منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - تحرير المقال في فقه حديث الصوم والإفطار لرؤية الهلال
عرض مشاركة واحدة
قديم 2015-07-14, 23:21   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
أم فاطمة السلفية
مراقبة المنتدى الاسلامي للنساء
 
الصورة الرمزية أم فاطمة السلفية
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز 
إحصائية العضو










B11 تحرير المقال في فقه حديث الصوم والإفطار لرؤية الهلال

بسم الله الرحمان الرحيم
-تحرير المقال

في فقه حديث الصوم والإفطار لرؤية الهلال
-نصُّ الحديث:
-عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ: «لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الهِلاَلَ، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ»، أخرجه الشيخان وغيرهما(١).
-ترجمة راوي الحديث:
-هو الصحابيُّ المؤتسي برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، أبو عبد الرحمن عبدُ الله بن عمر بن الخطَّاب القرشيُّ العدويُّ، وأمُّه زينب بنت مظعون بن حبيبٍ الجُمَحية.
-أسلم عبد الله وهو صغيرٌ، وهاجر مع أبيه وأمِّه، وعُرض على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ببدرٍ فاستصغره وردَّه وكان ابنَ ثلاث عشرة سنةً (١٣)، وردَّه -أيضًا- يوم أُحُدٍ، ثمَّ أجازه يوم الخندق وكان ابن خمس عشرة سنةً (١٥)(٢)، ثمَّ حضر بعدها كلَّ المشاهد مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، كما شهد غزوةَ مؤتة، واليرموك، وفَتْحَ مصر وإفريقية(٣).
-وكان رضي الله عنه شديد الاتِّباع لآثار النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، كثير الاحتياط والتوقِّي لدينه، اكتسب العلم الوفير من ملازمته وصحبته لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد شهد له النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالصلاح(٤) وكذا أصحابه(٥)، وهو أحد العبادلة، وأحد المكثرين من رواية الحديث، فقد رُوي له (٢٦٣٠) حديثًا: اتَّفق الشيخان على ١٧٠ حديثًا، وانفرد البخاريُّ ﺑ ٨١ ومسلمٌ ﺑ٣١ حديثًا، ويلي المرتبة الأولى بعد أبي هريرة رضي الله عنه(٦).
-وتُوفِّي ابن عمر رضي الله عنهما في مكَّة سنة ثلاثٍ وسبعين هجرية (٧٣ﻫ - ٦٩٢م)، وصلَّى عليه الحجَّاج، وله من العمر أربعٌ وثمانون (٨٤) سنةً(٧).
-سند الحديث:

-الحديث أخرجه البخاريُّ ومسلمٌ من طريق مالكٍ ولفظُ مسلمٍ: «فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ»، ورواه مسلمٌ من طريق أبي أسامة حمَّاد بن أسامة عن عبيد الله بن عمر عن نافعٍ عن ابن عمر: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ذكر رمضانَ فضرب بيديه، فقال: «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا -ثُمَّ عَقَدَ إِبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ-، فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلاَثِينَ»، ثمَّ رواه من طريق عبد الله بن نميرٍ عن عبيد الله بن عمر بهذا الإسناد.
وقد رواه البخاريُّ ومسلمٌ من طريق الزهريِّ عن سالمٍ عن ابن عمر بلفظ: «إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ»، وهي سلسلةٌ قيل لها: إنها أصحُّ الأسانيد(٨) لتوفُّر أعلى درجات القبول وأكمل صفات الرواة فيها.
-وحديث ابن عمر رضي الله عنهما اتَّفق الرواة عن مالكٍ عن نافعٍ فيه على قوله: «فَاقْدُرُوا لَهُ»، وجاء في روايات الصحيحين تفسيرٌ لِمُجمَلِه من طريق عبيد الله بن عمر عن نافعٍ في اعتبار الشهر ثلاثين يومًا، ويشهد له حديث حذيفة عند ابن خزيمة، وأبي هريرة وابن عبَّاسٍ عند أبي داود والنسائيِّ وغيرهما عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعَدَدَ ثَلاَثِينَ»(٩).
-غريب الحديث:

- «غُمَّ عليكم»: أي: حال بينكم وبين الهلال غَيْمٌ أو قَتَرَةٌ(١٠). ويقال: «غُمَّ» و«أُغْمِيَ» و«غُمِيَ» و«غُمِّيَ»، ويقال: «غَبِي» أي: خفي، ورواه بعضهم: «غُبِّي» من الغباء، وهو شبه الغَبَرة في السماء(١١)، وذكر أبو بكر بنُ العربيِّ أنه روي فيه -أيضًا-: «فإن عمي عليكم»، من العَمَى، قال: وهو بمعناه، لأنه ذهاب البصر عن المشاهدات أو ذهابُ البصيرة عن المعقولات(١٢).
- «فَاقْدُرُوا»: يقال: قَدَرتُ الشيءَ أَقدُِرُه (بضمِّ الدال وكسرها) وقدَّرته وأَقْدَرْته، بمعنًى واحدٍ، وهو من التقدير، ومعناه -عند الجمهور-: انظروا في أوَّل الشهر، واحسُبوا تمامَ ثلاثين يومًا، أي: قدِّروا له تمامَ العدد(١٣).
-الفوائد والأحكام المستنبطة:

-وتظهر أحكامُ الحديث وفوائده على الوجه التالي:
١- فيه دليلٌ على جواز إطلاق لفظ: «رمضان» من غير ذكر الشهر بلا كراهةٍ، وهو مذهب الجمهور واختاره النوويُّ.
ونُقل عن أصحاب مالكٍ كراهةُ ذكرِ «رمضان» على انفراده بحالٍ، لأنه -عندهم- اسمٌ من أسماء الله تعالى فلا يُطلَق على غيره إلاَّ بتقييدٍ، لِمَا ورد من حديث أبي هريرة عند أحمد وغيره مرفوعًا: «لاَ تَقُولُوا: جَاءَ رَمَضَانُ، فَإِنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ، وَلَكِنْ قُولُوا: جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ»(١٤).
-وذهب أكثر الشافعية وابن الباقلاَّنيِّ إلى التفصيل، ووجهه أنه: إن وُجِدت قرينةٌ صارفةٌ إلى الشهر فلا كراهة مثل قولهم: «صُمنا رمضان»، أو «قُمنا رمضان»، أو «رمضان أفضل الأشهر» وأشباه ذلك، وإلاَّ فيُكره كأن يقال: «جاء رمضان»، و«حضر رمضان»، و«أُحِبُّ رمضان»، وما إلى ذلك.
-والصحيح المذهب الأوَّل لأنَّ الكراهة حكمٌ شرعيٌّ، وإنما تثبت بنهي الشرع، ولم يثبت فيه نهيٌ في نصٍّ صحيحٍ، بل ورد إطلاقُه من غير تقييدٍ بذكر الشهر كما في حديث الباب، وحديث: «عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تُجْزِئُ حَجَّةً»، وفي قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لامرأةٍ من الأنصار: «إِذَا كَانَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي فِيهِ، فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِلُ حَجَّةً»(١٥).
-وأسماء الله توقيفيةٌ، فإطلاقها ينبغي أن يكون بدليلٍ صحيحٍ، وحديثُ أبي هريرة السابق ضعيفٌ لا يثبت، بل هو موضوعٌ تأكيدًا ولا يقاوم ما ثبت في الصحيح، ولو ثبت أنه اسمٌ لله لم يلزم منه كراهةٌ(١٦).
٢- وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الهِلاَلَ... »: فيه نهيٌ عن استقبال رمضان بصومٍ وأَمرٌ بالصوم لرؤيته، وهو يفيد تحريمَ صيام يوم الشكِّ على أنه من رمضان، وبه قال أكثر الصحابة وجمهورُ الفقهاء، وعند الحنابلة -أيضًا- إن كانت السماء مُصحيةً، وخالفوا إن حال دون النظر غَيْمٌ أو قَتَرٌ فإنَّ المشهور -عندهم- وجوبُ صوم يوم الشكِّ، حملاً ﻟ«التقدير» في الحديث على معنى «التضييق» من عدَّة شعبان بصوم رمضان بتقديره تحت السحاب(١٧).
٣- مقتضى الحديث يدلُّ على أنَّ كلَّ من صام قبل رؤية الهلال فذلك منهيٌّ عنه، ومن لوازم النهي عدمُ انعقاد صومه وعدمُ إجزائه إن ظهر أنه من رمضان، وبه قال الشافعيُّ وغيره، خلافًا للأحناف الذين اقتصروا على الكراهة، وأنه إن ظهر أنه من رمضان أجزأه، وإن ظهر أنه من شعبان كان تطوُّعًا، علمًا أنَّ الحنفية يجيزون صيامَ يوم الشكِّ مطلقًا إذا كان تطوُّعًا محضًا أو لسببٍ(١٨)، وقد تقدَّم تفصيل المسألة في حديث النهي عن صوم يوم الشكِّ(١٩).
٤- دلَّ الحديث على تعليق حكم الصوم والإفطار على الرؤية دون غيرها، فإن حال بينها وبين الهلال غَيْمٌ أو قَتَرةٌ علَّقها على إكمال عدَّة شعبان ثلاثين يومًا، ومنه يتبيَّن أن لا عبرة بالحساب الفلكيِّ، وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف(٢٠)، خلافا لمن يرى جوازَ الحساب الفلكيِّ، وهو قولٌ مرويٌّ عن مطرِّف بن عبد الله، وبه قال أبو العبَّاس بنُ سريجٍ وابنُ قتيبة وابن دقيقٍ وآخرون(٢١)، اعتمادًا على تفسير «التقدير» في الحديث بمعنى: «قَدِّروه بحساب المنازل»، وللإجماع المستظهَر به على أنَّ المحبوس في المطمورة إذا علم -بإكمال العدَّة أو بالاجتهاد بالأمارات- أنَّ ذلك اليومَ من رمضان وجب عليه الصومُ وإن لم يَرَ الهلالَ ولا أخبره من رآه، وكذلك إلحاقُه على إثبات أوقات الصلوات بالحساب، فدلَّ على أنَّ الحساب معتَبَرٌ وأنَّ حقيقة الرؤية لا تُشترط في اللزوم، ولأنَّ الحساب إذا دلَّ على أنَّ الهلال قد طلع في الأفق على وجهٍ يُرى لولا وجودُ المانع كالغيم؛ فإنَّ ذلك يقتضي وجوبَ الصيام لوجود السبب الشرعيِّ وهو العلم بوجود الهلال.
-والصحيح المذهب الأوَّل؛ لأنَّ القول بالاعتماد على الحساب الفلكيِّ بالرغم من ظنِّيَّته قولٌ لا سلف له، وهو مخالفٌ للنصوص القاضية باعتبار الرؤية البصرية بالإهلال أو بالإكمال اعتبارًا للحقيقة غير المظنونة المتمثِّلة إمَّا في الرؤية الظاهرة للعيان وإمَّا في الإكمال باستصحاب الأصل، إذ الأصل بقاء الشهر وكماله، فلا يُتْرَك هذا الأصل إلَّا ليقينٍ، تأسيسًا على قاعدة أنَّ: «مَا ثَبَتَ بِيَقِينٍ لاَ يَزُولُ إِلاَّ بِمِثْلِهِ»، ولأنَّ القول بالحساب الفلكيِّ -أيضًا- مصادمٌ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا»(٢٢)، وهذا الوصف ﺑ«الأمِّيَّة» لهذه الأمَّة صفة مدحٍ وكمالٍ من جهة الاستغناء عن الكتاب والحساب بما هو أبينُ منه وأظهر وهو الهلال، وهو -بلا ريبٍ- اليقين الذي لا يدخله الغلط، بخلاف النتائج الفلكية المعاصرة، فهي ظنِّيَّةُ الحساب لا تفيد العلمَ اليقينيَّ، لقيامها على المراصد الصناعية الحديثة المؤثِّرة على صلاحيته، فيبقى الحساب أمرًا تقديريًّا اجتهاديًّا يدخله الغلط(٢٣). لذلك كان الوصف بالأمِّيَّة في الحديث كاشفًا للواقع لا مفهوم له ولم يخرج مخرجَ التعليل للحكم، فضلاً عن كون تعليق حكم الصوم وغيره بالرؤية أيقنَ وأظهر وأيسر وأسهل، تحقيقًا لدفع الحرج والمشقَّة عن الأمَّة. فالأمر بالصوم مرتبطٌ بأمورٍ ظاهرةٍ وأعلامٍ جليَّةٍ يستوي في معرفتها أهلُ الحساب وغيرهم.
-كما أنَّ ظاهر السياق يُشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ»، ولم يُوكِل الأمرَ لأهل الحساب، ولو كان جائزًا لأرشد إليه. والحكمة فيه كونُ العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلَّفون فيرتفع الخلاف والنزاع عنهم(٢٤)، وهذا يقتضي عدمَ الأخذ بالحساب الفلكيِّ الذي يقطع بتقدير الشهر مسبَّقًا ولسنواتٍ، الأمر الذي لا يَسَعُ القطع فيه إلاَّ برؤية الهلال أو بإكمال عدَّة الشهر ثلاثين، ولذلك لا يسوغ التحوُّل من المقطوع بدلالته بحكم الشرع إلى المظنون، ومن المتيقَّن في نتيجته إلى المشكوك.
-أمَّا إلحاقه بالمحبوس في المطمورة فهو قياسٌ مع ظهور فارق العذر في المحبوس الواجبِ عليه الاجتهادُ في معرفة دخول الوقت والعملُ بما أدَّى إليه اجتهاده، وإن تبيَّن خطؤه بيقينٍ أعاد، وليس الأمر كذلك في غير المعذور عند حصول الغيم في المطالع فهو أمرٌ عاديٌّ خلا من اضطرارٍ، والسبب الشرعيُّ للوجوب إنما هو رؤية الهلال لا العلم بوجوده بالحساب الفلكيِّ، للأحاديث الصحيحة المشعرة بالحصر في نصب الشارع الرؤيةَ سببًا للحكم بأوَّل الشهر، لذلك كان القياس -فضلاً عن فساده بالفرق- فاسدَ الاعتبار -أيضًا- لمخالفته لهذه النصوص الصحيحة والصريحة.
-ومن زاوية فساد الاعتبار فلا يتمُّ القياس على إثبات أوقات الصلوات بالحساب، لأنَّ من قوادح القياس ومفسداته مصادمتَه للنصِّ، كما أنَّ المقيسَ عليه يُشتَرَط ثبوتُه بنصٍّ أو إجماعٍ، وذلك مُختَلَفٌ فيه وغير ثابتٍ به، بالإضافة إلى أنَّ الحكم ينبغي أن يكون معقولَ المعنى، وأوقات الصلاة وعدد الركعات غير معقولة المعنى، فلا يمكن أن يتعدَّى القياسُ إلى محلٍّ آخر غيره.
٥- ويفيد ظاهر هذا الجزء من الحديث -أيضًا- وجوبَ الصوم حين الرؤية متى وُجدت ليلاً أو نهارًا، لكنَّه محمولٌ على صوم اليوم المستقبَل عند الجمهور، فإن كان ذلك يوم الثلاثين من شعبان لم يُصَمْ، وإن كان يوم الثلاثين من رمضان لم يُفْطَر مطلقًا، وهذا هو المشهور من المذاهب الأربعة .
وحُكي ذلك عن عمر وابنه وابن مسعودٍ وأنسٍ رضي الله عنهم وغيرهم. وفرَّق بعض العلماء بين ما قبل الزوال وما بعده: فإن رئي قبل الزوال فهو للَّيلة الماضية وإلاَّ فهو للَّيلة المستقبَلة، سواءٌ أوَّلَ الشهر أو آخره، وهو مذهب سفيان الثوريِّ وابن أبي ليلى وأبي يوسف وبعض المالكية(٢٥)، وهو روايةٌ عن أحمد، وبه قال ابن حزمٍ الظاهريُّ(٢٦)، وهو مرويٌّ عن عمر بن الخطَّاب وعليِّ بن أبي طالبٍ وغيرهما. وخالف الشيعةُ الإجماعَ فأوجبوه مطلقًا(٢٧)، مع اتِّفاقهم جميعًا على اعتبار الرؤية الليلية. وقد استدلَّ المعتبِرون للرؤية النهارية بعموم قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ»، لكنَّ ما بعد الزوال قد خرج بالإجماع المتيقَّن، وبقي حكمُ لفظ الحديث شاملاً لِما قبل الزوال.
٦- ليس المقصود من قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الهِلاَلَ» تعليقَ الصوم بالرؤية في حقِّ كلِّ واحدٍ، بل المراد وجوبُ الصوم على الجميع برؤية البعض، واختلفوا في العدد المعتبَر لرؤية البعض، فذهب بعض العلماء إلى أنَّ العدد المعتَبَر للرؤية هو الذي تثبت به الحقوق وهو عدلان، وبه قال مالكٌ والثوريُّ والأوزاعيُّ وغيرهم، وهو أحد قولي الشافعيِّ وأحمد(٢٨)، ويدلُّ على اعتبار العدلين قولُه تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨٢]، وقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم للمدَّعي: «شَاهِدَاكَ»(٢٩)، وحديثُ عبد الرحمن بن زيد بن الخطَّاب عن جمعٍ من الصحابة مرفوعًا: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ وَانْسُكُوا لَهَا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا ثَلاَثِينَ، فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ مُسْلِمَانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا»(٣٠)، وحديثُ رِبْعِيِّ بن حِراشٍ عن رجلٍ من أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَدِمَ أَعْرَابِيَّانِ فَشَهِدَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِاللهِ لَأَهَلاَّ(٣١) الهِلاَلَ أَمْسِ عَشِيَّةً، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ أَنْ يُفْطِرُوا»(٣٢).
وتدلُّ هذه الأحاديث على عدم قبول شهادة العدل الواحد في رؤية هلال رمضان وشوَّالٍ، بل الواجب شهادة اثنين من المسلمين العدول.
وخالف في المسألة الشافعيُّ وأحمد في أظهر قوليه(٣٣)، حيث يرى هؤلاء أنَّ رؤية الهلال تثبت بشهادة الواحد، وبه قال ابن حزمٍ(٣٤) ورجَّحه الصنعانيُّ والشوكانيُّ(٣٥)، عملاً بحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «تَرَاءَى النَّاسُ الهِلاَلَ فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي رَأَيْتُهُ، فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ»(٣٦)، وبحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الهِلاَلَ، فَقَالَ: «أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «يَا بِلاَلُ، أَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا»»(٣٧).
وعورضت أدلَّة الأوَّلِين بما ذكره ابن حزمٍ أنه: «ليس فيه إلاَّ قبوله اثنين ونحن لا ننكر هذا، وليس فيه أن لا يُقبَل واحدٌ»(٣٨)، هذا من جهةٍ، وبما قرَّره الشوكانيُّ ترجيحًا لمذهبه بما نصُّه: «ولا يخفاك أنَّ ما دلَّ على اعتبار الشاهدين يدلُّ على عدم العمل بالشاهد الواحد بمفهوم العدد، وما دلَّ على صحَّة شهادة الواحد والعمل بها يدلُّ بمنطوقه على العمل بشهادة الواحد، و«دَلاَلَةُ المَنْطُوقِ أَرْجَحُ مِنْ دَلاَلَةِ المَفْهُومِ»»(٣٩)، ويؤيِّد وجوبَ العمل بخبر الواحد الأدلَّةُ التي تنصُّ على قبول أخبار الآحاد على العموم إلاَّ ما خصَّه الدليل، فالأمر في الهلال جارٍ مجرى الأخبار لا الشهادة(٤٠).
والمختار مذهب المشترطين للعدلين في الصيام والإفطار، ويظهر رجحانُه من حيث إنَّ الاستدلال بحديث ابن عمر رضي الله عنهما يقدح فيه وجودُ احتمالٍ متمثِّلٍ في أن يكون قد شهد عند النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم رجلٌ مثلَ شهادة ابن عمر رضي الله عنهما فكمَّل نصابَ الشهادة، فيكون ما نقله ابن عمر رضي الله عنهما إنما حقيقته هي حكاية فعلِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وليس نَصًّا في قبول شهادته بمفردها، وبذلك يندفع التعارض بينه وبين حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطَّاب الذي نقل قولَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن جمعٍ من الصحابة، وابنُ عمر لا يخالفهم في الاعتداد بشهادة عدلين، وقد روى أبو داود عنه أنه قال: «بِذَلِكَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»(٤١)، وحديث الأعرابيِّ ضعيفٌ(٤٢) لا يصلح للاستدلال، ولو صحَّ فإنه قابلٌ للتأويل للسابق.
-أمَّا اعتراض ابن حزمٍ فمبنيٌّ على اعتبار ظاهر اللفظ وعدم حجِّيَّة المفهوم عنده، وهذا مِمَّا لا يَسَعُ القولُ بظاهره، لأنه ليس نصًّا في ثبوت الرؤية المنفردة، بل هو حكاية فعلٍ معارَضةٌ بنصٍّ وعمل الصحابة، وعلى التسليم بظاهرية النصِّ فهو مصروفٌ عن معناه المتبادر للاحتمال القويِّ الوارد عليه.
-وأمَّا ترجيح الشوكانيِّ بتقديم المنطوق على المفهوم فصحيحٌ تقعيدًا إذا حصل التعارض والاختلاف وكان الحديث نصًّا غيرَ محتملٍ احتمالاً مرجوحًا، وهذا مُنتفٍ، بل الجمع مُتحقِّقٌ، وهو أَوْلى من الترجيح.
-أمَّا تأييد العمل بخبر الواحد بالأدلَّة القاضية بقبوله وهي جاريةٌ مجرى العموم، فقد ورد ما يدلُّ على التخصيص بشهادة عدلين في الإفطار والصوم.
٧- استُدلَّ بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «حَتَّى تَرَوُا الهِلاَلَ ... » على أنه إذا رئي الهلال ببلدٍ لم تَلزم رؤيتُهم أهلَ بلدٍ آخر لم يُرَ فيه الهلال، لكون الحديث بمنطوقه أفاد النهيَ عن الصيام مغيًّا بالرؤية، فما دامت الرؤية لم تقع فيمتنع الصيام، كما أفاد بمفهومه نقيضَ حكم ما قبل الغاية، وهو الأمر بالصيام عند الرؤية، واستدلَّ المخالف على أنه مصروفٌ عن ظاهره لأنَّ المعنى -كما تقدَّم- هو وجوب صوم الجميع برؤية البعض، وهذا يدلُّ على أنه يلزم أهلَ كلِّ بلدٍ أن يصوموا برؤية أهل البلد الآخر، وهذه المسألة سنتعرَّض لها بالتفصيل في فقه الحديث.
٨- تكمن حكمة النهي عن صيام يوم الشكِّ في أنَّ الحكم عُلِّق بالرؤية، فمن تقدَّمَه فقد حاول الطعنَ في ذلك الحكم، قال الحافظ: «وهذا هو المعتمد»(٤٣).
-ويرى بعض أهل العلم أنَّ الحكمة فيه التقوِّي بالفطر لرمضان ليدخل فيه بقوَّةٍ ونشاطٍ، ويرى آخرون أنَّ الحكمة في النهي خشيةُ اختلاط النفل بالفرض، وكلاهما فيه نظرٌ من ناحية أنَّ الرأي القائل بالتقوِّي مندفعٌ بمقتضى الحديث الدالِّ بمفهومه على أنه لو تقدَّمه بصيام ثلاثة أيَّامٍ أو أربعةٍ جاز، كما يندفع هذا الرأي الأخير من جهة انتقاضه لمن له عادةٌ كما أشار إليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «... إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ فَلْيَصُمْ ذَلِكَ اليَوْمَ»(٤٤)، ولا يَرِد هذا على الرأي المعتمد، لأنه قد أُذن له فيه، وليس ذلك من استقبال رمضان في شيءٍ(٤٥).
فقه الحديث:

-في اعتبار اختلاف المطالع في ثبوت الأهلَّة وآراء الفقهاء فيه:

-في تحرير محلِّ النزاع فإنه يخرج من هذه المسألة اعتبارُ مطالع الشمس في مواقيت العبادات، وأنَّ لكلِّ بلدٍ مواقيتَه في الصلوات والإفطار والسحور، فتوحيد مواقيتها في البلدان المختلفة غيرُ مقصودٍ بالنظر إلى اختلاف الأقطار والبلدان على الكرة الأرضية(٤٦)، كما يخرج من محلِّ النزاع ما إذا ثبتت رؤية الهلال عند الإمام الأعظم وألزم الناس داخل ولايته بما ثبت من رؤيةٍ في بلده؛ فإنه يسقط أثر اختلاف البلدان المتباعدة ويجب الصوم على جميعهم حتَّى لو كان ثبوت رؤية الهلال في مطلعٍ من مطالع تلك الأقطار دون سائرها ما دام حكمُ الإمام الأعلى نافذًا على جميع هذه الأقطار والبلدان، فهي في حقِّه كالبلد الواحد اتِّفاقًا(٤٧)، ذلك لأنَّ مسألة اختلاف المطالع محلُّ اجتهادٍ يولِّد آراءً ووجهات نظرٍ مختلفةً، وحكم الحاكم يرفع النزاعَ ويحسم الخلاف ويرجَّح به أحدُ النظرين أو الأنظار المتباينة لاعتقاده بأحقِّية رجحانه، الأمر الذي يوجب إنفاذَ حكمه والامتثالَ له والعمل بمقتضاه، ولا يجوز مخالفته فيما قطع فيه الخلافَ شرعًا طاعةً لوليِّ أمر المسلمين وتوحيدًا لكلمتهم.
كذلك لا خلاف بين الفقهاء في تحقُّق اختلاف مطالع القمر(٤٨)، وإنما النزاع في اعتبار اختلاف مطالعه في ثبوت الأهلَّة وما يتعلَّق بها من أحكامٍ:
-كثبوت بدء الصوم في رمضان، والفطر في شوَّالٍ، والحجِّ، والإيلاء، وعدَّة المتوفَّى عنها زوجها وغيرها من الأحكام الشرعية المتعلِّقة بالأجل والزمن، فقد ربطها الله تعالى بالأشهر القمرية في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة: ١٨٩]، هذا فيما إذا كانت الأقطار والبلدان خارجةً عن حكم الإمام الأعلى أو وُجد بعضٌ من المسلمين في بلادٍ غير مسلمةٍ: فهل رؤية البعض تعمُّ في حقِّ جميع البلدان في ثبوت الأحكام ولا عبرة باختلاف المطالع، بل يجب العمل بالأسبق رؤيةً: فلو رؤي في المشرق ليلةَ الجمعة وفي المغرب ليلةَ السبت؛ وجب على أهل المغرب العمل بما رآه أهل المشرق، أم يستقلُّ كلُّ بلدٍ برؤيته ويكون الاعتبار باختلاف المطالع، أي: يلزم على كلِّ بلدٍ العملُ بمطلعه ولا يلزمه مطلعُ غيره، فإن لم يَرَوُا الهلال أكملوا شهرَ شعبان ثلاثين؟
-أوَّلا: مذاهب العلماء:

-الفقهاء في هذه المسألة اختلفوا على مذهبين رئيسين:
- فالأوَّل: يذهب إلى القول بتوحيد الرؤية ولا يعتَبِر اختلافَ مطالع القمر في ثبوت الأهلَّة، وبهذا قال الجمهور وهو المعتمد عند الحنفية، ونسبه ابن عبد البرِّ إلى الإمام مالكٍ فيما رواه عنه ابن القاسم والمصريُّون، كما عزاه إلى الليث والشافعيِّ والكوفيِّين وأحمد، وبه قال ابن تيمية والشوكانيُّ(٤٩) وغيرهم من أهل التحقيق، ويترتَّب على هذا القول وجوبُ القضاء إذا بدأ أهل بلدٍ صومَهم اليومَ الذي يلي رؤيةَ الهلال في بلدٍ آخر.
- الثاني: ذهب المعتبِرون لاختلاف المطالع إلى أنَّ رؤية الهلال في بلدٍ لا تلزم في حقِّ أهل بلدٍ آخر، بل لكلٍّ رؤيتُهم مطلقًا، سواءٌ تقاربت البلدان أو تباعدت، وقد حكاه ابن المنذر عن عكرمة والقاسم بن محمَّدٍ وسالم بن عبد الله وإسحاق بن راهويه، وعزا ابن عبد البرِّ هذا القولَ لابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما وابن المبارك، كما عزاه إلى مالكٍ فيما رواه المدنيُّون عنه، وإلى المغيرة وابن دينارٍ وابن الماجشون من أتباع الإمام مالكٍ(٥٠)، وحكاه الماورديُّ وجهًا للشافعية(٥١).
وفرَّق آخرون مِمَّن يعتبرون اختلافَ المطالع بين البلد القريب والبعيد: فيجعلون تقارُبَ البلدان والأقطار في حكم بلدٍ واحدٍ، أمَّا إذا تباعدت فلا تكون لازمةً لأهل البلد الآخر، فأهل كلِّ أفقٍ يستقلُّون برؤيتهم. وهذا هو المعتمد عند الشافعية، وبه قال الشيرازيُّ وصحَّحه الرافعيُّ، وبه قال الزيلعيُّ من الحنفية(٥٢).
وقد اختلف فقهاء هذا المذهب اختلافًا شديدًا في ضابط القرب والبعد. وما اشترطوه من معيار البعد مبنِيٌّ -في حقيقته- على استدلالٍ عقليٍّ محضٍ لا يشهد له دليلٌ من الشرع.
-ثانيا: أدلَّة الفريقين:

-نتناول -أوَّلًا- أدلَّة القائلين بتوحيد المطالع، ثمَّ نتبعه بأدلَّة المعتَبِرِين لاختلاف المطالع، مع مناقشة الأدلَّة الواردة من الفريقين، وسبب الخلاف، ثمَّ الترجيح.
-أوَّلاً: أدلَّة القائلين بتوحيد المطالع:

-استدلَّ هؤلاء بالكتاب والسنَّة والإجماع والقياس والمعقول:
١- أمَّا من الكتاب: فاحتجُّوا بقوله تعالى:﴿فَمَنْ شَهِدَ(٥٣) مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: ١٨٥]، فالآية أناطت حُكْمَ وجوب الصوم بثبوت الشهر نفسه بمطلق الرؤية المفيدة العلمَ بحلوله من أيِّ مطلعٍ كان، ولا خلاف في أنَّ شهود الشهر في الآية ليس المقصودُ به خصوصَ رؤية الهلال من كلِّ مكلَّفٍ على الاستقلال والانفراد، بلِ الْتِماس الرؤية على الكفاية.
٢- ومن السنَّة: استدلُّوا بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ»(٥٤).
-وجه دلالة الحديث: أنَّ الشارع علَّق عمومَ الحكم على كافَّة المسلمين في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «صُومُوا» بمطلق الرؤية، وتصدق برؤية البعض، لأنَّ المطلق يتحقَّق في أيِّ فردٍ من أفراده الشائعة في جنسه، بمعنى أنَّ عمومه بدليٌّ لا شموليٌّ، ويدلُّ عليه قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «... فَإِنْ شَهِدَ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا وَانْسُكُوا»(٥٥)، و«ذَوَا عَدْلٍ» هو البعض المعتَبَر في تحقيق مسمَّى الرؤية وثبوتها، فكأنَّ صيغة الحديث وردت بهذا اللفظ: «صُومُوا وَأَفْطِرُوا إِذَا تَحَقَّقَتْ رُؤْيَةُ الهِلَالِ، مَهْمَا كَانَ مَوْقِعُهَا مِنَ القُرْبِ أَوِ البُعْدِ»، بناءً على مفاد القاعدة الأصولية أنَّ: «المُطْلَقَ يُجْرَى عَلَى إِطْلَاقِهِ»، فاستوى القرب والبعد بين البلدان في مطلق الرؤية التي تُعَدُّ علَّةَ الحكم، إذ لم يَرِدْ ما يقيِّد الإطلاقَ، وعليه؛ فإنَّ اشتراط التباعد بين الأقطار تقييدٌ وزيادةٌ على النصِّ يفتقر إلى دليلٍ يقوِّيه، وإذا انتفى عن الحديث ما يقيِّده انعقد الشهر بثبوت رؤية هلاله، لا بتعدُّد مطالعه، ووجب -حالتئذٍ- على المسلمين صيامه في سائر أقطارهم لعموم الخطاب الشامل لهم.
٣- أمَّا الإجماع: فاستدلُّوا به على وجوب صوم شهر رمضان، وقد ثبت أنَّ هذا اليومَ من الشهر بشهادة الثقات فوجب صومُه على المسلمين، ومن مستندات هذا الإجماع الآيةُ والحديث السابقان، وعليه؛ يتبيَّن أنه إذا ثبت أنَّ هذا اليوم من شهر رمضان كان ثابتًا وجوبُ صومه على كافَّة المسلمين بالنصِّ والإجماع(٥٦).
٤- أمَّا بالقياس والمعقول فاستدلُّوا بهما على الوجه التالي:
- قياس الصوم على سائر الأحكام المتعلِّقة بثبوت الشهر من حلول الدَّين، ووقوع الطلاق والعتاق، ووجوب النذر وغيرها من الأحكام إذا ما علِّقت بدخول الشهر، سواءٌ كان رمضان أو غيره من الشهور، ولَمَّا كانت هذه الأحكام ثبتت بولادة الشهر برؤية الثقات للهلال في أوَّل ليلةٍ منه بمطلق الرؤية من غير اعتبارٍ لتعدُّد مطالعه؛ أُلْحِق به شهر رمضان في وجوب الصوم في حقِّ كافَّة المسلمين إلحاقًا قياسيًّا، إذ لا يخفى أنَّ وجود الشهر محصورٌ بين هلالين: الأوَّل من ليلةٍ من رمضان، والأوَّل من ليلة شوَّالٍ، فولادة الشهر لا تتعدَّد، كما أنه لا يتردَّد بين مجموعةٍ من الأهلَّة في مطالع متعدِّدةٍ، وإذا ثبت بشهادة العدلين أنه كذلك في سائر الأحكام المتقدِّمة صار صومُ رمضان أسوةً بالشهور الأخرى لتعلُّق وجوبه بانعقاد الشهر(٥٧).
- ومن المعقول: أنَّ التفريق بين البلدان والأقطار البعيدة والقريبة تحكُّمٌ يفتقر إلى دليلٍ يسنده، والأصل التسوية بينهما لاشتراكهما في مطلق الرؤية، وهي علَّةٌ عامَّةٌ لا يصحُّ تقييدها بالتباعد لانتفاء وجود دليل اختصاص كلٍّ منهما بحكمٍ(٥٨).
-ثانيًا: أدلَّة القائلين باختلاف المطالع:

-استدلَّ هؤلاء بالسُّنَّة والإجماع والقياس والمعقول:
١- أمَّا من السنَّة: فبحديث الباب في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ».
-وبقوله صلَّى الله عليه وسلَّم في الرواية الأخرى: «إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ»(٥٩).
-وجه دلالة الحديثين: أنَّ الشارع أناط حُكْمَ الصوم والإفطار برؤية الهلال من كلِّ المسلمين، وذكرُه يقتضي أن يكون الْتماس الرؤية فرضًا عينيًّا في حقِّ كلِّ مكلَّفٍ، غير أنَّ السُّنَّة الصحيحة قضت أنَّ الشهادة المعتبَرة شرعًا تُنزَّل منزلةَ رؤية الكلِّ فاختصَّت لأهل البلد الواحد استثناءً من عموم ما يقتضيه الحديث، فيدخل ما جاوره من الضواحي والبلدان القريبة، لأنَّ «كُلَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ أَخَذَ حُكْمَهُ»، ويبقى من عداهم من سائر أهل البلاد البعيدة على مقتضى عموم الحديث القاضي بعدم وجوب الصوم حتَّى تثبت رؤيتهم لهلال رمضان في مطلعه، فتقرَّر -عندئذٍ- اعتبار اختلاف المطالع، وما ذُكر من حكمٍ في هلال رمضان فمنسحبٌ على سائر الأهلَّة.
- ومن السُّنَّة -أيضًا-: استدلُّوا بحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما في قصَّة «كريبٍ» أنَّ أمَّ الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية رضي الله عنه بالشام، فقال: «فقدمتُ الشام، فقضيت حاجتها، واستَهَلَّ عليَّ هلالُ رمضان -وأنا بالشام-، فرأيت الهلالَ ليلة الجمعة، ثمَّ قدمتُ المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، ثمَّ ذكر الهلال فقال: «متى رأيتم؟» فقلت: «رأيناه ليلة الجمعة»، قال: «أنت رأيتَه ليلةَ الجمعة؟» قلتُ: «نعم، ورآه الناس فصاموا وصام معاوية»، قال: «لكنْ رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتَّى نكمل ثلاثين يومًا أو نراه»، فقلت: «أوَلا تكتفي برؤية معاوية وأصحابه؟» قال: «لا، هكذا أمرنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم»»(٦٠).
-وجه دلالة هذا الحديث: أنَّ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما لم يعتدَّ برؤية أهل الشام، واعتبر ثبوتَ الهلال في حقِّ كلِّ‏ بلدٍ هو رؤيتَهم له بأنفسهم من مطلعه على سبيل الاستقلال والانفراد، وقد بيَّن لكريبٍ هذا الأمرَ وأفهمه أنَّ إحصاء الثلاثين إنما تُعْتَبر بدايته من واقع رؤية أهل المدينة، وقد صرَّح ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ هذا الحكم لم يَرِدْ عن اجتهادٍ منه، وإنما رفعه إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله: «هكذا أمرنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم»، ولَمَّا بان رفضُه للالتزام برؤية أهل الشام امتثالًا لِما أمر به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صار ذلك حجَّةَ التزامِ كلِّ بلدٍ برؤيته إذا تَمَّت رؤية الهلال من مطلعه، وإلَّا فيجب إكمال الثلاثين من شعبان(٦١).
٢- ومن الإجماع: استدلُّوا بما نقله ابن عبد البرِّ -رحمه الله- وابن رشدٍ الحفيد -رحمه الله- وغيرهما من عدم مراعاة الرؤية فيما أخِّر من البلدان كالأندلس من خراسان، وكذلك كلُّ بلدٍ له رؤيته إلَّا ما كان كالمصر الكبير وما تقاربت أقطارُه من بلاد المسلمين، قولًا واحدًا نقلوه عن أهل العلم(٦٢).
- كما استدلَّ تقيُّ الدين السبكيُّ في رسالته «العلم المنثور في إثبات الشهور» بما يوحي أنَّ ثَمَّةَ إجماعًا قديمًا من الصحابة رضي الله عنهم على اعتبار اختلاف المطالع، وقد صرَّح -رحمه الله- أنه لم يُنقل عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أنهم كانوا يُلزِمون بالصوم أهلَ الآفاق إذا رؤي الهلال في بلدتهم، فلو كان ذلك لازمًا لهم لأبلغوهم ولكتبوا إليهم، إذ لا يُتصوَّر إهمالهم لأمور الدين، ولَمَّا لم يكن ذلك حاصلًا دلَّ ذلك على أنه لا تلزم أهلَ بلدٍ لم يَرَوُا الهلالَ رؤيةُ غيرهم(٦٣).
٣- واستدلُّوا من القياس: بإلحاق مطلع القمر بمطلع الشمس باعتبار نسبية مطلعيهما شرقًا وغربًا، وذلك لاشتراكهما في وضعٍ كونيٍّ يؤثِّر في اختلاف أوقات العبادات وانعقاد الأهلَّة، ولَمَّا كان اختلاف وقت شروق الشمس وزوالها وغروبها في حقِّ كلِّ بلدٍ أمرًا مجمَعًا عليه، فيُلحق بها القمر من حيث مطالعه التي تختلف بتباعُد الأقطار والبلدان.
٤- ويظهر احتجاجهم بالمعقول: من ناحية أنَّ الشارع الحكيم علَّق الصيام على زمنٍ محدَّدٍ فترتُه، وهو مرتبطٌ بدوران الأفلاك وسيرها، ولا يخفى اختلاف الأزمنة باختلاف مواقع الأقطار على الكرة الأرضية -جهةً وقدْرًا- في خطوط الطول والعرض، فالواجب -إذن- أن لا يشذَّ حُكْمُ الصوم عنها.
-ثالثًا: مناقشة الأدلَّة السابقة:

-نورد مناقشةَ القائلين بتوحيد المطالع أوَّلًا، ونتعرَّض لمناقشة المعتَبِرين لاختلاف المطالع ثانيًا، ثمَّ نستتبع المناقشة بإظهار سبب الخلاف في هذه المسألة ثالثًا، ثمَّ نبدي المختار رابعًا وأخيرًا.
يتبع...








 


رد مع اقتباس