منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - لكل من يبحث عن مرجع سأساعده
عرض مشاركة واحدة
قديم 2012-03-18, 22:12   رقم المشاركة : 756
معلومات العضو
hano.jimi
عضو محترف
 
الصورة الرمزية hano.jimi
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة laysa مشاهدة المشاركة
السلام عليكم أنا طالب سنة أولى علوم انسانية ارجو المساعدة في بحث بعنوان مجتمع الاعلام والمعلومات.وشكرا
حركات المقاومة للدولة الموحدية (حركة بني غانية نموذجاً)

الدكتور عبد القادر عثمان محمد جاد الرب
جامعة أمدرمان الإسلامية ـ السودان

ينتمي بنو غانية إلى قبيلة مسوفة البربرية. وسلفاهم هما يحيى ومحمد ابنا علي بن يحيى المسوفي، اشتهرا بابني غانية نسبة إلى أمهما غانية. حظي والدهما بمنزلة رفيعة في الدولة المرابطية، الأمر الذي مهد لهما الطريق لتسلق سلم المجد بخطى سريعة وثابتة. عُيِّن يحيى، وهو أكبرهما ويجمع بين السيف والقلم، والياً على غرب الأندلس عام 520 هـ/ 1126 م من قبل الخليفة المرابطي علي بن يوسف (ت 537 هـ/ 1142 م)، وظل في منصبه حتى وفاته بمدينة غرناطة (Granada) عام 543 هـ/ 1148 م.
تميزت فترة يحيى باستتباب الأمن، نسبيّاً، في منطقة حكمه، والاهتمام بإصلاح حال الرعية. وقد كان يعاونه في ذلك أخوه محمد، الذي كان والياً من قبله على قرطبة (Gordova). لم يخلف يحيى عقباً يحل مكانه. وقد بدأت أحوال الأندلس تضطرب بعد وفاته، وتسير في غير صالح المرابطين([1]).
أما عن مصير محمد بعد وفاة أخيه يحيى، فقد تضاربت حوله الروايات. فهناك رواية تقول إنه قد درس أحوال الأندلس بتمعن وتبصر، فخلص إلى نتيجة مفادها أن الرياح ستهب في غير اتجاهه في نهاية المطاف، وأن الحكمة تقتضي البحث عن مكان آمن، والقيام بالتحركات اللازمة التي من شأنها ضمان أمنه وأمن أسرته وخاصته وممتلكاته، واستمرار مصالحه. فوقع اختياره على جزيرة ميورقة (Mallorca)، فارتحل إليها وملكها؛ كما ملك الجزيرتين المجاورتين لها: مِنُورقة (Ménorca) ويابسة. وهذه الجزر الثلاث من جزر البحر الأبيض المتوسط. أما عن الكيفية التي ملك بها هذه الجزر، فيشير المراكشي إلى أن الخليفة علي بن يوسف قد نفاه إليها([2])، دون أن يوضح أسباب النفي، في حين يقول ابن خلدون إن النصارى حينما استولوا على ميورقة وقتلوا عاملها، ثم استعادها المرابطون، وعينوا عليها وانور بن أبي بكر اللمتوني، فكر هذا الأخير في ترحيل أهلها إلى مكان برِّيٍّ آمن ـ ويبدو أن صعوبة وصول الإمدادات العسكرية إلى الجزيرة، وتحرش الأعداء بها هما اللذان دفعاه إلى ذلك ـ، فشاور أهلها، فلم يستحسنوا الفكرة، وعارضوه بقوة، ثم راسلوا الخليفة علي بن يوسف وشرحوا له الأمر، فعزله، وعين عوضاً عنه محمد بن علي بن غانية، وكتب لأخيه يحيى بن علي غانية ليخلي سبيله، وقد كان. وبعد وصول محمد إلى ميورقة، وضع الأغلال على وانور، وأرسله إلى مراكش([3]).
رزق محمد بن علي من الأبناء: عبد الله وإسحاق والزبير وطلحة وعدداً من البنات. أما أخوه يحيى، فقد كان عقيماً. لذلك بعد وفاته، عُيِّن على غرناطة (Granada) وقرمونة([4]) (Carmona) اثنان من أبناء أخيه محمد، ولكن الأخير استدعاهما للالتحاق به بميورقة بعد وفاة الأمير علي بن يوسف سنة 537 هـ/ 1142 م، واضطراب الأحوال بالأندلس. وبرحيلهما انطوى مُلْكُ لمتونة([5]) بالأندلس([6]). وفي ميورقة استمر بنو غانية في الدعوة للعباسيين جرياً على عادة أسلافهم المرابطين.
حاول محمد بن علي حسم مسألة الولاية من بعده في حياته، فاختار ابنه عبد الله خليفة له. لكن ابنه إسحاق لم يرضه الاختيار، فنفس على أخيه عبد الله، ثم اغتاله هو ووالده بمساعدة بعض اللمتونيين الموالين له، واستبد بالحكم، وذلك في عام 546 هـ/ 1151 م.
قام إسحاق بتنظيم الإدارة، وضبط الأمن، كما اهتم بتهيئة الظروف الملائمة للمحتمين به. لذلك أصبحت ميورقة ( Mallorca) في عهده قبلة للمتونيين الفارين من بطش الموحدين، والرافضين للخضوع لسلطة الأخيرين. كان إسحاق مهتمّاً بالجهاد، ويظهر ذلك من غزوه لبلاد الروم مرتين في العام. وقد كان هذا الغزو يعود عليه بغنائم كثيرة؛ لذلك كثر ماله وتشبه بالملوك([7]).
خلف إسحاق ابنه محمد، الذي خلعه إخوته بعدما اطلعوا على مبايعته للموحدين، وعينوا أخاه عليّاً مكانه([8]).
أدّى الاختلاف في الانتماء القبلي بين الموحدين والمرابطين (حيث ينتمي مؤسس الدولة الموحدية إلى قبيلة هرغة([9]) ـ أحد فروع مصمودة ـ وخليفته عبد المؤمن بن علي، الذي استمر حكم الدولة حكراً على عقبه، إلى قبيلة كومية([10])؛ بينما ينتمي بنو غانية والمرابطون إلى قبيلة لمتونة) والاختلاف في الانتماء المذهبي (حيث يتبنى الموحدون مذهباً يعتمد على الكتاب والسنة ويرفض ما عداهما، بينما يتبنى المرابطون وبنو غانية المذهب المالكي) ورغبة بني غانية في الثأر لبني عمومتهم حكام الدولة المرابطية، ولأنفسهم، واستعادة مجدهم المسلوب، أدى ذلك كله دوراً بارزاً في تحديد نوعية العلاقات السياسية بين بني غانية والموحدين، وتوجيهها وتغذيتها.
اتسمت العلاقات السياسية بين إسحاق بن محمد بن علي بن غانية والموحدين بتبادل الود والاحترام، حيث اعترف الأول بسلطة الأخيرين على إمارته منمنياً عن طريق الهدايا التي كان يرسلها إليهم، والتي كانت تتضمن التحف والعلوج. أما الموحدون، فقد اكتفوا بهذا القدر من العلاقة مع إسحاق في هذه المرحلة الأولى، منتظرين اللحظة المناسبة لمطالبته باعتراف مباشر بسلطتهم عليه. وبالفعل، فقد راسلوه في عام 578 هـ/ 1182 م، مطالبين منه المبايعة والدعوة لهم في إمارته. فجمع إسحاق وجهاء قومه وعليتهم وخاصته، وشاورهم في الأمر، فتفرقت كلمتهم أيدي سبا. فاضطر إلى تأجيل الأمر إلى أن تأتي اللحظة المناسبة. غير أن المنية اختطفته في عام 579 هـ/ 1183 م في إحدى غزواته للروم([11]).
خلف إسحاق ابنه محمد، فراسل الموحدين مبايعاً، من غير أن يعلم إخوته، أو يستشيرهم في ذلك. فبعث إليه الموحدون وفداً برئاسة القائد أبي الحسن علي بن الربرتير([12])، للتأكد من حسن نواياه. فلما علم إخوة إسحاق بالأمر، جردوه من السلطة، وعينوا أخاه عليّاً عوضاً عنه. ولما علموا بوفاة الأمير أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن في 18 ربيع الآخر 580 هـ/ 29 يوليوز 1184 م، وضعوا ابن الربرتير في الحبس([13]).
يشكل اختيار بني غانية لأخيهم علي للولاية بميورقة البداية الحقيقية لتوتر العلاقات بينهم وبين الموحدين وتحولها إلى نزاع مسلح. فقد انتهز علي فرصة انشغال الموحدين بوفاة الأمير يوسف بن عبد المؤمن، والبيعة لابنه يعقوب المنصور ووجود معظم جيوشهم بالأندلس، فهاجم مدينة بجاية([14]) واستولى عليها، ثم وضع كل من وجده بها من الموحدين في الحبس، وذلك في عام 581 هـ/ 1185 م. فهل كان اختياره لبجاية خبط عشواء؟
اعتبرت بعض المصادر المعاصرة للفترة موضع الدراسة، والتي يتميز كتابها بالانحياز للدولة الموحدية، بأن احتلال ابن غانية لبجاية مؤامرة ساهم في تدبيرها وتنفيذها معه بقايا بني حماد([15]) الكائنين بالمدينة؛ ثم تبنّت وجهة نظرهم هذه بعض المصادر التي جاءت بعدها([16]). يرى الدكتور عبد الهادي التازي أن ملك صقلية (Sicilia) كان طرفاً في هذه المؤامرة، التي كان يرجو من خلالها استعادة هيمنته على المدن الساحلية الإفريقية، وبسط سيطرته على طرق التجارة المارة بها([17]). ويؤيد وجهة النظر هذه ما أورده ابن جبير في رحلته، والذي مفاده أن ملك صقلية غليام أصدر أوامره بمنع جميع السفن الراسية بمملكته من التحرك، إلا بعد تحرك أسطوله الذي أعده، والذي يريد توجيهه إلى منطقة ما قيل إنها إفريقية. وكذلك تزامن هذا المنع مع ورود أنباء من المغرب مفادها استيلاء ابن غانية على مدينة بجاية([18]).
بعد أن ثبت ابن غانية أقدامه ببجاية، وأعاد الدعوة للعباسيين بها([19])، جرياً على نهج أسلافه المرابطين، فكر في الاستيلاء على مدن المغرب الأوسط: فتحرك بجيوشه، واستطاع الاستيلاء على مدينة الجزائر، ومليانة([20]) وقلعة بني حماد([21]). وبهذا يكون قد امتلك كل أعمال بجاية إلا مدينة قسطنطينة([22]) الهوى، التي استعصت عليه، فضرب عليها حصاراً([23]).
نجح ابن غانية في اقتطاع أجزاء من دولة الموحدين وضمها لملكه، وفي الوقت نفسه شغلهم عن مهاجمة ميورقة ـ دار ملكه ـ، مهتدياً بالمثل القائل: الهجوم خير وسيلة للدفاع([24]). ولكن هل دام نجاحه؟
كان يعقوب المنصور بسبتة (Seuta) حينما كان ابن غانية يصول ويجول بالمغرب الأوسط. فأتته الأخبار هنالك. فأعد جيشاً أسند قيادته إلى السيد أبي زيد بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن. كما أعد أسطولاً بحرياً بقيادة أبي إسحاق بن جامع، ومعاونة أبي محمد بن عطوش، وأحمد الصقلي، وأمر الجميع بالتوجه للمغرب الأوسط لكسر شوكة ابن غانية.
نزل الأسطول بالجزائر فامتلكها بسهولة ويسر؛ ثم تحرك نحو بجاية فاستردها، ولم يكن أمام عاملها يحيى بن غانية إلا اللحاق بأخيه علي الذي كان محاصراً لمدينة قسطنطينة (قسنطينة).
أما السيد أبو زيد، فقد حطت رحاله بمدينة تلمسان([25])، التي كانت تحت ولاية أخيه أبي الحسن. وربما يكون ذلك للتشاور معه في الاستراتيجية التي سيتخذها لمواجهة الأعداء، بحكم أنه أقرب إلى مسرح الأحداث، وأعلم بجغرافية المنطقة ومشاعر أهلها اتجاه الموحدين وخصومهم. ثم تحرك من تلمسان معلناً العفو عن كل من ثاب إلى رشده، وجدد ولاءه للدولة من المتمردين، بصفة ذلك استراتيجية لشق صفوف الأعداء وتفريق كلمتهم، فنزل بقسطنطينة، وفك حصارها. فلم يكن أمام ابن غانية من سبيل إلا اللوذ بالصحراء. فتبعته الجيوش الموحدية إلى مدينة مقرة([26]) ونقاوس([27])، ثم رجعت إلى بجاية واستقرت بها، ومنها استطاعت استرجاع أشير([28])، التي استولى عليها غزي الصنهاجي، أحد قواد ابن غانية، وقتله([29]).
بعد نجاح الموحدين في استرداد بجاية ونواحيها، رأى يعقوب المنصور بثاقب فكره، ضرورة القيام ببعض التغييرات الإدارية والسياسية في إفريقية من أجل ضمان استتباب الأمن بها، وإخماد نار الفتنة في مهدها إذا اشتعلت من جديد، فاستدعى أبا زيد لمراكش، وعين في مكانه أخاه عبد الله، كما أجبر بني حمدون على بيع ديارهم وأملاكهم ببجاية بثمن بخس، ثم رحّلهم إلى مدينة سلا، وذلك لاشتباهه في ولائهم لدولته، وتعاطفهم مع بني غانية. أما ميورقة، فقد استطاع ابن الربرتير أن يفلت من معتقله بها بمساعدة بعض الميورقيين، ثم توجه نحو مراكش. ولما علم علي بن غانية بذلك، أرسل أخاه عبد الله إلى ميورقة، فاستطاع تهدئة الأحوال بها وإعادة المياه إلى مجاريها([30]).
وضع الموحدون خططهم وتدابيرهم ـ كما رأينا ـ لإحكام قبضتهم على إفريقية وتوابعها. فهل وضعت هذه التدابير حدّاً لأطماع ابن غانية وحلفائه في المنطقة؟
لم تثن الهزائم التي لحقت بابن غانية من عزمه على الثأر من الموحدين، بل زادته إصراراً. لكنه لما رأى استحالة استعادة سيطرته على بجاية ونواحيها، لتمركز جيوش الموحدين بها، نقل مسرح عملياته إلى إفريقية وطرابلس، ليبقى بعيداً عن مراكز قوة الموحدين، ولينظم صفوفه. فاستطاع الاستيلاء على مدينة قفصة([31])، لكن مدينة توزر استعصت عليه، فتركها وانتقل إلى طرابلس([32]).
وجدت حركة ابن غانية في إفريقية تربة خصبة، حيث انضاف إليها الترك الذين جاءوا من مصر مع قائد يسمى قراقوش. أما عن سبب مجيئهم إلى إفريقية، فيقال إن صلاح الدين الأيوبي بعدما انتزع مصر من الفاطميين عام 567 هـ/ 1171 م، فكر في احتلال إفريقية لتكون ملجأً له في حالة سير الأوضاع في مصر في غير صالحه. وقد استطاع هؤلاء الأتراك الاستيلاء على زويلة([33]) وفزان([34]) وودان([35]) وطرابلس. أما انضمامهم إلى ابن غانية، فقد قيل إنه تم بتوجيه من صلاح الدين الأيوبي، الذي راسله الخليفة العباسي راجياً مد يد العون والمساعدة لابن غانية، الذي يعتبر انتصاره انتصاراً للدولة العباسية، لأنه يدين لها بالولاء والطاعة([36]).
انضم إلى ابن غانية، أيضاً، بنو سليم([37])، وجملة من أعيان الأندلس القاطنين بإفريقية، من بينهم مالك بن محمد بن سعيد العنسي([38]). هذا، إضافة إلى استمرار دعم النورمانديين حكام صقلية له([39])، والمعونات التي تصله من ميورقة، التي كانت مركزاً لمعارضي الموحِّدين، ومقرّاً للمعونات والتنسيق بين ابن غانية وحلفائه من الأوروبيين.
شعر ابن غانية في إفريقية بقوة مركزه، فتلقب بأمير المؤمنين([40])، ليعطي سلطته السند الديني والشرعية لمقاتلة من يمتنع عن مبايعته. ثم زحف بجيوشه نحو بلاد الجريد([41])، فاستولى على كثير منها([42])، ودخل جزيرة باشرا، التي توجد بالقرب من تونس، فخربها، ونهب أموال أهلها، على الرغم مما أعطاه إيّاهم من أمان. وفي 582 هـ/ 1186 م، توجه نحو قفصة، فأحكم حصارها، ثم دخلها فأخلاها من أهلها ومن جنود الموحدين، وعمرها بجند من الأتراك واللمتونيين وحصنها بالرجال([43]). وبذلك تكون كل مواضع إفريقية قد خضعت له إلا مدينتا تونس والمهدية([44]). فما موقف الموحدين من ذلك؟
لم تكن إفريقية في وضع عسكري يسمح لها بالتصدي لابن غانية، خاصة بعد التأييد والدعم العسكري الذي وجده من الأتراك الموجودين بطرابلس وعرب بني سليم وغيرهم، والنجاحات التي حققها على الأرض. لذلك كتب عاملها إلى الأمير يعقوب المنصور مخبراً بما أحدثه ابن غانية من فوضى ودمار بإفريقية. فأعد المنصور، على الفور، جيشاً، وقاده بنفسه، وتحرك من مراكش في شوال 582 هـ/ ديسمبر 1186 م، وقيل صفر 583 هـ/ 1187 م. وحينما وصل إلى مدينة فاس، استراح بها قليلاً، ثم توجه إلى رباط تازا([45])، فتونس. أما ابن غانية، فلما علم بزحف المنصور نحوه، قام بتنظيم أتباعه، وتمكن بكل سهولة من إلحاق الهزيمة بالجيش الموحدي الذي أرسله المنصور إليه بقيادة السيد أبي يوسف يعقوب بن السيد أبي حفص عمر بن عبد المؤمن في وقعة عمرة، من نظر قفصة. فامتلأت أيديه بالغنائم، وأسر وقتل كثيراً من وجهاء الموحدين وعامتهم، ورجع الناجون إلى تونس([46]).
لما وصلت أنباء الهزيمة إلى يعقوب المنصور، قام باستجماع أنفاسه وتنظيم صفوف جيشه، ثم توجه مسرعاً نحو ابن غانية، ليتلافى الأمر قبل أن ينفلت الزمام من بين يديه. فحل بالقيروان، ثم توجه منها نحو ابن غانية، فالتقى به في مكان يقال له حامة دُقبوس، فهزمه وأصحابه شر هزيمة، ولم يكن أمامه هو وصاحبه قراقوش إلا الفرار. ثم توفي بعد فترة قصيرة متأثراً بجراحه. فقدم إخوته أخاهم يحيى خلفاً له، ثم لاذوا بالفرار إلى الصحراء. أما المنصور، فقد استطاع استرداد قابس وتوزر وقفصة، ثم رجع إلى تونس، وعقد على إفريقية للسيد أبي زيد بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن، الذي له معرفة سابقة بأحوال إفريقية، ثم رجع إلى المغرب في عام 584 هـ/ 1188 م مارّاً بمدينة المهدية([47]).
أخذ بعض المؤرخين على يعقوب المنصور عدم متابعته لابن غانية في الصحراء، لأن ذلك ـ في رأيهم ـ كان سيمكنه من القضاء عليه وعلى حركته نهائياً([48]). ولكن يبدو أن هذه الفكرة لم تكن غائبة عن ذهنه، وإنما كان يعلم صعوبة تنفيذها، لتمرس أنصار ابن غانية من بني سليم وغيرهم بأساليب العيش والسير في الصحراء، ومعرفتهم لدروبها وأسرارها.
وفي عام 585 هـ/ 1189 م، عبر المنصور إلى الأندلس مجاهداً لما علم بتدهور الأحوال هناك. وبعد التمكن من إصلاح الأحوال، رجع إلى المغرب، حيث أتته الأخبار في العام نفسه بظهور يحيى بن إسحاق بن محمد بن علي بن غانية وأعوانه بإفريقية، فزحف نحوها. ولما دخل تونس، وجد إفريقية هادئة، لهروب ابن غانية إلى الصحراء بعدما سمع بخبر قدومه وتأكد من ضعفه أمامه([49]). ولكن الأوضاع تأزمت مرة أخرى في عام 589 هـ/ 1193 م بإفريقية والأندلس. فقرر يعقوب المنصور التوجه نحو الأندلس، لأن الصراع هناك صراع عقديٌّ، بينما هو في إفريقية سياسي([50]).
فانتهز ابن غانية وأعوانه الفرصة، فعاثوا في إفريقية فساداً، بل ذهبوا أبعد من ذلك فأعلنوا أن وجهتهم بجاية؛ وإذا سقطت في أيديهم، فسيتجهون صوب المغرب. ولما وصلت هذه الأنباء إلى يعقوب المنصور، تنازل عن تشدده مع نصارى الأندلس، وتصالح معهم على شروط معينة، ثم غذَّ السير نحو المغرب، فعاجلته المنية في 18 ربيع الآخر 595 هـ/ 17 فبراير 1199 م، وقيل 18 جمادى الأولى 595 هـ/ 18 مارس 1199، قبل أن يصطدم بابن غانية([51]). وهنالك من يرى أنه أعد العدة للتوجه نحو إفريقية، إلا أن جنده توسلوا له أن يمهلهم حتى العام القادم، ليتمكنوا من الالتقاء بأسرهم وإصلاح أحوالها. فاستجاب لطلبهم، لعلمه بطول مرابطتهم بالأندلس. وفي هذه الأثناء وافته المنية، فترك حسم المسألة الإفريقية لخلفه ابنه الناصر محمد([52]).
كثر شغب الميورقيين بإفريقية في بداية عهد الناصر، مستفيدين في ذلك من انشغال الموحدين بوفاة المنصور. إلا أن عهد الناصر يعتبر من الناحية العملية العهد الذي شهد ميلاد سياسة حكيمة، كانت ثمارها تقليم أظافر الميورقيين، وكسر شوكتهم، وتشتيت شملهم، وتوزيع جهودهم. وتتمثل هذه السياسة في مهاجمة معقلهم ومقر دولتهم بميورقة، وفي الوقت نفسه تتبّعهم ومطاردتهم عسكرياً بإفريقية، واختيار والٍ ذي كفاءات عسكرية وسياسية عالية، وبصلاحيات واسعة لحكم إفريقية.
ذكرنا في ما سبق الدور السياسيّ والاقتصاديّ والنفسيّ الذي كانت تؤديه ميورقة، بصفتها قاعدة لملك أبناء غانية، وحلقة اتصال وتنسيق بينهم وبين مؤيديهم وحلفائهم من المسلمين والنصارى، في دعم حركتهم المناهضة للموحدين بإفريقية والمغرب الأوسط. ونضيف إلى ذلك أن ميورقة، بحكم موقعها الجغرافي، كانت تؤدي دوراً هاماً في حركة التجارة بين الشمال والجنوب. هذا، إضافة إلى قربها من الأندلس، الأمر الذي يجعل منها خطراً حقيقيّاً على الوجود الموحدي لهذا الأخير، والمصالح التجارية للموحدين بحوض البحر الأبيض المتوسط.
كان الموحدون على وعي تام بأهمية ميورقة وخطورتها على مستقبلهم السياسي. لذلك تكررت مساعيهم، وتعددت وسائلهم للاستيلاء عليها. ولكن هل كللت بالنجاح؟
حكى ابن خلدون أن علي بن غانية وأخاه يحيى لما استقرا بإفريقية، تركا على ميورقة أخاهما طلحة. وفي عهد هذا الأخير، استطاع أخوه محمد وعلي بن الربرتير الخروج من معتقلهما بمساعدة بعض موالي بني غانية. فاستطاع محمد الاستيلاء على السلطة بميورقة، ثم راسل يعقوب المنصور طالباً منه المجيء لاستلام الجزيرة. لكن لما جاء أسطول المنصور بصحبة ابن الربرتير، رفض محمد الوفاء بوعده، واستعان بملك برشلونة (Barcelona) فأعانه، فأغضب فعله هذا رعيته، فثاروا في وجهه، وطردوه، وولوا تاشفين بن غانية مكانه([53]). واضح هنا أن ابن خلدون يتحدث عن مؤامرة دبّر فصولها الموحدون، ونفذها عملاؤهم بميورقة. أما المراكشي، فقد أورد رواية مخالفة لذلك، تقول إن عبد الله بن غانية قد رحل إلى ميورقة لما آلت قيادة الميورقيين إلى أخيه يحيى، فوجدها قد دخلت في نطاق دولة الموحدين، باعتراف أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن غانية بسلطتهم عليها. ولكن عبد الله استطاع انتزاع السلطة من أخيه محمد بمساعدة نجاح، أحد علوج والده، ونفيه إلى الأندلس، فأكرمه الموحدون هنالك وولوه مدينة دانية(Daٌa)([54])، وهي مدينة ساحلية من مدن شرق الأندلس، وميناؤها جيد([55]).
تواصلت محاولات المنصور للاستيلاء على ميورقة، لكنها لم تحقق هدفها. أما ابنه وخليفته محمد الناصر، فقد سار على نهج أبيه تجاه ميورقة؛ إلا أنه أحاط غزوته لها في عام 599 هـ/ 1202 م بالسرية التامة. فتوجه نحو فاس. وللتمويه، فقد أشاع أن قبلته هي إفريقية، لتخليص واليها الذي وقع في قبضة ابن غانية، لكنه أصدر أوامره من هنالك بإرسال جيش وأسطول لفتح ميورقة، وأسند قيادة الأول إلى أبي سعيد عثمان بن أبي حفص، أحد كبار شيوخ الموحدين، والثاني إلى عمه أبي العلاء، إدريس بن يوسف بن عبد المؤمن، فاستطاعا فتحها، وقتل واليها عبد الله بن إسحاق في ذي الحجة 599 هـ/ أغسطس 1203 م، فولى عليها عبد الله بن طاع الله الكَومي([56])، فظلت في يد الموحدين إلى أن انتزعها منهم الملك جيم (Jaime)، ملك أرغون (Arragon)، في عام 628 هـ/ 1230 م، وكان واليها وقتذاك أبو يحيى بن علي بن أبي عمران، وقيل في 11 صفر 627 هـ/ 31 ديسمبر 1229 م([57]).
ظهرت في إفريقية في عهد الناصر بوادر الخلاف بين الموحدين. فوفقاً لما أورده ابن الأثير، فإن محمد بن عبد الكريم، قائد جيش الموحدين بالمهدية، قد اختلف مع أبي سعيد عثمان، عامل تونس، واعتقل أخاه أبا علي والي المهدية ولم يطلق سراحه إلا بعد أن فدى نفسه بمبلغ من المال. ولما علم بعزم أبي سعيد على حربه، بايع ابن غانية، فتراجع أبو سعيد عن قراره. ولما آلت الخلافة للناصر، أرسل أسطولاً وجيشاً لحرب ابن عبد الكريم. فاعتذر الأخير وألقى اللوم على عامل تونس، فتقبله الناصر([58])، وأكرمه كعادة الموحدين في معاملة خصومهم. وإذا كان ابن عبد الكريم لم يحقق أي مكاسب سياسية من وراء حركته، فإنه ساهم في إضعاف موقف الموحدين بإفريقية والتمكين لابن غانية بها([59]).
أما يحيى بن إسحاق بن محمد بن علي بن غانية، فلما تغلب على المهدية وعلى قراقش الغزي، صاحب عمل طرابلس، وعلى بلاد الجريد نازل تونس عام 599 هـ/ 1202 م، وفتحها عنوة، وتقبض على واليها السيد أبي زيد، وطالب أهلها بالنفقة، وترك كاتبه ابن عصفور لجمعها. فعلا صيته في الآفاق وتسارعت المدن في الانضمام إلى دعوته، فبايعه أهل الأربض([60]) وشقبنارية([61]) وتبسة([62]) إضافة إلى ما بيده من مواقع. وبذلك تكون كل أعمال إفريقية قد انتظمت في يديه. فاستقر بتونس، وبايع للخليفة العباسي([63]).
أثارت أفعال ابن غانية حفيظة الناصر، وأقضت مضاجعه، فاستشار خاصته في الأمر، فأشاروا عليه بمهادنة ابن غانية إلا الشيخ أبا محمد عبد الواحد بن أبي حفص عمر([64])، الذي أشار عليه بحربه، فانتصح له، فأعد العدة للحرب، ثم تحرك من مراكش بجيوشه نحو إفريقية، وأعطى أوامره لأسطوله بالتحرك أيضاً، وكان ذلك في عام 601 هـ/ 1204 م([65]).
لما علم ابن غانية بتحرك الناصر نحوه أرسل أمواله وممتلكاته وحرمه مع علي بن غازي بن محمد بن علي إلى المهدية وولاه عليها. وقد كان اختياره لها لحصانتها. بدأت سلطة ابن غانية تسير نحو التضعضع والانحلال: فقد انتفض عليه أهل طرابلس لما سمعوا بقدوم الموحدين، فقصدهم وخرب ديارهم. أما أسطول الموحدين، فقد نزل تونس، فخرج منها ابن غانية إلى القيروان، ثم إلى قفصة، حيث اجتمع حوله العرب وعاهدوه على الطاعة والمناصرة. فسار بهم نحو حمَّة مطماطة([66])، فجبل بني دمر الذي تحصن به. أما الناصر، فقد احتل تونس، وقتل من بها من أشياع بني غانية، ثم تتبع ابن غانية في قفصة وقابس، ثم عاد إلى المهدية، فأحكم حصارها، وأرسل جيشاً من أربعة آلاف مقاتل بقيادة الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص عام 602 هـ/ 1205 م لمتابعة ابن غانية. فالتقى به عند جبل تاجورة من نواحي قابس، فأوقع به، وقتل أخاه جبارة، وكاتبه ابن اللمطي، وعامله الفتح بن محمد، وفك السيد أبا زيد بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن من الحبس. ولقد غنم الموحدون كثيراً في هذه المعركة؛ فقد قيل إن حجم الغنائم قد بلغ ثمانية عشر ألفاً من أحمال المال والمتاع... ([67])
أما الناصر، فقد استمر في حصاره للمهدية، التي أبدى عاملها علي بن الغازي الملقب بالحاجّ مقاومة شديدة حتى لقبه الموحدون بالحاجّ الكافر، لكنه في نهاية المطاف استسلم لهم لما رأى أن المستقبل لهم، فأكرموه. فظل جندياً مخلصاً
لدولتهم إلى أن استشهد بمعركة العقاب([68]) ((Las Navas de Tolosa عام 609 هـ/ 1212 م. كان استرجاع المهدية في 27 جمادى الأولى 602 هـ/ 9 يناير 1206 م، فولى الناصر عليها محمد بن يغمور الهرغي، ثم رجع إلى تونس، ومكث بها حتى عام 603 هـ/ 1206 م، ومنها أرسل أخاه السيد أبا إسحاق لمطاردة ابن غانية، فتمكن من تدويخ ما وراء طرابلس، واستئصال شأفة بني دمر ومطماطة، وجبل نفوسة([69])، وسويقة بني مذكور([70])، ثم رجع إلى أخيه بتونس([71]).
بعد إسكات صوت الفتنة بإفريقية، واستقرار أوضاعها، نظر الناصر إلى ما بذل لأجل ذلك من جهود، ووضع في الحسبان أن ابن غانية لابد أن يعيد الكرة وأن وصول الإمدادات لإفريقية بصورة عاجلة سيكون أمراً صعباً، لبعد إفريقية من المغرب، ولظهور الفتن بالأندلس من حين لآخر، الشيء الذي سيشتت جهود الدولة، بل ربما يضطرها إلى التركيز على جهة، وترك الأخرى حتى ينجلي أمر الأولى، مما يتيح الفرصة للثوار بالجهة المهملة للتمكين لأنفسهم بها، ويضطر الجهات المحاصرة للاستسلام لهم.
وأمام هذه المصاعب، وجد الناصر نفسه، وهو المتمسك بالوحدة المغاربية، بل الإسلامية لأسلافه، أمام خيارين: التخلي عن إفريقية، أو إسناد إدارتها لوال كفؤ. فاختار الخيار الأخير، فأجال النظر والفكر للحصول على رجل يجمع بين فن الإدارة وحكمة السياسة ومكر الحرب وحيلها وخدعها والولاء للدولة، فوقع اختياره على الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص عمر. فهل كان عبد الواحد وخلفاؤه عند حسن الظن بهم؟
اعتذر الشيخ أبو محمد للناصر في بادئ الأمر لما عرض عليه ولاية إفريقية، لكنه اضطر إلى الموافقة أمام إصرار الأخير وموافقته على جميع شروطه التي تتلخص في العودة إلى المغرب بعد ثلاث سنوات وترك الحرية له في اختيار من يخلفه من رجال الموحدين وعدم تدخل الدولة المركزية في عملية التولية والعزل داخل ولايته وأن تكون له السلطة على من معه من العسكر([72]).
بعد تعيين الناصر للشيخ أبي محمد، تحرك نحو المغرب. فرافقه الشيخ أبو محمد إلى باجة([73])، ثم ودعه. وكان ذلك في يوم السبت 10 شوال 603 هـ/ 10 مايو 1207 م([74]).
أما ابن غانية، فقد ظهر بنواحي طرابلس، وبدأ ينظم صفوف أتباعه من عرب وغيرهم. فلما علم أبو محمد به، اتجه نحوه، والتقى به عند شبرو عام 604 هـ/ 1207 م، فهزمه هزيمة نكراء وغنم كثيراً من أمواله ومتاعه، ثم كاتب الناصر مبشراً بالفتح ومذكراً إيّاه بالوعد فيما شخص الفترة الزمنية للولاية. فرد عليه الناصر شاكراً ومعتذراً عن الوفاء، لانشغاله بالفتن بالأندلس. وتطييباً لخاطره، أرسل له مبالغ كبيرة من المال وكميات من العتاد الحربي والخيل والأكسية، لتكون عوناً له في مهمته، وكان ذلك في عام 605 هـ/ 1208 م([75]).
عاد ابن غانية مرة أخرى مصحوباً بأتباعه من العرب والملثمين، فدخل مدينة تاهرت([76])، فاستباحها، وغنم أهلها. لكن الشيخ أبا محمد اعترضه، وغنم ما عنده وفك سراح من اعتقلهم، فلاذ ابن غانية وأصحابه بالفرار إلى طرابلس، واعلن عزمه على معاودة الكرة نحو إفريقية، فتوجه إليه أبو محمد، والتقى به عند جبل نفوسة، فألحق به هزيمة نكراء، وقتل كثيراً من زعماء زناتة ولمتونة والعرب الذين كانوا في صفوف ابن غانية. فانصرف الأخير يجر أذيال الخيبة والهزيمة، وعلت رايات أبي محمد في الآفاق([77]).
توفي أبو محمد سنة 618 هـ/ 1221 م، فجُعِلَ أبو العلاء الكبير إدريس بن يوسف بن عبد المؤمن خليفة له. فظهر ابن غانية في عهده ببسكرة([78])، فأرسل إليه ابن أبي زيد مصحوباً بالعرب وهوارة بظعائنهم ومواشيهم. فالتقى الجمعان بمجدول([79]) في بداية عام 621 هـ/ 1224 م، فهُزِم ابن غانية. وفي هذه الأثناء، توفي أبو العلاء فرجع ابنه إلى تونس([80]).
وحينما آلت ولاية إفريقية إلى أبي محمد عبد الله بن أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص، ظهر ابن غانية ببجاية، ثم تدلس([81]). فتوجه أبو محمد إليه، لكنه رجع إلى تونس، بعد أن أعاد الأماكن التي احتلها ابن غانية، لسماعه بتوجه ابن غانية إلى سجلماسة([82]). وفي تونس غلبه أخوه أبو زكريا على الإمارة([83])، على أثر خلاف نشأ بينهما، سببه مطالبة الأخير الأول بنبذ طاعة الموحدين لقتل المأمون([84]) شيوخ الموحدين، ومحو اسم المهدي من العملة، وإنكاره عصمته([85]).
كرس أبو زكريا جهده لاجتثاث حركة ابن غانية. فتتبع أنصاره من العرب من أفارق سليم وهلال وغيرهم في جهات طرابلس والزاب وواركَلا([86])، فشردهم من هنالك، فظل ابن غانية مشرداً لا يهنأ به مقام إلى أن هلك في عام 631 هـ/ 1233 م([87])، وبذلك أسدل الستار على حركة بني غانية، وهدأت الأحوال بإفريقية.
هذا وتعتبر حركة بني غانية من أقوى الحركات الاستقلالية التي وقفت بقوة في وجه الموحدين بإفريقية. فقد استطاعت الاستمرار ما يقرب نصف قرن من الزمان. وهي فترة طويلة، إذا قيست بعمر الدول وقتذاك. وقد كان السر وراء ذلك تمتع قادتها بخبرة واسعة في شؤون الحرب والإدارة والسياسة، وقدرة على السرعة في التصرف، واتخاذ القرار وبجودة أسلوبهم الحربي. ويعرف الأسلوب الحربي الذي استخدمه بنو غانية في العرف الحربي اليوم بحرب العصابات. وهي حرب وقفت أمامها كثير من الدول اليوم عاجزة حائرة، على الرغم من التقدم التقني والعلمي في مجال صناعة الأسلحة وتدريب الجيوش الذي شهده هذا القرن. وقد كان اختيار بني غانية لهذا الأسلوب الحربي موفّقاً، لأنه جاء منسجماً مع تركيبة جيشهم، التي كان معظمها من العرب الذين لهم خبرة واسعة بطرق الصحراء والعيش فيها، وكيفية مواجهة الأعداء بها، والبربر الذين جمعوا بين حياة الجبال والسهول والصحراء.
وعلاوة على ما سبق، فقد كان للشعار الذي وظفه قادة الحركة ـ وهو الثأر للمرابطين وإعادة دولتهم، والدعوة للعباسيين ـ دوره في إعطاء الشرعية للحركة واستقطابها لمعارضي الدولة الموحدية. زد على ذلك العلاقات التجارية الواسعة والجيدة التي كانت تربط بين الحركة والعالم الخارجي، وسيطرتها على مناطق غنية بالواحات، وتمر بها طرق التجارة الذاهبة إلى إفريقيا جنوب الصحراء والآتية منها([88]). وفوق هذا وذاك، انشغال الدولة الموحدية بإطفاء الفتن بالأندلس، ومواجهة حركة الاسترداد الإسبانية المسيحية.
أما عن العوامل التي أدت إلى إضعاف الحركة وزوالها، فيمكن القول إن استيلاء الناصر على جزيرة ميورقة التي كانت لها أهميتها الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية في ما يخصّ دعم الحركة اقتصادياً وحربياً ومعنوياً كانت له انعكاساته السلبية على حاضر هذه الأخيرة ومستقبلها. هذا، إضافة إلى التركيز العسكري، والإصرار الموحدي المتواصل على إبعاد بني غانية وأعوانهم عن إفريقية وأعمالها، مهما كان الثمن، وتعيين الشيخ أبي محمد عبد الواحد الحفصي بسلطات واسعة، وتوفير الدعم المادي والعسكري والأدبي له.
وإذا كان الموحدون قد استطاعوا في نهاية المطاف القضاء على هذه الحركة، فإنهم لم يعمروا كثيراً بعدها. فقد كان لهذه الحركة والحركات المماثلة لها بالأندلس آثارها السيئة على اقتصاد دولتهم: جيشها وعلاقاتها بالمشرق ووحدتها الترابية ووجودها.

أولاً: الاقتصاد
الثقل الاقتصادي هو قلب الدولة النابض وشريان حياتها. ومن دونه تصبح الدولة كالقشة في مهب الريح، وبه تكتسب قوتها، ويعلو صيتها، ويهابها أعداؤها، ويتودد إليها أندادها.
كان الموحدون على وعي تام بأهمية الاقتصاد، منذ المراحل الأولى لتكوين دولتهم([89])، ولكن حركة بنيغانية والفتن بالأندلس قد خلقت لهم نوعاً من عدم الاستقرار في كل أرجاء دولتهم. ولإعادة النظام وإخماد الفتن، اضطرت الدولة إلى استنفار الشباب من رعاياها بالمغرب. وطبيعي أن يكون ذلك قد انعكس سلباً على الاقتصاد، الذي كانت الفلاحة وتربية المواشي تشكلان عموده الفقري، لعدم وجود الأيدي العاملة الكافية للنهوض بهما. أما في إفريقية، فإن حالة الذعر والفوضى التي أحدثتها حركة بني غانية أفقدت الدولة جزءاً كبيراً من مواردها الاقتصادية الأساسية وأصبحت تعتمد على ما عندها من مخزون وما تحصل عليه من غنائم، وعلى القليل الذي يصل إليها من أولئك الذين سمحت لهم الظروف بممارسة نشاطهم الاقتصادي.
وعلى الرغم من الظروف السابقة، فإن الدولة كان مفروضاً عليها إعداد الجيوش وتزويدها بالزاد والعتاد والمؤن، وتوفير الظروف الملائمة لنقلها لمواجهة الثوار بإفريقية والأندلس. هذا، إضافة إلى الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه جندها وقوادها وموظفيها وعمالها([90])، وكذلك تحفيز عمالها في بؤر التوتر مادياً، ودعمهم عسكرياً، ليتمكنوا من النهوض بالمهمة الصعبة الملقاة على عاتقهم. وفضلاَ عن ذلك، فإن الحركة قد منعت الموحدين من الاستفادة من خيرات إفريقية ومن الاتجار مع بعض مناطق إفريقيا جنوب الصحراء، ودول شمال البحر الأبيض المتوسط والمشرق.
ومما لا شك فيه أن العوامل السابقة قد أضعفت اقتصاد الدولة، وبالتالي أجهزتها المختلفة، وجعلتها هشة.

ثانياً: الجيش
الجيش هو سند الدولة، ودرعها الواقي، وحامي حماها، ورمز قوتها وعزتها، وضامن وحدتها الترابية. ولذلك، فقد حظي بعناية خاصة من قبل الموحدين([91])؛ ولكن بالرغم من ذلك، تكبد الجيش الموحدي كثيراً من العناء والمشقة في محاولاته للقضاء على حركة بني غانية، وتقصي آثارها، وذلك لبعد المسافة بين المغرب وإفريقية، ورداءة سبل المواصلات، ولفراق الجند لأسرهم فترة طويلة من الزمن، ولما قاساه من آلام في مطاردته للعدو وترصُّد حركاته وفي أماكن وعرة أو صحراوية. وعلاوة على ذلك، فإن الحرب لم تكن متصلة، ولم ترجح فيها كفة طرف على الطرف الآخر بصورة حاسمة، الأمر الذي شجع حركات المقاومة للإسلام بالأندلس على استثمار الفرصة، أي انشغال الموحدين بإفريقية، لاستعادة مجدهم ومجد آبائهم، وأضاف للجيش الموحدي مسؤولية أخرى، وهي الدفاع عن الإسلام بالأندلس، وجعله في حركة دائبة بين إفريقية والأندلس. وقد كانت لذلك انعكاسات سلبية على الجند، حيث أضعفت روحهم المعنوية، فأصبحوا مهيئين للتمرد. وبدا ذلك جليّاً قبيل وفاة الأمير يعقوب المنصور، فنتج عن ذلك تمزق الدولة وزوالها.

ثالثاً: العلاقات السياسية مع المشرق
في الوقت الذي كان يعقوب المنصور مشغولاً بالجهاد بالأندلس، وردع بني غانية وتتبعهم بإفريقية، جاءته رسل صلاح الدين الأيوبي (توفيّ في ذي الحجة 543 هـ/ شباط/ [فبراير] 1197 م) ([92])، راجية منه مد يد العون والمساعدة، لتحرير بيت المقدس من قبضة الصليبيين. وقد ذكرت بعض المصادر أن المنصور قد اعتذر له، مبرراً ذلك بانشغاله بجهاد النصارى بالأندلس وملاحقة بني غانية بإفريقية، وذكر البعض الآخر أنه قد أمده بأسطول بحري.

رابعاً: الوحدة الترابية والوجود
أدت حركة ابن غانية بإفريقية والثورات بالأندلس إلى تماسك الجبهة الداخلية للدولة الموحدية بالمغرب، وتوحيد الكلمة، وإسهام الرعايا، وحماس في الحملات التي وجهتها الدولة لردع الثوار، واستعادة المناطق المغتصبة. ولكن تفرق بؤر التوتر، وبعدها عن حاضرة الدولة، وطول نفس قادتها، وإلمامهم بمكائد الحرب، وتنوع أساليبهم القتالية والدفاعية، وصعوبة الاتصال والنقل... ـ كلُّ ذلك استنفد إمكانات الدولة الموحدية الاقتصادية، وأضعف من روح جندها القتالية، وهيأ الفرصة لأعدائها والمتربصين بها لاقتطاع ما شاءوا من أراضيها، بل القضاء عليها نهائياً، وإلى الأبد.
وفيما يخص الأندلس، فقد كانت هزيمة محمد الناصر في معركة العقاب (Las Navas de Tolosa) عام 609 هـ/ 1212 م بداية النهاية للوجود الموحدي هنالك؛ فقد ظهر أبو عبد الله محمد بن يوسف بن هود الجذامي منافساً للموحدين بمُرْسِيَة ((Murcia عام 625 هـ/ 1227 م، ومنافحاً عن الأندلس من الأطماع التوسعية لفرناندو الثالث III (Fernando) ملك قشتالة (Castilla) ووالده ألفونسو التاسع (Alfonso IX) ملك ليون (Léon)، فدخلت في طاعته مدن كثيرة كقرطبة (Cordoba) وإشبيلية (Sevilla) وغرناطة (Granada) ومالقة (Malaga)...؛ كما ظهر أبو عبد الله محمد بن يوسف بن نصر المعروف بابن الأحمر منافساً لابن هود، الذي توفي 635 هـ/ 1237 م، واستطاع تكوين دولة قاعدتها مدينة غرناطة، وامتد نفوذها في عهده وعهد خلفائه ليشمل ثلاث ولايات كبيرة: غرناطة في الوسط، وألمرية (Almeria) في الشرق، وولاية مالقة في الجنوب والغرب. وبقيت رئاستها وقفاً على أفراد أسرته إلى أن قضى عليها الملكان الكاثوليكيان: فيرناندو الخامس (Fernando V) ملك ليون وزوجته إزابل الأولى (Izabel I) ملكة قشتالة في 2 ربيع الأول 897 هـ/ 2 ديسمبر 1492 م([93]).
أما عن حركة المقاومة المسيحية، فقد استطاعت الاستيلاء على ميورقة (Mallorca) في 11 صفر 627 هـ/ 31 ديسمبر 1229 م، ثم بقية جزر أرخبيل الباليار (Archipièlago Balear) بعد فترة قصيرة، وبلنسية (Valencia) عام 636 هـ/ 1238 م، وإشبيلية في 646 هـ/ 1238 م... ([94])، ثم توجت انتصاراتها بالاستيلاء على غرناطة وطرد العرب من الأندلس.
وفيما يتعلق بإفريقية، فبالنظر إلى السلطات الواسعة التي خُوِّلت للشيخ أبي محمد عبد الواحد الحفصي، عامل إفريقية، ومقارنتها بالصلاحيات التي وضعها فقهاء السياسة الإسلامية للأمراء والعمال، وفي ضوئها وضعوا تقنيناتهم للإمارة على البلدان، نجد أن إفريقية قد تحولت إلى إمارة استكفاء([95])، تلك الإمارة التي كانت سبباً في تمزق الدولة العباسية، وذلك لاستقلال أمراء الاستكفاء بإماراتهم: إما نظير اعتراف اسمي بالسلطة المركزية وجعْل من المال، وإما استقلالاً تامّاً([96])، وكأن التاريخ يعيد نفسه: فقد ظهرت نوايا الحفصيين الانفصالية منذ إمارة أبي محمد عبد الواحد، ثم أصبحت واقعاً في عهد ابنه أبي زكريا في عام 626 هـ/ 1228 م، حيث أوقف الدعوة للخليفة الموحدي، وتلقّب بلقب أمير، وأمر بذكر اسمه بعد المهدي في الخطبة والدعاء([97]).
أما في المغرب، فقد استغل بنو مرين ضعف السلطة المركزية، فظهروا على مسرح الأحداث السياسية واستطاعوا إلحاق الهزيمة بالجيش الذي أعده والي فاس لحربهم في أول صدام لهم مع الموحدين([98])، ثم تفاقم خطرهم، وازدادت قوتهم، فاستطاعوا القضاء على الدولة الموحدية والجلوس في مكانها عام 668 هـ/ 1269 م([99]).




([1]) عبد الواحد المراكشي ، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، ضبط وتحقيق وتعليق محمد سعيد العريان ومحمد العربي العلمي، ط 7، الدار البيضاء، 1978، صص. 385 ـ 386؛ دائرة المعارف الإسلامية، ترجمة محمد ثابت وأحمد الشنتناوي وزكي خورشيد ويونس عبد الحميد، ج 1، ص. 246؛ Terrasse, Histoire du Maroc, des origines à l’établissement du protectorat français, Casablanca, sans date, vol. 1, p. 328.
([2]) المراكشي، المصدر السابق، صص. 386 ـ 387.
([3]) ابن خلدون، العبر وديوان المبتدإ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، بيروت، 1959، ج 6، صص. 505 ـ 506.
([4]) قرمونة ((Carmona: تقع على بعد 20 ميلاً إلى الشرق من مدينة إشبيلية (Sevilla) (الحميري، الروض المعطار في خبر الأقطار، تحقيق إحسان عباس، بيروت، 1975، ص. 461). وانظر الخريطة المرفقة في نهاية الدراسة.
([5]) لمتونة: هي إحدى القبائل الصنهاجية التي تعمر صحاري المغرب الأقصى.
([6]) المراكشي، المعجب…، ص. 387؛ وابن خلدون، العبر…، ج 6، ص. 506؛ Terrasse, op. cit., p. 328.
([7]) ابن خلدون، المصدر السابق، ص. 506؛ المراكشي، المعجب…، صص. 387 ـ 388؛ Terrasse, Ibidem, p. 328.
([8]) ابن خلدون، المصدر نفسه، ص. 507؛ وابن عذاري، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، قسم الموحدين، تحقيق الكتاني وآخرين، ط 8، بيروت، 1985، ص. 175.
([9]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، بيروت، 1966، ج 10، ص. 569.
([10]) للمزيد عن عبد المؤمن، انظر: عبد القادر عثمان محمد جاد الرب، الموحدون بإفريقية، رسالة قدمت لنيل دبلوم الدراسات العليا في كلية الآداب بالرباط، 1991، وموجودة بحزانة الرسائل بالكلية تحت الرقم 956,05/ جاد، صص. 47 ـ 52.
([11]) ابن خلدون، المصدر السابق، ص. 506؛ المراكشي، المعجب…، صص. 387 ـ 388؛ Terrasse, op. cit., p. 328.
([12]) أبو الحسن علي بن الربرتير: ورد ابن الربرتير، وهو قائد رومي كانت له مكانة مرموقة في الأندلس بين القواد الذين كانوا يحاربون إلى جانب تاشفين بن علي المرابطي ضد الموحدين، وقد قتل أثناء ذلك. ولذلك، فإننا نرجح أن علياً هو ابنه، دخل دعوة الموجدين بعد انتصارها، فأكرموا متواه. ولما تبين لهم صدق نواياه، وما يتوفرعليه من صفات القيادة جعلوه قائداً من قوادهم. (ابن عذاري، البيان المعرب…، قسم الموحدين، صص. 18 ـ 20؛ ابن صاحب الصلاة، المن بالإمامة…، تحقيق عبد الهادي التازي، بيروت، 1964، ط 1، ص. 78).


https://www.attarikh-alarabi.ma/Html/adad20partie12.htm









رد مع اقتباس