" تسلية أهل المصائب بذكر فضل الزهد في الدنيا والتسلية عنها والرغبة في الآخرة "
قال الله تعالى : " قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا "
فالاستمتاع بالدنيا قليل ، ومتعتك بها قليل من قليل ، وثواب الآخرة خير وأفضل لمن اتقى المعاصي ، وأقبل على الطاعات .
فإن الدنيا دار قلعة وزوال ، ومنزل نقلة وارتحال ، ومحل نائبة وامتحان ، ومتاع غرور وافتتان . فلا ييأس على ما فات منها ، ولا يُفرح على ما وجد منها ، ولا يجزع على ولد أو نفس تموت ، ولا يحزن على أمر يفوت .
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي ، فقال : " كن في الدنيا كأنك غريب ، أو عابر سبيل " وكان ابن عمر يقول : إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك . رواه البخاري .
قال جماعة من العلماء في تفسير هذا الحديث : لا تركن إلى الدنيا ، ولا تتخذها وطنا ، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها ، ولا بالاعتناء بها ، ولا تغتز بها ، فإنها غَرَّارة خداعة . ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه ، ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله ، وبالله فاستعن .
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه ، قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يقرأ : " ألهاكم التكاثر " . قال : " يقول ابن آدم : مالي . مالي . وهل لك يابن آدم من مالك ، إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت " .
وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه ، قال : جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ، وجلسنا حوله ، فقال : " إنّ مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها " .
وفي صحيح مسلم عنه أيضا ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الدنيا حُلوة خَضِرة ، وإن الله مستخلفكم فيها ، فينظر كيف تعملون ، فاتقوا الدنيا ، واتقوا النساء " .
وفي مسلم أيضا ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة ، فيصبغ في النار صبغة ، ثم يقال : يابن آدم ، هل رأيت خيرا قط ؟! هل مر بك نعيم قط ؟! فيقول : لا ، والله يا رب . ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة ، فيصبغ في الجنة صبغة ، فيقال له : يابن آدم ، هل رأيت بؤسا قط ؟! هل مر بك شدة قط ؟! فيقول : لا ، والله ما مر بي بؤس قط ، ولا رأيت شدة قط " .
وإنه لمن العجب أن ترى العبد يصدق بدار الخلود ، وهو يسعى لدار الغرور !
فمن أحبه الله حماه الدنيا ، كما يحمى أحدكم مريضه الماء .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : من زهد في الدنيا هانت عليه المصائب ، ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات .
وقال الحسن البصري رحمه الله : والذي نفسي بيده ، لقد أدركت أقواما ، كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي تمشون عليه .
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله : علامة السعادة : اليقين في القلب ، والورع في الدين ، والزهد في الدنيا ، والحياء ، والعلم .
وأخيرا من بذل وسعه في التفكر التام علم أن هذه الدار رحلة ، وأن مبدأ السفر ، من ظهور الآباء ، إلى بطون الأمهات ، ثم إلى الدنيا ، ثم إلى القبر ، ثم إلى الحشر ، ثم إلى دار الإقامة الأبدية . دار المؤمنين ، دار السلام من جميع الآفات ، وهي دار الخلود . فالعدو سبانا إلى دار الدنيا ، فنجتهد في فكاك أسرنا ، ثم في حث السير إلى الوصول إلى دارنا الأولى . وفي مثل هذا يقول ابن القيم رحمه الله في نونيته :
فحيَّ على جناتِ عدنٍ فإنها *** منازلُك الأولى وفيها المخيمُ
لكننا سبي العدو فهل ترى *** نعود إلى أوطاننا ونسلمُّ
والحمد لله رب العالمين أولا وآخرا ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
https://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=181376