وهنا مسألتان :
المسألة الأولى :
أخذ المال من الناس بغير حق ، بأي شكل من الأشكال ، بالسرقة أو بالاختلاس ، أو بغيرهما ؛ هو ظلم عظيم ، وفاعله توعده الله تعالى بالعقوبة
ولا فرق ـ في عقوبة الآخرة ـ بين أن يكون قد أخذ مال غيره : سرقة ، أو يكون قد أخذه اختلاسا ـ بحسب التفريق الاصطلاحي السابق .
قال الله تعالى : ( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) الشورى /42.
وقال تعالى : ( وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) المطففين / 1 – 6 .
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ : فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ )
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا ، يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : ( وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ ) " رواه مسلم ( 137 ).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟ )
قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ ، فَقَالَ : ( إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي ، يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا
وَسَفَكَ دَمَ هَذَا ، وَضَرَبَ هَذَا . فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ . فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ ، قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ . ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ) " رواه مسلم ( 2581 ) .
فعدم قطع اليد على بعض أنواع الظلم لا يعني أنها معصية هينة ، ولا يعني أنها ليست سرقة وأكلا لأموال الناس بالباطل ، ولا يعني كذلك أنها لا عقوبة عليها في الآخرة
أو أن عقوبتها في الآخرة أهون من عقوبة السرقة ، بالمعنى الاصطلاحي المذكور ؛ فإن أخذ أموال الناس بالباطل ، أيا ما كانت وسيلته : هو من كبائر الإثم والعدوان ، وفاعله في خطر عظيم .
المسألة الثانية :
أما العقوبة الدنيوية فتختلف .
فالسارق : تقطع يده .
لقول الله تعالى : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) المائدة /38 .
أمّا المُخْتَلِس :
فأهل العلم على أن المختلس لا تقطع يده .
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى :
" أجمع أهل العلم ، على أنّ الخُلْسَة ، لا قطع فيها ، ولا في الخيانة ؛ ولا أعلم أحدا أوجب في الخُلْسَة القطع ، إلا إياس بن معاوية ، وسائر أهل العلم ؛ لا يرون فيها قطعا " .
انتهى من " الاستذكار " ( 24 / 236 ) .
وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى :
" فإن اختطف أو اختلس : لم يكن سارقا ، ولا قطع عليه عند أحد علمناه ـ غير إياس بن معاوية ، قال : أقطع المختلس ؛ لأنه يستخفي بأخذه ، فيكون سارقا ، وأهل الفقه والفتوى من علماء الأمصار على خلافه "
انتهى من " المغني " ( 12 / 416 ) .
والدليل على عدم القطع :
حديث جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلاَ مُنْتَهِبٍ وَلاَ مُخْتَلِسٍ : قَطْعٌ ) رواه الترمذي ( 1448 ) ، وقَالَ الترمذي : " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ "
انتهى من " سنن الترمذي " ( 4 / 52 ) ، وصححه الألباني في " إرواء الغليل " ( 2403 ) .
وعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، عَنْ أَبِيهِ ؛ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( لَيْسَ عَلَى الْمُخْتَلِسِ قَطْعٌ ) رواه ابن ماجه (2592 )
وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في " التلخيص الحبير " ( 4 / 123 ) ، والألباني في " إرواء الغليل " ( 8 / 65 ) .
فإن سئل لماذا تقطع يد السارق ، ولا تقطع يد المختلس ، وقد يختلس مالا أكثر من السارق ؟
فالجواب عن هذا :
1- السرقة خفية : تُغري السرّاق ، أكثر من أن يغريهم أخذ المال جهرة ، لأن أكثر السرّاق لا يحبون الفضيحة ؛ لذا جاء الحد على السرقة التي تشتهيها نفوس أكثر السرّاق
وهذا كشرب الخمر ، وأكل الميتة والخنزير ؛ فشرب الخمر تشتهيه نفوس كثير من عصاة المسلمين ، أما أكل الميتة والخنزير فتستقذره نفوس أغلب عصاة المسلمين ؛ لذا جاء الحدّ على شرب الخمر
ولم يأت على أكل الميتة كما ذكر ذلك أهل العلم .
2- قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" وأما قطع يد السارق في ثلاثة دراهم ، وترك قطع المختلس والمنتهب والغاصب فمن تمام حكمة الشارع أيضا ؛ فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه . فإنه ينقب الدور ، ويهتك الحِرْز ويكسر القُفل
ولا يمكن صاحبَ المتاع الاحتراز منه بأكثر من ذلك ، فلو لم يُشْرَع قطعه : لسرق الناس بعضهم بعضا ، وعظم الضرر ، واشتدت المحنة بالسُّرَّاق .
بخلاف المنتهب والمختلس ؛ فإن المنتهب هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس ، فيمكنهم أن يأخذوا على يديه ، ويخلصوا حق المظلوم أو يشهدوا له عند الحاكم
وأما المختلس فإنه إنما يأخذ المال على حين غفلة من مالكه ، وغِرَّه ، فلا يخلو من نوع تفريط يُمكن به المختلس من اختلاسه ، وإلا فمع كمال التحفظ والتيقظ ، لا يمكنه الاختلاس " .
انتهى من " إعلام الموقعين " ( 3 / 285 ) .
3 - عدم قطع يد المختلس ؛ لا يعني عدم العقوبة ، فلولي الأمر أن يعزره ويعاقبه بما يردعه عن العودة إلى الاختلاس ، فيعاقبه بالضرب أو الحبس ونحو ذلك .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" ولكن يسوغ كفّ عدوان هؤلاء بالضرب والنكال ، والسجن الطويل ، والعقوبة بأخذ المال "
انتهى من " إعلام الموقعين " ( 3 / 285 ) .
عَنْ قَتَادَةَ: " أَنَّ غُلَامًا اخْتَلَسَ طَوْقًا ، فَرُفِعَ إِلَى عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ ، فَسَأَلَ الْحَسَنَ عَنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ، وَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ إِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ ؟ فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ ، فَلَمَّا اخْتَلَفَا كَتَبَ فِي ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَدْعُوهَا : عَدْوَةَ الظَّهِيرَةِ ، لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ أَوْجِعْ ظَهْرَهُ ، وَأَطِلْ حَبْسَهُ ) رواه ابن أبي شيبة في " المصنف " ( 14 / 499 بتحقيق عوّامة ) رقم ( 29258 ) .
والله أعلم .