منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - لكل من يبحث عن مرجع سأساعده
عرض مشاركة واحدة
قديم 2011-09-16, 15:16   رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
hano.jimi
عضو محترف
 
الصورة الرمزية hano.jimi
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

فهو عبقريٌّ في كل عمل يلجه، ((فهو في حفول نفسه بمعاني العبقرية الفياضة أكثر من رجل، وأكبر من عظيم، وما بالك برجل يأبى إلا أن يكون في كل أعماله معنى من الابتكار والعمل الجبار؟ ومعنى من الأمل المنظم، ومعنى من الطموح الزاخر؟)) ([134">).

كل هذا الإبداع يتجلى في ((وجه هاديء رصين الملامح، تترقرق فيه قوّة الأمل، وقوّة الإرادة، وقوّة الإيمان، وتجول مجالها في حواشيه الوادعة معان جذابة من اللطف، والكرم، واللين واتساع مدى الشعور، ومعان ناطقة تعبر عما يزدحم وراءها من ألوان العواطف والخوالج، والإحساس الدقيق لكل ما هو جميل وعظيم، وسويّ وفتان وقويّ)) ([135">).

اجتمعت الأضداد في هذه الصورة الجميلة. الظاهر هدوء كهدوء الفجر الحالم، والباطن كونٌ يعج بالحركة، وشعلة تتوقد، وتفكير لا تقف دونه الحواجز، واللسان سحر وفتنة تقتاد أعصى القلوب([136">).

وعبقرية الرجل دليل عبقرية “ عاهل العرب الأكبر ” الملك عبد العزيز الذي أحسن الاختيار ((ولأن من حسنات عاهل العرب الأكبر عبد العزيز الأول، ما نراه اليوم من آثار بارزة في نهضة الشعب الكريم، وإصلاح سبيله في الحياة، فإن من أكبر الحسنات ولاشك أن يكون هذا الوزير الخطير، يداً عاملة لجلالته)) ([137">).

وقد كان من آثار عبقرية الحمدان التجديّدية، إقامة رصيف لبناء الجمارك، وإعداد مخازن محكمة للبضائع ارتقت بفنيات التخزين.

ويربط حمزة التجديد في هذا المعمار بالوظيفة التي يؤديها، والأفكار التي يتأسس عليها فالفكرة قائمة ((على ترقية التاجر وتبديد شعوره بالغبن والإرهاق، وعلى التقريب الفكري بينه وبين أنظمة الحكومة ومقرراتها، ونصيب الفلسفة الإنسانية في هذا واضح بيّن)) ([138">).


الحمدان عبقرية إدارية تخطّت مفاهيم “ الإدارة الجامدة، إلى الإدارة بالأهداف ”، فكان وجوده دفعاً لعجلة التنمية، وتحقيقاً عملياً للمواطنة الحقة. لم يكن الحمدان مشغولاً بذاته، وإنما كان مهموماً بإنجازاته، وكانت إنجازاته دائماً مرتبطة بالخيريّة والنفع العام، وهذا هو الإيمان بقيمة التكليف وأهميته في صنع الشهود الحضاري للأمة، وهذا ما أدركه الحمدان وآمن به، وحقق به ما حقق من تميز ومكانة اجتماعية.

وبهذا يكشف حمزة شحاتة عن أنَّ البناء الحضاري أساسه الإنسان، فما حدث للجزيرة لم يكن ليتحقق لولا توفيق الله، ثم حنكة القائد “صقر الجزيرة ”، الذي لمَّ الشتات، وأقام كيان الوحدة، وأسس لحركة التنمية، وقاد معركة البناء بالعقول المبدعة.

وأما المرأة الأولى التي كان يرى فيها حمزة “ الأمل الممكن ” فهي ابنته شيرين التي تتجلى في رسائل والدها إليها، مثابرة، ذكية، مليئة بالطموح ومع كل هذا يظل يتعهدها برعايته ونصحه وتوجيهه، لتكون مثالاً للإنسان الصالح، المتطلع لغدٍ أفضل لا يعبأ بالعوائق، ولا يلين أمام الملمات([139">).

وأما الأخرى، فهي نفيسة الفتاة المصرية الجميلة التي كتب فيها قصيدة نشرت في الديوان باسم نفيسة، ونشرت مفردة بعنوان “ غادة بولاق ” وقد أضفى عليها أسمى صفات الجمال، فكانت نفيسة نموذجاً “ للجمال الأعلى ” في المرأة كما يتصوره حمزة شحاتة، وقد امتلأت القصيدة بالتساؤلات التي بعثتها فتنة الجمال، فوقف الشاعر يتملى هذا الكيان الأسطوري وقفة المتسائل الذاهل :

يا منحة النيل ما أحلى روائعه

هل أنت من سحره أم قد تبنّاك

وهل ترعرعتِ طفلاً في معابده

أم كاهن في ربى سيناء ربّاك

أم كنت لؤلؤة في يمه سُحرت

فصاغك اليم مخلوقاً وأنشاك

أم أنت حورية ضاقت بموطنها

فهاجرته صنيع المضنك الشاكي

فضمّك الليل في رفقٍ فهمت به

حبا، ووثقت نجواه بنجواك

أم أنت أسطورة قامت بفكرته

تحوّلت غادة لما تمناكِ

أم أنت من كرم ياخوسٍ معتقةٍ

قد انتفضت حياة حين صفاكِ

بل أنت من كل هذا جوهر عجبٌ

قضى فقدرك الباري فسوّاك([140">)



2 - الأسرة :

الأسرة هي “ قاعدة الحياة البشرية ” ([141">)، ولهذا فلابد أن تؤسس هذه القاعدة على أرض صلبة، حتى لا يتهاوى البناء ويتصدّع، واستراتيجية التأسيس تقوم على معايير ثابتة في اختيار العنصر الآخر الذي يشارك في بناء هذا الكيان، تضمن - بمشيئة الله - التناغم والانسجام وتكفل قوة البنية، وتطاول البناء. وحمزة شحاتة أقام كيانه الأسري “ ثلاث مرّات ” ولكن الكيان يتصدع، مرة تلو أخرى، وليس مهمتنا هنا “ الحفر الأركيولوجي ” عن أسرة حمزة شحاتة كيف قامت؟ ولماذا دب الخلاف بين الزوجين في كلّ مرة؟ المهمة هنا تقتضي الكشف عن فلسفة حمزة الجماليّة في وصف هذه القاعدة، وتأمل ذلك البناء، كما عاشه وكما أبدعه فنّاً جميلاً.

الشراكة التي عقدهـا حمزة شحاتة لبناء كيان أسرته كانت نتيجتها الندامة ((... أما المتزوجون فندامتهم على الزوجيّة فقط)) ([142">) هذا الندم نتيجة فشل حمزة في مهمته، وهو فشل لا يجد له تفسيراً إلا سوء الطالع ((لقد تزوجت ثلاث نساء على التعاقب، وأنا الآن أعزب، وولد لي من إحداهن أربع بنات باطراد، وبنت من الأخرى، وبقيت وحدي المسئول عن خمس بنات محرومات من الأمومة.

أليـس في حاجة إلى تفسـير؟! إنّ حسـن الطالـع أو سوءه هو التفسير)) ([143">).

هذه الزيجات الثلاث كانت إشكالات مميتة ((الزواج الأول غلطة، والثاني حماقة، أما الثالث فإنه انتحار)) ([144">)، وهذا الإشكال الذي وقع فيه حمزة ثلاث مرّات لا حل له إلا الموت أو الطلاق([145">) ولأن حمزة لم يمت اختار الطلاق حلاً لذلك الإشكال المتكرر.

إن الرجل أو المرأة عندما يتزوج أحدهما، فإنه يستجيب لنداء الفطرة، ويبحث عن السعادة والعفاف، لكن الزواج استحال عند حمزة إلى نكدٍ وعذاب دائم تظلّ جدران السجن أرحم من العشق والزواج ((حتى السجن أرحم من فتاة عشقتها، ثم حوّلتها حماقتك إلى زوجة)) ([146">).

لقد ضحى حمزة شحاتة بكل أمجاده في سبيل القيام بدور الأم في تربية بناتـها عندما ذهبت لتتزوج، فلو قالت لبناتـها : إنه شيطان لصدقت لسوء ما فعل، ولكنها ضريبة تلك الشراكـة، حيث أمضـى عمره “ مربية لخمس بنات ” ([147">).

الزواج لا يكون ناجحاً إلاّ بالتكافؤ الفكري على الأقلّ، وهذا المفكر يطلب طرازاً خاصاً من النساء يشاركه في أفكاره التي هي أقرب ما تكون إلى المثالية ولهذا لم ينجح، كان يطمح حمزة شحاتة إلى أن يجعل من بيته مختبراً لبناء الأفكار فلم تنم الأفكار ؛ لأنـها لم تجد قراراً مكيناً تتلاقح فيه مع أفكار مخصبة ((إن الزوجة الكاملة لا تقل قيمة عن اكتشاف علمي عظيم، فإذا جاء يوم تغدو فيه الحياة سخية بالاكتشافات العلمية العظمى، فإنه لن يأتي اليوم الذي تغدو فيه سخيّة بالزوجات الكاملات ؛ لأن هذه سعادة لا يستحقها نقصنا البشري فيما يظهر)) ([148">).

من هنا كان الزواج “ همّاً وغمّاً ” ((الزوجة والأولاد غمٌّ في الليل، وهمٌّ في النهار)) ([149">).

هذا الهم والغمّ سببه القصور الفكري والوجداني، أو “ صغر الكبار ” الذي يؤول بالسفينة إلى “ الغرق ” ((عندما يصغر الكبار فليس للأسرة أن تنتظر سـوى الغرق)) ([150">) و((صورة الكبيـر تصغر كلما قلّ نفعه للآخرين)) ([151">).


لقد احتفظ حمزة بحب أسرته ووضع ((ذاته وإمكانياته تحت تصرف الجميع لا يستثني أحداً إلا نفسه)) ([152">)، ومع هذا فلم يستطع أن يحقق رغباتـها فكانت النهاية و((عندما يعجز رب الأسرة عن تحقيق رغباتـها يكون موته أفضل)) ([153">).

لقد أنـهار البنـاء ولم يبق إلا ضريبة “ المغامرة الخاسرة ” “ البنات الخمس ” اللاتي حاول حمزة أن يكون لهن الأب المثال، وظل يصارع المتاعب حتى سـقط إعياءً، ولم آيبـق سـوى الأمـاني بتحقيـق النصـيب من العلم والمعرفة([154">).

هذه أحلام المفكر، أن يعدّ الأبناء للحياة، لا أن يُعِد الحياة للأبناء لقد كانت إشكالية حمزة الكبرى هي نبوغه، وإشراق عقله في محيط لا يشاركه وجدانياً هذا التدفق ((والعقول التي تتوازن كفاءاتها في غير أجوائها هي خير العقول وأقواها وأتمها نضوجاً)) ([155">).

ولأنه كان يرى العالم حوله بمنظار أسود لما لقيه في أكنافه من ويلات، كان همّ تربية بناته عذاباً أبدياً ((لا تصدق أن هناك شيئاً أسوأ من أن تكون أباً لبضع بنات إلا إذا كنت لا تسمع ولا ترى ولا تشعر أو إذا كنت سوائياً تستوي عندك الأشياء مهما تناقضت وتباينت)) ([156">).

لقد عانى من المرأة كثيراً، وابتلي بخمس فتيات أراد أن يصنع منهن “ المرأة النموذج ” التي يتمناها، وهنا تأتي مشكلة التربية وانعدام التفاهم بين عقليتين مختلفتين أبناء يريدون الانطلاق، وآباء يخشون من انطلاقهم عليه وينتصر المنطلقون دائماً ؛ لأن الحركة أقوى من السكون، وهذه أكثر صور الشقاء شيوعاً كما يعبر حمزة شحاتة([157">).

وبناءً على هذا يـحذرنا المفكر الكبيـر : افهم أبناءك كما يريدون هم، لا كما تريـد أنـت، ((فبهذا يمكـن أن تتذوق حـلاوة حبهم واحترامهم، وإلا فليخطفك الشيطان ليلقي بك في أقرب مزبلة)) ([158">).

هكذا كانت حياة حمزة مع أسرته، كان الزواج يمثل قيداً لا يطاق فنفذ الصبر، وفارق زوجته الأولى، وبحث عن شَرَكٍ آخر فوقع فيه، فنفذ صبره مرة ثانية وثالثة ((الطلاق دليل نفاذ الصبر، أما الزواج مرة أخرى، فبرهان على عمى البصيرة)) ([159">).

لقد سئل العقاد عن سبب عدم إقدامه على الزواجه، فقال : خيّرت بين أن أكون زوجاً أو أكون رجلاً فاخترت أن أكون رجلاً، وحمزة شحاتة اختار أن يكون مفكرّاً حرّاً طليقاً لا يحدّه مدى ((الحب والمال والزواج أقدم أسباب التعاسة في العالم)) ([160">). اقترن بالمرأة فلم يعش سعيداً، وإنما عاش فيلسوفاً.

كان يرى حمزة شحاتة في الزواج قدراً محتوماً لا مجال للاختيار فيه ((ليس الزواج عملية اختيار إنه قدر)) ([161">)، وهذا القدر المحتوم الذي يُقحم الرجل في هذا العالم هو الذي يجعل منه فراشة طائشة تدور حول النار حتى تحترق([162">)، يُعمي القدر بصيرته فيجّره إلى سوء العاقبة جاهلاً بمصيره الذي ينتظره ((أرحم تفسير لمن يتزوج أنه يجهل الخطر)) ([163">) و((أشجع كثيراً ممن يقتل نفسه الرجل الذي يتزوج)) ([164">).

والمرأة في “ جمالياتها ” العامة كائن بشري فيه ما يسر ومالا يسر ((في كل امرأة تسرك، امرأة أخرى تسوءك)) ([165">)، وهذا يعني في ظاهره التوازن بين الجمال والقبح، ككلّ البشر، والمرأة خلقت من ضلع أعوج، ولهذا كان الهدي النبوي للعلاقة الزوجية عظيماً للاستعلاء على هذا التنابذ النفسي عند الشريك في الحياة الزوجية، فقد قال رسول الله r : ((لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر)) ([166">).

ما أن يبدأ شهر العسل أو “ فترة تخفيف آثار الصدمة ” كما يسميه حمزة شحاتة([167">)، حتى يبدأ الجمال يتكشف عن صورة غير مقبولة، فالمظهر أصباغ ومساحيق صار جمال المرأة معها مجالاً للشك، وفقدت بسببه المرأة سحر الأنوثة ((الذين جمّلوا المرأة بالوسائل الصناعيّة لم يفقدوها سحر الأنوثة فقط، بل جعلوا منها صدمة لعواطف الرجل وخيالـه)) ([168">)، وانكشـف عالمـها فلم يبق فيها - بعد سفورها - ما يثير فضولاً، ويغري بمتعة الاكتشاف([169">).

وأما المَخْبَر “ فعَالم ”من الشك والخـداع والخشـع، والرذائـل. وتطغى على صورة المرأة “ الخيانة ” فهـي تغمض عينيها لتستحضر صورة رجل آخر([170">)، و((تبيت في هدوء مع صديقك الذي يمدّك بكل أخبارهـا)) ([171">) و((لا تعرف للشرف والعفة معنى عندما تحب)) ([172">) وتحب لتتزوج وتتزوج لتحب، ولهذا يجعل من دقة الفطنة دعوة البدو المشهورة ((جعل الله ولدك من ظهرك)) ([173">) فهي ((دعوة تدل على دقة الفطنة لحرج مركز الرجل تجاه زوجته إذا قدر له أن يتلقى أبناءها باعتبارهم أبناءه)) ([174">).

وهكذا تتحول السعادة إلى شقاء “ واللباس ” إلى عُري، والسكن والمودة والرحمة إلى معركة دامية غير متكافئة ((المعركة الأبديّة بين الرجل والمرأة غير متكافئة ينتصر فيها الرجل باستمرار، ولكنه الضحيّة دائماً)) ([175">).

وينتهي الأمر بالطلاق وهو الذي يكون فيه الرجل الضحيّة ((سمعت أحدهما يقول : إنـها تحبني وتخلص لي، ما في ذلك ريب ولكنها لا تقدم غذاءً لفكري وإحساسي بالحياة، فالعيش معها كزوجة لا يكون إلاّ محدوداً كعيش البهائم والحب وحده لا يستطيع أن ينهض بأعباء الدوام لعشرتنا.

وقال الآخر : هناك من تلهب فكرك وإحساسك، ولكنها تـهب قلبها غيرك، فهي صالحة لأن تكون صديقة أو حبيبة كل شيء إلا الزوجة المخلصة الأمينة فهل يكفيك هذا لدوام العشرة؟!

وزفر الأوَّل زفرة كانت صك اعترافه بحيرته وقال : ألا ليت الزواج لم يكن ضرورّياً)) ([176">).

3 - المجتمع :

المجتمع ليس كتلة بشرية وإنما هو نسيج علاقات وفي هذا يقول مالك بن نبي ((المجتمع ليس مجرد مجموعة من الأفراد، بل هو تنظيم معين ذو طابع إنساني، يتم طبقاً لنظام معين وهذا النظام في خطوطه العريضة يقوم بناءً على ما تقدّم على عناصر ثلاثة :

1 - حركة يتسم بها المجموع الإنساني.

2 - إنتاج لأسباب هذه الحركة.

3 - تحديد لاتجاهها)) ([177">).

وبتناغم هذه العناصر الثلاثة “ الحركة ” و“ المنتج ” و“ المنهج ” يصنع المجتمع شهوده الحضاري، وبتنافرها ونشاز نغمها يظل راسفاً في قيود التخلف والتبعيّة.

والمجتمع بوصفه “ شبكة علاقات ” كان أحد محاور البحث والتأمل في الفلسفة الجمالية عند حمزة شحاتة، حيث أعلن “ حرباً أهلية ” على “ عوامل القبح ” في المجتمع، وكان مناضلاً جعل من مقاومة الانحطاط رسالته الأولى، وكانت قيمته بوصفه أحد عقد هذه الشبكة أن يكون منتجاً وفعّالاً، وليس عالة عليه ((إن حياة المجتمع كالحرب تماماً لا عبرة فيها بما يسقط، ولكن بما يظلّ قائماً، ومع ذلك فإن كل شيء سيخبو وينطوي، إنني منذ ولجت باب العيش، وحتى هذه اللحظة، لم أكن عالة على المجتمع، ألا يكفي هذا، فوق أنّه مبرر لوجودي، أن يجعلني مواطناً أقاوم عوامل الانحطاط)) ([178">).

وحين يتأمل الصحافة السعودّية بين الماضي والحاضر يجدها صورة للمجتمع، حين تحوّل من مجتمع عشائري إلى مجتمع موحد على يدي الملك عبد العزيز طيب الله ثراه حيث ((تكامل عمران المدن، وامتدادها، وتكدس منتجات الحضارة وشيوعها، وتكاثر وسائل النقل، والمواصلات، وبروز معالم الحياة، وامتلاء المشاعر بها، والتعلق، والتململ، والصراع، تعبير عن توهج الرغبة في التخلص من آثار الشعور بالتخلف والإقبال الملتهب على أي منفذ من منافذ الحياة...)) ([179">)

لقد شهد حمزة شحاتة دخول المجتمع السعودي مرحلة الانطلاق الحضاري على يدي موحد الجزيرة، وأعجب بتلك القفزة الحضارية التي انتقل فيها المجتمع من “ قبائل متناحرة ” إلى “ دولة وحدة ”.

وأبدى إعجابه بنماذج “ اجتماعيّة ” مضيئة، لها حضورها الفاعل في البناء الاجتماعي كصديقه أحمد قنديل، ومعالي الشيخ عبد الله الحمدان أول وزير للماليّة، لكنه لم يغفل عن ممارسات بعض “ القوارض الاجتماعية ” ([180">) بحسب تعبير مالك بن نبي التي تسعى إلى خلخلة النسيج الاجتماعي، والعبث بشباكه، وذلك من خلال ممارسات تغلب فيها الذات على المجموع، ويصبح الحق أولى من الواجب إن لم ينعدم الواجب ويختفي.

إن الشهود الحضاري للمجتمع لا يكمن في تكديس منجزات الآخرين وإنما يكمن في الفعل الحضاري، والاندماج في شبكة المجتمع والعمل بروح الفريق([181">).

لقد رأى كثيراً من القيم تنتحر تحت أهواء الذات ونوازعها، فالهجرة الدينية المتتابعة إلى المجتمع السعودي، وشيوع التواكل، والانطفاء الحضاري، وانعدام التجديد، وغلبة الرتابة قوارض اجتماعية ينبغي تتبعها والقضاء عليها حتى لا تخترم ذلك النسيج، وتمزق وحدته. ويُعدّ كتابه “ رفات عقل ”، ومحاضرته الشهيرة “الرجولة عماد الخلق الفاضل” بحثاً دقيقاً في هذه المسألة.

4 - الأمة :

((المعنى الاصطلاحي المتكامل للأمة يتضمّن عناصر أربعة : الأوَّل : العنصر البشري، والثاني: العنصر الفكري، والثالث : العنصر الاجتماعي، والرابع : العنصر الزمني. فالأمة مجموعة من الناس تحمل رسالة حضاريّة نافعة للإنسانية، وتعيش طبقاً لمباديء هذه الرسالة، وتظل تحمل صفة الأمة مادامت تحمل هذه الصفات، أمّا حين تفقدها فقد يطلق عليها اسم الأمةـ ولكنها لن تكون النموذج الإسلامي الكامل للأمة)) ([182">).

والأمة الإسلاميّة تعاني نكوصاً في جميع مجالات الحياة وتفتقد لتكامل هذه العناصر الأربعة ولذا فهي تحتاج إلى وقفة جادة وشاملة لإعادة إخراجها، واسترداد دورها في الشهود الحضاري. وحمزة شحاتة كان أحد أدبائنا ومفكرينا الذين استوقفهم حال الأمة “شهود حضاريٌّ ” في الماضي و“ إفلاس حضاري ” في الحاضر.

إن التنافر الذي يدب في التجانس التركيبي للحياة هو الذي يدفعها إلى الأمام، لكنه لا يفعل ذلك في أمتنا بوصفها جسماً اجتماعيّاً حيّاً([183">).

ولهذا فالمآل هو الهلاك ((ينبغي أن لا نشك في مستقبلنا الاجتماعي كأمة كلما ارتفع ميزان الحضارة والتقدم الصناعي في الأمم البعيدة، لا معدى عن أن نرتدّ بدواً تضرب في هذه الصحاري المقفرة لتشارك الحيوانات حياتها)) ([184">).

وعلى هوان هذه الأمة ونكوصها الحضاري أنها ((كالمعدة القوية، تهضم كل شيء بسهولة)) ([185">) تهضم ما تحتاج إليه ومالا تحتاج إليه، وهذا الهضم المتكرر، يعلم الاستهلاك لا الإنتاج، ويقتل ولا ينفع، “ والمعدة بيت الداء ”، وهذا يعني أن “ الإنتقاء ” مبدأ حياة، وخيار وجود، ودليل وعي.

هذه العلة تجعل سمة كل ((من يحلم بإصلاح هذه الأمة، أن يكون مفرطاً في التشاؤم إلا إن كان لا يعبأ بالخذلان)) ([186">)

لقد أصبحت الأمـة “ حيواناً بليداً ” حين فقـدت شهودها الحضاري، ولا يعاب الأدباء - ومنهم حمزة شحاتة - في أنهم لم يستطيعوا ((تحريك هذا الحيوان البليد الذي تدعوه أمه ؛ لأن هذا لم يكن ميسوراً لكرّة الزمن نفسه في ثلاثة عشر قرناً)) ([187">).

لقد فقدت الأمة “ رشدها ” بعد معركة صفين([188">)، عندما بدأت أخلاق الأمة في الانهيار، وبدأت تطفو على الساحة أخلاقيات جديدة، وسلوكيات مغايرة لقيم الهدي الإلهي، ولهذا فنهضة الأمة لا تكون إلا بنهضة أخلاقيّة يعرف فيها الفرد والمجتمع الحقوق والواجبات، ويستشعر فيها كل فرد المسئولية، والأمة ((لا يمكن أن تنجح إلا بأخلاقها وتقاليدها النابعين من تاريخها وخصوصاً في هذا العصر)) ([189">).

هذه الأخلاق نتيجة تربية سليمة ترفع درجة الوعي لدى أبناء الأمة فتنتفي الازدواجية المميتة بين الفكرة والواقع، حين يصبح الواقع ميداناً لممارسة الأفكار واستنباتها وتطويرها، وفي ضوء هذا التناغم تنشأ سلوكيات سوّية تكشف عن ثقافة راسخة، لم تفرض برأس البندقية، وإنما تنبثقُ من نفوس مؤمنة بأصالة الموقف الذي تتبناه، والأصل الذي تنتمي إليه.

وهنا تتفـاوت الأمـم، ويتباين السـبق الحضاري بتباين أساليب التربية ((لا تحيا أمة إلا بالتربية الصالحة، وما نراه من الفروق بين الأمم الناهضة إنما مرده تفاوت أساليبها في التربية.










رد مع اقتباس