ى البحث في الخطاب الأدبي وصلته بالنقد يستحوذ على اهتمامات دارسي اللغة والأدب منذ بداية القرن العشرين، بفضل ما تقدمه الحقول المعرفية الجديدة كاللسانيات والأسلوبية والسيميولوجية من مصطلحات وأدوات إجرائية، تسهم في مقاربة الأثر الأدبي، بعيدا عن المقولات النقدية التي كانت مستعارة من كل الحقول إلا حقل الأدب.
ولذلك ألفينا اليوم تراجعا عن القيم والخصائص الجمالية التي كان يطلقها النقد العربي الكلاسيكي على الخطاب الأدبي من منظور انطباعي سطحي، منذ عرفت مناهج الدراسات اللسانية والأسلوبية والسيميولوجية الانتشار في العالم العربي عن طريق الترجمات.
وللوقوف على تطور اتجاهات الخطاب من منظور المناهج النقدية الحديثة، لا بد أن نربط راهن هذا النقد بالخطاب النقدي الكلاسيكي الذي لم يلغ صلته بالبلاغة العربية القديمة، وما آل إليه بعد تراكم المعارف النقدية والعلمية والثقافية التي تربطه بها صلات التأثير والتأثّر، مهدت لظهور خطاب نقدي جديد.
1 ـ اتجاه الخطاب النقدي الكلاسيكي وخصائصه:
ركزت أكثر مناهج تحليل النصوص الأدبية في النصف الأول من القرن العشرين في الوطن العربي عنايتها على دراسة محيط الخطاب وأسبابه الخارجية، وهي لم تقتصر على تحليل النصوص القديمة فحسب، وإنما كانت تسعى إلى تحليل النصوص الحديثة بالمنهجية الكلاسيكية نفسها، وما ذاك إلا لأن الموروث النقدي عبر مراحله المتعاقبة لم يرق إلى معالجة النص الأدبي معالجة كلية، وبقي في معظمه في حدود اللفظة والتراكيب، وطغت عليه النزعة الانطباعية، ولجأ أصحابه إلى احتذاء نماذج معينة، وأنماط تعبيرية جاهزة، يتخذونها مقاييس نقدية، قليلا ما يرضون بالخروج عنها.
ولعل هذا ما جعل الموروث النقدي حبيس معايير لم يستطع التخلص منها إلا في بداية القرن العشرين، وكانت نظرته بعيدة عن احتواء النص كاملا، لأنها (النظرة الكلاسيكية) لم تكن ترى في الأثر الأدبي سوى اللفظ أو الجملة أو الشطر أو الفقرة. وهو أسلوب النقد العربي القديم الذي كان يصدر أحكاما عامة من خلال معاينة الجزء.
وعلى الرغم من النتائج التي حققتها هذه الدراسات، والمناهج، في تفسير النصوص الأدبية، وتحليلها في ضوء سياقاتها المختلفة: الاجتماعية والتاريخية والدينية، فإنها لا تخرج عادة على التفسير التعليلي، ومحاولة البحث عن الأصول التي انبثقت عنها النصوص الإبداعية، دون مقاربة النص ذاته، ولذلك عجزت عن تحليل بنيات الأثر الأدبي ودلالاته العميقة، واكتفت في أغلب الأحيان بوصف المظهر النصي السطحي، وملابساته التاريخية والسياسية. (1)
ومما لا شك فيه أن صياغة الأثر الأدبي لا تنفصل عن عوامل المحيط كلها أو بعضها، وتطرح الخاصية الأدبية بعنف حين نعزل العوامل الفردية في تحديد العمل الأدبي عن العوامل التي تحدد إطاره الخارجي. (2) وهنا يبدو عجز هذا الاتجاه في مقاربة الخاصية الأدبية، وتفكيك عناصرها الداخلية الدالة على فرادتها، والتي لا تخضع ـ في كل الحالات ـ إلى الظروف الخارجية المحيطة بالعمل الأدبي.
وبحثا عن منهج ملائم ظل النقاد الكلاسيكيون يتوسلون بشتى أنواع الآليات في دراسة النص الأدبي، وينتقلون من منهج إلى آخر، وفق مرجعيات معينة، ولكن ـ في أغلب الأحيان ـ انطلاقا من المناهج المعيارية التذوقية، نحو: النظرية المدرسية التي تقسم الأدب العربي إلى عصور، ونظرية الفنون الأدبية، ونظرية خصائص الجنس، والنظرية الإقليمية، والنظرية النفسية، والنظرية الاجتماعية. (3)
كما سعت المناهج الخارجية التي اهتمت بدراسة النصوص الأدبية إلى تأسيس نوع من العلاقة السببية أو الحتمية، بين الأثر الأدبي وكاتبه وبيئته، وهي تأمل من ذلك كله الوصول إلى تحديد العلاقة بين الأثر الفني ومحيطه. (4)
وهكذا عرف النصف الأول من القرن العشرين نصوصا نقدية تعتبر الأدب صورة عاكسة لإنتاج الفرد، ومن ثم ركزت على سيرة الكاتب ونفسيته. (5) كما ظهرت دراسات للنصوص الإبداعية متأثرة بالعوامل الاقتصادية، والاجتماعية والسياسية. كما حلل بعض النقاد النص الأدبي في ضوء علاقته بالابتكارات الجماعية للعقل البشري، كتاريخ الأفكار واللاهوت، والفنون. (6)
ويرجع ظهور المناهج الخارجية في تحليل النصوص الأدبية إلى العوامل والأسباب الآتية:
ـ تأثر النقد في تحليل النصوص الأدبية بالعلوم الطبيعية.
ـ ظهور تاريخ الأدب الحديث وعلاقته الوثيقة بالحركة الرومانسية التي لم تستطع أن تحطم الرؤية النقدية للكلاسيكية إلا بالحجة القائلة : "إن الأزمنة المختلفة تتطلب مقاييس نقدية مختلفة. "(7)
ـ انهيار النظريات الشعرية القديمة، وما رافق ذلك من تحول في الاهتمام بالذوق الفردي للقارئ، حيث أصبح الاعتقاد الراسخ لدى معظم الدارسين أن أساس الفن لا يخضع للعقل، ومن ثم فإن الذوق هو المقياس الوحيد للتقويم، والنقد.
ـ تطور الخطاب النقدي في أوربا في الخمسينيات من القرن العشرين بفضل المنهج البنيوي الذي اعتمد على مقاربات ( كلود ليفي ستروس) في تحليل النصوص، انطلاقا من وجود أبنية عقلية لا شعورية عامة، تشترك فيها كل الثقافات الإنسانية، على الرغم مما بينها من اختلاف وتباين، وكانت الوسيلة الوحيدة للكشف عن هذه الأبنية اللاشعورية هي اللغة. (8)
وقد تأثرت عدة حقول معرفية بهذا المنهج العلمي، الذي أحدث ثورة في مناهج تحليل الخطاب الأدبي وغير الأدبي.
2 ـ اتجاهات الخطاب النقدي الحديث وتطوره في ضوء المناهج الحداثية:
تقف اتجاهات الخطاب النقدي الحديث "عند الدوال الشكلية الأساس التي تلعب دور المنتج للنص الأدبي بين الاختبارات اللسانية، والمحددات السيميائية، بما يؤدي إلى وضع الكتابة في إطار الأدبية، ويساعد على استخلاص هذه القيمة بالدرجة الأولى. " (9) كما أنها تنظر إلى النص الأدبي لا كرجع انعكاسي لأدبية خارجية، ولكن كمجال يمتلك دواله القادرة وحدها على ربط العلاقة مع المدلولات، ثم مقدرة هذه الأخيرة انطلاقا من أسس لسانية باتت معروفة، على توظيف وصياغة الدوال. (10)
ومن شأن هذه النظرة النقدية الحداثية، تحويل مادة الأدب إلى حقل مستقل، لـه عناصر واقعه الذاتية؛ كاللغة والعلامة والوحدات الصغرى والكبرى، وبرصد هذه العناصر وتفكيكها، وتحديد البنيات التي تؤلف النص وتعيين السنن التي تقوم عليها في علاقاتها وتنظيمها، نكون قد وقفنا على أسباب تراجع الخطاب النقدي الكلاسيكي، لأنه لا يمتلك آليات، وأدوات إجرائية تمكنه من إعادة بناء النص، وتحديد مكوناته عبر تفكيكه. كما تتراجع النزعة التفسيرية القائمة على مبدأ المحاور والموضوعات التيمية، ذات الطبيعة التلقينية "Didactique". (11)
يلغي الخطاب النقدي الحديث من مجال اشتغاله كل تشريع مهما كانت طبيعته، ولا يبقي سوى على التشريع الذي يقدر عليه النص بوصفه صناعة كلام، ولكن أيضا بوصفه إنتاجا لخطاب هو خطابه. (12)
أ ـ الاتجاه اللساني في تحليل الخطاب الأدبي:
عرف مطلع القرن العشرين ثورة على المناهج التي ظهرت في الفترات السابقة، وكان من أهمها تلك التي ألحت على دراسة الأثر الأدبي من الداخل، وركزت على النص أولا، وسبب ذلك هو أن المناهج التي تأسس عليها الخطاب النقدي الكلاسيكي، غدت غير مجدية، لا تجيب عن الأسئلة الكثيرة التي يطرحها النقاد، فكان لا بد من إعادة النظر فيها في ضوء الاكتشافات وتأثير العلوم الحديثة، وخاصة علم اللغة العام أو كما يطلق عليه اللسانيات La Linguistique. (13)
ويوضح روجر فاولر (FOWLER R.)في بحثه (نظرية اللسانيات ودراسة الأدب) أن اللغة والأدب شهدا نمو دراسة علمية جديدة في القرن العشرين، بلغت مرحلة من النضج النسبي تجلت في علم اللسانيات، والتي تميز نموها بازدياد مطرد، في عدد البحوث المنشورة، وفي عدد الأشخاص المهتمين بها، فكان أن تبوأ هذا الحقل المعرفي الجديد من الموضوعات مكانته بامتياز بين الدراسات الإنسانية الراسخة. (14)
ويكشف البحث اللساني سلسلة الجهود التجريبية على المستوى العالمي، وفي اللغات الأوربية التي اهتمت بتحليل الخطاب، فظهرت مدارس لسانية، نذكر منها:
ـ المدرسة السلوكية، ورائدها بلوم فيلد (1887 ـ 1949)
ـ المدرسة التوزيعية لهاريس.
ـ المدرسة التحويلية والتوليدية ورائدها شو مسكي، وهو عالم لسانيات معاصر، متعدد الاهتمامات، أخضع اللسانيات للمنطق الرياضي والفلسفي، أحدثت كتاباته ثورة في اللسانيات، وتعرف مدرسته بالمدرسة التحويلية التوليدية. (15)
وكانت التوجهات اللسانية في تحليل النصوص الأدبية من اهتمامات الشكلانيين الروس (Formalistes Russes ) الذين رفضوا اعتبار الأدب صورة عاكسة لحياة الأدباء، وتصويرا للبيئات والعصور، وصدى للمقاربات الفلسفية، والدينية. ودعوا إلى البحث عن الخصائص التي تجعل من الأثر الأدبي أدبا؛ أي: ما يحصل نتيجة تفاعل البنى الحكائية، والأسلوبية، والإيقاعية في النص. (16)
ويثبت تراكم البحوث النقدية اللسانية التأثير الذي مارسه المنهج الشكلاني في دراسة النص الأدبي من الداخل، بحيث مكن النقد الأدبي من الانفصال في تحليل الخطاب الأدبي عن نظريات علم النفس، وعلم الاجتماع، والأيديولوجيات الدينية والسياسية حتى غدا الخطاب النقدي يتمتع باستقلال ذاتي، لأن المادة الأساسية في بناء الأدب هي اللغة، وأما اللسانيات فهي الدراسة العلمية لها، ولمظهرها الحسي الذي يتجلى من خلال الكلام. (17)
ومثلما هو الأمر شائع في مجالات التأثير والتأثر بين العلوم والاتجاهات الفكرية والأدبية، فقد استفاد الخطاب النقدي الحديث من الأدوات الإجرائية التي وفرتها مختلف مباحث وأطروحات اللسانيات على صعيد اللفظة، والجملة، وفي فترة حديثة: النص، وتجلى ذلك في ما أكدته الدراسات اللسانية الحديثة من تداخل وترابط بين المستويات (الصوتية، والتركيبية، والدلالية) والتي سعت إلى الكشف عن وظيفة كل مستوى ودلالته منفردا ومجتمعا مع غيره من المستويات على صعيد النص الأدبي. (18)
غير أن البحث المتقدم في العلاقات الداخلية التي تحكم الأثر الأدبي، وتحفظ توازنه وانسجامه، لم يكن ليمحو من برنامج البحث المشاكل المعقدة، والمتصلة أساسا بالعلاقة بين الفن الأدبي والقطاعات الثقافية الأخرى، والواقع الاجتماعي والنفسي.
ولا حاجة للتأكيد على أن واحدا من أبرز رواد الشكلانية الروسية، وهو: "ر. ياكبسون" قد أشار في مقال، عنوانه: "نحو علم للفن الشعري" أن الاتجاه الجديد للشكلانية في مقاربة الأثر الأدبي والبحث عن أدبيته، لم يحل الإشكال بعد، فما زالت نظريات تحليل النص الأدبي تؤكد ترابط الأدب بغيره من القطاعات الأخرى الثقافية والاجتماعية والفكرية والعقائدية. (19)
وفي قراءة تقويمية لحصيلة المدرسة الشكلانية، يميل ياكبسون إلى الاعتقاد أن باحثي هذه المدرسة كثيرا ما كانوا يخلطون بين الشعارات الطامحة، والساذجة أحيانا لمبشريها، والإجراءات النقدية الموجهة نحو النص أساسا. ولذلك نراه يحسم هذا الإشكال عندما يتبين لـه أن كل حركة أدبية أو علمية إنما تحاسب قبل كل شيء اعتمادا على العمل الذي أنتجته، وليس من خلال بلاغة بياناتها. (20)
وإذا كان الشكلانيون الروس قد فرضوا منهجهم في تحليل النصوص الأدبية ابتداء من النصف الأول من القرن العشرين، فإن التفكير في تلك الفترة كان قد تجاوز النظرية التي كانت تهتم بقضايا المضمون والمعنى انطلاقا من الصورة باعتبارها قوة ملازمة للأدب، وأصبح مفهوم الشكل منذئذ يعرف رواجا وامتزج شيئا فشيئا بمفهوم الأدب، ومفهوم الواقعية الأدبية. (21)
وتأسيسا على ما قدمنا، فإن ما أحدثته اللسانيات وما تفرع عنها من مناهج نقدية في تحليل الخطاب الأدبي تركت آثارا واضحة في مسار النقد الأدبي واتجاهاته.
ويلاحظ موريس أبو ناضر أن الفرق واضح بين الخطاب النقدي الكلاسيكي، والخطاب النقدي الحديث، لأن بؤرة التفكير آلت إلى التركيز على آليات وحدة هذا النسق البنياني أو ذاك من خلال مواد مختلفة. (22)
غير أن كثرة الأبحاث ورواج المفاهيم، وحيرة المختص والمبتدئ على حد سواء أمام هذا الركام المعرفي، شكلت تداخلا في المفاهيم والمصطلحات، أشار إلى جانب منها رابح بوحوش في مقاله الموسوم بـ: "الخطاب والخطاب الأدبي وثورته اللغوية على ضوء اللسانيات وعلم النص"، حيث حدد الانتهاكات التي تحدث في التعامل مع المصطلحات الحديثة التي وفرتها علوم اللغة والأسلوبيات، والمناهج اللغوية والأدبية المعاصرة، ويبرز ذلك في مصطلحات مركزية تداخلت فيها المفاهيم، وحادت استخداماتها عن الصواب، منها: اللسانيات، الأسلوبيات، الخطاب، والنص. فهو يلاحظ مثلا أن مصطلح اللسانيات، وهو العلم الصارم الذي يدرس اللغة دراسة مخبرية، ما هو في الواقع سوى دراسة اللغة في مستوياتها النحوية والصرفية والعروضية. (23)
وأما مصطلح الأسلوبية فيوحي استخدامه باصطناع منهجية صارمة في دراسة الظاهرة الأدبية، وعدم خضوع النص الأدبي عموما، والخطاب خصوصا للأحكام المعيارية والذوقية، ويهدف إلى دراسة الظاهرة الأسلوبية دراسة علمية، واقتحام عالم الذوق، وكشف سر ضروب الانفعال التي يخلقها الأثر الأدبي في متلقيه.. غير أن القصد لا يعدو أن يكون سوى بلاغة، أو دراسة للأسلوب الفردي. (24)
إن ما قدمه رابح بوحوش في هذا الطرح ظل حبيس التخمين والتصور، فلا نكاد نعثر في تحليله على أية إشارة أو إحالة أو دراسة انحرفت عن المفاهيم الصحيحة، أو على الأقل التي يراها هو كذلك، ثم إنه لم يعلل مسألة ذكرها في صدر مقاله والمتعلقة بالخطر الذي تمثله الأبحاث الكثيرة في الموضوع نتيجة التراكم الكبير للمفاهيم، وسوء استخدامها أحيانا، ونراه اكتفى في هذا الصدد بالإشارة إلى الظاهرة دون عناء مناقشتها، وما يفترض أن تكون فيها من إيجابيات أو سلبيات.
ومما لاشك فيه أن كثرة الدراسات، وتعدد المفاهيم يغني الحقول المعرفية التي تساهم في توسيع دائرة البحث وتعدد الاختصاصات التي يمكن أن تشتق منها، وهذا ما يلاحظ في العلوم كلها التي استرعت اهتمام الدارسين، إذ توسع مجال اشتغالها، وعرفت مطردا، ورقيا بارزا.
إن ما يؤكد صلة النقد الأدبي باللسانيات هو أن النص الأدبي في جوهره وحدة متكاملة، تتضافر فيها عدة عناصر صوتية وصرفية ومفرداتية وتركيبية ودلالية، وهي الوحدات التي تشمل أي نص. ومن ثم فإن أي دراسة أدبية يفترض فيها أن تقف على الجزئيات المكونة للنص، والمتدرجة من أصغرها وهي اللفظ إلى أكبرها وهي الخطاب أو النص.
وما يلاحظ اليوم هو أن التوجهات الحديثة والمعاصرة لخطاب النقد الأدبي أصبحت تستخدم المنهج التكاملي الذي يستعير مجموعة من النظريات المتباينة من العلوم المختلفة، ولكن السمة البارزة لتلك التوجهات تبدو لسانية وأسلوبية أكثر من غيرهما، وقد تجلى هذا المظهر ابتداء من الخمسينيات من القرن العشرين في أعمال كثير من الباحثين، مثل دي سوسير الذي اعتبر اللغة نظاما من الإشارات التي تعبر عن الأفكار، وقوض بذلك أصول الدرس التقليدي للغة الذي كان يرى فيها وسيلة تعبير عن الأشياء. (25)
ومن أجل استقراء الظاهرة اللغوية لجأ دي سوسير إلى اشتقاق بضع ثنائيات، عُدت مرتكزات أساسية في البحث اللغوي الحديث، وأهمها: اللغة /الكلام، التزامن/التعاقب، الدال/المدلول، وعلاقات التتابع. (26)
وكان اهتمام دي سوسير في معالجته لمكونات العملية الكلامية باللغة دون الكلام، لأن الكلام في رأيه فعل فردي لا يمثل سوى بداية اللسان أو الجزء الفيزيائي، وهو مستوى خارج الواقعة الاجتماعية. (27) غير أنّ أتباع دي سوسير أولوا عناية خاصة للكلام باعتباره فعلا فرديا، وقد كان ذلك بدءاً من شارل بالي، فياكبسون، ثم تشومسكي إلى رولان بارت وغيرهم. الأمر الذي جعل النظرة إلى مفهوميْ:اللغة والكلام تتغيّر، وطبعت النظرة الجديدة باتجاهات مختلفة، بحيث تحول الثنائي (اللغة ـ الكلام) إلى (الجهاز ـ النص) عند يمسليف، و (الطاقة ـ الإنجاز) عند نوام شومسكي، و (السنن ـ الرسالة) عند ياكبسون، و (اللغة ـ الخطاب) ق. غيوم، و (اللغة ـ الأسلوب) عند رولان بارت. (28)
واتضح فيما بعد أن ما كان هامشيا عند دي سوسير تحوّل إلى موضوع رئيسي عند المتأخرين، وأضحى الكلام (Parole) نصّاً أو إنجازاً، أو رسالةً، أو خطاباً في الدراسات الأسلوبية.
كما طور هاريس المنهج التوزيعي من خلال البحث عن العلاقات بين الوحدات اللسانية، ونوام شومسكي رائد المنهج التوليدي التحويلي الذي ميز بين الكفاية اللغوية والأداء اللغوي. (29)
ب ـ الاتجاه الأسلوبي في تحليل الخطاب الأدبي:
تهتم الأسلوبية بدراسة الخطاب الأدبي باعتباره بناء على غير مثال مسبق، وهي لذلك تبحث في كيفية تشكيله حتى يصير خطابا لـه خصوصيته الأدبية والجمالية. فالخطاب الأدبي مفارق لمألوف القول، ومخالف للعادة، وبخروجه هذا يكتسب أدبيته، ويحقق خصوصيته.
فاختلاف الخطاب الأدبي عن صنوف "الأخطاب" الأخرى يكون بما يركبه فيه صاحبه من خصائص أسلوبية، تفعل في المتلقي فعلا يقرره الكاتب مسبقا ويحمله عليه، مستخدما ما تقتضيه الكتابة من وسائل تختلف عن مقتضيات المشافهة، ولذلك كان ريفاتير يرى أن الخطاب الأدبي لا يرقى إلى حكم الأدب إلا إذا كان كالطود الشامخ والمعلم الأثري المنيف يشد انتباهنا شكله، ويسلب لبنا هيكله. (30)
كما يعرف "مانقينو " الخطاب الأدبي، ويشير إلى تعدد دلالاته: فالخطاب عنده مرادف للكلام لدى دي سوسير، وهو المعنى الجاري في اللسانيات البنيوية، ولذلك يعتبره ملفوظا طويلا أو متتالية من الجمل تكون مجموعة منغلقة يمكن من خلالها معاينة بنية سلسلة العناصر بواسطة المنهجية التوزيعية. ويقيم في النهاية معارضة بين اللسان والخطاب ؛ فاللسان ينظر إليه ككل منته وثابت العناصر نسبيا، أما الخطاب فهو مفهوم باعتباره المآل الذي تمارس فيه الإنتاجية، وهذا المآل هو" الطابع السياقي" غير المتوقع الذي يحدد قيما جديدة لوحدات اللسان، فتعدد دلالات وحدة معجمية هو أثر للخطاب الذي يتحول باستمرار إلى أثر للسان يصبح الخطاب فيه خاصا بالاستعمال والمعنى مع زيادة مقام الواصل وخاصية الإنتاج والدلالية. (31)
لقد أحدث ظهور الأسلوبية في حقل العلوم الإنسانية واللسانية مشكلا قبل أن تتحول ـ الأسلوبية ـ إلى منهج نقدي لمقاربة الأثر الأدبي، فرضته التطورات والاكتشافات العلمية والثقافية والأدبية في القرن العشرين. ذلك أن مصطلح الأسلوبية استخدم في بداية القرن الماضي للدلالة على الحدود الموجودة بين الأدب واللسانيات، وهو المجال الذي كانت تحتله البلاغة القديمة، وبقي شاغرا بعد انحلالها"Effondrement "مما نتج عنه طرح عدة قضايا نقدية، اتجه بعضها إلى التشكيك أصلا في مدى جدوى هذا الحقل المعرفي الجديد. (32)
إن انشطار الأسلوبية بين المجالين: الأدبي واللسانيات، بقدر ما كان يمثل إشكالا عند طرحه، بقدر ما حفّز الدارسين على استجلاء خفايا هذا الحقل، وكشف أسرار النص الأدبي الذي ظل معناه العميق مجهولا، لم تستطع المقاربات النقدية، والبحوث البلاغية القديمة استكناه جوهره، ومعرفة السر الذي يحكم بناءه اللغوي، وعناصره الدلالية الأخرى، والوصول إلى معرفة ما يميز كل أسلوب، والبحث عما يربطه بالكتابات المعاصرة لـه والسابقة عليه أو اللاحقة به، وهو الأمر الذي دفع ببعض الباحثين إلى المطالبة بضرورة إلحاق الأسلوبية بمختلف توجهاتها وفروعها بأحد المجالين: الأدب أو اللسانيات. (33)
غير أن هذا الحل لم يكن يعبّر عن طموح البحث الأسلوبي الذي لقي رواجا كبيرا بفضل ما ألف فيه من بحوث أكاديمية، قدمت للقراء رصيدا معرفيا كبيرا. وظهر بعد شارل بالي اتجاه نقدي جديد يدعو إلى ضرورة فصل الأسلوبية عن المجال الأدبي واللسانيات لغرض فسح المجال لها لتحقيق ذاتها واستقلالها. (34)
ونظرا لارتباط هذا المنهج بـ"شارل بالي"، فإنه يستحسن أن نعرف ما يصله بأستاذه دي سوسير، في رؤيته للغة، وقضايا اللسانيات بصفة عامة.
يعتبر "شارل بالي" اللغة نظاما من الرموز التعبيرية تؤدي محتوى فكريا تمتزج فيه العناصر العقلية والعناصر العاطفية، فتصبح حدثا اجتماعيا محضا. كما أن اللغة تكشف في كل مظاهرها وجها فكريا ووجها وجدانيا ويتفاوت الوجهان كثافة بحسب ما للمتكلم من استعداد فطري، وبحسب وسطه الاجتماعي، والحالة النفسية التي يكون عليها. (35)
والملاحظ أن هذا التعريف للغة لا يختلف كثيرا عن التعريف الذي جاء به دي سوسير حيث يعتبر اللغة منظومة من العلامات. (36) ولعل هذا من بين ما دفع إلى القول: إن أسلوبية شارل بالي امتداد لمجال اللسانيات التي بحثها دي سوسير في مؤلفه الشهير"Cours de linguistique générale " (دروس في اللسانيات العامة).
ولما كانت اللغة تعكس السمات الفكرية للمجتمع، لا سيما اللغة اليومية فإن (ش. بالي) كان يرى أنه لا ُيبحث عن هذه الأفكار في النصوص الأدبية القديمة، أو في اللغة العالمة، "لأن الكلام يترجم أفكار الإنسان ومشاعره، ولكنه يبقى حديثا اجتماعيا، فاللغة ليست منظومة من العلامات تحدد موقف الفرد من المجتمع فحسب، بل هي تحمل أثر الجهد الذي يكابده ليتلاءم اجتماعيا وبقية أفراد المجتمع. "(37) كما يؤكد في مؤلفه:
(Traité de Stylistique قضايا أسلوبية) أن تعبير الإنسان يتأرجح في مضمونه بين مدارين: مدار العاطفة الذاتية، ومدار الإحساس الاجتماعي، وهما عنصران متصارعان دوما يتوق كل عنصر إلى شحن الفكرة المعبر عنها، فيؤول الأمر إلى ضرب من التوازن غير المستقر. (38)
وينتهي الباحث ش. بالي في آخر حياته إلى تأكيد سلطان العاطفة في اللغة وأثرها البارز في التأثير على المتلقي وتراجع سلطان العقل إلى المستويات الخلفية، معللا ذلك بأن الإنسان في جوهره كائن عاطفي قبل كل شيء واللغة الكاشفة عن جوهر هذا الإنسان هي لغة التخاطب بتعبيراته المألوفة. (39)
والمتتبع لتعريف الأسلوب والأسلوبية لشارل بالي يلاحظ أنه يبعد "الخطاب الأدبي" من مجال الأسلوبية، إذ يعتبره خطابا ناتجا عن وعي وقصدية من قبل المؤلف، يفضي إلى اصطناع وتحوير لا يعبران عن طبيعة اللغة وعلاقتها بمستخدمها، ولذلك كانت لغة التخاطب اليومي هي العينة التي يصلح التعامل معها لاستخلاص حقائق موضوعية، بعيدا عن كل تأمل معقد. (40)
1 ـ الأسلوبية والنقد الأدبي من منظور شارل بالي:
يعتقد شارل بالي أن على الأسلوبية أن تشن حربا ضد المناهج القديمة في الدراسات النقدية واللغوية، حتى تزيل كل عمل آلي في دراسة الظواهر اللغوية والنصوص الأدبية انطلاقا من التحليل التاريخي، ويؤكد أن دراسة اللغة لا تقتصر على ملاحظة العلاقات القائمة بين الرموز اللسانية فقط، وإنما هي اكتشاف العلاقات الجامعة بين التفكير والتعبير، لذلك لا يمكن إدراك هذه الروابط إلا بالنظر في الفكرة وفي التعبير معا. (41)
ويستخلص مما سبق أننا لا نستطيع إبراز ما نفكر فيه أو ما نحس به إلا بواسطة أدوات تعبيرية يفهمها عنا الآخرون، وقد تكون الأفكار ذاتية لكن الرموز المستعملة في أدائها تبقى مشتركة بين مجموعة بشرية معينة. (42) لذلك فإن الأسلوبية تدرس ظواهر التعبير، وتأثيرها على المتلقي، فكل فكرة تتجسد كلاما؛ إنما تحل فيه من خلال وضع عاطفي، سواء كان ذلك من منظور من يبثها، أو من منظور من يتلقاها، فكلاهما ينزلها منزلا ذاتيا. (43)
فالعمل الأسلوبي في نظر بالي ينبغي أن يركز على تتبع الشحنات العاطفية في الكلام بثًّا واستقبالا، وعلى هذا الأساس يكون من الأجدى البحث عن الوسائل التعبيرية الحاملة لهذه الشحنات الوجدانية ودراسة خصائص أدائها.
وتقوم الأسلوبية كمنهاج في تحليل النص الأدبي عند بالي على مقاربتين:
المقاربة الأولى:مقاربة نفسية تبحث في ظروف البث النفسية، وظروف الاستقبال.
أما الثانية، فمقاربة لسانية لغوية بحتة، تدرس الجانب اللغوي للتعبير عن الفكرة وتلغي كلية الجانب الذهني، وتبعده من مجال درسها وبحثها. (44)
2 ـ الأسلوبية وتحليل الخطاب الأدبي:
استفادت الدراسات الأسلوبية من إنجازات اللسانيين سواء على مستوى المناهج أو على مستوى الرصيد المصطلحاتي وتجلى معظم ذلك في الأبحاث الأسلوبية. وإذا كانت اللسانيات تحدد موضوعها انطلاقا من الجملة باعتبارها أكبر وحدة قابلة للوصف اللساني، وهو الحد الذي اتفق حوله أغلب الدارسين في اللسانيات، فإن موضوع الأسلوبية هو الخطاب الأدبي، وإن كان الخطاب يتضمن الجمل ووحدات أخرى يطالها الدرس الأسلوبي بالضرورة.
لذلك ألفينا بعض الأسلوبيين يؤكدون أن النص مزيج من الخطاب والنظام، أو مزيج من الخاص والعام، والخطاب هو الخاص، والنظام اللغوي هو العام، والنص في مجمله يقوم على ركيزتين أساسيتين تكونانه من الداخل، وهما:
أ ـ المعنى الاصطلاحي (Dénotation ):
عناصره لغوية، وأشكاله الصغرى لم يطرأ عليها تغيير دلالي، فهي مازالت تحتفظ بمعناها المعجمي ولا تعترف بالتغيرات اللسانية سلبا أو إيجابا.
ب ـ المعنى الإيحائي (Connotation):
عناصره الشكلية تحمل دلالات(45) متعارف عليها في مجموعة لسانية مهنية معينة، ويمكن أن يطلق على هذا المعنى "المعنى المجازي"، بينما يطلق على المعنى الأول "المعنى الحقيقي" للأشكال اللغوية. (46)
وبصفة عامة، فإن النص ينقلب في الآخر إلى ثنائية بين الشكل والمضمون، أو كما عبر عنها "يمسليف" (بثنائية رباعية)، حيث إن كل تعبير لـه شكل وجوهر، وعلى العالم اللغوي الأسلوبي أن يعرف هذه القضايا حتى تتأتى لـه إمكانية التحليل العلمي للأساليب. (47)
وقد أدرك منذر عياشي فضل هذا الاتجاه في مقاربة الأثر الأدبي، فقال: " إن الدارس المهتم بالخطاب الأدبي ولسانيات النص يدرك أن لهذا الاتجاه فضلا في بناء نظام نقدي ومعرفي لم تعرف الإنسانية مثيلا لـه إلا في أيامنا هذه على يد نقاد زاوجوا بين الدرس اللساني والأدبي، أمثال جاكبسون، غريماس، رولان بارث، تودوروف وغيرهم. "(48)
ولعل أهمية هذا الاتجاه تبدو أيضا في نظرة الأسلوبية للخطاب الأدبي، فهي تعتبره إنجازا لغويا يقوم من خلفه نظام حضاري، لأن الصلة بينهما هي الاشتراك في اللغة، ولذلك كان النقد الأسلوبي ينظر إلى موضوعه على أنه فكر دون إحالة النص على غير ذاته لتحديد معناه، وهذا ما يؤكده ميشال آدم
(Adam M.) في قولـه: " إن النقد اللغوي الجديد لا يهدف إلى تفضيل الشكل على المعنى، ولكنه يهدف إلى اعتبار المعنى شكلا. "(49)
وتعنى الأسلوبية بالمتغيرات اللسانية إزاء المعيار البلاغي، ولعل هذا ما جعل النقاد يضعون البلاغة في مواجهة القواعد، والقواعد هي اللغة عند اللسانيين المحدثين، يسمها بعضهم بالجمود والماضوية والسلطوية، لأنها تفرض سلطتها وهيمنتها بموجب النظام اللغوي الذي يسلط على المستخدم، فلا يدع لـه مجالا من الحرية والانعتاق من القواعد الصارمة. أما المتغيرات اللسانية، فهي الفوضى والحرية والتمرد على تلك السلطة وقوانينها، وهذا ما أكدته البحوث اللسانية لدى دراستها لمصطلح "الكلام". (50) أما الخطاب الأدبي فهو العلامة على انعدام السلطة، لأنه يحمل في طياته قوة الانفلات اللانهائي من الكلام الإيقاعي حتى ولو أراد هذا الكلام أن يعيد بناء ذاته. (51)
كما تركز الأسلوبية في تحليلها للخطاب على النص بذاته بمعزل عن المؤثرات الخارجية مهما كانت طبيعتها، والخطاب بهذا المعنى يصبح اختراقا لعنصري الزمان والمكان، فهو يحمل زمانه في ذاته، ويتجلى مكانه فيه، وهو ما يعبر عنه إنجازه الأسلوبي وتشكيله البنيوي الوظيفي.
ومما لاشك فيه أن التعرض لمفهوم الخطاب في الدراسات الأسلوبية سيساعدنا كثيرا على إحصاء الإجراءات التحليلية التي انتهجها أصحاب هذا المنهج في تحليل النصوص الأدبية، لأن تحديدهم للمفهوم هو الذي سيكشف طبيعة التعامل مع الشيء المحدد، ولا نعتقد أن عملية التحليل إجراء مبتور عن أية خلفية نظرية أو تصور سابق، وإلا فإن هذا المنهج غريب عن صفة العلمية التي تقتضي أن يكون التصور سابقا للحكم، كما يقر بذلك المناطقة.
3 ـ مفهوم الخطاب في الدراسات الأسلوبية :
يعتبر أنطوان مقدسي أن"الخطاب الأدبي جملة علائقية إحالية مكتفية بذاتها حتى تكاد تكون مغلقة، ومعنى كونها علائقية أنها مجموعة حدود لا قوام لكل منها بذاتها، وهي مكتفية بذاتها، أي أنها –مكانا وزمانا وجودا ومقاييس ـ لا تحتاج إلى غيرها فالروابط التي تقيمها مع غيرها تؤلف جملة أخرى وهكذا بلا نهاية…فالخطاب الأدبي بهذا المنظور لا تنطبق عليه الثنائيات التي أربكت الفكر الكلاسيكي كالذات والموضوع، والداخل والخارج، والشرط والمشروط، والصورة والمضمون، والروح والمادة، فهو إذن يؤخذ في حضوره، لذاته وبذاته. "(52)
ويقدم عبد السلام المسدي في كتابه " الأسلوبية والأسلوب" عدة تعاريف للخطاب الأدبي، وهي لا تكاد تختلف في جوهرها، فهو يشير ـ مثلا ـ في بعضها إلى انقطاع الوظيفة المرجعية للخطاب، " لأن ما يميز الخطاب الأدبي، هو انقطاع وظيفته المرجعية، لأنه لا يرجعنا إلى شيء، ولا يبلغنا أمرا خارجيا، وإنما هو يبلغ ذاته، وذاته هي المرجع المنقول في الوقت نفسه. ولما كف الخطاب الأدبي، عن أن يقول شيئا عن شيء إثباتا أو نفيا، فإنه غدا هو نفسه قائلا ومقولا، وأصبح الخطاب الأدبي من مقولات الحداثة التي تدك تبويب أرسطو للمقولات مطلقا. "(53)
وغير بعيد عن هذا المفهوم يقول نور الدين السد :"إن الخطاب الأدبي يأخذ استقراره بعد إنجازه لغة، ويأخذ انسجامه وفق النظام الذي يضبط كيانه، ويحقق أدبيته بتحقيق انزياحه، ولا يؤتى لـه عدوله عن مألوف القول دون صنعة فنية، وهذا ما يحقق للخطاب الأدبي تأثيره، ويمكنه من إبلاغ رسالته الدلالية، غير أن دلالة الخطاب الأدبي ليست دلالة عارية، يمكن القبض عليها دون عناء، بل الذي يميز الخطاب هو التلميح وعدم التصريح. "(54)
وإذا كان الخطاب عند نور الدين السد يقوم على محورين: محور الاستعمال النفعي، ومحور الاستعمال الفني. فإنه في عرف اللسانيين يتجاوز هذا التصنيف الثنائي، حيث أقيم تصنيف توليدي لا يتحدد عددا، وإنما ينحصر نوعا وكيفاً، وأضحى الخطاب الأدبي لا يمثل إلاّ نوعا من الخطابات والتي منها: الخطاب الديني والقضائي، والإشهاري، ومعنى هذا أن كل خطاب يحمل خصوصيات ثابتة تحدد هويته.
ويميز الخطاب بما ليس خطابا في عرف اللغويين أحد أمرين: إما أنه يشكل كلا موحدا، وإما أنه مجرد جمل غير مترابطة. وعندما استعار الأسلوبيون هذا التعريف نراهم اشترطوا صفة الاتساق والترابط للتعرف على ما هو خطاب وما ليس خطابا. (55)
وتبدو هذه العلاقة في الترسيمة الآتية:
ويتضح من الترسيمة المعروضة ـ أعلاه ـ أن الخطاب الأدبي: هو ما توافرت فيه خصائص مميزة؛ كالكلية والاتساق والترابط بين الأجزاء المشكلة له، دون اعتبار شرط الطول والقصر.
وتأسيسا على ما سبق فإن الخطاب ليس مرهونا بكم محدد؛ يطول ويقصر بحسب مقتضى الحال، وبحسب المقام، وكما يصدق أن يكون جملة، قد يكون كتابا في عدد من المجلدات، ولنا في روايات الغربيين الكلاسيكيين مثال على ذلك، فالحرب والسلام وآنا كاترينا وسواهما من الخطابات الروائية تقع في عدد من الأجزاء، وهذا يدل على أن الخطاب ليس لـه كم محدد تحديدا صارما. (56)
وأما الخطاب عند "سعد مصلوح" فهو رسالة موجهة من المنشئ إلى المتلقي، تستخدم فيها الشفرة اللغوية المشتركة بينهما، ولا يقتضي ذلك أن يكون كلاهما على علم بمجموع الأنماط والعلاقات الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية التي تكون نظام اللغة، أي الشفرة المشتركة، وهذا النظام يلبي متطلبات عملية الاتصال بين آراء الجماعة اللغوية، وتتشكل علاقاته من خلال ممارستهم كافة ألوان النشاط الفردي والاجتماعي في حياتهم. (57)
ينتقد نور الدين السد هذا التعريف مشيرا إلى ما يطبعه من نقائص من بينها: أنه تعريف أحادي، ينظر إلى الخطاب كمنتوج لغايات عملية نفعية، تتمحور حول الوظيفة التواصلية. ويلاحظ أن هناك وظائف أخرى للخطاب الأدبي تتجاوز حدود التوصيل، وذلك نظرا لما يميز الخطاب الأدبي من نظام خاص به، ومن تمايزه من غيره من الخطابات، كما أن الاشتراك في معرفة الشفرة لا تؤهل عارفها استجلاء كنه الخطاب، لأن هناك خطابات مستغلقة عن الفهم، وإن كان المتلقي يعرف اللغة التي أنشئت فيها. (58)
(1) موريس أبو ناضر، الألسنية والنقد الأدبي، دار النهار، بيروت، 1989، ص. 89
(2) المرجع السابق، ص. 10
(3) شكري فيصل، مناهج الدراسة الأدبية في الأدب العربي، دار العلم للملايين، بيروت، 1978، ص. 7
(4) الألسنية والنقد الأدبي، ص. 10
(5) المرجع السابق، ص. 11
(6) محمد عبد المطلب، البلاغة والأسلوبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1985، ص. 7
(7) رولان بارت، درس السيميولوجيا، ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي، تقديم عبد الفتاح كيليطو، دار توبقال للنشر، ط. 2، الدار البيضاء، 1986ص. 12
(8) المرجع السابق، ص. 86
(9) ت. تودوروف، رولان بارت، أمبرتو أكسو، مارك أنجينو، في أصول الخطاب النقدي الجديد، ترجمة وتقديم: أحمد المدني، عيون المقالات، الدار البيضاء، ط. 2، 1989، ص. 5 من المقدمة.
(10) المرجع السابق، ص. 5
(11) المرجع السابق، ص. 6
(12) المرجع السابق، ص. 6
(13) J. Lyons , Linguistique générale, Tr. François Dubois, Larousse. Paris. 1970. P. 39
(14) روجر فاولر، نظرية اللسانيات ودراسة الأدب ، في: مجلة الآداب الأجنبية، العدد:2، بغداد1985، ص. 83
(15) المرجع السابق، ص. 92
(16) بوريس إيخنباوم، نظرية المنهج الشكلي، في:نظرية المنهج الشكلي ، نصوص الشكلانيين الروس، ترجمة: إبراهيم الخطيب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1982، ص. 3036
(17) المرجع السابق، ص. 3031
(18) سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي، الزمن السرد التبئير، المركز الثقافي العربي ، بيروت، 1989، ص. 1626
(19) ر. ياكبسون، نحو علم للفن الشعري، في: نظرية المنهج الشكلي، نصوص الشكلانيين الروس، ص. 2627
(20) المرجع السابق، ص. 27
(21) تودوروف، نظرية المنهج الشكلي، نصوص الشكلانيين الروس، ص. 44
(22) موريس أبو ناضر ، الألسنية والنقد الأدبي، ص. 13
(23) رابح بوحوش، الخطاب والخطاب الأدبي وثورته اللغوية على ضوء اللسانيات وعلم النص/ مجلة معهد اللغة وآدابها ، جامعة الجزائر، العدد:12، السنة، 1997، ص. 107
(24) المرجع السابق، ص. 107
(25) F. De SAUSSURE,Cours de linguistique générale, PP. 2126.
(26) Ibid. PP. 179185.
(27) Ibid. P. 181.
(28) رابح بوحوش، الخطاب والخطاب الأدبي. . ، ص. 160.
(29) محمد يحي نون، وآخرون، اللسانيات العامة الميسرة، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، [د. ت ]، ص. 86
(30) الأسلوبية في النقد العربي الحديث، ص. 211
(31) R. BARTHES , Introduction à l'analyse structurale des récits ,In: Communication n°8, Paris,1966,P. 612.
(32) Pierre GUIRAUD et Pierre KUENTZ, La stylistique, lecture, Klincksieck, Paris, 1970,P. 15
(33) Ibid. P. 13.
(34) Ibid. PP. 1415
(35) Charles BALLY , Traité de stylistique française, Klincksieck ,(2 vol) Paris, P. 17
(36) F. De SAUSSURE, Cours de linguistique générale, Op. Cit. P. 2125
(37) عبد السلام المسدي، الأسلوبية والنقد الأدبي، ص. 36
(38) C. BALLY, Traité de stylistique française, P. 19
(39) Ibid. P. 19
(40) C. Bally, Traité de stylistique française, P. 2126
(41) Ibid. 1926
(42) عبد السلام المسدي ، الأسلوبية والنقد الأدبي، ص. 37
(43) المرجع السابق، ص. 37
(44) الأسلوبية والنقد الأدبي، مرجع سابق، ص. 37.
(45) C. KerbratOrecchioni, La connotation, Presses Universitaires de Lyon,1977,P. 11 .
(46) نور الدين السد ، الأسلوبية في النقد الأدبي الحديث، ص. 3638
(47) المرجع السابق، ص. 3638
(48) منذر عياشي، الخطاب الأدبي والنقد اللغوي الجديد، جريدة البعث رقم:7813، بتاريخ:21. 11. 1988، دمشق، ص. 5
(49) M. ADDAM, Linguistique et discours littéraire, P. U. F. Paris, 1970,P. 44
(50) بوحوش، الخطاب والخطاب الأدبي ، مرجع سابق، ص. 161
(51) المرجع السابق، ص. 162
(52) أنطوان مقدسي، الحداثة والأدب ، الموقف الأدبي، عدد: التاسع، جانفي 1975، دمشق ، ص. 225
(53) عبد السلام المسدي، الأسلوبية والأسلوب، ص. 116
(54) نور الدين السد، الأسلوبية في النقد الأدبي الحديث، ص. 246
(55) المرجع السابق، ص. 249.
(56) عبد الملك مرتاض ، دراسة سيميائية تفكيكية لقصيدة " أين ليلاي" لمحمد العيد آل خليفة، مرجع سابق، ص. 16
(57) سعد مصلوح، الأسلوب، ص. 23
(58) نور الدين السد، الأسلوبية في النقد الأدبي الحديث، ص. 252
موقع المستخذمhttps://178.238.232.238/~awu/book/06/...ok06-sd004.htm