القطب عند الصوفية (2)
بقلم فضيلة الشيخ عبد الرحمن الوكيل رحمه الله
نقلا عن كتاب (مجموع مقالات العلامة عبد الرحمن الوكيل رحمه الله) جمع وترتيب وعناية شعبان عبد المجيد محمد بن عوض بن عبد الغني المصري
دار سبيل المؤمنين للنشر والتوزيع ص 166-175
ولكن هذا القطب يسمى قطبا بالنسبة إلى ما في عالم الشهادة من المخلوقات ، إذ يوجد قطب آخر يسمى قطبا بالنسبة إلى جميع المخلوقات في عالم الغيب والشهادة ، وسيأتي ذكره بعد ، فلنعد إلى القطب الأول :
قلنا : إنه قطب بالنسبة إلى المخلوقات في عالم الشهادة .
وعلى هذا فهو قطب حسي حادث يستخلف بدلا منه عند موته من أقرب الابدال منه ، فحينئذ يقوم مقامه بدل هو أكمل الابدال ، والأبدال هم أربعون رجلا لكل منهم درجة مخصوصة : إثنان وعشرون بالشام ، وثمانية عشر بالعراق ، كلما مات واحد منهم استبدل مكانه آخر ، ومن هؤلاء الأبدال الأربعين يتعين ثلاثة أوتاد ، ومن هؤلاء الأوتاد يختار القطب الحسي الحادث الذي تحدثنا عنه قبل ، فكلما مات قطب تولى مكانه واحد من الأوتاد ويختار واحدا من الابدال مكان الوتد الذي اصبح قطبا وهكذا ...
وكأنّ إلههم لا عمل له مطلقا
ويقول ابن الفارض في تائياه الكبرى ، متحدّثا عن أن القطب الأكبر أي قطب الأقطاب الذي سنتحدث عنه فيما بعد ، مبينا بعض خصائص قطب الاقطاب وبعض خصائص القطب فقط :
فبي دارت الأفلاك ، فاعجب لقطبها الـ .............. ـــمحيط بها والقطب مركز نقطة
زلا قطــب قـــبلي عن ثـــــــلاث خلفته ............... وقطـــــــبية الأوتـــاد عن بدلية
يعني أن الجهات كلها مستوية بالنسبة إليه ، فلا علو ، ولا سفل ، ولا يمين ، ولا شمال ، ولا شرق ، ولا غرب ، ولهذا تدور الافلاك بوجوده ، لأنه قطب الاقطاب بالنسبة غليها جميعا ، تدور عليه دوائرها ، ويحيط بأقطارها جميعا ؛ أما القطب الحسي ، فلا يحيط بما يدور عليه ، بل هو نقطة محاطة مركوزة في وسطه ، وهذا فرق ما بين القطب القديم وبين الحادث .
ثمّ يتحدث عن قطب الاقطاب الذي يتعين في ابن الفارض ، فيقول : إنّ قطب الأقطاب من خصتئصه : أنه قديم لا يسبقه قطب ، ولا يأتي بعده قطب ، فهو أزلي ابدي ، أما القطب الحسي : فهو يتعين من الأوتاد الثلاث الذين هم الأبدال ......
فبربّك قل لي يا من تعبد الصوفية : ارأيت أساطير الوثنية الرعناء أحمق من هذا ؟
إنّ الصوفية كما قلت لي في مقال لي : يسوون بين مفهوم الوجود وبين مفهوم الرب فالوجود هو الرب عندهم ، وكان كان لهذا الوجود أولا صفة الإطلاق ، ثمّ شاء أن يتعين ، فظهر في صورة الحقيقة المحمدية ، أو صورة قطب الأقطاب بمعنى آخر ، ثمّ تكثرت هذه الحقيقة المحمدية ، أو تجزّأت ، فظهرت في صور مختلفة ، منها الأقطاب الحادثون ، والأوتاد والأبدال ، فكل واحد من هؤلاء جزء من الرب ، ـو هو الرب في أحد تعيناته ، هذا هو نظام الوجود عند الصوفية ، وهذا أساس سفههم وخبالهم ، إنهم نبذوا العقل ، وكتاب الله وسنة رسول الله ، وأبوا تصديق الله فيما تكلم به عن نفسه ، وأبوا تصديق الرسول فيما وصف به ربه ، وصدقوا وثنية الفلسفة المارقة ، وجعلوا من قضاياها هوية الحقيقية وإنّيتها ، فأخذوا منها التسوية بين مفهوم الوجود وبين مفهوم الرب .
ثمّ جانبوا بعد هذا الفلسفة أيضا كما جانبوا الدين ، وذهبوا يبنون نظاما للوجود في غيبه وشهادته ، وفي روحيته وماديته لا يقره عقل ، ولا يجيزه دين من الأديان .
ولما رأوا أن العقل يخالفهم اخترعوا أسطورة (الذوق) فقالوا :
إنما نستمد معارفنا من (الذوق) لا من العقل ، والحقيقة في الصوفية لا تدرك بالعقل ، وإنما (بالذوق) ولهذا تتعدد الحقائق بتعدد الأذواق ، فلكل صوفي (ذوق) خاص يدرك به الحقيقة ، ولهذا قد يكون الحق عند صوفي ؛ باطلا عند صوفي آخر ، ولكنهم لا يصفونه بالباطل مطلقا ، وإنما هو حق في ذاته ، فالحقيقة لها صور مختلفة ، ومظاهر متباينة ، فهي تجمع عندهم بين النقيضين ، وبين الضدين . فالحقيقة قديمة ، وهي في ذات الوقت حادثة ، والحقيقة رب ، وهي بعينها عبد ، والحقيقة حق ، وهي بنفسها خلق ، فتناقض المعارف الذوقية عند الصوفية جائز ، بل هو ذاتي لهذه المعارف ؛ لأن الحقيقة نفسها عندهم - وهي الرب - تجمع بين المتناقضات ؛ ولهذا يقول ابن عربي :
فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا ............... وليس خلقا بهذا الوجه فادّكروا
جمّع وفرّق ، فإن العين واحــدة ............... وهي الكثيرة لا تبقي ولا تـــــذر
يعني أن الحقيقة الإلهية لها وجهان ، فبوجه تسمى حقا أي : إلها ؛ وبوجه تسمى خلقا ، وهي في ذاتها ، في كثرتها ووحدتها ، في تجمعها وتفرقها عين واحدة ، فهي لهذا تجمع بين المتناقضات ، ويقول :
يا خالق الأشياء في نفسه ...................... أنت لمـــــــا تخلقه جامع
تخلق ما لا ينتهي كونه فيـ ..................... ــك فأنت الضيق الواسع
ومعناه ظاهر ، الوصف للإله بأنه ضيق واسع تلميح صريح إلى أنه يجمع الضدين في نفس الوقت الواحد .
ويقول :
فأنت عبد وأنت رب ............................ لمن له فيه أنت عبــــــــد
وأنت رب وأنت عبد ........................... لمن له في الخطاب شهد
فهو يسوي هنا بين الرب وبين العبد ، لأن الحقيقة الإلهية لها هطان الوصفان فهي تجمع دائما بين الأضداد والمتناقضات في ذاتها ؛ والصوفية في هذا أشبه بالسوفسطائيين في ناحية المعرفة غير أنّ السوفسطائيين جعلوا الإحساس الجزئي أساس المعرفة ، أما الصوفية فهم اخترعوا أسطورة الذوق ، وهذا هو تحايل الصوفية للتخلص من أحكام العقل ممثلا في اختراع كلمة (الذوق) . أما تحايلهم للتخلص من الدين الحق ، فيتمثل في إختراع أسطورة الظتهر والباطن ، فالصوفية حين وجدوا أن خرافاتهم ينكرها الشرع ، راحوا يقولون : إنّ للقرآن أو للشريعة ظاهرا وباطنا ، أما الظاهر فهو لعلماء الرسوم ، وأما الباطن فللصوفية . فقالوا بالشريعة والحقيقة ، أما الشريعة فهي ما يؤخذ من ظاهر الكتاب والسنة . أما الحقيقة فهي ما يؤخذ من باطنها مؤيدا (بذوقهم) . فحرفوا الكلم عن مواضعه وتحايلوا على اللغة تحايل لئيما لا تقرّه مطلقا أوضاع اللغة ، فيقول تبن عربي في تفسير لفظ (المسجونين) في قوله تعالى حاكيا قول فرعون : (لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين) [الشعراء : 29] يفسرها بقوله : (لأجعلنك من المستورين لأن السين في المسجونين من أحرف الزوائد فإذا حذفت من سجن بقيت جن ، ومعناها الوقاية والستر ... ) ..
هذا مثل لتحريف الكلمات ، فالصوفية في إختراعهم أسطورة الظاهر والباطن وجدوا أنّ اللغة أيضا لا تسعفهم فتحايلوا عليها مثل هذا التحايل فيا قوم :
هؤلاء فئة : جانبوا العقل ، وجانبوا الدين ، وجانبوا اللغة العربية التي نزل بها القرىن ، وفصلت أحكامه بها السنة المطهرة ، فماذا تنتظرون منهم بعد هذا ؟
العقل يحكم عليهم بالزيغ والباطل ، والدين يحكم عليهم بالمروق والإلحاد ، واللغة تسمهم بالتحريف اللئيم لأوضاعها .
أفتقولون بعد ذلك : إنّ الصوفيةهم أرباب الحقيقة القدسية ؟!! أفيقوا من سكرتكم ، ثم انظروا هنالك في الأغوار السحيقة من الوثنية ترون مكانة الصوفية .... [ وأعتذر إلى القراء الأفاضل من هذا الإستطراد واعود إلى صلب البحث لنتممه إن شاء الله ]
قطب الغوث :
يسمى القطب عند الصوفية بأنه الغوث (باعتبار التجاء الملهوف إليه) فلا فرق بين القطب في مفهومه المطلق ، وبينه مقيدا بالغوث إلاّ باعتبار . أعني لا يسمى القطب غوثا إلاّ حين يلتجيء الملهوف إليه مستغيثا بحوله وطوله وقهره وجبروته ، فيسمى حينئذ غوثا بهذا الإعتبار ، وقد يسمى قطب الوقت ن وقطب الزمان ، باعتبار وقته وزمانه .
قطب الأقطاب :
قلنا : إنّ القطب عند الصوفية ؛ قطبان : أحدهما حسي ، والآخر معنوي ؛ أو بمعنى آخر حادث وقديم ، فالقطب الحسي أو الحادث هو ما تقدم ذكره ، ونذكر به قراءنا الافاضل : هو القطب الذي يخلفه قطب ، وكلما مات اختير آخر من الأوتاد فهو قطب مسبوق بقطب ، ويخلفه قطب ، فقطبيته حادثة محدودة بوقت ، وقد سبق ايضا أن تحدثنا عن خصائصه الكبرى ، وأنه قطب بالنسبة إلى ما في عالم الشهادة ، او بمعنى أدق ، بالنسبة إلى إلههم المتعين في المخلوقات .
أما قطب الاقطاب فهو قطب معنوي قديم غير مسبوق بقطب ، ولا يخلفه قطب آخر ، فهو واحد منذ القدم ، سرمدي القطبانية ابديها ، وهو قطب بالنسبة إلى ما في عالم الغيب والشهادة ، فمن هو قطب الاقطاب أيها الصوفية بمعنى أصرح ؟
سنهتك القناع عن وجهه ، ولكي نفعل ذلك يجب أن نتابع فصول الرواية الصوفية من أول فصل فيها ...
الفصل الأول ك هنالك شيء غسمه الوجود المطلق أو الإله المطلق ، وكان في مرتبة اسمها العماء ، نفسرها نحن بالمجهول المطلق ، ثمّ شاء هذا الوجود المطلق أن يرى نفسه متعينا في صورة ليرى ذاته ، فظهر ذلك الوجود المطلق ، او الغله المطلق في صورة الحقيقة المحمدية ، وأصبحت ذات الحقيقة المحمدية هي ذات الإله المطلق بعد أن تعين في صورتها ، وهذه الحقيقة المحمدية هي ذات الإله المطلق بعد أن تعين في صورتها ، وهذه الحقيقة المحمدية هي قطب الاقطاب . وبهذا الفصل يتم الفصل الثاني من الرواية الصوفية .
أما الفصل الثالث : فتعين الحقيقة في صور الموجودات المختلفة حتى الخنزير عند الصوفية تعينت فيه عندهم هذه الحقيقة ، وحتى الكافر الوثني تعينت فيه هذه الحقيقة .
ولذلك لما سئلوا : إذا كان كلّ شيء هو الله فكيف يعذب الله نفسه ؟ أجابوا : لا عذاب ؛ لأن العذاب من العذوبة لا من التعذيب !! والنتيجة الحتمية لهذا وحدة الأديان عند الصوفية سواء منها الوضعي الوثني أو الإلهي الحق ... وسنتكلم بمشيئة الله بعد عن وحدة الأديان عند الصوفية والقائلين بها في مقال آخر ، والرواية لم تتم فصولا ، ولا ندري متى تتم ؟!
والآن نذكر بعض تعاريف القطب المعنوي أو قطب الاقطاب عند الصوفية ، يقول القاشاني : (هو قطب بالنسبة إلى جميع المخلوقات في عالم الغيب والشهادة ، ولا يستخلف عنه بدل من الابدال , ولا يقوم مقامه احد من الخلائق , وهو قطب الاقطاب المتعاقبه في عالم الشهاده , لا يسبقه قطب , ولا يخلفه آخر , وهو الروح المصطفوي المُخاطب من الله :- لولاك لما خلقت الكون ، وتدور عليه دوائر الكون ويحيط بأقطارها) .
معناه أن قطب الأقطاب قديم في ذاته ن وهو يظهر في صور الاقطاب المحدثين المتعاقبين على مر الزمن ، ويأخذ كل منهم صورة نبي ، أو ولي ويتولى كل منهم بأمر قطب الأقطاب المحافظة على العالم المشهود في وقته ، ويستمد علمه وقدرته على التصرف من القطبية العظمى التي هي باطن نبوة محمد .... وإذا كان للقطب الحادث المحافظة على الكون والتصرف فيه ، فما بالك بقطب الأقطاب ؟!!
.................................................. ............................