منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - لكل من يبحث عن مرجع سأساعده
عرض مشاركة واحدة
قديم 2011-09-16, 15:14   رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
hano.jimi
عضو محترف
 
الصورة الرمزية hano.jimi
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

أ – الأنــا :

صورة الأنا التي رسمها حمزة شحاتة لنفسه مليئة بالغموض، يختلط فيها الواقع بالأسطورة، فهو لا يكاد يعي نفسه ((عندما سألتني “ البلاد ” من أنت؟ ذهلت.. لأنني لم أجد في حياتي كلها، ما يعينني على أن أعرف من أنا؟! نعم وبمزيد من المرارة، والخجل، والحيرة، والضياع.. من أنا؟!)) ([103">).

هذه الأنا “ المجهولة ”، غارقة في التأمل حتى في ذاتها. حياة مليئة بالتحوّلات، كرّ وفرّ، سيرٌ ووقوف، ((وحيث يتاح لي أن أتأمل ذاتي، أرى أنني أداة تملى عليها مقدرات حركتها وسكونها. لم أشعر قط، بتحرير إرادتي، وحين بدا للآخرين أنني اكتملت بحكم السن، واتساع أفق التجربة وجدت أن ما يسمى الإرادة فينا، ليس إلا حاصل ظروف، وعوامل ينسحق فيها ما هو ذاتي وداخلي، تحت وطأة ما هو خارجي، فإذا قلت الآن، بصدق إنني أجهل من أنا، أو ما أنا، فلأني لم أستقبل قط، ما أستطيع أن أسمّيه حياتي..)) ([104">).

ذات مطحونة كانت مشغولة بتحرير الإرادة، وما أن قطعت شوطاً في مضمار الحياة حتى تبين لها أن الإرادة انسحاق للذات تحت وطأة الآخر، وهذا منتهى الضياع استعداداً لمعركة لم تحدث، وعملٌ لصياغة كيان لن يوجد ((إني كنت كالجندي الذي قضى أيامه، ولياليه في الاستعداد لمعركة، لم يقدر له أن يخوضها، أو كالمتعلم الذي قضى شطر عمره للتخصص في مجال معيّن، وقضى الشـطر الثاني عاملاً غيـر ثابـت، في كل مجال غير مجال تخصصـه هذا هو أنا..))([105">).

كان حمزة رجلاً طِوالاً كما ذكر صديقه عزير ضياء ((فارع القامة، وثيق البنيان عالي الجبهة)) ([106">)، وكان فيه جفوة كما يقول، ولهذا يشبّه نفسه بهول الليل، تلك الشخصيّة الأسطورية في الحكايات الشعبية في بلادنا ((بيني وبين هول الليل مُشابه. فأنا طويلٌ مثله، وفي طباعي جفوة ووعورة تصرف الناس عن الاطمئنان إلى عشرتي، فأنا وحيد مظلم النفس، انطوي منها على ما يشبه القبر العميق المهدّم، وفيّ ميلٌ إلى الصمت الطويل ولو أخذت لكنت أبكم... وأنا حزين منقبض الصدر أحس دائماً بأنني غريبٌ في الحياة، أو عابر سبيل، أو متفرّج حيل بينه وبين ما يدور تحت أنفه من الحوادث، ويستفزني المزاح والمرح أحياناً فأسخر بالحياة، وأستجيب لبواعث السرور لحظات، وهذه اللحظـات نادرة في حياتي الآنيّة... وهكذا هول الليل... وهول الليل لا ينـزل إلى أذى الصغار إنما يعمد إلى الأقوياء فيخيفهم وهو كثير الإعجاب بمن لا يخافونه.. وبمن يسايرونه وينظرون إليه نظراتهم إلى شيء معقول)) ([107">)

لا تقولي : أهواك، إن حياتي

واقعٌ قاتم الظلال مخوف

كان لي في الهوى ربيعٌ وولى

وتلاشت أصداؤه والطيوف

فأنا اليوم بين أطلال يأسي

طللٌ للرياح فيه عزيف

طللٌ موحش أفاح به الحزن

وأرسى هذا الضباب الكثيف

استقرت به رغائب روحي

جُثثاً مُثلت بهن الصُّروف([108">)



لقد كان حمزة كثير التأمل والصمت وتمنى لو كان أبكم، لأن الواقع الذي يعيش فيه لا يمكن للغة أن تحيط به، ولكنه إذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع، فقد عرف عنه أنَّه كان يتحدث ويحاور لساعات طوال لا يملّ من الجدل والمقارعة، وهذا ما يعرفه هو عن نفسه([109">)، ويعرفه عنه أصدقاؤه حيث يذكر عبد الله عبد الجبار إنه ليظل يناقش عشرين ساعة بلا كلل أو ملل([110">).

وحين نقف على نتاج حمزة الفكري والأدبي ندرك أنه نسيج وحده، في بلاغته وذكائه، ومع هذا يرى أن قلّة ذكائه هي مشكلته الكبرى فالذكاء ينقصه حين يكون الذكاء سلاحاً ماضياً في معركة الحياة، ولهذا كان يعتقد - كما يقول - بقدرته على التكيّف مع الحياة التي لا تلبي حريته ولا ترضي عقله، والذكاء في هذه الفلسفة الساخرة عند حمزة يعني “ التنازلات ” والكفر بالقيم والمباديء حين تتصادم مع المصالح، وهو ما يرفضه حمزة، ويضحي بحياته من أجله ولهذا فهو بحاجة إلى الضمير أكثر من حاجته إلى هذا الذكاء وكأنهما أمران لا يجتمعان ((حاجة الإنسان إلى الضمير تنتهي عندما يحصل على مقدار كاف من الذكاء)) ([111">) وقد يكون الذكاء مرادفاً للمجون وهتك الأعراض والبوائق ((إذا كان جارك ذكياً، وجب أن تكون دائماً على حذر))([112">). وقد يكون موقف حمزة شحاتة من هذه الصفة مصادماً لكثير من المفاهيم، ولكنها الحقيقة، فالقيم في حركة دائبة، فالذكاء في عصرنا صار مرادفاً للنفاق الاجتماعي، والانتهازية، وتلوين المواقف، كما صارت الطيبة مرادفة للغباء والضعف، والدروشة.

والصراع النفسي والقلق سمة في أدب حمزة وفي فكره وفي حياته، فهو في شبابه باحث عن المثاليات، وفي شيخوخته حالم بما فات. وحين يتوغل في ذاته، ويكشف لنا أعماقه يقول : ((أحسّ في قرارة نفسي، أني منطو على قطعة مجدبة جافة من الأرض، لا يرف فيها دليل من دلائل الحياة ولا تلح بمعنى من معانيها، وقد تضيق سبلها أحياناً حتى أشعر بانطباقها على جانبيّ...)) ([113">).

فهو يعيش ممزقاً بين عالمين عالم “ اليوتوبيا ” الذي يرسمه لنفسه، وعالم الواقع الذي يعيش فيه. في ليله أحلام وأفكار وأمانٍ وهموم، وفي الصباح حركة مجنونة، وواقع مشاهد يجر الحالم إلى أغلاله وقيوده، كأن هناك ناطوراً يحرسه بالليل من أن تطوف الأحلام برأسه - ومع هذا فهو يحلم ليهرب من واقعه، وحين تشرق الشمس يبدأ الواقع في المداهمة بجنوده وقيوده([114">).

رأسٌ مليء بالهم والكدر والسهر المضني، ونفس كالمقبرة مليئة بقبور الذكريات، وسجين في سجن مظلم مهدّم تجرّه روح قديمة([115">).

هذه المعاناة هي معاناة الكبار، وأحاسيس الفاتحين في معركة الحياة، لأن الحياة لديهم عطاءٌ وبذل وانتماء، وليست غدوّاً ورواحاً. وحين نتأمل سير العظماء نجد “ المكابدة ” والسهر، والتمزّق الداخلي زاداً يوميّاً لهم، غارقون في البحث عن حقائق الأشياء، مولعون بالمعرفة، لا يقتلهم في حياتهم شيء كما تقتلهم الجموع المنطفئة، والأحاسيس الميتة، والتدافع المحموم إلى توافه الحياة ونقائصها. ولهذا كان حمزة يُحسّ بواجب وطني كبير عليه تجاه وطنه، مع أنه لم يكن عالة على أحد، وإنما كان مواطناً باذلاً، مقاوماً لعوامل الضعف فهذا هو مبرر وجوده كما يقول([116">). وكان شاعراً وأديباً ومفكراً من طراز خاص، حين يذكر الشعر والأدب والفكر السعودي يظل حمزة في مقدمة مبدعيها ومع هذا كله يشعر أنه لم يقم بواجباته تجاه وطنه لا بوصفه مواطناً، ولا بوصفه مبدعاً([117">).

وهو في مزاجه الفني متجدّدٌ لا يقر به قرار ((وأنا ذو مزاج سؤوم، لا أدع الزمن يفجعني في طمأنينة شعوري بطرافة الأشياء، وأيّة حقيقة من حقائق الفكر، أو متعة من متعات الحس، أو طوبى من طوبيات الخيال الخلاّب يبقى لها جمالها على الزمن الماضي، أو يفض الخـتام كل يوم عن جمالها ومعانيه جديدة أخاذة؟)) ([118">).

هذا المزاج السؤوم ليس نقيصه، وإنما هو نتاج روح متجدّدة، وعقلية مولعة بالكشف والتمحيص والاهتمام، لا يغنيها جمال عن جمال، تترقى في مطالبها إلى أعلى درجات الكمال وإن كان الكمال لا يدرك، هذه النفس التوّاقة تحتاج إلى فنّ متدفق، يتجدّد في صوره وأشكاله وجمالياته في كل حين، ليظل حيّاً، وممتعاً، وقادراً على التأثير في هذه النفس الفيّاضة.

ولهذا كان حمزة يرى أن أدبه لا ينتمي إلى أيّة مدرسة أدبيّة ؛ لأن كل أثر أدبي عنده يعكس لوناً جميلاً خاصاً به يمكن أن يتصل بمدرسة ما، فهو “ مدارس في رجل ” وهذه هي العبقرّية، ((إن الانتماء الموسع اعتباري من الطراز اللامنتمي)) ([119">)

ولم يكن حمـزة شحاتـة يتعاطى الأدب بوصفه وسيلة، وإنما كان يتعاطاه “ تنفيساً ” عن شعوره “ بمرارة العيش وحرارة القلب ” وما لبثت الممارسة أن استحالت إلى عادة([120">).

هذه هي “ الأنا الشحاتية ” كما صورها صاحبها، “ ذات محيّرة ” يتواءم فيها الغموض والوضوح، والواقع والأسطورة، واليقين والشك، وجماليات هذه الأنا لها نسقها الخاص، فإذا ما تجاوزنا جماليات الإبداع التعبيري الواصف لتلك الأنا، أدركنا أن “ جماليات هذه الأنا ” تكمن في نفيها لذاتها، فلم يغتبط صاحبها، وإنما كان يضعها على محك دقيق، وهذا أمرٌ قل أن يدركه كثير من الناس ((فالأفراد في كل المجتمعات غارقون في استسلام مفعم بالرضا والغبطة في الجانب الاعتقادي والعقلي والمعرفي، وهذه الغبطة هي العائق عن اكتشاف الفرد لذاته لأنه لم يدرك أنه يعيش استلاباً كاملاً، فهو يتوهم أنّه تام التفرد.. لذلك يندر في الناس من يخترق هذا العائق لأنه أصلاً لا يعلم بوجوده فلا يحاول اكتشافه فضلاً عن اختراقه)) ([121">).

لقد اكتشف حمزة شحاتة حقيقة نفسه، واخترق حجبها الكثيفة، فكان جمال هذه النفس - الذي يكمن في عبقرية اهتمامها وولعها بالمعرفة، وحبها للجديد، وسعة إدراكها، وإيمانها بنقصها، وتنكرها لعطاءاتها - بحثاً عن نفس أفضل، وعطاءٍ أكثر جمالاً، إنها ((النفس الفاضلة، في المدينة الفاضلة التي أتعب العظماء أنفسهم في البحث عنها، مع إدراكهم لثمن هذا البحث الشاق:

وما أنا إلا ثائرٌ، فُلَّ سيفه وأسلمه الحامي، فأثخنه الطعن

لقد عاد بي جُهْدُ السُّرى نحو غاية حرامٌ على طُلاّبها العيش والأمن([122">)

ب - الآخر :

حمزة شحاتة “ عقلية تأملية ” لا يحب الوقوف عند الأشياء والأفكار وقوفاً عابراً، وإنما يحب أن يتأمل ويركبّ ويحللّ، ويغربل الأفكار، كما يغربل الناس. اتخذ من المراجعة الدؤوبة، والفحص الدوري للآخر منهجاً في الحياة فقام بفحص ذاته وتجريدها، وقدم لنا في “ النقد الذاتي ” فكراً نيّراً يدل على عظمة المفكر، في التحليل وفي مواجهة الذات ((ذلك الحقل المملوء بالصخور والشوك والعناء والمجهول)) ([123">).

الآخر خضع للفحص تحت منظار هذا المفكر الكبير، وعبّر عنه بلغة أدبية بديعة التصوير والتصوّر. والآخر عنده.

1 - الفرد :

يغلب على نظـرة حمزة شحاتـة للآخـر الفرد التنافي والنبذ والازدراء لا لشخصه، وإنما حين يكون ميت الهمة، سيء الخلق، ضامر الوعي، ولهذا يأتي الآخر مبهماً فيكون اسماً للجنس، يضم تحته أنماطاً كثيرة مشاكلة له في الخصائص، فالنذل هو المخلص لطبيعته، العابد لغرائزه ومصالحه الخاصة ((ليس في الناس من هو أكثر إخلاصاً لطبيعته من النذل)) ([124">) النذل إذن هو الأناني الذي لا تعني الحياة عنده إلا “ الحقوق ” فقط، أمّا الواجبات فلا يعترف بها، والنذل ضعيف النفس، فهو منافق يدعي الذكاء ؛ لضعف نفسه، ودناءة طبعه ((ما أروع النذل عندما يلعب دور الرجل النبيل المهذب أمام ضحايا نذالته على الأخص عندما يظنّهم لا يعرفون)) ([125">).

إن الإنسان يمكن أن يكون رجلاً صالحاً، أو قدّيساً - كما يرى حمزة - ويمكن أن يكون شيطاناً، والفرق بين الصورتين، درجة من الوعي تسمو بالإنسان إلى درجة الملائكة، أو تسقط به إلى عالم الشياطين والوحوش ((إن الإنسان ليس وحشاً خالصاً، كما أنه ليس على بعد ثابت من الوحش، أحياناً يدنو إليه أكثر)) ([126">). والظروف تلعب دوراً مهماً عند حمزة شحاتة في التغيير السيكلوجي، فالإنسان ابن بيئته، ليس هناك إنسان صالح، وإنسان شريرٌ إلا بوسط اجتماعي يتحرك فيه، ويربيه على قيمه ((حتى الوحوش تحمل ذخيرة من الوداعة واللين أمام بعض الظروف)) ([127">).

هذا الإنسان الغاوي يبلغ به حمزة شحاتة درجة من السخرية حين يجعل من حق الشياطين أن تفتش عن سبب غوايتها لديه ((ربما كان من حق الشياطين أن تعتبر الإنسان مسؤولاً عن غوايتها... قالت جنيّةٌ لزوجها أنت إنسان في شكل شيطان)) ([128">).

لكن هذه الصورة تتبدل قليلاً حين يرسم صورة لصديقه الشاعر أحمد قنديل يختلط فيها الإعجاب بالسخرية، فأحمد قنديل شاعر له لسان ((ما يعجزه أن يحك به قفاه لو شاء)) ([129">)، هاديءٌ يقضي في صفّه الدراسي أعواماً لا تندّ من فمه كلمـة اعتراض، ((كاذبٌ ممعن في الكذب وما إخاله إلا كذبة تدفعها الحياة في شكل آدمي ليسهل تسرّبها إلى النفوس والأذهان، يكذب بعضـه على بعضـه، وظاهــره على باطنه، فهـو في مجموعه مثال للتنافر)) ([130">)، وهو شاعر وكاتب من طراز نادر ذو فلسفة في إنكار الذات لو عرفت بين الناس لخلت البلاد من ثمانية أعشار الرذائل التي يولدها الغرور والجهل بالذات، بلديٌّ أصيل، وبلديته هي التي جنت عليه، وغمطته حقه([131">)، وفيه ((ميل إلى الابتكار والتجديد إلا فيما يتصل بمطالب جسده وعيشه فإنه رجعي إلى أطراف أذنيه... وما فتيء قنديل بحاجة إلى ثورة إصلاحية تتناوله من جميع نواحيه الظاهرة، وتقوم بها مصلحة تنظيم مستعدة، وما نرى للبلدية عذراً في إغفال هذا الواجب، فسوف يجيء يومٌ يكون فيه الأستاذ قنديل جزءاً من تاريخ البلد، وجزءاً من تاريخ نشاطه الأدبي)) ([132">).

وتنجلي الصورة عن أجمل مظاهرها في“ شخصيات ثلاث ” رجل وامرأتان، هم معالي الشيخ عبد الله السليمان الحمدان أول وزير مالية في المملكة، وشيرين حمزة شحاتة ابنة حمزة الكُبرى، ونفيسة، أو غادة بولاق.

صورة الشيخ عبد الله الحمدان “ صورة رجل عظيم ” يسوقها حمزة شحاتة مثالاً للعبقريّة ولكن ليتحدث عن سلوكها ؛ لأن في ((نفس العظيم وسبيله في الحياة سراً خفياً من العبقرية الموهوبة يعجز عن إدراكه التحليل)) ([133">).

قيمة هذه الصورة الجميـلة تكمن في “ وعيها الشمولي ” وقدرتـها على “ التجديد والابتكار ” في ذلك كله، مع اتفاق تام بين “ المخبر والمظهر ”.










رد مع اقتباس