ينابيع الصفاء
2012-06-26, 23:35
عودة إلى الأزمة العراقية الدائمة.
21.06.2012
............
يتابع د. عبد الخالق حسين مسار الأزمات العراقية المتتالية، مركزا هذه المرة على ما يعتبره تحالفا بين الأكراد و قوى سياسية لها مصلحة في إسقاط المالكي للوصول إلى أهداف سياسية تهمها بعيدا عن هموم وحاجات الشعب.
................
مكونات الأزمة.
1- الإنقسام الأثني و الديني و الطائفي، مدعوماً بالتوزيع الجغرافي. أي ثلاث مناطق جغرافية تسكن كل منها، أغلبية طائفة معينة، أو أثنية معينة.
2- نجحت الأنظمة المستبدة في حكم العراق، و حافظت على تماسكه و وحدته الظاهرية عن طريق القوة و القهر، و بتبني دكتاتورية المكونة الواحدة، أي حكم عربي سني منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، إلى سقوط حكم البعث الصدامي الطائفي العنصري عام 2003، و اتبعوا الموروث التركي في التمييز الطائفي، و سياسة (فرق تسد)، لإثارة الأحقاد و العداء بين مكونات الشعب.
وبعد سقوط حكم البعث رفض المكون الذي احتكر السلطة لعشرات السنين، التخلي عن امتيازاته إلا على أسنة الحراب.
إذ كما قال الدكتور حسين رستم في مقال له في هذا الصدد: "إن الإدمان على الحكم كالإدمان على المخدرات"، لذا فمن الصعوبة إقناع العرب السنة بالتخلي عن امتيازاتهم في احتكار السلطة و النفوذ و صنع القرار السياسي، و المشاركة العادلة في الحكم مع بقية مكونات الشعب وفق ما تفرزه صناديق الاقتراع.
لهذا شنوا هجوماً على عراق ما بعد صدام، و على الديمقراطية التي أطلقوا عليها مختلف النعوت البذيئة، و الأسماء التسقيطية، لإفشال العملية السياسية، و استعانوا في ذلك بمنظمات الإرهاب، و السعودية، و قطر، و تركيا، و غيرها من الدول الحاقدة على العراق.
3- دخول دول الجوار على الخط ، و استعانة الكتل السياسية بها، كل حسب انتمائها الطائفي والأثني، لإلحاق الهزيمة بالخصوم المنافسين على حساب المصلحة الوطنية.
4- عدم خبرة العراقيين في ممارسة الديمقراطية: الحقيقة التي ينكرها كثيرون، بقصد و بدونه، هي أن الفترة الوحيدة التي مارس فيها الشعب العراقي الحرية و الديمقراطية، هي الفترة التي تلت عام 2003.
فلأول مرة تشترك جميع مكونات الشعب بالحكم وفق ما تفرزه صناديق الاقتراع. و لكن المشكلة أن شعباً لم يمارس الديمقراطية طوال تاريخه، فمن الصعوبة أن ينتقل من نظام الاستبداد إلى الديمقراطية بطريقة سلسلة، خاصة بعد التركة الثقيلة التي ورثها العهد الجديد من العهد البائد.
و لهذه الأسباب نجد كل كتلة سياسية تحاول أن تحقق لنفسها مائة بالمائة من السلطة و النفوذ، و لغيرها صفر بالمائة، النظرية التي تسمى بـ"المعادلة الصفرية" حسب تعبير المفكر العراقي الدكتور غسان العطية.(2)
5- نجاح حكم البعث في تخريب المجتمع العراقي، حضارياً و فكرياً و سياسياً و أخلاقياً، لذلك نجد تفشي الفساد و اللا أبالية في معظم مفاصل الدولة، إلى حد أن صار هدف كل مسؤول وموظف في الدولة هو النهب وعدم تمشية أمور الناس إلا بالرشوة.
فكما نقل لنا الأستاذ الدكتور عبد الحميد العباسي في مقال له عن الفساد المالي [مقولة أحد رؤساء الوزارات في النصف الأول من القرن السابق: "ان العراق بيتٌ يحترق فاليُخْرج (ينهب) منه كلٌ ما يستطيعه"، صارت هذه المقولة، نبراسا في ظل إحساس مكبوت، ان البلد، كما نعرفه آيلٌ الى الزوال، و من ان الحكومة (الرئاسات الثلاث) و كتلها السياسية المتوافقة، نفسها، تتستر على المفسدين."]
6- كجزء من شخصية الفرد العراقي، وثقافته الموروثة (culture)، يفتقر العراقيون إلى العمل بروح الفريق (team work)، لذلك، نرى أن زعيم كل كتلة سياسية يعتقد أنه أَولى من غيره برئاسة الحكومة الفيدرالية في بغداد، ضارباً نتائج الانتخابات عرض الحائط .
.................
دور البرزاني و (جماعة أربيل) في تصعيد الأزمة العراقية.
كنا نأمل من السيد مسعود برزاني، رئيس إقليم كردستان، و بعد كل الكوارث التي حلت بكردستان خاصة، و العراق عموماً، على أيد الأنظمة المستبدة، أن يكون عوناً في بناء الدولة العراقية الفيدرالية الديمقراطية، و لكن الذي حصل في الأشهر الأخيرة للأسف الشديد، أن البرزاني أنضم إلى جوقة السعودية، و قطر، و تركيا لتدمير الدولة العراقية، و لأغراض آنية و قصر النظر.
لقد لحق ظلم الأنظمة الدكتاتورية بكل مكونات الشعب العراقي في الماضي مع الاختلاف بالدرجة. لذلك و بعد إسقاط حكم البعث الجائر، استخدمت كل جهة مظلوميتها كذريعة للهجوم على الآخر.
و في هذا الخصوص جعل السيد البرزاني من أربيل مقراً لاستضافة المعارضين لحكومة بغداد، أطلق عليهم (جماعة أربيل).
و هو يتخذ من الأنفال و حلبجة و غيرها ذريعة لزعزعة الحكومة المركزية الديمقراطية، و صار يعتقد أنه لا يمكن أن يقيم الدولة الكردية المستقلة إلا بتحطيم الدولة العراقية.
و هو يعرف كيف يناور و يراوغ ليقدم مشروعه للشعب العراقي بلبوس الحرص على الوحدة العراقية و الديمقراطية.
فنسمع أقوالاً مثل: نريد ديمقراطية حقيقية في بغداد، و منع عودة الديكتاتورية، و وصف رئيس الحكومة المركزية، السيد نوري المالكي، بالدكتاتور، و الشوفينية، و أن المالكي يريد إعادة الأنفال و مأساة حلبجة، و الحروب...الخ.
و هناك جيش جرار من حملة الأقلام لخدمة مشروع البرزاني عن طريق نشر البلبلة الفكرية، و خلط الأوراق لتضليل الرأي العام.
فعلى سبيل المثال، ذكر السيد دانا جلال في مقال له عن مؤتمر أربيل، أجتزئ منه ما يلي: "أنهم في مؤتمر التجمع العربي لنصرة القضية الكردية رددوا أغنية (هر بژي كورد عرب رمز النضال)". و عن عقد مجلس الوزراء جلساته في المحافظات قال: "وأن قلعة أربيل كانت ستفتح بواباتها لعقد اجتماع مجلس الوزراء العراقي...الخ".
هذا الكلام جميل جداً و نؤيده بكل قوة، و لكن المشكلة التي تصدمنا هي أن هذا الكلام الجميل على الضد تماماً مما يجري على أرض الواقع من قبل قيادة السيد البرزاني. فعملياً تعرض رئيس الوزراء العراقي إلى هجوم سافر من قبل حكومة الإقليم لأنه تجرأ و عقد اجتماع مجلس الوزراء في كركوك، حيث قاطعه الوزراء الكورد بأمر من قيادتهم السياسية، بل و حتى استكثروا عليه عقد الاجتماع في الموصل لأنها قريبة من كردستان، و اعتبروا الاجتماع في هذه المحافظات استفزازاً لمشاعر الشعب الكردي!! عجبي.
فالمطلوب هو أن تتطابق الأقوال التي تتردد في المقالات و المؤتمرات الدعائية، مع الأفعال على أرض الواقع.
يبرر هؤلاء السادة موقف رئيس الإقليم المعادي للحكومة المركزية أن ديمقراطية بغداد متعثرة، إذ يعلق الكاتب قائلاً: "فأربيل قلعة عراقية حينما تكون بغداد ديمقراطية، و قلعة للديمقراطية حينما تتخلى بغداد عن ديمقراطيتها المتعثرة.." (كذا).
............
لماذا ديمقراطيتنا متعثرة؟
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: إذا كانت ديمقراطية بغداد متعثرة حقاً، فمن الذي جعلها كذلك؟
أليس الشركاء في العملية السياسية أنفسهم بمن فيهم السيد مسعود البارزاني؟ فأي الديمقراطيتين متعثرة و أيتهما حقيقية؟
ديمقراطية بغداد أم ديمقراطية أربيل؟
فمن يتابع صحف بغداد مثل (المدى) و غيرها، يعرف أنها تصب حمماً متواصلاً على رئيس الوزراء و حكومته بمنتهى الحرية و دون أي خوف من ملاحقة و مقاضاة.
بينما أقل انتقاد يوجه إلى رئيس الإقليم و حكومته من أي صحفي، أو كاتب، أو أكاديمي، سرعان ما يتعرض إلى الاغتيال أو السجن و التعذيب، أو الاختطاف و الاختفاء، و قد ذكرنا أمثلة كثيرة في مقالاتنا السابقة.
فهل من الديمقراطية الحقيقية، و الشراكة المنصفة أن تحتضن أربيل "قلعة الديمقراطية" المتهمين بالإرهاب، و توفر الملاذ الآمن لأمثال طارق الهاشمي و حمايته الملوثة أيديهم بدماء العراقيين؟
نذكِّر السيد البارزاني، أنه منح مشعان الجبوري الثقة و الدعم، و هو الذي فرضه على اللجنة الموسعة المنبثقة من مؤتمر المعارضة العراقية في لندن عام 2002، و كان جزاءه أخيراً أن صرح مشعان الجبوري قبل أيام قائلاً: أن "الكرد اوجدوا الصراع الطائفي و سأرفع السلاح ضد مشروعهم الطامع".
و هل يستبعد البرزاني أن يأتي يوم يصدر فيه مثل هذا الكلام ضد الكرد من علاوي و الهاشمي و مقتدى الصدر و غيرهم من (جماعة أربيل) الذين يستضيفهم؟
لقد أحال البرزاني أربيل إلى مقر دائم لاستضافة رؤساء الكتل السياسية (جماعة أربيل) في لقاءات متواصلة لإسقاط حكومة المالكي.
و في هذه الحالة، من نلوم على تعثر الديمقراطية في بغداد؟
و من هو المؤهل ليعطي شهادة تزكية بأن هذه الديمقراطية حقيقية أومتعثرة؟
و هل تتوقعون ديمقراطية حقيقية على أيدي حلفاء البرزاني الجدد من البعثيين من أمثال أياد علاوي، و طارق الهاشمي، و صالح المطلك، و ظافر العاني، أو من مقتدى الصدر الذي هو نسخة مصغرة من معمر القذافي من حيث عقليته، و تقلبات مزاجيته، و جهله بالسياسة؟
و يعرف الجميع أن مقتدى ما كان أن يحتل هذا الموقع كزعيم لتيار سياسي لولا التخلف الاجتماعي الذي يولي الاهتمام إلى النسب في القيادة أكثر مما يوليه للكفاءة، فلولا أنه نجل السيد محمد محمد الصدر لما سمع به أحد.
و بالمناسبة، فالسيد مقتدى هذا منفذ لأوامر مرجعه الديني، آية الله السيد كاظم الحائري، المقيم في قُم، و الذي أفتى قبل أيام بعدم جواز التصويت للعلماني.
و السيد مقتدى هو هراوة يستخدمها النظام الإيراني لابتزاز نوري المالكي و غيره من الزعماء السياسيين الشيعة ليشعرهم بحاجتهم إلى إيران في استقرار الحكم.
فهل هذه هي الديمقراطية الحقيقية التي تتأملونها من هؤلاء؟
..............
ما أشبه اليوم بأيام ثورة تموز الأولى!
قلنا في مقال سابق أن ما يمر به العراق اليوم من أزمات يشبه إلى حد كثير ما مرَّ به أيام ثورة 14 تموز، و بينا نقاط التشابه و الاختلاف.
هذا الكلام أغاض الكثيرين من أنصار البرزاني و كتاب (جماعة أربيل)، فركزوا في ردودهم على نقاط الاختلاف فقط دون الإشارة إلى نقاط التشابه. لذا، فالسؤال الذي نطرحه على هؤلاء السادة هو: من هم جماعة أربيل؟
أليسوا هم امتداد لنفس الكيانات السياسية التي تآمرت على ثورة 14 تموز و ذبحت قيادتها الوطنية يوم 8 شباط الأسود 1963؟
هل نسي السيد مسعود بارزاني غلطة والده عندما تحالف مع نفس الكيانات السياسية (البعث و غيرهم) من أعداء ثورة 14 تموز، و بعد ثلاثة أشهر فقط من إنقلابهم الدموي، انقلبوا على الحركة الكردية، فقام الجيش العراقي بأمر من الحكومة البعثية بمجزرة السليمانية بقيادة اللواء صديق مصطفى؟
فلماذا يعيد برزاني الابن غلطة الأب الكارثية؟
و هل من الحكمة أن نصدق بحرص (جماعة أربيل) على الديمقراطية، و هي مدعومة من قبل السعودية و قطر و تركياً، إذ أفادت الأنباء أن السعودية دفعت (500 مليون دولار ثمن تواقيع سحب الثقة من المالكي)؟.
فمتى كانت هذه الدول حريصة على الديمقراطية في دول المنطقة، و مصلحة الشعب الكردي بالذات؟
إن القاسم المشترك الذي وحَّد (جماعة أربيل) هو هدف آني واحد، و هو عداءهم للسيد المالكي، كعدائهم للزعيم عبد الكريم قاسم في الماضي، و رغبتهم الجامحة في إزاحته عن طريقهم، و لكن لكل منهم هدفه الخاص ما بعد المالكي، و في تقاطع مع أهداف بعضهم البعض.
فأياد علاوي كل همه أن يصبح رئيساً للوزراء و بأي ثمن كان، حتى و لو تخلى عن كركوك و نصف الموصل.
و غرض الأخوين النجيفي، هو تحويل الموصل إلى كانتون لهم بحماية تركية، و غرض مقتدى الصدر هو الانتقام من المالكي لقيامه بصولة الفرسان في البصرة و مدينة الثورة عام 2009، العملية الشجاعة التي أكسبت المالكي شعبية واسعة.
أما غرض السيد مسعود البرزاني من إزاحة المالكي فهو اعتقاده الجازم أن الدولة الكردية لن تتحقق إلا بتدمير العراق.
و كمرحلة انتقالية، يعمل بارزاني على تهميش و إضعاف الحكومة الفيدرالية، و سحب الأضواء من بغداد، و تسليطها على أربيل، إلى درجة أنه طالب بعقد مؤتمر القمة العربية في أربيل بدلاً من بغداد لإظهار حكومة بغداد بأنها عاجزة، و غير مؤهلة لعقد مثل هذه المؤتمرات الدولية.
و كذلك، يعمل على تفتيت القسم العربي من العراق، فنراه متحمساً لمشروع فيدرالية المحافظات لتحويلها إلى كانتونات هزيلة يسهل ابتلاعها من قبل دول الجوار، و بذلك يجعل الحكومة المركزية ضعيفة و مهمشة، لا حول لها ولا قوة.
هذه الإجراءات هي انتقالية تبناها البرزاني في المرحلة الراهنة التي قد تستمر لخمس سنوات، و بعدها يأمل أن تتغير الأوضاع الدولية ليعلن دولته القومية المستقلة، ويقضم من أراضي الكانتونات العراقية كما يشاء وبسهولة.( للمقال بقية).
.........
عبد الخالق حسين
مراجعة ملهم الملائكة
21.06.2012
............
يتابع د. عبد الخالق حسين مسار الأزمات العراقية المتتالية، مركزا هذه المرة على ما يعتبره تحالفا بين الأكراد و قوى سياسية لها مصلحة في إسقاط المالكي للوصول إلى أهداف سياسية تهمها بعيدا عن هموم وحاجات الشعب.
................
مكونات الأزمة.
1- الإنقسام الأثني و الديني و الطائفي، مدعوماً بالتوزيع الجغرافي. أي ثلاث مناطق جغرافية تسكن كل منها، أغلبية طائفة معينة، أو أثنية معينة.
2- نجحت الأنظمة المستبدة في حكم العراق، و حافظت على تماسكه و وحدته الظاهرية عن طريق القوة و القهر، و بتبني دكتاتورية المكونة الواحدة، أي حكم عربي سني منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، إلى سقوط حكم البعث الصدامي الطائفي العنصري عام 2003، و اتبعوا الموروث التركي في التمييز الطائفي، و سياسة (فرق تسد)، لإثارة الأحقاد و العداء بين مكونات الشعب.
وبعد سقوط حكم البعث رفض المكون الذي احتكر السلطة لعشرات السنين، التخلي عن امتيازاته إلا على أسنة الحراب.
إذ كما قال الدكتور حسين رستم في مقال له في هذا الصدد: "إن الإدمان على الحكم كالإدمان على المخدرات"، لذا فمن الصعوبة إقناع العرب السنة بالتخلي عن امتيازاتهم في احتكار السلطة و النفوذ و صنع القرار السياسي، و المشاركة العادلة في الحكم مع بقية مكونات الشعب وفق ما تفرزه صناديق الاقتراع.
لهذا شنوا هجوماً على عراق ما بعد صدام، و على الديمقراطية التي أطلقوا عليها مختلف النعوت البذيئة، و الأسماء التسقيطية، لإفشال العملية السياسية، و استعانوا في ذلك بمنظمات الإرهاب، و السعودية، و قطر، و تركيا، و غيرها من الدول الحاقدة على العراق.
3- دخول دول الجوار على الخط ، و استعانة الكتل السياسية بها، كل حسب انتمائها الطائفي والأثني، لإلحاق الهزيمة بالخصوم المنافسين على حساب المصلحة الوطنية.
4- عدم خبرة العراقيين في ممارسة الديمقراطية: الحقيقة التي ينكرها كثيرون، بقصد و بدونه، هي أن الفترة الوحيدة التي مارس فيها الشعب العراقي الحرية و الديمقراطية، هي الفترة التي تلت عام 2003.
فلأول مرة تشترك جميع مكونات الشعب بالحكم وفق ما تفرزه صناديق الاقتراع. و لكن المشكلة أن شعباً لم يمارس الديمقراطية طوال تاريخه، فمن الصعوبة أن ينتقل من نظام الاستبداد إلى الديمقراطية بطريقة سلسلة، خاصة بعد التركة الثقيلة التي ورثها العهد الجديد من العهد البائد.
و لهذه الأسباب نجد كل كتلة سياسية تحاول أن تحقق لنفسها مائة بالمائة من السلطة و النفوذ، و لغيرها صفر بالمائة، النظرية التي تسمى بـ"المعادلة الصفرية" حسب تعبير المفكر العراقي الدكتور غسان العطية.(2)
5- نجاح حكم البعث في تخريب المجتمع العراقي، حضارياً و فكرياً و سياسياً و أخلاقياً، لذلك نجد تفشي الفساد و اللا أبالية في معظم مفاصل الدولة، إلى حد أن صار هدف كل مسؤول وموظف في الدولة هو النهب وعدم تمشية أمور الناس إلا بالرشوة.
فكما نقل لنا الأستاذ الدكتور عبد الحميد العباسي في مقال له عن الفساد المالي [مقولة أحد رؤساء الوزارات في النصف الأول من القرن السابق: "ان العراق بيتٌ يحترق فاليُخْرج (ينهب) منه كلٌ ما يستطيعه"، صارت هذه المقولة، نبراسا في ظل إحساس مكبوت، ان البلد، كما نعرفه آيلٌ الى الزوال، و من ان الحكومة (الرئاسات الثلاث) و كتلها السياسية المتوافقة، نفسها، تتستر على المفسدين."]
6- كجزء من شخصية الفرد العراقي، وثقافته الموروثة (culture)، يفتقر العراقيون إلى العمل بروح الفريق (team work)، لذلك، نرى أن زعيم كل كتلة سياسية يعتقد أنه أَولى من غيره برئاسة الحكومة الفيدرالية في بغداد، ضارباً نتائج الانتخابات عرض الحائط .
.................
دور البرزاني و (جماعة أربيل) في تصعيد الأزمة العراقية.
كنا نأمل من السيد مسعود برزاني، رئيس إقليم كردستان، و بعد كل الكوارث التي حلت بكردستان خاصة، و العراق عموماً، على أيد الأنظمة المستبدة، أن يكون عوناً في بناء الدولة العراقية الفيدرالية الديمقراطية، و لكن الذي حصل في الأشهر الأخيرة للأسف الشديد، أن البرزاني أنضم إلى جوقة السعودية، و قطر، و تركيا لتدمير الدولة العراقية، و لأغراض آنية و قصر النظر.
لقد لحق ظلم الأنظمة الدكتاتورية بكل مكونات الشعب العراقي في الماضي مع الاختلاف بالدرجة. لذلك و بعد إسقاط حكم البعث الجائر، استخدمت كل جهة مظلوميتها كذريعة للهجوم على الآخر.
و في هذا الخصوص جعل السيد البرزاني من أربيل مقراً لاستضافة المعارضين لحكومة بغداد، أطلق عليهم (جماعة أربيل).
و هو يتخذ من الأنفال و حلبجة و غيرها ذريعة لزعزعة الحكومة المركزية الديمقراطية، و صار يعتقد أنه لا يمكن أن يقيم الدولة الكردية المستقلة إلا بتحطيم الدولة العراقية.
و هو يعرف كيف يناور و يراوغ ليقدم مشروعه للشعب العراقي بلبوس الحرص على الوحدة العراقية و الديمقراطية.
فنسمع أقوالاً مثل: نريد ديمقراطية حقيقية في بغداد، و منع عودة الديكتاتورية، و وصف رئيس الحكومة المركزية، السيد نوري المالكي، بالدكتاتور، و الشوفينية، و أن المالكي يريد إعادة الأنفال و مأساة حلبجة، و الحروب...الخ.
و هناك جيش جرار من حملة الأقلام لخدمة مشروع البرزاني عن طريق نشر البلبلة الفكرية، و خلط الأوراق لتضليل الرأي العام.
فعلى سبيل المثال، ذكر السيد دانا جلال في مقال له عن مؤتمر أربيل، أجتزئ منه ما يلي: "أنهم في مؤتمر التجمع العربي لنصرة القضية الكردية رددوا أغنية (هر بژي كورد عرب رمز النضال)". و عن عقد مجلس الوزراء جلساته في المحافظات قال: "وأن قلعة أربيل كانت ستفتح بواباتها لعقد اجتماع مجلس الوزراء العراقي...الخ".
هذا الكلام جميل جداً و نؤيده بكل قوة، و لكن المشكلة التي تصدمنا هي أن هذا الكلام الجميل على الضد تماماً مما يجري على أرض الواقع من قبل قيادة السيد البرزاني. فعملياً تعرض رئيس الوزراء العراقي إلى هجوم سافر من قبل حكومة الإقليم لأنه تجرأ و عقد اجتماع مجلس الوزراء في كركوك، حيث قاطعه الوزراء الكورد بأمر من قيادتهم السياسية، بل و حتى استكثروا عليه عقد الاجتماع في الموصل لأنها قريبة من كردستان، و اعتبروا الاجتماع في هذه المحافظات استفزازاً لمشاعر الشعب الكردي!! عجبي.
فالمطلوب هو أن تتطابق الأقوال التي تتردد في المقالات و المؤتمرات الدعائية، مع الأفعال على أرض الواقع.
يبرر هؤلاء السادة موقف رئيس الإقليم المعادي للحكومة المركزية أن ديمقراطية بغداد متعثرة، إذ يعلق الكاتب قائلاً: "فأربيل قلعة عراقية حينما تكون بغداد ديمقراطية، و قلعة للديمقراطية حينما تتخلى بغداد عن ديمقراطيتها المتعثرة.." (كذا).
............
لماذا ديمقراطيتنا متعثرة؟
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: إذا كانت ديمقراطية بغداد متعثرة حقاً، فمن الذي جعلها كذلك؟
أليس الشركاء في العملية السياسية أنفسهم بمن فيهم السيد مسعود البارزاني؟ فأي الديمقراطيتين متعثرة و أيتهما حقيقية؟
ديمقراطية بغداد أم ديمقراطية أربيل؟
فمن يتابع صحف بغداد مثل (المدى) و غيرها، يعرف أنها تصب حمماً متواصلاً على رئيس الوزراء و حكومته بمنتهى الحرية و دون أي خوف من ملاحقة و مقاضاة.
بينما أقل انتقاد يوجه إلى رئيس الإقليم و حكومته من أي صحفي، أو كاتب، أو أكاديمي، سرعان ما يتعرض إلى الاغتيال أو السجن و التعذيب، أو الاختطاف و الاختفاء، و قد ذكرنا أمثلة كثيرة في مقالاتنا السابقة.
فهل من الديمقراطية الحقيقية، و الشراكة المنصفة أن تحتضن أربيل "قلعة الديمقراطية" المتهمين بالإرهاب، و توفر الملاذ الآمن لأمثال طارق الهاشمي و حمايته الملوثة أيديهم بدماء العراقيين؟
نذكِّر السيد البارزاني، أنه منح مشعان الجبوري الثقة و الدعم، و هو الذي فرضه على اللجنة الموسعة المنبثقة من مؤتمر المعارضة العراقية في لندن عام 2002، و كان جزاءه أخيراً أن صرح مشعان الجبوري قبل أيام قائلاً: أن "الكرد اوجدوا الصراع الطائفي و سأرفع السلاح ضد مشروعهم الطامع".
و هل يستبعد البرزاني أن يأتي يوم يصدر فيه مثل هذا الكلام ضد الكرد من علاوي و الهاشمي و مقتدى الصدر و غيرهم من (جماعة أربيل) الذين يستضيفهم؟
لقد أحال البرزاني أربيل إلى مقر دائم لاستضافة رؤساء الكتل السياسية (جماعة أربيل) في لقاءات متواصلة لإسقاط حكومة المالكي.
و في هذه الحالة، من نلوم على تعثر الديمقراطية في بغداد؟
و من هو المؤهل ليعطي شهادة تزكية بأن هذه الديمقراطية حقيقية أومتعثرة؟
و هل تتوقعون ديمقراطية حقيقية على أيدي حلفاء البرزاني الجدد من البعثيين من أمثال أياد علاوي، و طارق الهاشمي، و صالح المطلك، و ظافر العاني، أو من مقتدى الصدر الذي هو نسخة مصغرة من معمر القذافي من حيث عقليته، و تقلبات مزاجيته، و جهله بالسياسة؟
و يعرف الجميع أن مقتدى ما كان أن يحتل هذا الموقع كزعيم لتيار سياسي لولا التخلف الاجتماعي الذي يولي الاهتمام إلى النسب في القيادة أكثر مما يوليه للكفاءة، فلولا أنه نجل السيد محمد محمد الصدر لما سمع به أحد.
و بالمناسبة، فالسيد مقتدى هذا منفذ لأوامر مرجعه الديني، آية الله السيد كاظم الحائري، المقيم في قُم، و الذي أفتى قبل أيام بعدم جواز التصويت للعلماني.
و السيد مقتدى هو هراوة يستخدمها النظام الإيراني لابتزاز نوري المالكي و غيره من الزعماء السياسيين الشيعة ليشعرهم بحاجتهم إلى إيران في استقرار الحكم.
فهل هذه هي الديمقراطية الحقيقية التي تتأملونها من هؤلاء؟
..............
ما أشبه اليوم بأيام ثورة تموز الأولى!
قلنا في مقال سابق أن ما يمر به العراق اليوم من أزمات يشبه إلى حد كثير ما مرَّ به أيام ثورة 14 تموز، و بينا نقاط التشابه و الاختلاف.
هذا الكلام أغاض الكثيرين من أنصار البرزاني و كتاب (جماعة أربيل)، فركزوا في ردودهم على نقاط الاختلاف فقط دون الإشارة إلى نقاط التشابه. لذا، فالسؤال الذي نطرحه على هؤلاء السادة هو: من هم جماعة أربيل؟
أليسوا هم امتداد لنفس الكيانات السياسية التي تآمرت على ثورة 14 تموز و ذبحت قيادتها الوطنية يوم 8 شباط الأسود 1963؟
هل نسي السيد مسعود بارزاني غلطة والده عندما تحالف مع نفس الكيانات السياسية (البعث و غيرهم) من أعداء ثورة 14 تموز، و بعد ثلاثة أشهر فقط من إنقلابهم الدموي، انقلبوا على الحركة الكردية، فقام الجيش العراقي بأمر من الحكومة البعثية بمجزرة السليمانية بقيادة اللواء صديق مصطفى؟
فلماذا يعيد برزاني الابن غلطة الأب الكارثية؟
و هل من الحكمة أن نصدق بحرص (جماعة أربيل) على الديمقراطية، و هي مدعومة من قبل السعودية و قطر و تركياً، إذ أفادت الأنباء أن السعودية دفعت (500 مليون دولار ثمن تواقيع سحب الثقة من المالكي)؟.
فمتى كانت هذه الدول حريصة على الديمقراطية في دول المنطقة، و مصلحة الشعب الكردي بالذات؟
إن القاسم المشترك الذي وحَّد (جماعة أربيل) هو هدف آني واحد، و هو عداءهم للسيد المالكي، كعدائهم للزعيم عبد الكريم قاسم في الماضي، و رغبتهم الجامحة في إزاحته عن طريقهم، و لكن لكل منهم هدفه الخاص ما بعد المالكي، و في تقاطع مع أهداف بعضهم البعض.
فأياد علاوي كل همه أن يصبح رئيساً للوزراء و بأي ثمن كان، حتى و لو تخلى عن كركوك و نصف الموصل.
و غرض الأخوين النجيفي، هو تحويل الموصل إلى كانتون لهم بحماية تركية، و غرض مقتدى الصدر هو الانتقام من المالكي لقيامه بصولة الفرسان في البصرة و مدينة الثورة عام 2009، العملية الشجاعة التي أكسبت المالكي شعبية واسعة.
أما غرض السيد مسعود البرزاني من إزاحة المالكي فهو اعتقاده الجازم أن الدولة الكردية لن تتحقق إلا بتدمير العراق.
و كمرحلة انتقالية، يعمل بارزاني على تهميش و إضعاف الحكومة الفيدرالية، و سحب الأضواء من بغداد، و تسليطها على أربيل، إلى درجة أنه طالب بعقد مؤتمر القمة العربية في أربيل بدلاً من بغداد لإظهار حكومة بغداد بأنها عاجزة، و غير مؤهلة لعقد مثل هذه المؤتمرات الدولية.
و كذلك، يعمل على تفتيت القسم العربي من العراق، فنراه متحمساً لمشروع فيدرالية المحافظات لتحويلها إلى كانتونات هزيلة يسهل ابتلاعها من قبل دول الجوار، و بذلك يجعل الحكومة المركزية ضعيفة و مهمشة، لا حول لها ولا قوة.
هذه الإجراءات هي انتقالية تبناها البرزاني في المرحلة الراهنة التي قد تستمر لخمس سنوات، و بعدها يأمل أن تتغير الأوضاع الدولية ليعلن دولته القومية المستقلة، ويقضم من أراضي الكانتونات العراقية كما يشاء وبسهولة.( للمقال بقية).
.........
عبد الخالق حسين
مراجعة ملهم الملائكة