لكل من يبحث عن مرجع سأساعده - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الجامعة و البحث العلمي > منتدى العلوم الإجتماعية و الانسانية > قسم البحوث العلمية والمذكرات

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

لكل من يبحث عن مرجع سأساعده

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2012-01-30, 20:56   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
hano.jimi
عضو محترف
 
الصورة الرمزية hano.jimi
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة hammi29n مشاهدة المشاركة
أرجو المساعدة في بحث : بناء الشخصية الروائية في رواية مملكة البلعوطي
" مملكة البلعوطي " (1) من آخر الروايات التي كتبها نجيب الكيلاني (1921-1990) قبيل وفاته ، هناك روايتان أخريان: الأولى بعنوان " أهل الحميدية " والثانية تحمل اسم "الرجل الذي آمن " ، ولا أدري تماماً أيّ واحدة كانت الأخيرة كتابةً ، فقد كان يحدثني في مرض الموت عن رغبته في كتابة الجزء الثالث من " ثلاثية عبد المتجلي " التي أصدر منها جزءين " اعترافات عبد المتجلي " ، " وامرأة عبد المتجلي " .. وكان ينوي أن يكون الجزء الثالث بعنوان " هجرة عبد المتجلي " ، وقد حدثني عن خطوطها العريضة ، وركّز على أن الهجرة لن تكون إلى خارج مصر ، ولكنها ستكون إلى الجنوب ، حيث يؤسّس عبد المتجلي في الصعيد حياة جديدة ، تنعكس عليها الأحوال والظروف القائمة ، وبواجه الإحباط الذي أصابه في الجزءين الأول والثاني ، والقهر الذي عصف به وأفقده أحباءه .. ولكن " نجيب الكيلاني " رحل بحلمه وأمله قبل أن يحقّق رغبته بكتابة " هجرة عبد المتجلي " .

" ومملكة البلعوطي " مثل " أهل الحميدية " و " الرجل الذي آمن " في اتكائها على الواقع ، ودخولها دائرة ما سمّيناه " الواقعية الإسلامية " ، حيث تنطلق من أحداث الواقع وتفصيلاته التي تجري على أرض الوطن كل يوم ، الآن وقبل الآن وفي المستقبل ، وسبق أن تناولت في دراستي " الواقعية الإسلامية في روايات نجيب الكيلاني " (2) انعطافة نجيب الكيلاني نحو الأحداث اليومية التي يعايشها الناس ، والانطلاق منها لمعالجة همومهم وآلامهم من خلال تصوّر إسلامي واع ، وقد تجلّت هذه الانعطافة في رواياته الأربع : اعترافات عبد المتجلي ـ امرأة عبد المتجلي ـ قضية أبو الفتوح الشرقاوي ـ ملكة العنب . ويمكن أن نضيف إلى هذه الروايات : مملكة البلعوطي ـ أهل الحميدية ـ الرجل الذي آمن .

و " مملكة البلعوطي " ترتبط بتاريخ أسرة الكيلاني ، تحديداً بجدّه " إبراهيم الكيلاني " الذي كان يحبّه حبّاً جمّاً ، وقد روى لي ـ يرحمه الله ـ قبيل وفاته بأيام ، وكان المرض قد جعل منه كياناً ذابلاً هزيلاً ، كيف بكى وهو يكتب آخر سطر من الرواية ، وأشار إلى المكان الذي كان يجلس فيه داخل غرفة النوم ، فدخلت عليه زوجه ، ورأته يبكي بدموع غزيرة ، فسألته :

ـ لماذا تبكي يا نجيب ؟

فقال لها :

ـ أبكي جدّي !

فردت عليه :

ـ إن جدّك مات قبل ستين سنة .

ـ الآن فقط دفنته ، بعد أن شيعت جنازته !!

كان يقصد أنه دفن جدّه في الرّواية " مملكة البلعوطي " ، وبكى عليه مثل الباكين في الرّواية ، وكانت عيناه ، وسط الذبول والهزال ، تلمعان بحيويّة ونشاط ، تعبيراً عن حبّه لجدّه الذي أثّر فيه ، وأثر في مصير قرية بأكملها ، وجعل منه الناس مثلاً يضربونه لكل باحث ..... الشجاعة والحق ، ولذا سمّوه " البلعوطي " .

تتبدى في الرواية ظاهرة مهمة ، من أهم الظواهر التي تميّز بها نجيب الكيلاني ، وهي تمتّعه بذاكرة قويّة ، تحتفظ بأدقّ التفاصيل وأبسط الأحداث ، وأذكر أنه في لقائي الأخير معه قبيل وفاته بأيام ، كان حدثني عن الشخوص الحقيقيين الذين ضمّتهم الرواية حديثاً مستفيضاً ولم تثبت شدّة الآلام التي كان يعانيها عن الاسترسال في وصف مصائرهم وما وصل إليه أحفادهم وأحفاد أبنائهم .. (3) .

إننا نستطيع القول إن " مملكة البلعوطي " ، قطعة غالية من نفس " نجيب الكيلاني " وتاريخه ، وإن سجّلها بمنطق الفن لا منطق التاريخ ، ومع ذلك جمعت مفردات الواقع المصري المعاش قديماً وحديثاً ، ولو اختلفت الأزياء والسمات .



- 2-

تقع أحداث الرواية في الثلث الأول من القرن العشرين الذي ولد الكاتب في أواخره (1921) ، وشهدت هذه الفترة أحداثاً جساماً على مستوى الوطن من صراع بين الشعب والإنجليز ، ووقوع الحرب العالمية الأولى ، ودخول البلاد في معترك سياسي داخلي بين الأحزاب من ناحية والحكومة والإنجليز من ناحية أخرى ، وأيضا فيما بين الأحزاب وبعضها البعض .. وكل ذلك انعكس على حياة المواطنين وبخاصة طبقة الفلاحين التي كانت تمثل آنئذ أغلبية الشعب وقاعدته العريضة .

ومع أن الكاتب اختار هذه الفترة البعيدة نسبيّاً عن زماننا ، إلا أنها تعيش فيه بطريقة ما ، حيث تتشابه المشكلات والصراعات ، وكأن اليوم هو الأمس ، ومن ثم نرى الرواية تركّز على جوهر الأحداث وسلوك صانعيها خاصة ، وهو ما يجعل " مملكة البلعوطي " رواية "فكرة " و " تصَوّر " في المقام الأول ، قبل أن تروى تاريخاً قريباً .

بالإضافة إلى ذلك ، فهناك المنهج القصصي الذي يعتمد تفاصيل الحياة اليومية ودقائقها واستجابة الأشخاص لها ، وهو ما يجعل الرواية بنت اليوم أكثر منها جدّة الأمس .

أما الزمن الروائي ، فهو زمن استطرادي تقليدي ، ينطلق من سرد الماضي وعرضه بصورة متتابعة متصاعدة ، لا مجال فيه غالبا للتذكر أو الاسترجاع ، وقليلاً ما يصادفنا الحوار الداخلي أو المونولوج ، فالأحداث متلاحقة ، وردود الفعل مباشرة ومتوازية .

أما المكان فهو كما حددته الرواية مجموعة قرى تقع في دائرة مركز زفتى غربية ، يُضاف إليها مدينة طنطا عاصمة المديرية (المحافظة الآن) حيث ينتقل إليها بعض شخوص الرواية للإقامة أو لإنجاز بعض المصالح .

اتساع المكان في الريف المصري يعنى أن قضايا الرواية مرتبطة بالأغلبية الساحقة من الشعب كما تعنى تنوّع الأحداث ، وتشابهها أيضاً .. وتعطى في الوقت ذاته صورة شبه كاملة لأنماط الحياة الاجتماعية وطبيعة العلاقات الإنسانية السائدة في تلك المرحلة . إنها من ناحية تبرز ملامح فترة تاريخية قريبة عاشها الناس في مصر ، ومن ناحية أخرى تطرح معالم السلوك الاجتماعي بين طبقات الدولة آنذاك ، ونظائرها في أيامنا ، عن طريق الإيحاء والمقارنة بطريقة غير مباشرة ، وذلك من محيط الدائرة العريضة ـ أي الريف ـ التي تمثل أغلبية الناس (4) .

لعل عنوان الرواية " مملكة البلعوطي " يختزل بصورة ما الدلالات السابقة بالنسبة للمكان والزمان جميعاً ، إننا ننتقل من قرية إلى قرية ، ومن الحقل إلى السوق ، ومن بيوت الفلاحين الطينية إلى قصر الإقطاعي الكبير ، ومن المسجد إلى ما يشبه المقهى ، ومن كل ذلك إلى البندر حيث المدينة بملامحها وطباعها وخصائصها .. إن مملكة البلعوطي تضم قرية الكاتب " شرشاية " بالإضافة إلى دهفورة وحانوت وعزبة عويس وشبرا اليمن ، وميت البنر ، والعجزية ، وكفر شبرا الديب ، وكفر نوبة وشبرا فلوج وميت المخلص وكفر الجزيرة وسنباط وغيرها .. وهذه القرى دانت بالفضل والاحترام لبطل الرواية ومبادئه ، حيث أرسى فيها أسس الأمن والاستقرار ، وكأنه أراد أن يقيم مملكة فاضلة على غرار المدينة الفاضلة .. المكان فيما يبدو كان فرصة مناسبة للكاتب كي يحلم ـ من خلال حدث حقيقي ـ بإقامة المجتمع المثالي الذي تعاون فيه الجميع على الخير والبناء والتعمير من خلال تصوّر إسلامي يشيع العدل والحرية واحترام الإنسان .. مثلما فعل إبراهيم عبد اللطيف في الثلث الأول من القرن العشرين .



- 3-

تعالج رواية " مملكة البلعوطي " قضية الصراع بين الخير والشر ، بين القوة والضعف، بين الطبقة المستبدة والطبقة المستسلمة .. وعلاج هذه القضية يقترب كثيرا من أرض الواقع، بل ينبت منها ، حيث تدور الأحداث بين بشر ينتصرون أحياناً وينهزمون أحياناً أخرى ، وهم في الحالين لهم جوانب قوة وجوانب ضعف ، ومن خلال الصراع تبدو لنا معالم المعاناة التي كان يعانيها الشعب المصري في مجموعه العام نتيجة للاستبداد والقهر والفقر والجهل وأشياء أخرى . الرواية معنية بتوضيح هذه المعاناة ، وبلورة أسلوب المقاومة الشعبية العفوية أو المنظمة .

إن هيمنة الطبقة المستبدة جعلتها تملك السلطة والثروة ، وتحرم جموع الناس من حقّها في العيش الكريم والكرامة الإنسانية ، وكان أبو العز سليم بك خير مثال لهذه الطبقة بغطرستها وإفلاسها الروحي وحرمانها للأغلبية من ثمرة جهدها وعملها ، يؤازر الطبقة المستبدة الاستعمار الإنجليزي الذي يرى فيها خير عون له على تكتيف الشعب وشغله بقضايا يوميّة تبعده عن التفكير في المقاومة ، وأيضا هناك الخواجات الأجانب الذين يشتغلون بالرّبا ويتحكّمون من خلاله في مصير الفلاح المصري وإنتاجه ، بالإضافة إلى عناصر أخرى مستفيدة من الاستبداد الطبقي والاجتماعي مثل بعض العمد والخفراء وقطاع الطريق ومحترفي الإجرام ..

على الجانب الآخر يبدو الاستسلام والاستكانة والخوف طابعاً عاماً ، جعل الناس يرضون بكل ما يفرضه الاستبداد ، ويقبلون بمنهجه خشية المضاعفات التي تترتب على الرفض أو إعلان العصيان .. ومن ثمّ ، كانت المقاومة العفوية التي أبداها " البلعوطي " وشقيقه في سوق " سنباط " عامل تحوّل خطيراً في مسيرة الأحداث بالمنطقة . قامت على أساسها مفاهيم جديدة ونتائج لم تكن متوقعة جعلت من " البلعوطي " بطلاً شعبيّاً يلتف حوله الناس ويرون فيه أملهم وإنقاذهم .. صحيح أن البلعوطي وغيره دفعوا ثمناً غير قليل بسبب جرأته ولكن التيار الخيّر كان يتدفق إلى الأمام .. لقد ظهرت آثار السياسة الاستعمارية الإنجليزية في محاولة تحطيم المقاومة العفوية " فرّق تسد " ، ولكن التيار الخيّر اكتسحها بأسلوب واقعي ، وراح الناس يبحثون عن عناصر التضامن ، وإقامة العدل فيما بينهم ، والتمسّك بأراضيهم ، وتكاد الرواية هنا تقدم قصيدة غزل طويلة في حب الأرض والتمسّك بها وعدم التفريط فيها تحت أيّ ظرف من الظروف .. وهذه القصيدة الغزلية وصيّة من الآباء للأبناء, للأحفاد, لكل الأجيال ألاّ تفرطوا في أرضكم التي هي عرضكم .. وهذه الوصية يفهمها جيّدا من عاش في الريف وعمل بالفلاحة وامتلك أرضاً زراعية .

وفي سياق تدفق التيار الخيّر تعنى الرواية بتطهير المجتمع من الفساد والمفسدين والعناصر المساعدة على ذلك ، وبخاصة الإدمان والاتجار في المخدرات ، أيضا تدعو للتعليم وتراه أكبر من كل ثروة أو عقار أو جاه ، كذلك تؤكد الرواية على القيم النبيلة في المعاملات والعلاقات .. وكل ذلك وفقاً لمنهج الإسلام وتصوّراته الظافرة ..

أما المقاومة المنظمة فتظهر في الخلفية الروائية للأحداث ، حيث نرى مشهد نفي سعد زغلول زعيم الأمة وانعكاساته على المجتمع ، التي تكشف عمق كراهية الشعب للاستعمار الإنجليزي وأعوانه ، ومدى الحبّ الشعبي الغلاّب للزعيم المنفي .

وفي الخلفية الروائية تظهر آثار خافتة للحرب العالمية الأولى ، انعكست على حياة الفلاحين ومحاصيلهم ، وخاصة القطن .. وأيضاً محنة " الكوليرا " التي ألمّت بالوطن ومات فيها الكثيرون .

ويمكن القول إن " البلعوطي " في الرواية ، من خلال بيئته الرّيفيّة ، قد وضعته الأقدار ليحقق أحلام الناس في إقامة القرية الفاضلة أو المجتمع الفاضل بطريقة واقعية إسلامية ، تختلف بالضرورة عن المدينة الفاضلة المثالية الأفلاطونية . يقول إبراهيم لأكبر أبنائه وهو في مرض الموت :

" .. لا أطلب أ، تكون مثلي . إن لكل عصر رجاله وظروفه ، يخيّل إليّ أنه قد مضى زمن العصا والكرباج .. اعرف دينك تعرف طريقك .. واستفت قلبك وإن أفتاك الناس .. واستمع لصوت ضميرك ، فإنه صوت الحق من داخلك .. اعلم أن السلام والأمن والاستقرار لا تقوم إلا في حراسة القوة ، وليست القوة كما يتصور الناس في قريتنا سلاحاً ورجالاً وبطشاً فحسب ، لكن القوة في الحب والوحدة والعدل والتعاون .. لو أننا فعلنا ذلك لوُجدت القرية الفاضلة التي تحلم بها ... " (5) .

هكذا يبدو موضوع الرواية ، مع قدمه نسبيّاً ، معاصرا ، بل موضوعاً للمستقبل ، حيث يبحث الناس عن السلام والأمن والاستقرار ، وهو ما لم يتحقق في الماضي ولا الحاضر ، ولا أحد يعلم هل يتحقق في المستقبل أم لا ؟! وإن كانت النُّذُر والعواصف تشير بالنفي دائماً ! ولكن لا بأس من المحاولة والعمل .. فمن يدري ؟ قد يتحقق الحلم أو الأمل بحول الله وقوته .



- 4-

يبني نجيب الكيلاني روايته على عدد من الحوادث المتتابعة ، ومن خلالها تطرح الرواية موضوعها أو قضاياها ، ويمكن القول إن هناك حدثين تبدأ بهما الرواية ، ويمثلان من وجهة نظري الذروة في الأحداث حيث تعدّ الأحداث التالية تفريعاً ووصفا ، فضلاً عن كونها حلاًّ لهذه الذروة ، وإن لم تفقد عنصر التشويق والإثارة .

الحدث الأول هو المواجهة بين المستبد " أبي العز سليم " والشيخ " عبد القادر الشاذلي " حول ظلمه ورجاله للفلاحين ، والثاني هو تصدّي إبراهيم عبد اللطيف مع أخيه غير الشقيق " السيّد علي " لرجال أبي العز في سوق سنباط والانتصار عليهم وتفريق السوق وهروب الناس منه وصعود نجم " إبراهيم عبد اللطيف " ، بطلاً شعبياً يبهر الناس فيتعلقون به، كما يكسب احترام " توفيق بك الخشن " عمدة سنباط .. ويترتب على ذلك زلزال يصيب " أبا العز سليم " لأول مرة في حياته حيث ظهر من يتحداه علناً ويهزم رجاله .

يحاول أبو العز الانتقام من الأهالي فيرسل رجاله لاقتلاع زروعهم ، وتتباطأ الشرطة في التحقيق ، الذي لا يسفر عن اتهام أحد ! وهنا يقوم إبراهيم عبد اللطيف ورجاله بالردّ على الانتقام بعمل مماثل يمثل ضربة موجعة أخرى لأبي العز ، ومع أن الشرطة هنا تسرع في عملية التحقيق إلا أنه لا يستطيع إدانة " إبراهيم " أو أحد من الأهالي .. وتتصاعد الأحداث بمحاولة اغتيال " كامل " أحد أبناء " إبراهيم " ، وتخفق المحاولة .

يتدخل " توفيق بك الخشن " ، ويفقد محاولة صلح, عند " يوسف الجندي " السياسي المعروف آنئذ, بين أبي العز و " إبراهيم " ، ويتولى إبراهيم بموجب الصلح شئون العلاقة بين الفلاحين وأبي العزّ ، بل يتحوّل إلى مستشار لأبي العزّ في شئونه العامة والخاصة .. ومع أن إبراهيم يتعرّض لمحاولة اغتيال لم تنجح بسبب عزوف القتلة عن قتله نظراً لمكانته واحتراماً لقدره ، فإن إبراهيم يواصل الإصلاح من داخل دائرة أبي العز الضيقة ، وفي المجتمع القروي الذي يعيشه .

طبـيعة الريف في ذلك الحين (الثلث الأول من القرن العشرين) كانت تحمل في ثناياها نوعاً من الأحداث الغامضة وخاصة قتل بعض الأفراد المشهورين ، وقد حفلت الرواية بهذا النوع من الأحداث ، فقد قتل محمد بن بحراوية شيخ الخفراء والزراع اليمن لأبي العز سليم ، وظل الناس يتخبطون زمناً طويلاً في معرفة القاتل حتى توصلوا إلى أن القاتل هو فريد بن أبي العزّ سليم ، وكانت مفاجأة صاعقة للناس ولأبي العز جميعاً .. ولم تقدم الرواية تفسيراً مقنعاً يقوم على مقدمات توصّل إلى هذه النتيجة الدامية لأن ابن بحراوية وابن أبي العزّ من دائرة واحدة واتجاه واحد ، هي دائرة الشرّ واتجاه الاستبداد .

أيضا ، فإن مقتل " الجوهري " شقيق زوجة " إبراهيم عبد اللطيف " يمثل نوعاً من الأحداث الغامضة الفجائية التي تقع دون مقدمات ، ولا يستطيع أحد فك لغزها إلا بعد أمد طويل ، وإن ترتب على الحدث نفسه آثار ونتائج غير طيبة .

ويمكن كذلك ، أن يدخل في إطار هذه الأحداث الفجائية زواج فريد ابن أبي العز من إحدى الساقطات اللاتي تعرّف عليهن في البندر .. وإن لم يكن هذا الزواج في حدّ ذاته حدثاً غامضاً ، فإن سلوك فريد المنحرف يُسَوِّغُهُ ويجعله أمراً طبيعيّاً .

ترى هل كان للأحداث الغامضة والفجائية دور في البناء الروائي ؟

لا ريب أنها أحداث حقيقية وقعت بالفعل ، ولكن وقوعها المباغت أحياناً قد يحدث هزّة في البناء الروائي . ويستطيع من عاش في الريف مثلي أن يدرك أن أمثال هذه الحوادث أمر طبيعي وعادي ، أو كان أمراً طبيعيا وعادياً في ظل العلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة في النصف الأول من القرن العشرين .

ثمة ملمح مهم من ملامح البناء الروائي في مملكة البلعوطي ، وهو توازن مشكلات أسرة إبراهيم عبد اللطيف الداخلية ، مع مشكلات المجتمع المصري على مستوى القرية أو الوطن . إن مشكلات إبراهيم مع زوجاته وأبنائه في وجوه عديدة تبدو صدىً لمشكلات خارجية يمكن أن نجدها في نفي سعد زغلول وعودته من المنفى ، ومآسي الفلاحين مع الملاك ، وقتل بعض الأشخاص في القرية أو القرى المجاورة ، أو القبض على تجار المخدرات (ريحانة وأمها وزوجها) ...

يبدو تكثيف الأحداث في الرواية هدفاً مقصوداً في حد ذاته ، وذلك ليقوم بطلها "إبراهيم عبد اللطيف " بتقديم الحلول وفقا لنهجه الإسلامي البسيط المتسق مع الفطرة الريفية في نقائها وحبها للخير ومقاومتها للشرّ ورغبتها في الإصلاح .. ومع ذلك فإن رواية "مملكة البلعوطي " ليست من تلك الروايات الإصلاحية أو الأيديولوجية التي تموت بعد وقت قصير من تأليفها ، ذلك لأنها ركزت على الإنسان في مشاعره وعواطفه وتصوراته وسلوكه ، التي لا ترتبط بزمان دون زمان ولا بيئة دون أخرى ، ولكنها ترتبط بالإنسان في كل زمان ومكان .. فضلاً عن أن تصوّر الإصلاح هنا غير محدود بأيديولوجية ما أو نظرية ما ، ولكنه مرتبط بالفطرة النقية التي هي جوهر الإسلام .

إذا كان الحدث هو الأساس الأول للبناء الروائي في " مملكة البلعوطي " ، فإن الشخصية لا تقل أهمية عن الحدث في هذا البناء ، وذلك لكونها شخصية حيّة مع بساطتها وتواضعها ، وهي في مجملها شخصية طيبة تحمل الخير في أعماقها ، ويمكن أن تتحول إلى الخير من الشرّ إذا كانت شريرة ووجدت من يساعدها على التحوّل والتغيّر وفقا لمسوغات معقولة ومنطقية وهناك بالطبع شخصيات نكدة تمكّن الشرّ من أعماقها ولا تفلح أية محاولة في تغيرها . ويمكن القول إن الرواية قدمت شخصياتها الواقعية دون تزيّد أو افتعال في إطار إسلامي ناضج ، وهي في كل الأحوال شخصيات قريبة إلى العقل والمنطق والواقع الحيّ ، ونصادفها في كل زمان وكل مكان مع الفارق الذي تفرضه الخصائص الدقيقة لكل زمان وكل مكان .

وإبراهيم عبد اللطيف هو الشخصية الأولى روائيا ، تتركّز حوله الأضواء وتدور به الأحداث سواء كان طرفاً فاعلاً أو مشاركاً في آثارها بالحلّ والتصويب .. إنه فلاح بسيط ، ولكنه واع وشجاع ، استمد فلسفته وتصوّراته من إيمانه الإسلامي الذي يتسق مع فطرته النقية الصافية ، وقد جعلته معركة سوق " سنباط " بطلاً شعبيّاً لأنه واجه قوى عاتية بشجاعة تلقائية ، وانتصر عليها بطريقة مذهلة ، وكان يمكن لهذه القوى أن تسحقه سحقاً ، ولكن النصر كان حليفه بسبب إقدامه وجرأته ، ومن هنا كان المبدأ الذي اعتنقه " القوة لا تردعها إلا القوة .. ولست أعني بذلك الحرب وسفـك الدمـاء ، ولكن أقصد القوة التي تحقق الهدف .. أي نوع من القوة .. مادية كانت أو معنوية .. " (6) . لقد كانت موقعة السوق تطبيقاً عملياً لهذه الفلسفة التي ترى أن الإقرار بالهزيمة اليوم سيكون مقدمة للاستسلام في المرات القادمة ، ولن تقوم لنا قائمة ، والحل هو الضرب بالعصا لكل من يقف في الطريق ، قيل له : تعقّل يا إبراهيم .. نحن قلّة ، ولكنه لم يستجب للنداء وصاح بأعلى صوته : اضرب يا ولد .. اضرب ولا تخف ، وزاح يطوّح عصاه يمنة ويسرة ، ومن ورائه أخوه السيد علي ، فاضطرب الناس ، وهاجوا وماجوا وفرت المواشي والأغنام ولاذ أنصار أبو العز سليم بالفرار وتبعهم العسكر والخفراء ، وهرب من في السوق ، وسرت أنباء تقول إن إبراهيم عبد اللطيف وأخوه قد ضربا من في السوق ، وأن الإنجليز لاذوا بالفرار ، وصاح رجل مجهول :

ـ " البلعوطي ضرب السوق " . وردّد الناس : البلعوطي .. البلعوطي استطاع بجرأته وشجاعته أن يجعل الناس يفرّون (7) .

هكذا تبدو المبادرة في حياة إبراهيم عبد اللطيف عنصراً أساسيّاً في مواجهة متاعب الحياة ، ولكنه مع ذلك يملك من التجربة والحنكة ما يجعله يؤمن بأن الشجاع هو من يلوّح بالعصا ولا يستعملها ، ويصل إلى هدفه دون أن يريق دماً ، وهو لا يخاف الموت ولا يجبن عن المواجهة ولكنه يخاف الله رب العالمين .. وهو في كل الأحوال ليس "السوبرمان" الذي ينتصر دائماً ويملك قلباً حديديّاً ، فهو يشعر بالخوف حين يتآمر عليه القوم ، ويدبّرون لقتله ، وتبدو مظاهر الخوف على جبينه من خلال العرق القوي .. ولكنه في الوقت نفسه لا يستسلم للخوف ولا يرضى الجبن ، لأنه على حد تعبيره " قتل الموت في نفسه " .

إن إبراهيم من خلال إيمانه بالقوة في مواجهة الظلم والعسف ، يؤمن بالعلم أيضا ، بل إنه يسعد بالانتصار العلمي أكثر من الانتصار بالعصا ، وقد عبّر عن ذلك يوم ألقى ابنه عبد الفتاح . الطالب بالمعهد الديني خطبة الجمعة ونالت استحسان الناس .

وعلى هذا المنهج الإيجابي والرؤية السويّة الناضجة للحياة تمضي شخصية " إبراهيم عبد اللطيف " على امتداد الرواية حتـى تلقــى ربهــا ، تاركــة مملكــة وطيدة الأركان ، عامــرة بالحــب والإيـمان في قرية شرشاية وما حولها . مات إبراهيم بعد أن جلس على عرش القلوب .. مــات فقيرا صابـراً راضيا ، تحفّ به أرواح الملائكة .. مات أشرف ميتة يتمناها مؤمن .

الشخصية الثانية في الرواية هي شخصية " أبي العز سليم " ، وهو إقطاعي متعجرف مستبد لا يقبل أن يرد له أحد أمراً أو يشاركه أحد في أمر . إنه لا يطيق نقداً أو معارضة ، ولو جاء ذلك من أحد لصلبه وربطه بالحبال وجلده بالسياط ، وهو يعمل دائما بنصائح أصدقائه من الإنجليز ، وبخاصة نصيحة " فرّق تسد " ، وعملاً بالنصيحة المذكورة ، فإنه يسعى إلى تفتيت كتلة الفقراء والتفريق بينهم وبين أصحاب الكلمة والريادة فيهم . إنه يؤمن أن الناس عبيده ، وهو ولي نعمتهم ، ولذا فالقتل جزاء من يعترض طريقه ، ومن ثمّ كان تخطيطه لاغتيال إبراهيم عبد اللطيف ، بيد أنه أخفق ومنى بالخسران .

وتستبطن الرواية شخصية أبي العز ، فتراه شحيحاً على أبنائه وبناته ، ألغى شخصية زوجه منذ البداية وأصبحت مجرد جارية تؤمر فتطيع ، رفض أن يبعث بأبنائه إلى المدارس ظنّاً منه أن المدارس لن تخرّج إلا موظفين يتقاضون مبلغاً تافهاً من المال وهم ليسوا في حاجة إلى هذا المال . لم يهتم بشئونهم أو يشرف على تربيتهم فشبّوا فاسدين منحرفين يدخنون السجائر والحشيش ، يغازلون الخدم ويقعون في شباك الساقطات ، ويسافرون إلى المدينة للهو والعبث ويسرقون المحاصيل والماشية والمجوهرات . إنهم ذرية فاسدة ليس فيها من يصلح لخلافته . البنات كبرن وبلغن سنّ الزواج وكلما تقدم أحد لخطبة واحدة منهن رماه بأقذع الشتائم وطرده شرّ طردة وكان يقول لزوجته : " إنني أَأْنَفُ أن تنام ابنتي في حضن رجل أي رجل .. كما كان يفسّر رفضه للخطّاب بأنهم يطمعون في ثروته . إنه شخصية أنانية بكل المقاييس سطحية في التفكير والتصوّر ، وتكشف وصيته في أثناء مرضه الحادّ عن هذه السطحية حيث أوصى أن يجهّزوا له قبرا جديداً لا يدفن فيه غيره ، وأن يكون مجهزاً بلحاف ووسادة وحشية من الحرير ، كما أوصى أن يكون كفنه من الجوخ الأخضر " لقد كنت عالي المقام في الدنيا .. ويجب أن تكرموني في قبري " (8) .

بيد أن هذه الشخصية الشريرة الأنانية تجد فرصتها في التحوّل والتغيّر نحو المسالمة والموادعة إلى حد كبير ، وإن لم تتخل تماماً عن بعض الأفكار السطحية ، فقد كانت تجربة مرضه الأليمة وشفاؤه الذي يشبه المعجزة فرصة لتحوّله وتغيره ، فضلاً عن وجود شخصية الشيخ " عبد القادر الشاذلي " الذي اشتهر بالصلاح والتقوى ، بجوار أبي العز في مرضه حيث قام بإرشاده إلى الخير وعمل الصالحات ، وقد ترك أبو العز قريته وذهب إلى مدينة طنطا حيث تزوج فتاة صغيرة وأنجب منها ، وقضى بقية حياته هناك بعيداً عن الصراع والأرض والأولاد ورجال العصابات .

هناك شخصيات أخرى عديدة تقوم بأدوار ثانوية ، ولكنها مهمّة ، منها شخصية الشيخ عبد القادر الشاذلي ، عالم الدين الورع ، الذي يسعى دائماً إلى الخير ، ويواجه أبا العز سليم في عزّ جبروته ، ويعيش مع الناس آلامهم وأفراحهم ، ومنها شخصية " توفيق بك الخشن " عمدة سنباط ، الذي يمثّل نموذجاً معتدلاً للعمدة ، في العفة والعدل والرجولة والشهامة ، والقوة أمام السلطة التي تمثلها الشرطة ، وهو يختلف عن غيره من العمد الذين يسحقون كبرياء الناس . إن الرجل لديه المال والأرض ولا يطمع في شيء مما لدى الناس ، وقد أعجبته مواقف البلعوطي ، وبخاصة في معركة السوق .

" أعجبني فيك يا بلعوطي أنك أبيت الظلم " (9) .

هناك أيضا شخصية " ريحانة " التي تمثل المرأة القوية المسيطرة على زوجها ، وهي صاحبة مقهى ، وتتاجر في المخدرات وتعيش معها أمها .. ولكنها تتحوّل وتقلع عن هذه التجارة بعد أن تدخل البلعوطي ووعدها بعمل شريف .. أما أمها فأصرت على الاستمرار ودفعت الثمن .

بيد أن الرواية تستدعي ـ وهي مفارقة غريبة ـ إحدى شخصيات رواية أخرى للكاتب هي رواية " ملكة العنب " . إنها شخصية " يونس عبده " التي تجمع بين المتناقضات ، بين الدروشة والدهاء ، والمسالمة والمكر ، والطيبة والشر الكامن .. وإن كانت في " ملكة العنب" أكثر وضوحاً ورحابة منها في " مملكة البلعوطي " .. ترى هل كانت هذه الشخصية في الحقيقة منتمية لمرحلة الثلث الأول من القرن العشرين ، فاستدعاها الكاتب وطوّرها في " ملكة العنب " التي تعالج قضايا راهنة ؟ ربّما .



-6-

تمثل الصياغة في رواية " مملكة البلعوطي " امتداداً للصياغة في روايات نجيب الكيلاني الواقعية الإسلامية (10) ، ففي هذه الروايات يسلس قياد الأسلوب للكاتب ، فيقدم ما يسمى بالسهل الممتنع ، ويحقق الموسيقى التعبيرية التي تتلاءم مع الأداء والمواقف القصصية فضلاً عن التضمين بالقرآن الكريم والحديث الشريف والنصوص الإسلامية والتراثية ويبرع في الوصف والحوار واستخدام الحلم ، وإن لم تسلم الصياغة في بعض الأحيان من أخطاء نحوية واضحة .. وسوف نشير إلى بعض ظواهر الصياغة في الفقرات التالية .

يعد الوصف لدى نجيب الكيلاني علامة فنية بارزة ، حيث ينحو إلى البساطة والسهولة في معالجة القضايا التي تبدو صعبة ومعقدة ، وتلك خصيصة لا يملكها جميع الكتاب، الموهوبون فقط الذين يملكونها . إنه يقدم للقارئ صورة حيّة وقريبة إلى ذهنه ونفسه لما يجري في الكون من أحداث تعالجها الرواية ، وسوف تختار هنا نموذجا عشوائياً يتناول الأحوال في مصر في الثلث الأول من القرن العشرين ، لنرى كيف قدم ببساطة عميقة ـ إن صحّ التعبير ـ صورة متكاملة للواقع وما يجري فيه ، في عبارة واضحة رقيقة ترصد النتائج والأسباب :

" لم يكن إبراهيم عبد اللطيف يعترض على نصيحة الشيخ الشاذلي ، ولا قول حضرة العمدة ، ولكنه تساءل ماذا بعد ذلك ؟ إن من مات دون عرضه فهو شهيد ، ومن مات دون ماله فهو شهيد ، وهذا العصر عصر الشهداء ، وكيف لا يكون كذلك ، وقد استبد الإنجليز ، وسيطروا على سلطان البلاد وتحكموا في رقاب العباد ، أما ملاك الأراضي والنظار وأتباعهم وأشياعهم ، وكذلك رجال المال والأعمال ، فقد استغلوا ، ولم يعد للرحمة والعدل مكان في قلوبهم .. نحن في أيام ساد فيها قانون الغابة ، فكيف تحلو الحياة ويطيب لنا فيها المقام ؟

إن أكثر من ثلاثة أرباع الفلاحين مرضى بالبلهارسيا والأنكلستوما والملاريا وفقر التغذية والحمى وغيرها ، إنهم لا يجدون الدواء ولا الغذاء ، ويموتون موتاً بطيئاً ، يلجأون إلى كتاب الرقى والتعاويذ ، وإلى العطارين وخبراء الوصفات الشعبية ، والأطباء لا يوجدون إلا في أماكن نائية ، فما بالك وهم لا يملكون أجور النقل والأطباء والمواصلات وثمن الدواء ؟

القطن انخفضت أسعاره ، وقلّ محصوله ، والآفات انتشرت في المحاصيل ، ويقول بعض العارفين أن هذا من غضب الله علينا ، ولو أطعناه لأكلنا منه (كذا .. والصواب : من) فوق رؤوسنا ، ومن تحت أرجلنا .. والتقوى هي طريق الرزق الحلال ...

كان إبراهيم عبد اللطيف قلقاً غاية القلق بسبب سوء الأحوال .. إلخ " (11) .

وإذا كان الوصف بهذه البساطة والدقة والألفاظ القريبة ، فإن السياق الوصفي يأتي أحياناً ببعض الصور الجزئية الجميلة التي تبدو عفوية وتلقائية ، ولا يقدح في قيمتها أن لها أصولاً في بعض الاستخدامات القديمة أو الحديثة . تأمل قوله مثلاً : " بدلاً من أن يعيشوا علـى حافــة الخطــر الدائــم ، ويأكلوا لقمتهــم مغموسـة بالإثم " (12) وتأمّل أيضــا هذا التشبيه المأخوذ من القرآن الكريم : " إن عصاك سحرية .. كعصا موســى التي ابتلعت كل الأفاعي " (13) .

ويبدو الحوار من أهم عناصر البناء الروائي والصياغة الروائية عموماً ، حيث يكشف الكثير من الأحداث وأعماق الشخصيات ، ويبلور المواقف ، ويطرح التساؤلات والتصوّرات ، ويجسد في كل الأحوال وسائل الحركة والنموّ الرّوائي . ثم هو بعد ذلك حوار مكثّف في لغة شفافة تحكى المشاعر والأحاسيس .. ولنأخذ نموذجاً من الحوار الذي دار بين أبي العز سليم ورجاله بعد مقابلة الشيخ الشاذلي الذي طلب منه أن رفع أذاه عن الفلاحين :

" ابتسم أبو العز في دهاء وقال لهم :

ـ الذين يرفضُون بيع أراضيهم سنتلف مزروعاتهم حتى يستسلموا ويبيعوا .

ـ والإيجار يا سيدنا البك ؟

ـ سنأخذ باليمن ما أعطيناه بالشمال .

ـ كيف ؟؟

ـ بأي وسيلة ممكنة .

ـ والشيخ ؟

ـ أرضيناه بالكلام ، وسوف يذهب بعضكم إليه ليكونوا من مريديه .. " (14) .

وهناك مواضع أخرى يرقى فيها الحوار إلى درجة عالية ، وبخاصة حين يتضمن آيات قرآنية أو أحاديث شريفة أو نصوصاً إسلامية وتراثية . ولنقرأ هذا النموذج القصير للحوار بين السيد علي وإبراهيم عبد اللطيف حول الترتيب للانتقام من أبي العز ورجاله :

" وبعد فترة صمت همس السيد علي :

ـ ولكم في القصاص حياة .

نظر إليه إبراهيم في إمعان وقال :

ـ لقد فرضوا علينا القتال .

ـ لكنك لا تحب إراقة الدماء .

ـ العين بالعين .. " (15) .

وتستخدم الرواية الحلم وسيلة من وسائل البناء الروائي للدلالة على المستقبل والأحداث التالية ، أو تمهيدا لها ، كما نرى في الحلم الذي رآه إبراهيم بعد صلاة الفجر ، وكان يشير إلى وفاته (16) .

وكما نرى ، فإن الوصف والحوار والحلم وغيرها من وسائل البناء والصياغة الروائية تسعى إلى حيوية النصّ واستمرارها ، وبخاصة أن الرواية اعتمدت على السرد بضمير الغائب الذي يمثل عبئاً بلا ريب على الكاتب غير الموهوب .. ولكن نجيب الكيلاني استطاع بقدرته الحِرفيّة تجاوز ذلـك العـبء بالعديــد من الوسائل والعناصر الفنية المختلفة والناجحة أيضاً .

ونستطيع أن نضيف إلى هذه العناصر وتلك الوسائل التضمين بالشعر والموال ومراثي الموتى التي تعرف في الريف " بالتعديد " ، والتضمين يشيع بغزارة في معظم روايات نجيب الكيلاني ، إن لم يكن كلها ، ويمثّل في حقيقة الأمر جزءاً من النسيج الرّوائي لأنّه يدخل في السياق السردي بإحكام . ويعطي للنصّ مذاقاً خاصّاً يميّزه ، وإذا عرفنا أن الكاتب لا يختار نصوصه الشعرية أو الزجلية المضمّنة اختياراً عشوائياً ، وإنما يختارها بوعي وإتقان ، أدركنا في النهاية ، مدى قدرة الكاتب وخبرتـه فــي مــجال الحرفــة الروائيـة . إنــه ـ بالنسبة للزجل مثلاً ـ لا يختار أية مقطوعة ، ولكنه يسعى إلى المقطوعة الدالة زمنيا ومعنوياً لتحدث أثرها المباشر في النصّ الروائي ، أو ليحدث المفارقة المطلوبة . على سبيل المثال، فإن " محمد بن بحراوية " شيخ الخفراء لدى أبي العز سليم ، يتغنى بموال " أدهم الشرقاوي " المشهور الذي يقول : " منين أجيب الناس لعنات الكلام يتلوه " ، وفي أثناء ذلك يباغته الملثمون ويختطفونه ! وهناك مواويل أخرى وأغان شعبية بنت ذلك الزمان الذي جرت فيه الرواية ولها دلالات نفسية وعاطفية واجتماعية عميقة ، فضلاً عن احتوائها على البعد الحزين الذي يميز الحياة المصرية منذ فجر التاريخ :

يا عيني روحي لحمّال الهموم وشوفيه

شويه يا عين مات ولاّ الروح لسّه فيه

يا ما قالت العين حبيبي حبيبي ربنا يشفيه

ويطلع " السوق " ويخطر مثل عاداته

" جمل المحامل " بِرِكْ شمّت الأعادي فيه

يا عيني .. يا ليلي .. (17) .

لقد كان نجيب الكيلاني ـ يرحمه الله ـ يملك ذاكرة حافظة تمتلئ بآلاف الأبيات من الشعر والزجل والأغاني الشعبية الموروثة .. وقد وظّفها في رواياته بمهارة واقتدار .

وبعــــد :

فإن " مملكة البلعوطي " حلم جميل ، وواقعي ، بصنع القرية الفاضلة ، وسط أعاصير الظلم والقهر والأنانية ، وقد جاء هذا الحلم في إطار فني راق ، أضاف لمؤلفه لبنة جديدة من اللبنات العديدة التي أرساها في مجال الفن الروائي عامة ، والرواية الإسلامية خاصة .

من بحوث (الملتقى الدولي الثالث

للأدب الإسلامي بأكادير) .





الهوامــــــش
(1) صدرت عن مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1415هـ / 1994م ، وتقع في 309 صفحات من القطع الصغير 10 × 10 سم .

(2) قيد النثر عن رابطة الأدب الإسلامي العالمية ، مكتب البلاد العربية ، ويتوقع صدورها قريبا إن شاء الله تعالى .

(3) من المفارقات أن بطل الرواية " إبراهيم عبد اللطيف " ـ وهو جدّ الكاتب في الحقيقة ـ يموت بمرض السرطان الذي أصاب البنكرياس ، وهو المرض ذاته الذي مات به نجيب الكيلاني . وكأن التاريخ يعيد نفسه حيث يسعى أبناء إبراهيم عبد اللطيف إلى إنقاذ أبيهم من المرض بكل ما يملكون ، وهو الشيء ذاته الذي فعله أبناء نجيب الكيلاني ، ولكن قدر الله كان أقوى من الجميع .

(4) يلاحظ أن بداية الأحداث المؤثرة كانت في السوق الذي يقام في قرية " سنباط " ، والسوق مجمع طبقات المجتمع كلها من شتى المستويات ، فضلاً عن أنه يضم عناصر أجنبية كانت تقيم في مصر منذ بداية الاحتلال حتى رحيله ، وتضم جنسيات أوربية مختلفة يُطلقُ عليهم اختصاراً هم " الخواجات " ، وفضلاً عن ذلك ، فإن " سنباط " نفسها كانت القرية الوحيدة التي تضم حيّاً للنصارى حيث يعيشون مع إخوانهم المسلمين في سلام ووئام .. ومن ثم يمكن القول إن المكان في الرواية من خلال سنباط وما حولها يمثل بيئة متكاملة تضم شتى عناصر المجتمع وطبقاته


https://www.khayma.com/almishkat/Num/...Maqal36/M6.htm









رد مع اقتباس
 

الكلمات الدلالية (Tags)
مرجع, يبدة, ساساعده


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 14:18

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc