ثانيا :
جميع ما سبق لا ينفي أن يصيب المنجم في بعض ما يخبر به من الحوادث أنه كائن
فيقع كما أخبر به ، ولكن ذلك لا يعني بحال من الأحوال صحة المسلك الذي اتبعه ، وصواب المنهج الذي سلكه ، بل إن صوابه الذي اتفق له باطل الدليل ، حاصل بمحض الصدفة ، قليل مغمور في جنب الكذب الذي يصاحبه .
ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن الذين يستَرِقُون السمع من الجن أنهم قد يسمعون شيئا مما تتحدث به الملائكة عن مستقبل القدر
فربما ألقى الجني ما سمعه إلى الكاهن في الأرض ، وربما احترق الجني قبل أن يفعل ذلك ، ورغم ذلك كانت الكهانة من كبائر الذنوب لما فيها من تعاطي علم الغيب بغير الأسباب الشرعية .
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
( إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَنْزِلُ فِي الْعَنَانِ - وَهُوَ السَّحَابُ - فَتَذْكُرُ الْأَمْرَ قُضِيَ فِي السَّمَاءِ ، فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ ، فَتَسْمَعُهُ ، فَتُوحِيهِ إِلَى الْكُهَّانِ ، فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ )
رواه البخاري (رقم/3210)
ولذلك قال القاضي عياض رحمه الله :
" هذا الضرب – يعني المنجمين - يخلق الله تعالى فيه لبعض الناس قوة ما ، لكن الكذب فيه أغلب " انتهى
.
نقلا عن " شرح النووي على مسلم " (14/223)
ويقول الخطيب البغدادي رحمه الله :
" يدخل الشَّبَه على الناس في أمر المنجمين مِن قبيل أنهم يرون المنجِّم يُصيب في مسألة تقع بين أمرين ، كالجنين الذي لا يخلو من أن يكون ذكرا أو أنثى ، أو المريض الذي لا يخلو من أن يصح أو يموت
والغائب الذي لا يخلو من أن يقيم بمكان أو يؤوب ، ومِن شأن الناس أن يحفظوا الصواب للعجب به والشغف ، ويتناسون الخطأ ؛ لأنه الأصل الذي يعرفونه ، والأمر الذي لا ينكرونه
ومن ذا الذي يتحدث بأنه سأل المنجم فأخطأ ؟!
وإنما التحدث بأنه سأله فأصاب ، والصواب في المسألة إذا كانت بين أمرين قد يقع – أحيانا – للمعتوه والطفل ، فضلا عن المتلطف الرفيق .
وإن وُجد لمن يدَّعي الأحكام إصابةٌ في شيء ، فخطؤه أضعافه ، ولا تبلغ إصابته عشر معشاره ، وتكون الإصابة اتفاقا ، كما يظن الظان المنافي للعلم المقارن للجهل الشئ
فيكون على ظنه ، ويخطئ فيما هو معلوم أكثر عمره...
ولا فرق بين المنجم والكاهن ؛ إذ كل واحد منهما يدعي الإخبار بالغيوب ، وكيف يسلم للمنجمين ما يدعونه وأحدهم على التحقيق ما يعرف ما حدث في منزله ، ولا ما يصلح أهله وولده
بل لا يعرف ما يصلحه في نفسه ، ويؤثر عنه أن يخبر بالغيب الذي لم يؤته الله أحدا ، ولم يستودعه بشرا إلا لرسول يرتضيه ، أو نبي يصطفيه " انتهى.
" القول في علم النجوم " (ص/192-194)
ويقول الشيخ ابن باز رحمه الله :
" قد يصادف القدر حاجة شخص ، فيظن المسكين أنه بأسباب هذا المنجِّم ، أو بأسباب هذا الكاهن حصل هذا الأمر , وقد يكون وصف لشخص دواء آخر غير ما يزعمه عن النجوم والتنجيم من الأدوية المعروفة ,
والتي يعرفها لهذا المرض ، فيظن المريض أنه حصل له الشفاء بأسباب دعوى هذا المنجم علم الغيب , أو من أسباب تعاطيه النظر في النجوم , أو غير ذلك .
فالحاصل أن وجود الشفاء في بعض الأحيان بعد إتيان الكهان أو المنجمين أو الرمَّالين أو غيرهم لا يدل على صحة ما هم عليه ، فالمشركون أنفسهم - عباد الأصنام -
قد يأتون إلى الصنم ويسألونه ، فيقع لهم ما أرادوا بإذن الله عز وجل صدفة ، ولحكمة أرادها الله جل وعلا , أو بواسطة الشياطين ، فصارت ابتلاء وامتحانا
لا من الصنم , فالصنم ما فعل شيئا , والجني الذي عنده ما فعل شيئا , ولكن قد يوافق القدر أن هذا المرض يزول , وهذا البلاء يزول بعدما جاء هذا المسكين إلى الصنم وسأله أو ذبح له ,
فيقع ذلك ابتلاء وامتحانا , من غير أن يكون ذلك من عمل الساحر , أو من عمل الصنم , أو من عمل الجن , أو غير ذلك , فيقع للمشركين أشياء تغريهم بأصنامهم حتى يعبدوها من دون الله .
فلا ينبغي للعاقل أبدا أن يغتر بما يقع على أيدي هؤلاء المنجمين , أو الكهنة والعرافين أو السحرة , بل يجب أن يبتعد عنهم ، وألا يُصَدِّقَهم " انتهى.
" مجموع فتاوى ابن باز " (8/89-90)
ثالثا :
إذا تبين ما سبق لم يكن في ثبوت قصة المنجمين في عهد النمرود وإبراهيم عليه السلام – على فرض ثبوتها –
أي إشكال علمي ولا شرعي ، إذا لا يبعد أن يصادف كلام المنجمين بعض الصواب ، ولكن الكذب فيهم أغلب ، والفساد في علومهم أعم .
ومع ذلك نقول أيضا : إن القصة لم تثبت بالإسناد الصحيح ، إنما يحكيها بعض المؤرخين حكاية مجردة من غير إثبات ولا برهان .
يقول ابن كثير رحمه الله :
" وذكروا أنه طلع نجم أخفى ضوء الشمس والقمر ، فهال ذلك أهل ذلك الزمان ، وفزع النمرود ، فجمع الكهنة والمنجمين وسألهم عن ذلك
فقالوا يولد مولود في رعيتك يكون زوال ملكك على يديه ، فأمر عند ذلك بمنع الرجال عن النساء ، وأن يقتل المولودون من ذلك الحين
فكان مولد إبراهيم الخليل في ذلك الحين ، فحماه الله عز وجل وصانه من كيد الفجار ، وشب شبابا باهرا ، وأنبته الله نباتا حسنا حتى كان من أمره ما تقدم
وكان مولده بالسوس ، وقيل ببابل ، وقيل بالسواد من ناحية كوثى ، وتقدم عن ابن عباس أنه ولد ببرزة شرقي دمشق ، فلما أهلك الله نمرود على يديه وهاجر إلى حران
ثم إلى أرض الشام ، وأقام ببلاد إيليا كما ذكرنا " انتهى.
" البداية والنهاية " (1/200)، وقد ذكر الخطيب البغدادي في " تاريخ الأنبياء " (ص/66-68) ت
فاصيل مطولة لهذه القصة ، يمكن مراجعتها هناك ، غير أنها كلها تروى من غير إسناد ولا إثبات .
والله أعلم .