ثالثاً :
تفصيل الكلام حول الآية :
1. قال الإمام القرطبي – رحمه الله - :
وروي عن علي بن الحسين : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى الله تعالى إليه أن زيداً يطلق زينب ، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها ، فلمَّا تشكى زيد للنبي صلى الله عليه وسلم خُلُق زينب
وأنها لا تطيعه ، وأعلمه أنه يريد طلاقها : قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصية :
" اتق الله في قولك ، وأمسك عليك زوجك " وهو يعلم أنه سيفارقها ويتزوجها ،
وهذا هو الذي أخفى في نفسه ، ولم يُرد أن يأمره بالطلاق ؛ لما علم أنه سيتزوجها ، وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد ، وهو مولاه
وقد أمره بطلاقها ، فعاتبه الله تعالى على هذا القدْر من أن خشي الناس في شيء قد أباحه الله له ، بأن قال : " أمسك " مع علمه بأنه يطلِّق ، وأعلمه أن الله أحق بالخشية ، أي : في كل حال .
قال علماؤنا رحمة الله عليهم : وهذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية
وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين ، والعلماء الراسخين ، كالزهري ، والقاضي بكر بن العلاء القشيري ، والقاضي أبي بكر بن العربي ، وغيرهم .
والمراد بقوله تعالى : ( وتخشى الناس ) : إنما هو إرجاف المنافقين بأنه نهى عن تزويج نساء الأبناء وتزوَّجَ بزوجة ابنه .
فأما ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم هوي زينب امرأة زيد ، وربما أطلق بعض المُجَّان لفظ " عشق " : فهذا إنما يصدر عن جاهل بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا ، أو مستخف بحرمته .
" تفسير القرطبي " ( 14 / 190 ، 191 ) .
2- وقال الشيخ الشنقيطي – رحمه الله –
:
التحقيق إن شاء اللَّه في هذه المسألة : هو ما ذكرنا أن القرآن دلَّ عليه ، وهو أن اللَّه أعلم نبيّه صلى الله عليه وسلم بأن زيداً يطلّق زينب ، وأنه يزوّجها إيّاه صلى الله عليه وسلم
وهي في ذلك الوقت تحت زيد ، فلما شكاها زيد إليه صلى الله عليه وسلم قال له
: " أمسك عليك زوجك واتق اللَّه " ، فعاتبه اللَّه على قوله : " أمسك عليك زوجك "
بعد علمه أنها ستصير زوجته هو صلى الله عليه وسلم ، وخشي مقالة الناس أن يقولوا : لو أظهر ما علم من تزويجه إياها أنه يريد تزويج زوجة ابنه في الوقت الذي هي فيه في عصمة زيد .
والدليل على هذا أمران :
الأول : هو ما قدّمنا من أن اللَّه جلَّ وعلا قال : ( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ) ، وهذا الذي أبداه اللَّه جلَّ وعلا
هو زواجه إياها في قوله : ( فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا ) ، ولم يبدِ جلَّ وعلا شيئًا ممّا زعموه أنه أحبَّها ، ولو كان ذلك هو المراد : لأبداه اللَّه تعالى ، كما ترى .
الأمر الثاني : أن اللَّه جلَّ وعلا صرّح بأنه هو الذي زوّجه إياها ، وأن الحكمة الإلهية في ذلك التزويج هي قطع تحريم أزواج الأدعياء
في قوله تعالى : ( فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ ) ، فقوله تعالى : ( لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ )
تعليل صريح لتزويجه إياها ، لما ذكرنا ، وكون اللَّه هو الذي زوّجه إياها لهذه الحكمة العظيمة صريح في أن سبب زواجه إياها ليس هو محبّته لها التي كانت سبباً في طلاق زيد لها - كما زعموا
ويوضحه قوله تعالى : ( فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً ) الآية ؛ لأنه يدلّ على أن زيداً قضى وطره منها ، ولم تبقَ له بها حاجة ، فطلّقها باختياره ، والعلم عند اللَّه تعالى .
" أضواء البيان " ( 6 / 582 ، 583 ) .
3. سئل علماء اللجنة الدائمة :
ما هي قصة زيد بن حارثة وزواجه من زينب التي تزوجها بعده النبي صلى الله عليه وسلم ؟
وكيف بدأ زواجهما ؟
وكيف انتهى ؟
حيث إننا سمعنا من بعض الناس في بعض الدول العربية بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد عشق زينب وغير ذلك ، ولا تسمح نفسي بأن أكتب لكم ما سمعت ، فأفيدوني ؟ .
فأجابوا :
زيد هو ابن حارثة بن شراحيل الكلبي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أعتقه وتبنَّاه ، فكان يُدعى " زيد بن محمد " ، حتى أنزل الله قوله ( ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ )
فدَعوه زيد بن حارثة ، أما زينب فهي بنت جحش بن رباب الأسدية ، وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما قصة زواج زيد بزينب
: فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي تولى ذلك له ، لكونه مولاه ومُتبنّاه
فخطبها من نفسها على زيد ، فاستنكفت وقالت : أنا خير منه حسباً ، فروي أن الله أنزل في ذلك قوله ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ) ، فاستجابت طاعةً لله ، وتحقيقًا لرغبة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد عاشت مع زيد حوالي سنة ، ثم وقع بينهما ما يقع بين الرجل وزوجته
فاشتكاها زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لمكانتهما منه ؛ فإنه مولاه ومتبناه ، وزينب بنت عمته " أميمة " ، وكأن زيداً عرَّض بطلاقها ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإمساكها
والصبر عليها ، مع علمه صلى الله عليه وسلم بوحيٍ من الله أنه سيطلقها ، وستكون زوجة له - صلى الله عليه وسلم - ، لكنه خشي أن يُعيّره الناس بأنه تزوج امرأة ابنه
وكان ذلك ممنوعاً في الجاهلية ، فعاتب الله نبيه في ذلك بقوله ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ )
يعني - والله أعلم - : تخفي في نفسك ما أعلمك الله بوقوعه من طلاق زيد لزوجته زينب وتزوجك إياها ، تنفيذاً لأمره تعالى ، وتحقيقًا لحكمته
وتخشى قالةَ الناس وتعييرهم إياك بذلك ، والله أحق أن تخشاه ، فتُعلن ما أوحاه إليك من تفصيل أمرك وأمر زيد وزوجته زينب ، دون مبالاة بقالة الناس ، وتعييرهم إياك .
أما زواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب : فقد خطبها النبي صلى الله عليه وسلم ، بعد انتهاء عدتها من طلاق زيد ، وزوّجه الله إياها بلا ولي ولا شهود ؛ فإنه صلى الله عليه وسلم ، وليّ المؤمنين جميعاً
بل أولى بهم من أنفسهم ، قال الله تعالى ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ )
وأبطل الله بذلك عادة التبنّي الجاهلي ، وأحلَّ للمسلمين أن يتزوجوا زوجات مَن تبنوه بعد فراقهم إياهن بموتٍ أو طلاقٍ ، رحمة منه تعالى بالمؤمنين ، ورفعًا للحرج عنهم .
وأما ما يُروى في ذلك من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم زينب من وراء الستار ، وأنها وقعت من قلبه موقعاً بليغاً ففُتن بها وعشقها
وعلم بذلك زيد فكرهها وآثر النبي صلى الله عليه وسلم بها فطلقها ليتزوجها بعده : ف
كله لم يثبت من طريق صحيح ، والأنبياء أعظم شأناً ، وأعف نفساً ، وأكرم أخلاقاً ، وأعلى منزلةً وشرفًا من أن يحصل منهم شيء من ذلك
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي خطبها لزيد رضي الله عنه ، وهي ابنة عمته ، فلو كانت نفسه متعلقة بها لاستأثر بها من أول الأمر ، وخاصة أنها استنكفت أن تتزوج زيداً
ولم ترض به حتى نزلت الآية فرضيت ، وإنما هذا قضاء من الله وتدبير منه سبحانه لإبطال عاداتٍ جاهلية ، ولرحمة الناس والتخفيف عنهم ، كما قال تعالى ( فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا . مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا
. الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا . مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) .
الشيخ عبد العزيز بن باز ، الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، الشيخ عبد الله بن غديان ، الشيخ عبد الله بن قعود .
" فتاوى إسلامية " ( 18 / 137 – 141 ) .
والله أعلم
و اخيرا
الحمد لله الذي بفضلة تتم الصالحات
اخوة الاسلام
اكتفي بهذا القدر و لنا عوده
ان قدر الله لنا البقاء و اللقاء
و اسال الله ان يجمعني بكم دائما
علي خير
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين