفض الأب واقفا وهو يرتعش من الغضب. قال لإبراهيم وهو ثائر إذا لم تتوقف عن دعوتك هذه فسوف أرجمك، سأقتلك ضربا بالحجارة. هذا جزاء من يقف ضد الآلهة.. اخرج من بيتي.. لا أريد أن أراك.. اخرج.
انتهى الأمر وأسفر الصراع عن طرد إبراهيم من بيته. كما أسفر عن تهديده بالقتل رميا بالحجارة. رغم ذلك تصرف إبراهيم كابن بار ونبي كريم. خاطب أباه بأدب الأنبياء. قال لأبيه ردا على الإهانات والتجريح والطرد والتهديد بالقتل:
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا (48) (مريم)
وخرج إبراهيم من بيت أبيه. هجر قومه وما يعبدون من دون الله. وقرر في نفسه أمرا. كان يعرف أن هناك احتفالا عظيما يقام على الضفة الأخرى من النهر، وينصرف الناس جميعا إليه. وانتظر حتى جاء الاحتفال وخلت المدينة التي يعيش فيها من الناس.
وخرج إبراهيم حذرا وهو يقصد بخطاه المعبد. كانت الشوارع المؤدية إلى المعبد خالية. وكان المعبد نفسه مهجورا. انتقل كل الناس إلى الاحتفال. دخل إبراهيم المعبد ومعه فأس حادة. نظر إلى تماثيل الآلهة المنحوتة من الصخر والخشب. نظر إلى الطعام الذي وضعه الناس أمامها كنذور وهدايا. اقترب إبراهيم من التماثيل وسألهم: (أَلَا تَأْكُلُونَ) كان يسخر منهم ويعرف أنهم لا يأكلون. وعاد يسأل التماثيل: (مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ) ثم هوى بفأسه على الآلهة.
وتحولت الآلهة المعبودة إلى قطع صغيرة من الحجارة والأخشاب المهشمة.. إلا كبير الأصنام فقد تركه إبراهيم (لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) فيسألونه كيف وقعت الواقعة وهو حاضر فلم يدفع عن صغار الآلهة! ولعلهم حينئذ يراجعون القضية كلها، فيرجعون إلى صوابهم.
إلا أن قوم إبراهيم الذين عطّلت الخرافة عقولهم عن التفكير، وغلّ التقليد أفكارهم عن التأمل والتدبر. لم يسألوا أنفسهم: إن كانت هذه آلهة فكيف وقع لها ما وقع دون أن تدفع عن أنفسها شيئا؟! وهذا كبيرها كيف لم يدفع عنها؟! وبدلا من ذلك (قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ).
عندئذ تذكر الذين سمعوا إبراهيم ينكر على أبيه ومن معه عبادة التماثيل، ويتوعدهم أن يكيد لآلهتهم بعد انصرافهم عنها!
فأحضروا إبراهيم عليه السلام، وتجمّع الناس، وسألوه (أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ)؟ فأجابهم إبراهيم (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ) والتهكم واضح في هذا الجواب الساخر. فلا داعي لتسمية هذه كذبة من إبراهيم -عليه السلام- والبحث عن تعليلها بشتى العلل التي اختلف عليها المفسرون. فالأمر أيسر من هذا بكثير! إنما أراد أن يقول لهم: إن هذه التماثيل لا تدري من حطمها إن كنت أنا أم هذا الصنم الكبير الذي لا يملك مثلها حراكا. فهي جماد لا إدراك له أصلا. وأنتم كذلك مثلها مسلوبو الإدراك لا تميزون بين الجائز والمستحيل. فلا تعرفون إن كنت أنا الذي حطمتها أم أن هذا التمثال هو الذي حطمها!
ويبدو أن هذا التهكم الساخر قد هزهم هزا، وردهم إلى شيء من التدبر التفكر:
فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ (64) (الأنبياء)
وكانت بادرة خير أن يستشعروا ما في موقفهم من سخف، وما في عبادتهم لهذه التماثيل من ظلم. وأن تتفتح بصيرتهم لأول مرة فيتدبروا ذلك السخف الذي يأخذون به أنفسهم، وذلك الظلم الذي هم فيه سادرون. ولكنها لم تكن إلا ومضة واحدة أعقبها الظلام، وإلا خفقة واحدة عادت بعدها قلوبهم إلى الخمود:
ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ (الأنبياء)
وحقا كانت الأولى رجعة إلى النفوس، وكانت الثانية نكسة على الرؤوس؛ كما يقول التعبير القرآني المصور العجيب.. كانت الأولى حركة في النفس للنظر والتدبر. أما الثانية فكانت انقلابا على الرأس فلا عقل ولا تفكير. وإلا فإن قولهم هذا الأخير هو الحجة عليهم. وأية حجة لإبراهيم أقوى من أن هؤلاء لا ينطقون؟
ومن ثم يجيبهم بعنف وضيق على غير عادته وهو الصبور الحليم. لأن السخف هنا يجاوز صبر الحليم:
قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) (الأنبياء)
وهي قولة يظهر فيها ضيق الصدرن وغيظ النفس، والعجب من السخف الذي يتجاوز كل مألوف.
عند ذلك أخذتهم العزة بالإثم كما تأخذ الطغاة دائما حين يفقدون الحجة ويعوزهم الدليل، فيلجأون إلى القوة الغاشمة والعذاب الغليظ:
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) (الأنبياء)
__________________
نجاة إبراهيم عليه السلام من النار:
وفعلا.. بدأ الاستعداد لإحراق إبراهيم. انتشر النبأ في المملكة كلها. وجاء الناس من القرى والجبال والمدن ليشهدوا عقاب الذي تجرأ على الآلهة وحطمها واعترف بذلك وسخر من الكهنة. وحفروا حفرة عظيمة ملئوها بالحطب والخشب والأشجار. وأشعلوا فيها النار. وأحضروا المنجنيق وهو آلة جبارة ليقذفوا إبراهيم فيها فيسقط في حفرة النار.. ووضعوا إبراهيم بعد أن قيدوا يديه وقدميه في المنجنيق. واشتعلت النار في الحفرة وتصاعد اللهب إلى السماء. وكان الناس يقفون بعيدا عن الحفرة من فرط الحرارة اللاهبة. وأصدر كبير الكهنة أمره بإطلاق إبراهيم في النار.
جاء جبريل عليه السلام ووقف عند رأس إبراهيم وسأله: يا إبراهيم.. ألك حاجة؟
قال إبراهيم: أما إليك فلا.
انطلق المنجنيق ملقيا إبراهيم في حفرة النار. كانت النار موجودة في مكانها، ولكنها لم تكن تمارس وظيفتها في الإحراق. فقد أصدر الله جل جلاله إلى النار أمره بأن تكون (بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ). أحرقت النار قيوده فقط. وجلس إبراهيم وسطها كأنه يجلس وسط حديقة. كان يسبّح بحمد ربه ويمجّده. لم يكن في قلبه مكان خال يمكن أن يمتلئ بالخوف أو الرهبة أو الجزع. كان القلب مليئا بالحب وحده. ومات الخوف. وتلاشت الرهبة. واستحالت النار إلى سلام بارد يلطف عنه حرارة الجو.
جلس الكهنة والناس يرقبون النار من بعيد. كانت حرارتها تصل إليهم على الرغم من بعدهم عنها. وظلت النار تشتعل فترة طويلة حتى ظن الكافرون أنها لن تنطفئ أبدا. فلما انطفأت فوجئوا بإبراهيم يخرج من الحفرة سليما كما دخل. ووجهه يتلألأ بالنور والجلال. وثيابه كما هي لم تحترق. وليس عليه أي أثر للدخان أو الحريق.
خرج إبراهيم من النار كما لو كان يخرج من حديقة. وتصاعدت صيحات الدهشة الكافرة. خسروا جولتهم خسارة مريرة وساخرة.
وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) (الأنبياء)
لا يحدثنا القرآن الكريم عن عمر إبراهيم حين حطم أصنام قومه، لا يحدثنا عن السن التي كلف فيها بالدعوة إلى الله. ويبدو من استقراء النصوص القديمة أن إبراهيم كان شابا صغيرا حين فعل ذلك، بدليل قول قومه عنه: (سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ). وكلمة الفتى تطلق على السن التي تسبق العشرين.
مواجهة عبدة الملوك:
إن زمن اصطفاء الله تعالى لإبراهيم غير محدد في القرآن. وبالتالي فنحن لا نستطيع أن نقطع فيه بجواب نهائي. كل ما نستطيع أن نقطع فيه برأي، أن إبراهيم أقام الحجة على عبدة التماثيل بشكل قاطع، كما أقامها على عبدة النجوم والكواكب من قبل بشكل حاسم، ولم يبق إلا أن تقام الحجة على الملوك المتألهين وعبادهم.. وبذلك تقوم الحجة على جميع الكافرين.
فذهب إبراهيم عليه السلام لملك متألّه كان في زمانه. وتجاوز القرآن اسم الملك لانعدام أهميته، لكن روي أن الملك المعاصر لإبراهيم كان يلقب (بالنمرود) وهو ملك الآراميين بالعراق. كما تجاوز حقيقة مشاعره، كما تجاوز الحوار الطويل الذي دار بين إبراهيم وبينه. لكن الله تعالى في كتابه الحكيم أخبرنا الحجة الأولى التي أقامها إبراهيم عليه السلام على الملك الطاغية، فقال إبراهيم بهدوء: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ)
قال الملك: (أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ) أستطيع أن أحضر رجلا يسير في الشارع وأقتله، وأستطيع أن أعفو عن محكوم عليه بالإعدام وأنجيه من الموت.. وبذلك أكون قادرا على الحياة والموت.
لم يجادل إبراهيم الملك لسذاجة ما يقول. غير أنه أراد أن يثبت للملك أنه يتوهم في نفسه القدرة وهو في الحقيقة ليس قادرا. فقال إبراهيم: (فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ)
استمع الملك إلى تحدي إبراهيم صامتا.. فلما انتهى كلام النبي بهت الملك. أحس بالعجز ولم يستطع أن يجيب. لقد أثبت له إبراهيم أنه كاذب.. قال له إن الله يأتي بالشمس من المشرق، فهل يستطيع هو أن يأتي بها من المغرب.. إن للكون نظما وقوانين يمشي طبقا لها.. قوانين خلقها الله ولا يستطيع أي مخلوق أن يتحكم فيها. ولو كان الملك صادقا في ادعائه الألوهية فليغير نظام الكون وقوانينه.. ساعتها أحس الملك بالعجز.. وأخرسه التحدي. ولم يعرف ماذا يقول، ولا كيف يتصرف. انصرف إبراهيم من قصر الملك، بعد أن بهت الذي كفر.
هجرة إبراهيم عليه السلام:
انطلقت شهرة إبراهيم في المملكة كلها. تحدث الناس عن معجزته ونجاته من النار، وتحدث الناس عن موقفه مع الملك وكيف أخرس الملك فلم يعرف ماذا يقول. واستمر إبراهيم في دعوته لله تعالى. بذل جهده ليهدي قومه، حاول إقناعهم بكل الوسائل، ورغم حبه لهم وحرصه عليهم فقد غضب قومه وهجروه، ولم يؤمن معه من قومه سوى امرأة ورجل واحد. امرأة تسمى سارة، وقد صارت فيما بعد زوجته، ورجل هو لوط، وقد صار نبيا فيما بعد. وحين أدرك إبراهيم أن أحدا لن يؤمن بدعوته. قرر الهجرة.
قبل أن يهاجر، دعا والده للإيمان، ثم تبين لإبراهيم أن والده عدو لله، وأنه لا ينوي الإيمان، فتبرأ منه وقطع علاقته به.
للمرة الثانية في قصص الأنبياء نصادف هذه المفاجأة. في قصة نوح كان الأب نبيا والابن كافرا، وفي قصة إبراهيم كان الأب كافرا والابن نبيا، وفي القصتين نرى المؤمن يعلن براءته من عدو الله رغم كونه ابنه أو والده، وكأن الله يفهمنا من خلال القصة أن العلاقة الوحيدة التي ينبغي أن تقوم عليها الروابط بين الناس، هي علاقة الإيمان لا علاقة الميلاد والدم.
خرج إبراهيم عليه السلام من بلده وبدأ هجرته. سافر إلى مدينة تدعى أور. ومدينة تسمى حاران. ثم رحل إلى فلسطين ومعه زوجته، المرأة الوحيدة التي آمنت به. وصحب معه لوطا.. الرجل الوحيد الذي آمن به.
بعد فلسطين ذهب إبراهيم إلى مصر. وطوال هذا الوقت وخلال هذه الرحلات كلها، كان يدعو الناس إلى عبادة الله، ويحارب في سبيله، ويخدم الضعفاء والفقراء، ويعدل بين الناس، ويهديهم إلى الحقيقة والحق.
وتأتي بعض الروايات لتبين قصة إبراهيم عليه السلام وزوجته سارة وموقفهما مع ملك مصر. فتقول:
وصلت الأخبار لملك مصر بوصول رجل لمصر معه أمرأة هي أجمل نساء الأرض. فطمع بها. وأرسل جنوده ليأتونه بهذه المرأة. وأمرهم بأن يسألوا عن الرجل الذي معها، فإن كان زوجها فليقتلوه. فجاء الوحي لإبراهيم عليه السلام بذلك. فقال إبراهيم -عليه السلام- لسارة إن سألوك عني فأنت أختي -أي أخته في الله-، وقال لها ما على هذه الأرض مؤمن غيري وغيرك -فكل أهل مصر كفرة، ليس فيها موحد لله عز وجل. فجاء الجنود وسألوا إبراهيم: ما تكون هذه منك؟ قال: أختي.
لنقف هنا قليلا.. قال إبراهيم حينما قال لقومه (إني سقيم) و (بل فعله كبيرهم هذا فاسألوه) و (هي أختي). كلها كلمات تحتمل التاويل. لكن مع هذا كان إبراهيم عليه السلام خائفا جدا من حسابه على هذه الكلمات يوم القايمة. فعندما يذهب البشر له يوقم القيامة ليدعوا الله أن يبدأ الحساب يقول لهم لا إني كذب على ربي ثلاث مرات.
ونجد أن البشر الآن يكذبون أمام الناس من غير استحياء ولا خوف من خالقهم.
لما عرفت سارة أن ملك مصر فاجر ويريدها له أخذت تدعوا الله قائلة: اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر.
فلما أدخلوها عليه. مد يده إليها ليلمسها فشلّ وتجمدت يده في مكانها، فبدأ بالصراخ لأنه لم يعد يستطيع تحريكها، وجاء أعوانه لمساعدته لكنهم لم يستطيعوا فعل شيء. فخافت سارة على نفسها أن يقتلوها بسبب ما فعلته بالملك. فقالت: يا رب اتركه لا يقتلوني به. فاستجاب الله لدعائها.
لكن الملك لم يتب وظن أن ما حدث كان أمرا عابرا وذهب. فهجم عليها مرة أخرى. فشلّ مرة ثانية. فقال: فكيني. فدعت الله تعالى فَفَكّه. فمد يده ثالثة فشلّ. فقال: فكيني وأطلقك وأكرمك. فدعت الله سبحانه وتعالى فَفُك. فصرخ الملك بأعوانه: أبعدوها عني فإنكم لم تأتوني بإنسان بل أتيتموني بشيطان.
فأطلقها وأعطاها شيئا من الذهب، كما أعطاها أَمَةً اسمها "هاجر".
هذه الرواية مشهورة عن دخول إبراهيم -عليه السلام- لمصر.
وكانت زوجته سارة لا تلد. وكان ملك مصر قد أهداها سيدة مصرية لتكون في خدمتها، وكان إبراهيم قد صار شيخا، وابيض شعره من خلال عمر أبيض أنفقه في الدعوة إلى الله، وفكرت سارة إنها وإبراهيم وحيدان، وهي لا تنجب أولادا، ماذا لو قدمت له السيدة المصرية لتكون زوجة لزوجها؟ وكان اسم المصرية "هاجر". وهكذا زوجت سارة سيدنا إبراهيم من هاجر، وولدت هاجر ابنها الأول فأطلق والده عليه اسم "إسماعيل". كان إبراهيم شيخا حين ولدت له هاجر أول أبنائه إسماعيل.
ولسنا نعرف أبعاد المسافات التي قطعها إبراهيم في رحلته إلى الله. كان دائما هو المسافر إلى الله. سواء استقر به المقام في بيته أو حملته خطواته سائحا في الأرض. مسافر إلى الله يعلم إنها أيام على الأرض وبعدها يجيء الموت ثم ينفخ في الصور وتقوم قيامة الأموات ويقع البعث.
__________________
إحياء الموتى:
ملأ اليوم الآخر قلب إبراهيم بالسلام والحب واليقين. وأراد أن يرى يوما كيف يحيي الله عز وجل الموتى. حكى الله هذا الموقف في سورة (البقرة).. قال تعالى:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
لا تكون هذه الرغبة في طمأنينة القلب مع الإيمان إلا درجة من درجات الحب لله.
قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
فعل إبراهيم ما أمره به الله. ذبح أربعة من الطير وفرق أجزاءها على الجبال. ودعاها باسم الله فنهض الريش يلحق بجناحه، وبحثت الصدور عن رؤوسها، وتطايرت أجزاء الطير مندفعة نحو الالتحام، والتقت الضلوع بالقلوب، وسارعت الأجزاء الذبيحة للالتئام، ودبت الحياة في الطير، وجاءت طائرة مسرعة ترمي بنفسها في أحضان إبراهيم. اعتقد بعض المفسرين إن هذه التجربة كانت حب استطلاع من إبراهيم. واعتقد بعضهم أنه أراد أن يرى يد ذي الجلال الخالق وهي تعمل، فلم ير الأسلوب وإن رأى النتيجة. واعتقد بعض المفسرين أنه اكتفى بما قاله له الله ولم يذبح الطير. ونعتقد أن هذه التجربة كانت درجة من درجات الحب قطعها المسافر إلى الله. إبراهيم
رحلة إبراهيم مع هاجر وإسماعيل لوادي مكة:
استيقظ إبراهيم يوما فأمر زوجته هاجر أن تحمل ابنها وتستعد لرحلة طويلة. وبعد أيام بدأت رحلة إبراهيم مع زوجته هاجر ومعهما ابنهما إسماعيل. وكان الطفل رضيعا لم يفطم بعد. وظل إبراهيم يسير وسط أرض مزروعة تأتي بعدها صحراء تجيء بعدها جبال. حتى دخل إلى صحراء الجزيرة العربية، وقصد إبراهيم واديا ليس فيه زرع ولا ثمر ولا شجر ولا طعام ولا مياه ولا شراب. كان الوادي يخلو تماما من علامات الحياة. وصل إبراهيم إلى الوادي، وهبط من فوق ظهر دابته. وأنزل زوجته وابنه وتركهما هناك، ترك معهما جرابا فيه بعض الطعام، وقليلا من الماء. ثم استدار وتركهما وسار.
أسرعت خلفه زوجته وهي تقول له: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه شيء؟
لم يرد عليها سيدنا إبراهيم. ظل يسير. عادت تقول له ما قالته وهو صامت. أخيرا فهمت أنه لا يتصرف هكذا من نفسه. أدركت أن الله أمره بذلك وسألته: هل الله أمرك بهذا؟ قال إبراهيم عليه السلام: نعم.
قالت زوجته المؤمنة العظيمة: لن نضيع ما دام الله معنا وهو الذي أمرك بهذا. وسار إبراهيم حتى إذا أخفاه جبل عنهما وقف ورفع يديه الكريمتين إلى السماء وراح يدعو الله: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ).
لم يكن بيت الله قد أعيد بناؤه بعد، لم تكن الكعبة قد بنيت، وكانت هناك حكمة عليا في هذه التصرفات الغامضة، فقد كان إسماعيل الطفل الذي ترك مع أمه في هذا المكان، كان هذا الطفل هو الذي سيصير مسؤولا مع والده عن بناء الكعبة فيما بعد. وكانت حكمة الله تقضي أن يمتد العمران إلى هذا الوادي، وأن يقام فيه بيت الله الذي نتجه جميعا إليه أثناء الصلاة بوجوهنا.
ترك إبراهيم زوجته وابنه الرضيع في الصحراء وعاد راجعا إلى كفاحه في دعوة الله. أرضعت أم إسماعيل ابنها وأحست بالعطش. كانت الشمس ملتهبة وساخنة وتثير الإحساس بالعطش. بعد يومين انتهى الماء تماما، وجف لبن الأم. وأحست هاجر وإسماعيل بالعطش.. كان الطعام قد انتهى هو الآخر. وبدا الموقف صعبا وحرجا للغاية.
ماء زمزم:
بدأ إسماعيل يبكي من العطش. وتركته أمه وانطلقت تبحث عن ماء. راحت تمشي مسرعة حتى وصلت إلى جبل اسمه "الصفا". فصعدت إليه وراحت تبحث بهما عن بئر أو إنسان أو قافلة. لم يكن هناك شيء. ونزلت مسرعة من الصفا حتى إذا وصلت إلى الوادي راحت تسعى سعي الإنسان المجهد حتى جاوزت الوادي ووصلت إلى جبل "المروة"، فصعدت إليه ونظرت لترى أحدا لكنها لم تر أحدا. وعادت الأم إلى طفلها فوجدته يبكي وقد اشتد عطشه. وأسرعت إلى الصفا فوقفت عليه، وهرولت إلى المروة فنظرت من فوقه. وراحت تذهب وتجيء سبع مرات بين الجبلين الصغيرين. سبع مرات وهي تذهب وتعود. ولهذا يذهب الحجاج سبع مرات ويعودون بين الصفا والمروة إحياء لذكريات أمهم الأولى ونبيهم العظيم إسماعيل. عادت هاجر بعد المرة السابعة وهي مجهدة متعبة تلهث. وجلست بجوار ابنها الذي كان صوته قد بح من البكاء والعطش.
وفي هذه اللحظة اليائسة أدركتها رحمة الله، وضرب إسماعيل بقدمه الأرض وهو يبكي فانفجرت تحت قدمه بئر زمزم. وفار الماء من البئر. أنقذت حياتا الطفل والأم. راحت الأم تغرف بيدها وهي تشكر الله. وشربت وسقت طفلها وبدأت الحياة تدب في المنطقة. صدق ظنها حين قالت: لن نضيع ما دام الله معنا.
وبدأت بعض القوافل تستقر في المنطقة. وجذب الماء الذي انفجر من بئر زمزم عديدا من الناس. وبدأ العمران يبسط أجنحته على المكان.
الأمر بذبح إسماعيل عليه السلام:
كبر إسماعيل.. وتعلق به قلب إبراهيم.. جاءه العقب على كبر فأحبه.. وابتلى الله تعالى إبراهيم بلاء عظيما بسبب هذا الحب. فقد رأى إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يذبح ابنه الوحيد إسماعيل. وإبراهيم يعمل أن رؤيا الأنبياء وحي.
انظر كيف يختبر الله عباده. تأمل أي نوع من أنواع الاختبار. نحن أمام نبي قلبه أرحم قلب في الأرض. اتسع قلبه لحب الله وحب من خلق. جاءه ابن على كبر.. وقد طعن هو في السن ولا أمل هناك في أن ينجب. ثم ها هو ذا يستسلم للنوم فيرى في المنام أنه يذبح ابنه وبكره ووحيده الذي ليس له غيره.
أي نوع من الصراع نشب في نفسه. يخطئ من يظن أن صراعا لم ينشأ قط. لا يكون بلاء مبينا هذا الموقف الذي يخلو من الصراع. نشب الصراع في نفس إبراهيم.. صراع أثارته عاطفة الأبوة الحانية. لكن إبراهيم لم يسأل عن السبب وراء ذبح ابنه. فليس إبراهيم من يسأل ربه عن أوامره.
فكر إبراهيم في ولده.. ماذا يقول عنه إذا أرقده على الأرض ليذبحه.. الأفضل أن يقول لولده ليكون ذلك أطيب لقلبه وأهون عليه من أن يأخذه قهرا ويذبحه قهرا. هذا أفضل.. انتهى الأمر وذهب إلى ولده (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى). انظر إلى تلطفه في إبلاغ ولده، وترك الأمر لينظر فيه الابن بالطاعة.. إن الأمر مقضي في نظر إبراهيم لأنه وحي من ربه.. فماذا يرى الابن الكريم في ذلك؟ أجاب إسماعيل: هذا أمر يا أبي فبادر بتنفيذه (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). تأمل رد الابن.. إنسان يعرف أنه سيذبح فيمتثل للأمر الإلهي ويقدم المشيئة ويطمئن والده أنه سيجده (إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). هو الصبر على أي حال وعلى كل حال.. وربما استعذب الابن أن يموت ذبحا بأمر من الله.. ها هو ذا إبراهيم يكتشف أن ابنه ينافسه في حب الله. لا نعرف أي مشاعر جاشت في نفس إبراهيم بعد استسلام ابنه الصابر.
ينقلنا الحق نقلة خاطفة فإذا إسماعيل راقد على الأرض، وجهه في الأرض رحمة به كيلا يرى نفسه وهو يذبح. وإذا إبراهيم يرفع يده بالسكين.. وإذا أمر الله مطاع. (فَلَمَّا أَسْلَمَا) استخدم القرآن هذا التعبير.. (فَلَمَّا أَسْلَمَا) هذا هو الإسلام الحقيقي.. تعطي كل شيء، فلا يتبقى منك شيء.
عندئذ فقط.. وفي اللحظة التي كان السكين فيها يتهيأ لإمضاء أمره.. نادى الله إبراهيم.. انتهى اختباره، وفدى الله إسماعيل بذبح عظيم - وصار اليوم عيدا لقوم لم يولدوا بعد، هم المسلمون. صارت هذه اللحظات عيدا للمسلمين. عيدا يذكرهم بمعنى الإسلام الحقيقي الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل.
ومضت قصة إبراهيم. ترك ولده إسماعيل وعاد يضرب في أرض الله داعيا إليه، خليلا له وحده. ومرت الأيام. كان إبراهيم قد هاجر من أرض الكلدانيين مسقط رأسه في العراق وعبر الأردن وسكن في أرض كنعان في البادية. ولم يكن إبراهيم ينسى خلال دعوته إلى الله أن يسأل عن أخبار لوط مع قومه، وكان لوط أول من آمن به، وقد أثابه الله بأن بعثه نبيا إلى قوم من الفاجرين العصاة.
__________________
البشرى بإسحاق:
كان إبراهيم جالس لوحده. في هذه اللحظة، هبطت على الأرض أقدام ثلاثة من الملائكة: جبريل وإسرافيل وميكائيل. يتشكلون في صور بشرية من الجمال الخارق. ساروا صامتين. مهمتهم مزودجة. المرور على إبراهيم وتبشيره. ثم زيارة قوم لوط ووضع حد لجرائمهم.
سار الملائكة الثلاثة قليلا. ألقى أحدهم حصاة أمام إبراهيم. رفع إبراهيم رأسه.. تأمل وجوههم.. لا يعرف أحدا فيهم. بادروه بالتحية. قالوا: سلاما. قال: سلام.
نهض إبراهيم ورحب بهم. أدخلهم بيته وهو يظن أنهم ضيوف وغرباء. أجلسهم واطمأن أنهم قد اطمأنوا، ثم استأذن وخرج. راغ إلى أهله.
نهضت زوجته سارة حين دخل عليها. كانت عجوزا قد ابيض شعرها ولم يعد يتوهج بالشباب فيها غير وميض الإيمان الذي يطل من عينيها.
قال إبراهيم لزوجته: زارنا ثلاثة غرباء.
سألته: من يكونون؟
قال: لا أعرف أحدا فيهم. وجوه غريبة على المكان. لا ريب أنهم من مكان بعيد، غير أن ملابسهم لا تشي بالسفر الطويل. أي طعام جاهز لدينا؟
قالت: نصف شاة.
قال وهو يهم بالانصراف: نصف شاة.. اذبحي لهم عجلا سمينا. هم ضيوف وغرباء. ليست معهم دواب أو أحمال أو طعام. ربما كانوا جوعى وربما كانوا فقراء.
اختار إبراهيم عجلا سمينا وأمر بذبحه، فذكروا عليه اسم الله وذبحوه. وبدأ شواء العجل على الحجارة الساخنة. وأعدت المائدة. ودعا إبراهيم ضيوفه إلى الطعام. أشار إبراهيم بيده أن يتفضلوا باسم الله، وبدأ هو يأكل ليشجعهم. كان إبراهيم كريما يعرف أن الله لا يتخلى عن الكرماء وربما لم يكن في بيته غير هذا العجل، وضيوفه ثلاثة ونصف شاة يكفيهم ويزيد، غير أنه كان سيدا عظيم الكرم. راح إبراهيم يأكل ثم استرق النظر إلى ضيوفه ليطمئن أنهم يأكلون. لاحظ أن أحدا لا يمد يده إلى الطعام. قرب إليهم الطعام وقال: ألا تأكلون؟ عاد إلى طعامه ثم اختلس إليهم نظرة فوجدهم لا يأكلون.. رأى أيديهم لا تصل إلى الطعام. عندئذ (أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً). في تقاليد البادية التي عاش فيها إبراهيم، كان معنى امتناع الضيوف عن الأكل أنهم يقصدون شرا بصاحب البيت.
ولاحظ إبراهيم بينه وبين نفسه أكثر من ملاحظة تؤيد غرابة ضيوفه. لاحظ أنهم دخلوا عليه فجأة. لم يرهم إلا وهم عند رأسه. لم يكن معهم دواب تحملهم، لم تكن معهم أحمال. وجوههم غريبة تماما عليه. كانوا مسافرين وليس عليهم أثر لتراب السفر. ثم ها هو ذا يدعوهم إلى طعامه فيجلسون إلى المائدة ولا يأكلون. ازداد خوف إبراهيم.
كان الملائكة يقرءون أفكاره التي تدور في نفسه، دون أن يشي بها وجهه. قال له أحد الملائكة: (لاَ تَخَفْ). رفع إبراهيم رأسه وقال بصدق عظيم وبراءة: اعترف إنني خائف. لقد دعوتكم إلى الطعام ورحبت بكم، ولكنكم لا تمدون أيديكم إليه.. هل تنوون بي شرا؟
ابتسم أحد الملائكة وقال: نحن لا نأكل يا إبراهيم.. نحن ملائكة الله.. وقد (أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ)
ضحكت زوجة إبراهيم.. كانت قائمة تتابع الحوار بين زوجها وبينهم، فضحكت.
التفت إليها أحد الملائكة وبشرها بإسحاق.
صكت العجوز وجهها تعجبا:
قَالَت يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) (هود)
عاد أحد الملائكة يقول لها:
وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ
جاشت المشاعر في قلب إبراهيم وزوجته. شف جو الحجرة وانسحب خوف إبراهيم واحتل قلبه نوع من أنواع الفرح الغريب المختلط. كانت زوجته العاقر تقف هي الأخرى وهي ترتجف. إن بشارة الملائكة تهز روحها هزا عميقا. إنها عجوز عقيم وزوجها شيخ كبير. كيف؟! كيف يمكن؟!
وسط هذا الجو الندي المضطرب تساءل إبراهيم:
أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) (الحجر)
أكان يريد أن يسمع البشارة مرة أخرى؟ أكان يريد أن يطمئن قلبه ويسمع للمرة الثانية منة الله عليه؟ أكان ما بنفسه شعورا بشريا يريد أن يستوثق؟ ويهتز بالفرح مرتين بدلا من مرة واحدة؟ أكد له الملائكة أنهم بشروه بالحق.
قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ (55) (الحجر)
قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ (الحجر)
لم يفهم الملائكة إحساسه البشري، فنوه عن أن يكون من القانطين، وأفهمهم أنه ليس قانطا.. إنما هو الفرح.
لم تكن البشرى شيئا بسيطا في حياة إبراهيم وزوجته. لم يكن لإبراهيم غير ولد واحد هو إسماعيل، تركه هناك بعيدا في الجزيرة العربية. ولم تكن زوجته سارة قد أنجبت خلال عشرتها الطويلة لإبراهيم، وهي التي زوجته من جاريتها هاجر. ومن هاجر جاء إسماعيل. أما سارة، فلم يكن لها ولد. وكان حنينها إلى الولد عظيما، لم يطفئ مرور الأيام من توهجه. ثم دخلت شيخوختها واحتضر حلمها ومات. كانت تقول: إنها مشيئة الله عز وجل.
هكذا أراد الله لها. وهكذا أراد لزوجها. ثم ها هي ذي في مغيب العمر تتلقى البشارة. ستلد غلاما. ليس هذا فحسب، بشرتها الملائكة بأن ابنها سيكون له ولد تشهد مولده وتشهد حياته. لقد صبرت طويلا ثم يئست ثم نسيت. ثم يجيء جزاء الله مفاجأة تمحو هذا كله في لحظة.
فاضت دموعها وهي تقف. وأحس إبراهيم عليه الصلاة والسلام بإحساس محير. جاشت نفسه بمشاعر الرحمة والقرب، وعاد يحس بأنه إزاء نعمة لا يعرف كيف يوفيها حقها من الشكر. وخرّ إبراهيم ساجدا على وجهه.
انتهى الأمر واستقرت البشرى في ذهنيهما معا. نهض إبراهيم من سجوده وقد ذهب عنه خوفه، واطمأنت حيرته، وغادره الروع، وسكنت قلبه البشرى التي حملوها إليه. وتذكر أنهم أرسلوا إلى قوم لوط. ولوط ابن أخيه النازح معه من مسقط رأسه، والساكن على مقربة منه. وإبراهيم يعرف معنى إرسال الملائكة إلى لوط وقومه. هذا معناه وقوع عذاب مروع. وطبيعة إبراهيم الرحيمة الودودة لا تجعله يطيق هلاك قوم في تسليم. ربما رجع قوم لوط وأقلعوا وأسلموا أجابوا رسولهم.
وبدأ إبراهيم يجادل الملائكة في قوم لوط. حدثهم عن احتمال إيمانهم ورجوعهم عن طريق الفجور، وأفهمه الملائكة أن هؤلاء قوم مجرمون. وأن مهمتهم هي إرسال حجارة من طين مسومة من عند ربك للمسرفين. وعاد إبراهيم، بعد أن سد الملائكة باب هذا الحوار، عاد يحدثهم عن المؤمنين من قوم لوط. فقالت الملائكة: نحن أعلم بمن فيها. ثم أفهموه أن الأمر قد قضي. وإن مشيئة الله تبارك وتعالى قد اقتضت نفاذ الأمر وهلاك قوم لوط. أفهموا إبراهيم أن عليه أن يعرض عن هذا الحوار. ليوفر حلمه ورحمته. لقد جاء أمر ربه. وتقرر عليهم (عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) عذاب لن يرده جدال إبراهيم. كانت كلمة الملائكة إيذانا بنهاية الجدال.. سكت إبراهيم. وتوجهت الملائكة لقوم لوط عليه السلام.
غصن زيتون
2013-07-11, 00:34
قصة مـــــــــوسى عليه الســـــــــــــــــــــــــــلام
كان يوسف (عليه السلام) ملكاً في مصر، وقد جمع بين النبوّة، والملوكية، فكان ينظّم أمر الناس على وفق العدل والحكمة.
وحين حضرته الوفاة جمع آل يعقوب، وهم ثمانون رجلاً.. فقال لهم: إنّ هؤلاء القبط سيظهرون عليكم ويكون الملك للكافرين ويصبح المؤمن في هذه البلاد ذليلاً بأيديهم.. ويسومونكم سوء العذاب. وإنما ينجّيكم الله من أيديهم، برجل من ولد (لاوي) بن (يعقوب) اسمه: موسى بن عمران.
وبعدما أخبر يوسف بني إسرائيل بهذا الخبر، حزنوا لما يتوقعونه من البلاء، وفرحوا بما ينتظرونه من الفرج على يد نبيّ من بني أبيهم.. ومات يوسف (عليه السلام).
فملك بعده رجلاً لا يسير سيرة يوسف في كل كبير وصغير.. وكيف يعدل بيوسف غيره: وهو نبيّ من عند الله تعالى لا يأمر إلا بالخير، ولا يفعل إلا الخير. ثم مات الملك..
وملك بعده رجل آخر، وكان عاتياً فاجراً.. وهكذا أقام بنو إسرائيل، بعد وفاة يوسف، وقد كثروا، وانتشروا، متمسّكين بدين آبائهم يوسف، ويعقوب، وإسحاق وإبراهيم (عليهم السلام).
حتى زمان الملك فرعون.. وهذا الملك الطاغي فتح لمصر صفحة جديدة من الطغيان والإرهاب، وخصّص لبني إسرائيل ألواناً من العذاب والنكال.
كان بنو إسرائيل ينتظرون مقدم موسى (عليه السلام) لينجّيهم من طغيان فرعون وقسوته. وكان كلّما ولد لأحدهم مولود سموه عمراناً.. فإذا كبر عمران، سمّى ولده موسى رجاءً لأن يكون هو الذي وعد به يوسف (عليه السلام) حين حضرته الوفاة ولكن خابت الظنون، فلم يكن موسى الموعود أحدهم.
واغتنم بعض متطلبي الرئاسة هذا الوعد، فجعل من نفسه موسى النبيّ! حتى ادّعى خمسون من بني إسرائيل انهم هم الذين وعدهم يوسف، وكلّهم يدّعي أنه ينزل عليه الوحي، وانه هو مخلص بني إسرائيل، كذباً وافتراءً!
ولم يزل فرعون يسمع هذه الأخبار عن بني إسرائيل وكان قد علم أن بني إسرائيل يرجفون به ويطلبون هذا الغلام. فاستشار كهنته وسحرته في هذا الأمر المهم.
قالوا: إن المسموع صحيح، وهلاك دينك وقومك على يدي هذا الغلام.
وحدّدوا وقت ولادة الغلام بعامِ مخصوص. وهنا ثار ثائر فرعون، وجعل يخبط خبط العشواء للظفر بهذا الذي سيولد، مما يكون بيده هلاكه وتقضي أيامه!! أما كيف يصنع؟ وكيف يظفر على هذا المولود فهو سر مغلق، لا تساعده حيلته على ذلك!!
وأخيراً ارتأى أبشع الآراء، وقرّر تنفيذه بكل صرامةٍ وقسوةٍ. جعل القوابل على النساء، في ذلك العام الذي أخبر بولادة موسى فيه وأمر بأن يذبح كل غلام يولد في ذلك العام، ليستريح من موسى من أوّل أمره.
وعجّ بنو إسرائيل من هذا الحكم الإجراميّ واجتمع بعضهم إلى بعض لحلّ المشكلة. وكان فيهم عمران والد النبي موسى (عليه السلام).
فقال بعضهم: إذا ذبح الغلمان واستحيى النساء هلكنا ولم يبق لنا نسبٌ، فمن الرأي أن لا ينكح رجالنا نساءنا حتى لا يولد لنا مولود.. وبذلك ننقرض جميعاً، أما أن تبقى البنات ويذبح الأولاد فمعنى ذلك: أن نقدّم بناتنا إلى آل فرعون غنيمة باردة. لكنّ عمران أبى هذا الرأي.. وقال: أمر الله واقعٌ ولو كره المشركون.
وقد أصرّ فرعون في تعذيب بني إسرائيل، وقتل أطفالهم، حتى قتل من أطفال بني إسرائيل نيفاً وعشرين ألف مولود. بالإضافة إلى ما كان يأمر به من تعذيب الرجال والنساء. وقد كان من صنوف تعذيبه أن أمر بتقييد أرجلهم لئلا يفرّوا.. ثم كان يستعملهم في البناء، فكانوا ينقلون الطين على السلالم إلى السطوح، بأرجل مقيدة.. وكثيراً ما كانوا يقعون من السلّم فيموتون أو يزمنون، أو يصابون بصنوف الرض والكسر والتشويه.
وفي مثل هذا الوقت.. وفي هذا الجوّ الخانق تعذيباً وإرهاباً.. حملت أمّ موسى.. فوكل بها فرعون قابلةً تترقّب ولادتها، فإن كان الولد ذكراً ذبحه وإن كانت أُنثى استحياها.. وألحت القابلة في حراستها، فإذا قامت الأم قامت القابلة في إثرها، وإذا جلست جلست القابلة إزاءها لئلا يفوتها زمنٌ من حالها.
لكنّ الله تعالى شاء أن تنقلب القابلة عن هذه الصرامة، فأحبّت أُمّ موسى حباً كبيراً، لما رأت فيها من الأخلاق الفاضلة والأدب الرفيع. أما الأُمّ فقد أخذها الخوف، وظهر على ملامحها فشحب وجهها ومال إلى الاصفرار.
قالت القابلة يوماً لأُمّ موسى: يا بنية، ما لك تصفرّين وتذوين؟
فأجابت الأمّ قائلة: لا تلوميني، كيف لا أخاف انّه إذا ولدت أخذ الولد وذبح!
لكن القابلة سلّتها، وقالت: لا تحزني، فإني سوف اكتم عليك.
أما الأم فقد ظلّت في شك من هذا الوعد، إلى أن ولدت بموسى (عليه السلام)، وكانت القابلة حاضرة حين الولادة، فالتفتت إليها أُمّ موسى، وملء نظرها استعطاف واستيفاء للوعد.. وفوّضت أمرها إلى الله قائلةً: ما شاء الله، وانتظرت أمر القابلة.
ولما أن سمع الناس ولولة الطلق، ذهبوا يخبرون الحرس الملكي، الذين وكّلوا بذبح الأطفال، فحضروا باب البيت، وتحيّرت القابلة في الأمر، ماذا تجيب الحرس؟ وكيف تنقض عهداً عهدته إلى الأمّ المحببة إليها؟
لكنها أخيراً، توجّهت إلى الأمً قائلة: إني سوف اكتم عليك، كما وعدتك فلا تخافي، وحملت الأم والولد فأدخلتها المخدع، وأصلحت بعض أمرها، ثم خرجت إلى الحرس قائلة: انصرفوا، فانّه خرج دم منقطع. فانصرف الحرس، واطمأنت الأمّ، وجزت القابلة خيراً.
وهكذا شاء الله تعالى أن يخلّص نبيّه العظيم موسى (عليه السلام) من براثن فرعون المجرم، وحرسه القساة (وأوحينا إلى أمّ موسى أن أرضعيه) فأرضعت الأمّ ولدها الحبيب، بكلّ لهفةٍ وحنان. لكنّها خافت أن يبكي موسى، فيعرف الجيران خبرها، فتقع فيما فرّت منه.
فألهمها الله تعالى أن (..إذا خفت عليه فألقيه في اليمّ ولا تخافي ولا تحزني..) فصنعت أُمّ موسى تابوتاً من خشب، ووضعت ابنها الحبيب فيه، وطبقت التابوت بحيث لا يدخل فيه الماء وذهبت ليلاً إلى الماء. ثم طرحت التابوت في النيل، وقلبها ممتلئ كآبةً وحزناً.
لكن الماء أبى أن يفرّق بين الوالدة الحزينة والولد الحبيب، فجعلت الأمواج تدفع التابوت إلى الجرف.. والوالدة تدفع التابوت إلى الغمر، خوفاً وحزناً! إلى أن ضربت الريح التابوت نحو مجرى الماء، فانطلق به.
لكن الأم كيف تصبر؟ فهمّت أن تصيح لوعةً وشجناً، فربط الله على قلبها، وحفظها (وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً إن كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها). ووعد الله الأم أن يرد الولد إليها، وبشّرها بأن يجعله من المرسلين (إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين).
التابوت ينطلق في الماء، حسب لهب الريح ومجرى الماء.. والولد يكلأه الله بلطفه ورعايته في جوف الصندوق.. والأم أخذت ترجع إلى البيت بقلبٍ والهٍ وأن لمس شيئاً من الهدوء والاطمئنان تصديقاً بوعد الله.
فما هي العاقبة؟
كانت لفرعون امرأةً صالحة تسمى (آسية) من قبيلة بني إسرائيل، وكانت تخالف زوجها في العقيدة والرأي، لكنّها كانت تسرّ معتقدها، خوفاً من سطوة فرعون الجبار الطاغي.
وأتت أيام الربيع فقالت آسية لفرعون: هذه أيام الربيع فأمر لي بضرب قبّة على النيل لكي أتنزّه في هذه الأيام الجميلة. فأمر فرعون بضرب قبةٍ لها على الشطّ، وخرجت هي مع لمّةٍ من جواريها.
وبينما الجواري على الماء.. إذ رأين الأمواج تعلو وتهبط بشيء، ورأت آسية الصندوق في وسط الغمر، فقالت للجواري: ما ترين؟ قلن: يا سيدتنا، إنا لنرى شيئاً كما ترين.. وأتى الماء بالصندوق إلى القرب منهن، فاندفعن في الماء حتى أخذنه، وقد كاد أن ينفلت من أيديهن.
فتحت آسية الصندوق، وإذا فيه طفل جميل كفلقة القمر، فأوقع الله في قلبها محبة منه (ألقيت عليك محبة مني) ووضعت الولد في حجرها، وتفكّرت في أن تتخذه ابناً لها.. فأعلمت الجواري، وقالت: هذا ابني.. وأقرّتها الجواري بهذا التبنّي الميمون.
فقلن: أي والله، أي سيّدتنا، ما لك ولدٌ ولا للملك ـ يقصدن فرعون ـ فاتّخذيه ولداً.
ولكن.. يا ترى، هل يرضى فرعون بذلك؟
قامت آسية إلى فرعون.. فقالت له: إني أصبت غلاماً طيّباً حلواً، نتّخذه ولداً، فيكون قرّة عين لي ولك، فلا تقتله.
قال فرعون: ومن أين هذا الغلام؟
قالت آسية: لا والله ما أدري، إلا أن الماء جاء به..
لكن فرعون أبى أن يقبل قولها.. وهمّ أن يقتله، لما توجس خيفة، من أن يكون الولد من بني إسرائيل.. فألحّت آسية في الإصرار، وشفعت شمائل الولد الحلوة، في قبول فرعون تبنّي الولد.. وسمّاه (موسى) لأنه التقط من الماء.
ولما سمع الناس أن الملك قد تبنّى ابناً.. أرسل كبراء الناس نساءهم إلى آسية لتكون لموسى عليه السلام ظئراً ومربية.. وكلما تقدّمت النساء إلى موسى، لتلقمه ثديها، أعرض عن الثدي، فتحيّرت آسية في أمره.. ماذا تصنع به؟
ثم أمرت جواريها أن يطلبن كلّ امرأة مرضعة أو ذات لبن، ولا يحقرن أحداً كيف ما كان شأنها ومنزلتها فلعل موسى يقبل إحداهن.. أما أم موسى فقد كانت تترقب الأخبار عن ولدها. إذ أنها لم تعلم ما صنع به في النيل! لكنّها لم تظفر بخبر صحيح عن ولدها..
فقالت لابنتها ـ أخت موسى ـ : قصيه وانظري أترين لأخيك من أثر.. فانطلقت البنت تفحص عن موسى الرضيع هنا وهناك، لكنّها لم تقع على خبر؟!
وانتهى بها السير إلى باب دار الملك (فرعون) ودخلت الدار فيمن دخل.. وإذا بها ترى موسى أخاها في حضن آسية.. وقد التمست النساء لإرضاعه، لكنّه يأبى عن قبول لبنهن، وذلك بمشيئة من الله تعالى (وحرّمنا عليه المراضع من قبل).
توجّهت البنت الزكيّة إلى امرأة فرعون قائلة: قد بلغني أنكم تطلبون ظئراً.. وهنا امرأة صالحة تأخذ ولدكم، وتكفله لكم.
قالت بعض النساء: يظهر أن هذه البنت تعرف أم الغلام وإلا فمن أين لها بالظئر!
أجابت البنت الفطنة: أردت نصحكم.. فإني اعرف امرأة مرضعةً، وإن لم تحبوا أن آتي بها فلا ضير.
لكن آسية أمرت بأن تأتي بالمرضعة، فلعل موسى يقبل ثديها. فركضت البنت إلى أمّها تبشرها بالخبر.. وتبعتها الأمّ إلى دار فرعون. فلمّا دخلت الدار..
قالت آسية: ممن أنت؟
قالت الأم: من بني إسرائيل.
قالت آسية: اذهبي يا بنيّة، فليس لنا فيك حاجة.
توجهت النساء إلى آسية قائلات: انظري يا آسية هل يقبل الطفل الثدي أو لا يقبل؟
فقالت امرأة فرعون: أرأيتم لو قبل.. هل يرضى فرعون أن يكون الغلام من بني إسرائيل والمرأة ـ تعني الظئر ـ من بني إسرائيل؟ إن فرعون لا يرضى بذلك أبداً.
قالت النساء: فانظري يقبل أو لا يقبل؟
وقد كانت أُمّ موسى خرجت من عند آسية عندما قالت لها اذهبي يا بنيّة.. فأرسلت آسية ـ بعض الجواري ـ عليها لترجع. فركضت أخت موسى، إلى أمّها تخبرها بالبشارة قائلة: إن امرأة الملك تدعوك.. فأتت الأم فرحة، ودخلت على آسية.
فدفعت آسية الولد إليها، والنسوة ينظرن، أخذت الأمّ ولدها، ووضعته في حجرها، ثم ألقمته ثديها، وإذا بموسى يقبل على المصّ إقبالاً عظيماً واللّبن يجري في فمه. فرحت آسية.. وفرحت النسوة.. وفرحت الأمّ فرحاً كبيراً. قامت آسية إلى فرعون، تخبره الخبر، وتستأذنه في أمر الظئر الإسرائيلية.
فقالت: إنّي قد أصبت لابني ظئراً، وقد قبل منها الرضاع.
قال فرعون: وممن هي؟
قالت آسية: من بني إسرائيل!
قال فرعون: هذا مما لا يكون أبداً: الغلام من بني إسرائيل! والظئر من بني إسرائيل!
فلم تزل آسية تلحّ عليه، وتستعطفه في أمر الغلام وتقول له: وماذا تخاف؟ إنّ الغلام ابنك وينشأ في حجرك.. فهل تراه يبارزك ويخاصمك؟ هذا مما لا يكون.
حتى قبل فرعون، ورضي بالظئر الإسرائيلي (فرددناه إلى أمّه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون).
فنشأ موسى في حضن فرعون وداره، في عز واحترام، بينما كان فرعون وجلاوزته يقتلون أولاد بني إسرائيل، خوفاً من أن ينشأ فيهم من أخبر المنجّمون بأنّ زوال ملك فرعون بيده.
وهكذا شاء الله أن يربي نبيه العظيم، في حضن أعدى أعدائه (فالتقطته آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً).
وقد كتمت القابلة.. والأُمّ.. والأخت.. خبر موسى، ومضى زمانٌ، وأتى زمانٌ، واستغنى موسى عن الرضاع، وماتت الأم، وماتت القابلة، وبقي موسى في حجر فرعون، يكلأه الله برعايته ويربيه فرعون ينظر إليه نظر الأب إلى ابنه.
وفي ذات يوم حدث أن موسى ـ وهو غلام صغير يدرج ـ عطس عطسةً فقال: الحمد لله رب العالمين.
فأنكر فرعون ذلك عليه، ولطمه موسى على وجهه وقال: ما الذي تقول؟ فوثب على لحية فرعون ـ وكانت طويلة ـ فقلع بعضها! فهمّ فرعون بقتله!
قالت آسية ـ متشفعةً ـ : إنه غلام حدث ما يدري ما يقول..
فقال فرعون: بلى يدري. قالت آسية: فامتحنه: ضع بين يديه تمراً وجمراً، فإن ميّز بينهما، فافعل ما تريد.
فأمر فرعون بأن يوضع إزاء موسى طبقاً من تمر وكانوناً من جمر.. فمدّ موسى يده إلى الجمر، ووضعه في فمه.. فاحترق لسانه ويده، وبكى بكاءً مراً!
فقالت آسية لفرعون: ألم أقل لك: إنه لا يعقل. فعفا فرعون عنه..
أمّا بنو إسرائيل، الذين كانوا تحت اضطهاد فرعون ونكاله، فقد كانوا منتظرين مقدم موسى، ولكنّهم لم يكونوا يعلمون أنّه قد ولد.. فكانوا يتذاكرون وعد يوسف (عليه السلام)، وينتظرون نبيّهم المخلّص لهم من أيدي الجبارين.. وكانوا يسأل بعضهم بعضاً عن وقت الفرج، لكن.. لم يكونوا يعرفون ذلك بالضبط.
ولما علم فرعون بإلحاحهم في طلب مخلّصهم زاد في تعذيبهم، وأمر بأن يفرّق بين رجالهم ونسائهم، كي لا يولد لهم المولود المنتظر. ومنع عن مذاكرة موسى منعاً باتاً، ولم يدر أن موسى في بيته!
وقد أثّر الضغط الشديد في بني إسرائيل، فلم يقدروا على ذكر اسم موسى إلا في ظلمات الليل، والخفايا، كي لا يرفع أمرهم إلى الطاغية فرعون. فخرجوا! ذات ليلة مقمرة إلى كبير لهم، له علم ومعرفة، يسألونه عن موعد الفرج؟
قالوا للشيخ: قد كنّا نستريح إلى أخبارك من قبل، وكانت بشائرك بالفرج تسري عنّا بعض الهموم. فإلى متى نحن في هذا البلاء؟ إن فرعون يقتل رجالنا، ويشق بطون نسائنا الحبالى، ويذبح أطفالنا. فمتى الفرج؟
قال الشيخ: إنكم لا تزالون في البلاء حتى يجيء الله تعالى بغلام من ولد لاوي بن يعقوب.. اسمه موسى بن عمران، غلامٌ طوالٌ جعدٌ. وعند ذلك يكون الفرج.
وبينما هم في الحديث، بين يأس ورجاء، إذ طلع عليهم موسى من بعيد.. وهو إذ ذاك حديث السن، وقد خرج من دار فرعون، وهم يزعمون أنه يريد النزهة. لكن موسى كان قاصداً نحو بني إسرائيل، ميمّماً وجهه شطر ذلك الاجتماع المنعقد في ظلمة الليل، وقف على القوم، فتوسّم الشيخ فيه الملامح الموعودة.
فقال: ما اسمك يرحمك الله؟
قال: موسى..
قال الشيخ: ابن من؟
قال: ابن عمران.. فانكبّ الشيخ على قدميه يقبّلهما.
وعرف بنو إسرائيل نبيّهم، فأقبلوا إليه يقبّلون يده ورجله، في فرح وغبطة ثم ودّعهم موسى قائلاً لهم: أرجو أن يعجّل الله فرجكم! وذهب إلى دار فرعون. وفي هذا الوقت علم بنو إسرائيل أن الفرج قد اقترب.. وانّه قد شبّ مخلّصهم من فرعون.
خرج موسى ذات يوم يتفرّج.. فدخل مدينة لفرعون، وبينما هو يسير، فإذا به يرى رجلين يقتتلان (هذا من شيعته) من بني إسرائيل (وهذا من عدوه) من القبط، فكان أحدهما يقول بقول موسى، وكان الآخر يقول بقول فرعون (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه) قال الإسرائيلي: يا موسى نجني من هذا القبطي. فتقدم موسى إلى القبطي (فوكزه) ضربه بيده، وكانت الوكزة شديدة، لما كان لـ(موسى) من قوة وبطش (فقضى عليه) ومات القبطي في مكانه. قال موسى: هذا الاقتتال من عمل الشيطان.
فانتشر أمر موسى في الناس، وقالوا: إنه قتل رجلاً من القبط (فأصبح في المدينة خائفاً يترقب). وخرج في غد ذلك اليوم يتحسّس الأخبار، فإذا به يمرّ بذلك الرجل الإسرائيلي، وهو يتقاتل مع رجل قبطي آخر.. ولما أن رأى الإسرائيلي موسى استصرخه وطلب منه العون في إنجائه من القبطي. توجه موسى إلى الإسرائيلي، وقال له: (إنك لغوي مبين) كل يوم تقاتل رجلاً؟!
لكن موسى ـ بعدما قال هذا الكلام للإسرائيلي ـ نحى نحو القبطي ليزجره وينصر الإسرائيلي (ولما أراد أن يبطش بالذي هو عدوّ لهما) زعم الإسرائيلي أن موسى يريد الانتقام منه.. فاضطرب وتوجه إلى موسى قائلاً: (أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين)؟! فخاف موسى أن يتبيّن أمره، ويلقى القبض عليه فهرب من محل المنازعة، واختفى.
كان خازن فرعون مؤمناً بموسى (عليه السلام) وكان قد كتم إيمانه عن فرعون.. وبعد الواقعة استشار فرعون أصحابه في أمر موسى؟ وأخيراً استقرّ رأيه على أن يقتله. لكن الله شاء أن يحفظ موسى من القتل.
فأخذ الخازن يناقش فرعون في قتل موسى وقال: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله)؟ لكن لم تنفع المناقشة، وصدر حكم القتل، فلم ير الخازن حلاً للمسألة إلا أن يخبر موسى بالمؤامرة لينجو بنفسه.
(وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين) وسمع موسى كلام الخازن (فخرج منها خائفاً يترقّب) بغير دابّةٍ، ولا خادم ولا زادٍ متضرعاً إلى الله تعالى، قائلاً: (رب نجني من القوم الظالمين) وكان يخاف أن يلحقه الطلب!
لكن الله حفظ نبيه عن أذى فرعون وقومه، فلم يظفروا به، حتى خرج من بلادهم.. وورد إلى بلاد آخرين (ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل).
سار موسى (عليه السلام).. ترفعه أرض وتخفضه أخرى، حتى أتى إلى ارض مدين، فرفعت له من البعيد شجرةٌ، فقصدها ليستظلّ بها، ولما اقترب منها رأى تحتها بئراً (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أُمّةً من الناس يسقون). ونظر في ناحية، فإذا يرى جاريتين معهما غنمٌ تنتظران صدور القوم، حتى تسقيا غنمهما، من فضل ما بقي في الحوض.
فقال لهما موسى: (ما خطبكما)؟ ولماذا تنتظران؟ (قالتا لا نسقى حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخٌ كبير). فرقّ موسى لحالهما، ودنا من البئر، وقال لمن على البئر: أستقي دلوين دلواً لكم، ودلواً لي؟ وكان الدلو كبيراً يحتاج مدُّه إلى جماعة... فقبل القوم كلامه لما رأوا فيه من المنفعة لأنفسهم، فتقدّم موسى (عليه السلام) وحده ـ وكان قويا ـ فاستقى وحده دلواً لمن على البئر ثم استقى دلواً آخر للجاريتين، وسقى أغنامهما.
( ثم تولّى إلى الظلّ فقال رب إني لما أنزلت إليّ من خيرٍ فقيرٌ) وكان (عليه السلام) حينذاك جائعاً لم يأكل منذ ثلاثة أيام شيئاً! وكان قد استولى عليه الضعف، والتعب.. فقد قطع الطريق بين مصر ومدين راجلاً خائفاً، ولم يعتد ذلك من قبل حيث انه كان في ظلّ نعيمٍ في بيت الملك، مهيئاً له أفضل الأطعمة، وأحسن المراكب، وأسبغ الرفاه والأمن.
فتضرّع إلى الله تعالى، في أن يمنحه الراحة والأمن والمأكل. استجاب الله دعاء موسى (عليه السلام). فما أن رجعت المرأتان إلى داريهما ـ وكان أبوهما نبياً من أنبياء الله تعالى، واسمه: شعيب (عليه السلام) ـ حتى أخبرتاه بنبأ موسى.
إن شعيب سأل ابنتيه، قائلاً: أسرعتما الرجوع اليوم؟ وقد كانتا اعتادتا التأخر حتى يصدر الرعاء.
فقالتا: وجدنا رجلاً صالحاً رحيماً، فسقى لنا مع القوم، وهذا سبب مجيئنا قبل كل يوم.
فقال شعيب، لواحدة منهما: اذهبي إليه، فادعيه لنجزيه أجر ما سقى لنا (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء) حتى وصلت إلى موسى (قالت إنّ أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا) فقام موسى معها، وأرادت الفتاة أن تتقدّم على موسى في المشي لتدلّه على الطريق لكن موسى أبى، وقال: بل كوني من ورائي، وأرشديني إلى الطريق بدلالة.
حتى وصل إلى دار شعيب فدخل الدار، ورحّب به شعيب، واستفسره عن قصته (فلمّا جاءه وقصّ عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين).
غزة في عيوني
2013-07-11, 00:41
مشكوووووووووووور:o:o والله قصص نحتاجها:1: ننتظر المزيد بارك الله فيك
غصن زيتون
2013-07-11, 01:23
مشكوووووووووووور:o:o والله قصص نحتاجها:1: ننتظر المزيد بارك الله فيك
وفيك بركة اختي الكريم ان شاء الله
بارك الله فيك يعطيك الف الف شكرا
salimfarid
2013-07-11, 19:46
بارك الله فيك
fadi-1530
2013-07-11, 22:13
بارك الله فيك
الفولاذ الحي
2013-07-19, 00:12
بارك الله فيك على الموضوع
jojomaster
2013-07-22, 01:47
بارك الله فيك اخي
وصح رمضانكم اخوتي
واليك رابط ربما يعجبك وفيه قصص
الانبياء عليهم السلام والصحابيات والصحابة وامهات المؤمنين رضي الله عنهم جميعا
http://medea.arab.st/f40-montada
ولا تنسونا بدعائكم
زهرة الاحلام
2013-07-22, 08:08
الف شكر اخي هذه القصص افادتنا بزززززاف
Sofiane-dz
2013-11-15, 17:51
بارك الله فيك
غصن زيتون
2013-11-15, 18:54
بارك الله فيك
وفيك بـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــركة اخــــــــــــــــي الكريـــــــــــــــــــــــــــــــــــم
djemaldj
2013-11-18, 21:53
بارك الله فيك
vBulletin® v3.8.10 Release Candidate 2, Copyright ©2000-2024, TranZ by Almuhajir