جرني الحديث مع أحد أفاضل طلبة العلم عندنا إلى شعر الأقدمين و المفاضلة بين أصحابه و نُظامه ، ففضلت زهيراً على من سواه لشرف معانيه و رصانة مبانيه مع بيان ساحر و بديع آسر ، وفضل هو غيره لغيره ، فاتفق أن وصلتني بالأمس هدية ثمينة نفيسة من أحد إخواني و أحبتي فيها " مقامات بديع الزمان الهمذاني " ، وما إن اختليت به لم أتواطأ في قراءته ومطالعته ، وإذ بأول ما في الكتاب " المقامة القَريضيَّة " وفيها بعض ما كان في حوارنا من وصف لطيف لبعض الشعراء الأقدمين باختصار ، ففرحت بهذا الصيد ، و حدثتني نفسي أن لا أَقَل من أن أشرك أحبتي في سحاب الخير هذه الملحة الجميلة ، فتفضلوها أيها الكرام الأحبة :
جاء في كتاب مقامات بديع الزمان الهمذاني لأبي الفضل أحمد بن الحسين [ صفحة / 8 ] :
(( قُلْنَا - القائل عيسى بن هشام - : مَا تَقُولُ فِي امْرِىءِ الْقَيسِ؟
قَالَ - القائل أبو الفتح الإسكندري - : هُوَ أَوَّلُ مَنْ وَقَفَ بِالدِّيارِ وَعَرَصَاتِهَا [1]، وَاغْتَدَى وَالطَّيرُ فِي وَكَنَاتِهَا [2]، وَوَصَفَ الْخيلَ بِصِفَاِتهَا، وَلَمْ يَقُلِ الشِّعْرَ كَاسِباً. وَلَمْ يُجِدِ القَوْلَ رَاغِباً، فَفَضَلَ مَنْ تَفَتَّقَ للْحِيلةِ لِسَانُهُ، وَاْنتَجَعَ [3] لِلرَّغْبَة بَنَانُهُ .
قُلْنَا: فَما تَقُولُ فِي الْنَّابِغَةِ؟
قالَ: يَثلِبُ إِذَا حَنِقَ [4]، وَيَمْدَحُ إِذَا رَغِبَ، وَيَعْتَذِرُ إِذَا رَهِبَ، فَلاَ يَرْمي إِلاَّ صَائِباً .
قُلْنَا: فَمَا تَقُولُ فِي زُهَيرٍ؟
قَالَ : يُذِيبُ الشِّعرَ، والشعْرُ يُذيبَهُ[5]، وَيَدعُو القَولَ وَالسِّحْرَ يُجِيبُهُ [6].
قُلْنَا: فَمَا تَقُولُ فِي طَرَفَةَ ؟
قَالَ: هُوَ ماَءُ الأشْعَارِ وَطينَتُها [7]، وَكَنْزُ الْقَوَافِي وَمَديِنَتُهَا، مَاتَ وَلَمْ تَظْهَرْ أَسْرَارُ دَفَائِنِهِ وَلَمْ تُفْتَحْ أَغْلاَقُ [8] خَزَائِنِهِ .
قُلْنَا: فَمَا تَقُولُ فِي جَرِيرٍ وَالْفَرَزْدَقِ؟ أَيُّهُمَا أَسْبَقُ؟
فَقَالَ: جَرِيرٌ أَرَقُّ شِعْراً، وَأَغْزَرُ غَزْراً [9] وَالْفَرَزْدَقُ أَمْتَنُ صَخْراً [10]، وَأَكْثَرُ فَخْراً .
وَجَرِيرٌ أَوْجَعُ هَجْواً، وَأَشْرَفُ يَوْماً [11] ، وَالْفَرَزْدَقُ أَكَثَرُ رَوْماً [12]، وَأَكْرَمُ قَوْماً .
وَجَرِيرٌ إِذَا نَسَبَ أَشْجَى [13]، وَإِذَا ثَلَبَ أَرْدَى [14]، وَإِذَا مَدَحَ أَسْنَى [15]، وَالْفَرزدقُ إِذَا افْتَخَرَ أَجْزَى[16] ، وَإِذَا احْتَقرَ أَزرَى[17] ، وَإِذا وصَفَ أَوفَى [18] .
قُلنَا: فَمَا تَقُولُ فِي المُحْدَثِينَ منْ الشُّعَراءِ والمُتَقَدِّمينَ مِنهُمْ؟
قالَ: المُتَقَدِّمونَ أَشْرفُ لَفْظاً، وَأَكثرُ منْ المَعَاني حَظاً، وَالمُتَأَخِّرونَ أَلْطَفُ صُنْعاً، وَأَرَقُّ نَسْجاً )) انتهى .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ**ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعض حواشي المحقق بشيء من التصرف :
[1] أي هو أبرع الشعراء في وصف ذلك التعبير عما يجده العشاق في مواقفهم بمواطن الأحبة .
[2] وكنة الطير : عشه أو مأواه بلا عش ، و الاغتداء : الذهاب وقت الغدوة مقابل الرواح : وهو الرجوع وقت المساء ، أي أن امرىء القيس سبق الناس في شعره .
[3] أي : أنه فاق في جودة شعره أولئك الذين ما فتق لسانهم بالقول إلا الاحتيال في كسب المال ، وما حرك أناملهم بالأقلام لتحبير الخطب والقصائد إلا انتجاعهم : أي ذهابهم لارتياد الأرزاق رغبة في تحصيلها .
[4] يثلب : أي يسب ، وحنق : أي اشتد غضبه .
[5] تمثيل لسهولة الشعر على طبعه و انقياد طبعه للشعر ورقة كل منهما حتى يكاد كل يذيب الآخر .
[6] تمثيل لأثر قوله في القلوب بلا تعمد لذلك ، فهو إذا دعا القول : أي استنزله من قريحته إلى ظاهر لفظه أجابه السحر : أي أخذ السحر من لسانه مكان القول ، فهو يريد قولاً فيكون سحراً .
[7] تصوير لكون شعره مادة الأشعار .
[8] الأغلاق : جمع غلق ما يغلق به الأبواب ، أي أنه لو عاش دهوراً طوالاً لاطلع الناس منه على ما لا يقاس إليه في الكثرة ، فهذا الذي شاهدوه منه لا يقاس إلى ما لم يقله .
[9] أغزر : أكثر ، و غزراً كثرة .
[10] تمثيل لتمكن قوافيه و استحكام ألفاظه في معانيه .
[11] إذا ذكر أيام قومه ومواقع سلفه دل على شرف رفيع .
[12] الروم : كرم الطلب ، أي أن مطالبه أكثر من مطالب جرير ، و إذا ذكر قومه ظهرت صفات كرمهم في شعره أكثر مما تظهر صفات قوم جرير في شعره .
[13] نسب : أي ذكر أوصاف النساء وفعائل شمائلهن في قلوب الرجل أشجى : أي ألهب الأفئدة بنيران الأشواق .
[14] أي أوجع هجواً .
[15] أسنى الشيء : رفعه ، فهو إذا مدح شخصاً رفع منزلته و أعلى مقامه بمدحه .
[16] أجزى : أغنى بفخره عن غيره ، فلا يحتاج إلى من ينصره على من يفاخره .
[17] أزرى بمن يحتقره : أي وضع منه و ألصق النقيصة به .
[18] أي يعطيه حقه في الوصف تاماً من غير تبخيس ولا تطفيف .
تم تعديل هذه المشاركة بواسطة محمد جميل حمامي: 27 October 2011 - 09:01 PM