ثانيا: علاقة القانون الإداري بالقانون المدني وقانون الأسرة.
مما لا شك فيه أنّ القانون المدني يعتبر من أقدم فروع القانون، وأنّ قواعده تعد بمثابة شريعة عامة فيما يحكم روابط وعلاقات الأفراد خاصة في الجانب المالي و في مختلف أوجه التصرف سواء بالبيع أو الإيجار أو الرهن...
إنّ أبرز ميزة للقانون المدني أنه قانون المساواة و التوازن فهو ينظر لأطراف العلاقة القانونية نظرة واحدة و لا يفاضل بين مصلحة وأخرى، أو أن يزود متعاقد بسلطة حيال المتعاقد الآخر.
أمّا في مجال القانون الإداري فان العلاقة أو المراكز القانونية ينظر إليها بشكل مختلف تماما عما هو سائد في القانون المدني. فالإدارة باعتبارها طرفا في علاقة ما تحظى بمركز متميز و تمارس بموجبه جملة من السلطات تجاه الأفراد فهي تصدر القرارات الإدارية بإرادتها المنفردة ودون مشاركة الأفراد المعنيين بالقرار، بل وحتى دون رضاهم، ومع ذلك يلزم هؤلاء بتنفيذ هذا القرار و لا يجوز لهم التصدي تجاهه وإلا خضعوا للعقوبة الّتي حددها القانون.[1]
كما أنّ الإدارة في مجال التعاقد لا تخضع لما هو سائد في القانون المدني بأنّ العقد شريعة المتعاقدين، بل يجوز لها من منطلق أنها سلطة عامة أن تعدل العقد الإداري بإرادتها المنفردة.ومن سلطتها أيضا أن توقع الجزاء المالي على المتعاقد معها دون حاجة للجوء للقضاء. و يجوز لها أن تفسخ العقد بإرادتها المنفردة دون أدنى داع لرفع دعوى الفسخ.
و تملك الإدارة أدوات ضغط كثيرة تجاه المتعاقد معها منها و سيلة التنفيذ الفوري لمضمون عقد التوريد على حساب المتعاقد مع الإدارة و هذا في حالة إخلال بالتنفيذ.[2] وهذه الأحكام في مجموعها لا مثيل لها على صعيد القانون المدني وهي الّتي تضفي على القانون الإداري طابعا خاصا و مميزا كيف لا وقد أطلق على قواعده بالاستثنائية وغير المألوفة.
وينبغي الإشارة أنّ قواعد القانون الإداري بدأت تظهر للوجود بعد أن وصل الفقه إلى تحديد مسؤولية الإدارة عن أعمال موظفيها مع قناعته أنّ القواعد التي تخضع لها ليست هي قواعد القانون المدني، بل قواعد بديلة تراعي مركز الإدارة و خصوصيتها.[3] ورغم استقلالية القانون الإداري عن القانون المدني على نحو تقدم شرحه و بيانه، إلا أنّ العلاقة بينهما قائمة ولا يمكن هي الأخرى إنكارها بأي حال من الأحوال.
ومن أبرز صور العلاقة أنّ القانون المدني هو من يعلن عن الوجود المدني وعن الشخصية القانونية لأهم الجهات الإدارية كالدولة و الولاية و البلدية و المؤسسة العمومية ذات الطابع الإداري فهذه المادة 49 (تعديل 2005) اعترفت بالشخصية الاعتبارية لكل هذه الجهات المذكورة حتى تمكنها من مزاولة نشاطها و القيام بوظيفتها ويتم بموجب هذه الشخصية الاعتبارية الاعتراف لها بذمة مالية مستقلة وبأهلية التعاقد وبأهلية التقاضي و بنائب يعبر عن إرادتها و بموطن وهو ما ذكرته المادة 50 من القانون المدني.
ولا يتصور أبدا أن تمكن الجهة الإدارية سواء كانت مركزية أو محلية أو مرفقيه من القيام بوظيفتها و تلبية حاجات الأفراد دون توظيف وإعمال عناصر الشخصية الاعتبارية الواردة في القانون المدني.
واعترفت المادة 52 (تعديل 2005) لوزير المالية بأن يمثل الدولة في حالة المشاركة المباشرة في العلاقات التابعة للقانون المدني. ولم يكتف القانون المدني بإضفاء الطابع المدني لأشخاص القانون الإداري بل إلى جانب ذلك كفل حماية مدنية للأموال العامة بموجب المادة 689 منه، فلم تجز التصرف فيها أو حجزها أو تملكها بطريق التقادم وهذا بغرض المحافظة عليها من الزوال.[4] إذ بغير هذه المادة لصار من الممكن الحجز على الممتلكات العامة المستخدمة لأداء النشاط الإداري من قبل القائم بالتنفيذ بما يشل يد الإدارة في تلبية الخدمة العامة وهو ما ينعكس سلبا على المنتفعين من خدمات المرفق العام. وبغير هذه المادة (689) من القانون المدني لصار جائزا التصرف في الأموال العامة بما يؤدي في النهاية إلى ضعف الوسائل المسخرة للإدارة لتلبية الخدمة العامة.
إن بسط الحماية المدنية الثلاثية من عدم جواز التصرف وعدم جواز الحجز وعدم جواز التملك بطريق التقادم يؤدي في النهاية إلى المحافظة على المال العام المملوك للمجموعة الوطنية.
وتضمنت قواعد القانون المدني أحكام المسؤولية في مجال الوظيفة العامة، فهذه المادة 129 (تعديل 2005) أقرّت بصراحة عدم مسؤولية الموظف العام الشخصية عن أفعاله التي تحدث ضررا بالغير إذا ثبت أن قيامه بها كان نتيجة تنفيذه لأوامره سلمية صدرت إليه.
وليس هناك أي مانع أمام القاضي الإداري أن يتبنى قواعد المسؤولية الشخصية أو المسؤولية عن الأشياء الواردة في القانون المدني. إنّ العلاقة بين فروع القانون الخاص و القانون الإداري لا تتوقف عند العلاقة بين القانون الإداري و المدني بل تمتد لفروع أخرى كقانون الأسرة. إذ أنّ القاضي الإداري قد يطبق على النزاع المعروض عليه أحكام و قواعد قانون الأسرة.
وكمثال تطبيقي القرار الصادر عن الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا بتاريخ 1997.01.05 قضية م.م ضد مديرية التربية لولاية البويرة الملف رقم 131778[5] أين طبق القاضي الإداري أحكام الكفالة الواردة في القانون المدني. وكذلك قرار المحكمة العليا في غرفتها الإدارية بتاريخ 19.01. 97 الملف رقم 116191 قضية ورثة ح.أ ضدّ رئيس المجلس الشعبي البلدي لعين العصافير ولاية باتنة إذا طبق القاضي الإداري على النزاع المعروض عليه أحكام الهبة الواردة في قانون الأسرة،[6].وكثيرة هي القضايا التي طبق عليها القضاء الإداري قاعد القانون الخاص. [7]
واعترفت المادة 677 من القانون المدني للإدارة في الحالات الّتي حدّدها القانون وضمن شروطه وكيفياته بنزع الملكية العقارية مقابل تعويض عادل ومنصف و في حالة الاختلاف بشأن مبلغ التعويض جاز اللجوء للقضاء لتحديده.
كما اعترفت المادة 679 من ذات القانون للإدارة أن تمارس سلطة الاستيلاء.[8]. وبينت المادة 680 الجهة الإدارية الممارسة لهذه السلطة وحددها كأصل عام بوالي الولاية أو أي جهة أخرى مؤهلة قانونا.
[1]تسمى هذه بالصيغة التنفيذية للقرار الإداري راجع الدكتور عمار بوضياف القرار الإداري، المرجع السابق ص، 45 وما بعدها.
[2]لتفصيل أكثر راجع الدكتور عمار بوضياف الصفقات العمومية في الجزائر، المرجع السابق، ص.162
[3]أنظر الدكتور سليمان محمد الطماوي، الوجيز في القانون الإداري مصر، مطبعة عين شمس، 1986، ص 17.
[4]لتفصيل أكثر راجع الدكتور إبراهيم عبد العزيز شيحا، أصول القانون الإداري، أموال الإدارة العامة وامتيازاتها دراسة مقارنة، منشأ المعارف، الإسكندرية، 1991، ص 156 وما بعدها. وراجع أيضا:
- قرار المحكمة العليا، الغرفة الإدارية بتاريخ 21-10-1990، الملف رقم 73271 المجلة القضائية العدد الأول، 1992، ص 143.
- قرار المحكمة العليا، الغرفة الإدارية بتاريخ 07-04-1990، الملف 64745، المجلة القضائية، العدد الرابع، 1991، ص 235.
[5]أنظرالقرار أعلاه منشور في المجلة القضائية العدد الأول 1997، ص 108.
[6]أنظر القرار أعلاه منشور بالمجلة القضائية، العدد الثاني 1997، ص 144.
[7]أنظر على سبيل المثال قرار المحكمة العليا الغرفة الإدارية الصادر بتاريخ 12- 01- 1985 المجلة القضائية العدد الرابع 1989 ص 231.
ولتفصيل أكثر بخصوص العلاقة بين المسؤولية الإدارية و المسؤولية المدنية راجع الدكتور عمار عوابدي، المسؤولية الإدارية، الجزائر ديوان المطبوعات الجامعية، ص 77 وما بعدها. وللإطلاع على قرارات قضائية في المادة الإدارية تم تأسيسها بناء على قواعد القانون المدني (مسؤولية المتبوع عن عمل../.. التابع) راجع لحسين بن شيخ آث ملويا، دروس في المسؤولية الإدارية، المرجع السابق، الكتاب الثاني، ص 39.
[8]أبدى الأستاذ لحسين بن شيخ آث ملويا انتقادا لمصطلح استيلاء Emprise مستبدلا اياه بمصطلح تسخيرهRéquisition لأن الاستيلاء يوحي بأن العمل غير مشروع في حين التسخيرة مشروعة.
أنظر مؤلفة دروس في المسؤولية الإدارية، المرجع السابق، الكتاب الثاني، ص10.
منقول من كتاب الاستاذ الدكتور عمار بوضياف الوجيز في القانون الاداري من الصفحة 51 الى 55 .