قانون دولي : البنية المتغيرة للقانون الدولي.. تحول السيادة
السيادة التقليدية:
تطور مذهب السيادة في بعدين متميزين: اهتم الأول بالمظاهر "الداخلية" للسيادة أما الثاني فبمظاهرها "الخارجية". يتضمن البعد الأول مطلب أن الشخص أو الهيئة السياسية تأسست كعاهل يمارس عن حق "ولاية عليا" على مجتمع بعينه. أما الحكومة – سواء أكانت ملكية أم ارستقراطية أم ديمقراطية – فعليها أن تنعم بـ "سلطة مطلقة ونهائية" ضمن الإقليم المفترض. أما البعد الثاني فيتضمن التأكيد على عدم وجود سلطة مطلقة ونهائية داخل وخارج الدولة ذات السيادة. يتوجب النظر إلى الدول بوصفها مستقلة في كل قضايا السياسة الداخلية ولها أن تكون من حيث المبدأ حرة في تحديد مصيرها ضمن هذا الإطار. أما السيادة الخارجية فهي ميزة تحوزها المجتمعات السياسية في علاقاتها المتبادلة، ويصاحبها طموح المشاركة بتعيين وجهتها وسياستها دون تدخل غير مشروع من القوى الأخرى.
أصبح نظام الدول ذات السيادة مطوقاً بجملة قواعد تطورت منذ القرن السابع عشر، لصيانة مفهوم نظام الدول بوصفه مجتمعاً دولياً من دول ذات سيادة. كما ترافق ظهور "مجتمع" الدول، أولاً في أوروبا ولاحقاً في عموم الكوكب، مع مفهوم جديد لقانون دولي يكون مرجعاً مثل "النظام الوستفالي" (بعد معاهدات السلام في وستفاليا العام 1648)، وهو ما يشار إليه ببساطة على أنه النظام التقليدي للسيادة.
يغطي ذلك النظام عصر القانون الدولي وتنظيمه من العام 1648 وحتى مطلع القرن العشرين (رغم أن عناصره، وهو أمر قابل للنقاش، لا تزال مطبقة حتى اليوم). لم تكن كل سماته مقترنة بتسوية وستفاليا، بل تشكلت بالأحرى خلال مسار معياري لقانون دولي لم يصل إلى منطوقة الكامل إلا في نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، حين أصبحت السيادة الإقليمية والمساواة الرسمية بين الدول وعدم التدخل بالشؤون الداخلية للبلدان الأخرى قاعدة للالتزام القانوني دولياً، وصارت تشكل المبادئ الجوهرية للمجتمع الدولي.
يلقي النظام التقليدي للسيادة الضوء على نظام عالمي تكون الدول فيه حرة ومتساوية اسمياً، وتتمتع بسلطة عليا على رعاياها ورعايا الإقليم المفترض، كما تصيغ قرارات سياسية منفصلة ومستقلة وفق مصالحها الخاصة، ولا تعلوها سلطة دنيوية أخرى، كذلك تقوم بمبادرات دبلوماسية، ضمن مقاييس تعاون محدودة، وتنظر إلى العمليات عبر الحدود كـ "شأن خاص"، وتقبل مبدأ الفعالية أي المبدأ الذي يشرعن الاستيلاء في عالم الدول.
التأكيد على تطور النظام التقليدي للسيادة، لا ينكر بطبيعة الحال أن حقيقته غالباً ما كانت مشحونة ومليئة بالفوضى والتسويات. لكن الاعتراف بتعقد الواقع التاريخي ينبغي ألا يقود إلى تجاهل التبدل المنظومي والهيكلي الذي حل منذ نهاية القرن التاسع عشر في المبادئ التي يتضمنها النظام السياسي، وحقائقها الدموية.
كافحت الدول لاحتواء السكان والأراضي والموارد، وإدارتها – يتمثل هذا المسار بتشكل دول أوروبية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، واقتسام القوى الأوروبية للمستعمرات في القرن التاسع عشر.
يتوجب التأكيد على الدلالات الهامة لتطور النظام التقليدي للسيادة.
أولاً: منح تبلور القانون الدولي بوصفه قانوناً بين الدول، رؤساء الدول والحكومات قدرة الانضمام إلى معاهدات مع ممثلي دول أخرى بمعزل عن الوضعية الدستورية لأولئك الأشخاص، أي بمعزل عن كون رؤساء الدول مخولين وفق إجراءات قانونية محلية محددة بإلزام الدولة بحقوق وواجبات معاهدة معينة.
ثانياً: لم يكن قانون ما بين الدول معنياً بالهيئة السياسية الوطنية. لكنه قبل مقاربة واقعية للدولة والحكومة/ مقاربة تلي حقائق السلطة السياسية وتضع بضعة تساؤلات عن كيفية نشوء تلك السلطة. تم اعتبار الأنظمة المطلقة والملكيات الدستورية والدول الاستبدادية والدول الديمقراطية الحرة على قدم المساواة بوصفها أنظمة حكم شرعية.
ثالثاً: إقامة نقاط اتصال بين المبادئ المنظمة للشؤون القومية والدولية. تباعدت القواعد السياسية والأخلاقية التي تحكم هذين المجالين في المبدأ والتطبيق. ترسخت ببطء الدول /الأمم الديمقراطية في الغرب، لكن عالم السياسة الذي أجاز الديمقراطية في الدولة/ الأمة رسخ علاقات لاديمقراطية بين الدول، ومثلما رسخ شرعيةً ديمقراطيةً خاضعةً للمحاسبة داخل حدود الدولة أجاز ملاحقة متطلبات الدولة (والمصالح السياسية العليا) خارج تلك الحدود، وفي مقابل حقوق مواطنة وديمقراطية لمن هم من "الداخل"، تنكر متكرر لها حين يتعلق الأمر بمن يعيشون خارج تلك الحدود، كان الفصل بين المثالية السياسية والواقعية السياسية أمراً بدهياً.
رابعاً: تركيز القانون الدولي على الجماعات والفاعلين غير الحكوميين الساعين للتنافس على حدود إقليمية ذات عواقب متناقضة. أمام تفكك القوى الاستعمارية والمصالح المهيمنة للمواطن والأقاليم التقليدية، لم يكن أمام تلك الجماعات بدائل سوى اللجوء إلى الإكراه أو القوة المسلحة بغرض تأكيد مطالبها بتحرير أوطانها. لكن، كان عليها أيضاً تأسيس "سيطرة فعالة" على المنطقة التي تسعى لإعلانها وطناً في حال توجهها لنيل الاعتراف الدولي.
تراجع الإمبراطوريات الأوروبية وهزائمها من نهاية القرن التاسع عشر، وانتشار الأفكار الديمقراطية في كافة أنحاء العالم في القرن العشرين، وتأسيس أشكال جديدة لمنظمات وأنشطة متعددة الأطراف ومتعدية القومية خلال الأعوام المئة الأخيرة عدل المشهد السياسي والقانوني. وطرح السؤالين التاليين: هل تأسس إطار جديد للقانون الدولي؟ هل تغير التوازن بين متطلبات نظام الدول ومتطلبات الأوضاع السياسية والمعيارية البديلة؟
السيادة الدولية الليبرالية
أزاحت هيمنة النظام التقليدي للسيادة ضمن حدود الدول – الأمم موجات متعاقبة من إشاعة الديمقراطية. وفي حين سعت تلك الموجات لإعادة تشكيل الحكومة الوطنية، كان لها تأثيرات إضافية على نظام العلاقة ما بين الدول. وعلى الرغم من أن نموذجاً جديداً للتنظيم الدولي لم يتبلور بالكامل قبل الحرب العالمية الثانية، إلا أن تتبع آثار أصول نظام السيادة الدولية الليبرالية أمر ممكن. يمكن رصد بداياته في محاولات توسيع مسارات تعيين حدود سلطة عامة في المجال الدولي والمحاولات اللاحقة لتحويل معنى السلطة السياسية الشرعية من السيطرة الفعالة إلى صيانة المعايير الأساسية أو القيم التي لا يستطيع وفقها موظف سياسي سواء أكان ممثلاً لحكومة أو دولة القيام بإلغائها. كما واجهت السلطة الفعالة مبادئ حق تقرير المصير والديمقراطية وحقوق الإنسان بوصفها قاعدة ملازمة للسيادة.
من المفيد إبراز بعض التحولات القانونية التي حدثت في ميادين الحرب، جرائم الحرب وحقوق الإنسان والمشاركة الديمقراطية إضافة إلى البيئة، والتي أحدثت هذا التبدل. تمت هذه التحولات أساساً بموافقة الدول، لكن التفويض وتغير السيادة اكتسب، كما بدا، وضعاً وزخماً مستقلاً.
قواعد الحرب والتسلح
استند تكوين قواعد الحرب إلى افتراضٍ مفاده أنه نظراً لعدم إلغاء حالة الحرب بالكامل، فيتوجب قنونة بعض عواقبها المروعة التي تطال العسكريين والمدنيين على حد سواء. الهدف من هذه القواعد إخضاع ممارسات الحرب للحد الأدنى من معايير التحضر التي ستلتزم بها جميع أطراف أي نزاع مسلح. وعلى الرغم من أن قواعد الحرب غالباً ما تنتهك، لكنها ساعدت في الماضي على لجم بعض أسوأ أشكال العنف العشوائي. تعود الاتفاقات الرئيسية متعددة الأطراف التي حكمت الحروب إلى إعلان باريس 1856، الذي سعى إلى الحد من حروب البحر بحظر مراكب القراصنة وتعيين الشروط التي يكون فيها الحصار فعالاً وخاضعاً لاعتبارات قانونية. تتضمن المعالم الأساسية اتفاقية جنيف 1864 (المعدلة في العام 1906)، واتفاقيتي لاهاي 1899 و1907، واتفاقيتي جنيف 1929 و1949 اللتين ساعدتا على قنونة المعاملة الإنسانية لجرحى المعركة، والممارسات المقبولة في المعارك البرية، وحقوق وواجبات أطراف النزاع والدول المحايدة، ومجموعة من القواعد تحكم معاملة الأسرى وحماية المدنيين. علاوة على تلك الاتفاقات وغيرها من المعاهدات الإقليمية. فقد حددت ممارسات المتحاربين، من حيث المبدأ، وفق عناصر القانون الدولي المتعارف عليه، والإقرار العام بقانون إنساني يحرم الوحشية غير المبررة أو الأفعال الأخرى التي تزدري المبادئ الأخلاقية.
شكلت قواعد الحرب إطاراً متطوراً من إجراءات تسعى لتقييد ممارسات أطراف النزاعات الدولية المسلحة. اعتمدت القواعد على مفهوم ثنائي، ضرورة التخفيف قدر المستطاع من التأثيرات الجانبية للحرب، وتقييد حرية اللجوء إلى وسائل الحرب وطرائقها. هذه التوجهات والاتفاقات ميزت بمرور الزمن، ومن حيث المبدأ، تغيراً هاماً في الوجهة القانونية للدولة الحديثة، لأنها تحدت مبدأ الاستقلالية العسكرية ومسألة السيادة الوطنية في واحدة من مكوناتها الأكثر حساسية - العلاقة بين الجيش والدولة وقدرة كل منهما على تحقيق أهدافها بصرف النظر عن النتائج.
أكملت الاتفاقات المتعلقة بممارسات الحرب سلسلة من المعاهدات تتصل باستخدام مختلف صنوف الأسلحة، من القواعد التي تحكم استخدام الذخائر المتشظية (لاهاي 1907) واستخدام الغواصات ضد السفن التجارية (بروتوكول باريس 1936) وصولاً إلى المعاهدات الأخيرة المتعلقة بالأسلحة البيولوجية والكيميائية والنووية والتقليدية – نتيجة لذلك أصبح الحد من التسلح أحد معالم السياسة الدولية. فوكالات الحد من التسلح ونزع السلاح القائمة في كل دول العالم الرئيسية، تدير في الوقت الحاضر عملية تنظيمية ودبلوماسية متواصلة. أقامت الاتفاقات الأخيرة فضلاً عن ذلك آليات للتحقق تنتهك عنوة السيادة الوطنية والاستقلالية العسكرية. فاتفاقية الأسلحة الكيميائية 1993، على سبيل المثال، تنشئ منطقة تفتيش دولية للإشراف على تطبيقها (وهو ما أقلق مجلس الشيوخ الأمريكي بشأن التنازل عن السيادة). وفقاً لذلك، يبدو مفهوماً إدعاء أن القوانين الدولية حول الحرب ومراقبة التسلح تشكل وتساعد على إنشاء بنية تحتية عالمية لإدارة التسلح والنزاعات.
جرائم الحرب ودور الأفراد
يمكن توضيح مسار التقييد المتدرج لسلطة الدولة بحالة أخرى من التفكير القانوني الدولي الذي قلب أسبقية الدولة في القانون الدولي وعزز الدور الفردي فيما يتصل بالمسؤولية تجاه العنف المنظم ضد الآخر. في المقام الأول بإدراك الوضع القانوني للاعتراض الواعي، أقرت دول عديدة بوجود حالات محددة يتجاوز فيها التزام المرء الأخلاقي التزامه تجاه دولته. فرفض الخدمة العسكرية أثار مطلب محكمة أخلاقية عليا لتحديد الحقوق والواجبات.
هذه المطالب ممثلة أيضاً في الوضع القانوني المتغير لأولئك الراغبين في الالتحاق بالحرب. فاعتراف القانون الدولي بمخالفات جرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية يظهر بوضوح أن الرضوخ لأوامر القادة لن يعتبر سبباً كافياً لتبرئة الفرد المشارك بتلك المخالفات.
كانت نقطة التحول في هذا الشأن، القرارات التي اتخذتها محكمة نورمبرج الدولية (ومحكمة طوكيو المشابهة). طرحت المحكمة، لأول مرة في التاريخ، أنه في حال تعارض القواعد الدولية التي تحمي القيم الإنسانية الأساسية مع قوانين الدولة، فعلى كل شخص أن يخالف قوانين الدولة (باستثناء الحالة التي يكون فيها "الخيار الأخلاقي" أمراً غير ممكن، حالة توجيه سلاح إلى رأس شخص على سبيل المثال).
صادق القانون الدولي الحديث عموماً على الموقف الذي اتخذته المحكمة وأكد على رفض الدفاع عن ذريعة إطاعة الأوامر العليا في قضايا المسؤولية عن الجرائم المرتكبة ضد السلام والإنسانية.
كان التوسيع الأبرز لتطبيق مبادئ نورمبرغ تأسيس محاكم جرائم الحرب في يوغسلافيا 1993 ورواندا 1994. وجهت المحكمة اليوغسلافية تهماً ضد أشخاص من المجموعات العرقية الثلاث في البوسنة وحققت في جرائم كوسوفو، مع أنها صادفت صعوبات جمة في اعتقال المتهم الرئيسي. وعلى الرغم من أنه لم يكن بوسع محكمة رواندا ولا محكمة يوغسلافيا احتجاز ومحاكمة إلا قسم ضئيل من المتورطين في ارتكاب جرائم وحشية، إلا أنهما سارتا خطوات ملموسة في إطار تطبيق القانون الذي يلاحق جرائم الحرب، ما يختزل المسافة بين بشائر هذا القانون وضعف تطبيقه. ستساعد المحكمة الجنائية الدولية على إلغاء هذه المسافة في المدى البعيد. لكن عوائق عديدة تواجه تحققها ونجاحها، ضمن ذلك المعارضة المستمرة للولايات المتحدة (التي تخشى أن تستهدف جنودها إجراءات قضائية ذات دوافع سياسية). مع ذلك فتشكيل المحكمة رسمياً يمثل خطوة إضافية في الابتعاد عن النظام التقليدي للسيادة والتقدم صوب ترسيخ إطار السيادة الدولية الليبرالية.
ما يتربص بالاتفاقات القانونية الدولية في الوقت الحاضر يفترض أن احتواء العدوان المسلح وإساءة استخدام القوة يمكن إحرازهما عبر السيطرة على الحروب وتحريم انتهاكات حقوق الإنسان. لأنه من الجلي أن العديد من أشكال العنف المرتكب بحق الأشخاص، وشتى أشكال إساءة استخدام القوة لا تحدث فقط خلال الأعمال الحربية المعلنة. واقع الحال، أن التمييز بين الحرب والسلام، وبين العدوان والقمع آخذٌ بالتآكل بتغير أنماط العنف. فأنواع العنف التي شهدتها البوسنة وكوسوفو تبرز دور القوات شبه العسكرية والجريمة المنظمة واستخدام وحدات من الجيش الوطني لا تعود خاضعة مباشرة لإمرة الدولة. كما يشير تعدد أشكال العنف إلى وجود مسافة ضئيلة بين الجرائم الصريحة المرتكبة خلال الأعمال الحربية والهجمات الرئيسية على رفاه وسلامة المواطنين في الحالات التي لا تعلن فيها الحرب بين الدول. وفي حين لا تنطبق قواعد الحرب مباشرة على العديد من أشكال الحرب الحديثة، لكنها تشكل انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان الدولية.
وفق ذلك، يمكن النظر إلى قواعد الحرب وشرعة حقوق الإنسان بوصفهما شكلان متكاملان من القواعد الدولية التي تهدف إلى تقييد مجال وشكل استخدام القوة القسرية. ومع كل التقييدات التي تعيق تعزيز هذه التغيرات، فهي تغيرات بالغة الأهمية حين تؤخذ مجتمعة، إلى جانب رفض مذهب القوة كسيطرة فعالة، واستبداله بالقواعد الدولية التي ترسخ القيم الإنسانية الأساسية كمعايير لشرعية الحكومات.