المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مع مذكرات الشاذلي بن جديد 01


أبو تقي الدّين
2012-11-23, 11:28
مع مذكرات الشاذلي بن جديد 01

عندما سمعت بخبر وفاة الرئيس الشاذلي بن جديد تملكتني رغبة شديدة في كتابة كلمة عنه، كلمةً أردت أن تكون منصفة في حقّه، وتوّقعت أن يَستنكر كثير من النّاس هذه الكلمة، ولمّا دخلت الفايس بوك وجدت عشرات الأشخاص يكتبون عن الشاذلي بن جديد بحماسة وتأثر كبير، وكلّ ما كنت أفكر في قوله أو التعبير عنه وجدتهم قد قالوه وقالوا أكثر منه، فاكتفيت بما قرأت وصمَتُ.. وقد رأيت أنّ ما قيل منصف وكاف في إعطاء الرّجل حقه..
وعندما أُعلن قرب صدور مذكّراته رغبت في قراءتها بشدّة، وجاءت الفرصة لأقرأها في الثامن عشر من شهر نوفمبر 2012 م، أي بعد وفاة الشاذي بن جديد – رحمه الله – ببضعة أسابيع، كانت المذكرات في طبعة عادية وبسيطة، رغم ارتفاع ثمنها 1000 دج، وهي فعلا تستحق أكثر من ذلك، لكنّ الطباعة لم تكن في مستوى مكانة الرّجل، الغلاف من الكارتون الرديء، أما الورق فهو متوسّط الجودة وكذلك الخطّ، كانت في 292 صفحة من القطع المتوسّط، لكنّ قيمتها التاريخيّة لا تقدّر بثمن، لا لما تحتويه من معلومات، أغلبها معروف ومتداول ولكن لما تقدّمه لنا من صورة جدّ مقربة عن شخصيّة هذا الرجل التاريخي الذي غُمط حقُه وظلم كثيرا..
بدأت قراءة المذكرات بشغف ولهفة وأتممتها في يومين، رغم ظروف العمل وواجبات الحياة اليوميّة التي لا تكاد تنقطع..كانت المذكرات مشوّقة حقا وكان الشاذلي يتحدّث فيها عن حياته كما يتحدّث أيّ رجل من عامة الشعب الجزائري، يظهر في حديثه الصدق والتلقائيّة، رغم أنّه قال أنّه لم يذكر كلّ شيء ولم يتحدّث عن بعض الأمور التي قد يساء فهمها أو تُسيء لبعض الأشخاص، وكان الرجل جدّ متواضع في الحديث عن عائلته الكبيرة التي ذكر أنّه يقال أنّها تعود في جذورها إلى أصول عربيّة يمنيّة ولم يجزم بذلك أو يقطع بما ليس عنده عليه برهان حاسم..وقد قال في صفحة 24 بكلّ صراحة:
" لا توجد، بطبيعة الحال وثائق تثبت هذا الكلام، لكنّها رواياتٌ متواترة ظلّت الأجيال ترويها أبا عن جدّ.." ثمّ يقول " أمّا فيما يخًصّني فقد أدركت حين بلغت سنّ الرشد، أنّ ما يُروى لنا عن الأصول هو مزيج من الحقيقة والخيال، وقد حَسمتُ هذه المسألة نهائيّا. فأنا معتز بأمازيغيتي، فخور بانتمائي العربي، متمسّك بمعتقدي الإسلامي، وهذا الثالوث يشكل في نظري هوّية الجزائريين في غناها وتعددها."
وخلاصة ما انتهى إليه من ذلك أنّه يفتخر بانتمائه العربي الأمازيغي، مستدلا بمقولة الشيخ عبد الحميد بن باديس " أنا أمازيغيّ عرّبني الإسلام"، وإذا أردنا أن ندخل إلى شخصيّة الشاذلي بن جديد فهذا هو مفتاح شخصيّته، ولقد عرفت هذا الأمر عنه مبكرا، عرفته منذ كان الشيخ محمّد الغزالي هنا في الجزائر يدرّس بالجامعة الإسلاميّة، في أواسط الثمانينيات ولاحظت كيف كان الشاذلي بن جديد يتعامل معه ومع العلماء عموما، ولم يكن الأمر صحيحا عندما قِيل في تلك الفترة أنّ النظام فتح المجال للتيار الإسلامي ليضرب به التيار الشيوعي، إنّ تعاطف الشاذلي بن جديد مع التيار الإسلامي، نابع من إيمانه وعقيدته منسجم مع شخصيّته التي نشأت في بيئة متديّنة، وقد شهد له الغزالي – رحمه الله وما فعلها مع غيره من الرؤساء أو الملوك- عندما قال قبل مغادرته للجزائر:
" أشهد أنّ الشاذلي بن جديد يحافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها.." وربما كانت هذه الشهادة إشارة للتيار الإسلامي لكي يُحسن التعامل مع هذا الرجل الذي كان فرصة ذهبيّة للتغيير الجذريّ، لكنّ بعض أطراف متصلّبة في التيار الإسلامي لم تفهم تلك الإشارة ولم تفهم حقيقة شخصيّة الشاذلي بن جديد، وضيّعت على الأمّة فرصة ذهبيّة من الصعب أن تتكرر إلا بعد سنوات طويلة..
ومما أعجبني في مذكرات الشاذلي بن جديد إقراره في مقدّمة كتابه بأنّه يكتب الأحداث التي عاشها بمنظار السّاعة ومن منطلق رؤيته للوقائع وهو في مثل هذه السنّ – الثمانينيات من العمر – وذلك حينما يقول في المقدّمة:
" ولعلّ القارئ سيلاحظ أنّني متأثر فيما أرويه بمواقفي وأرائي الحالية، وهذا أمر طبيعيّ .."
وفي ذلك تصريح منه بشكل جليّ أنّ أفكاره تطوّرت وتغيّرت، وأنّه ينظر لأحداث الماضي برؤية الحاضر، ولو قدّر له أن يكتب هذه الأحداث قبل عشرين أو ثلاثين سنة لكان الأمر مختلفا بعض الشيء..
لقد أحسست وأنا أقرأ هذه المذكرات أنّ بعض فقراتها قيلت باللغة الفرنسيّة، وطبعا قام محرّر الكتاب الأستاذ عبد العزيز بوباكير بترجمتها إلى العربية لاسيما أنّه هو من حوّلها من القول المنطوق إلى الكتابة المقروءة، أو هذا ما فهمته أنّا من عبارة ( التحرير )، وقد أشار إلى ذلك صاحب المذكرات عندما شكره في المقدّمة على صبره والاستماع إليه طوال أربع سنوات..
إذن كان الشاذلي بن جديد يروي وعبد العزيز بوباكير يدوّن ( يحرر )، لكنّ روح الشاذلي بن جديد وشخصيته كان ظاهرة وجليّة في كلّ كلمة سُطرّت في الكتاب..



يتبـــع ..