منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - في نفي رجوع المستثنيات على القواعد بالبطلان
عرض مشاركة واحدة
قديم 2012-12-18, 21:44   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
كرماني
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية كرماني
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي في نفي رجوع المستثنيات على القواعد بالبطلان

في نفي رجوع المستثنيات على القواعد بالبطلان

للشيخ أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس -حفظه الله-

السؤال:

من المعلوم كقاعدةٍ عامَّةٍ أنَّ المجتهد المخطئ له أجرٌ، سواءٌ كان في آحاد الناس أو في الصحابة رضي الله عنهم، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم في الفتن والحروب التي دارت بينهم متأوِّلين والأصل أن لا يلحقهم إثمٌ، لكنَّ الذي يَرِد عليه الإشكال أنَّ أبا الغادية الجهنيَّ هذا الصحابيَّ، كما ذكر الحافظ في «الإصابة»(١) هو الذي قتل عمَّار بن ياسرٍ رضي الله عنهما في يوم صفِّين، والأصل -بناءً على القاعدة السابقة- أن يُؤجر لأنه قتله متأوِّلاً ومجتهدًا، لكن ثبت من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «إنَّ قَاتِلَهُ (أي: عَمَّارًا) وَسَالِبَهُ فِي النَّارِ»(٢)، فكيف التوفيق بين القاعدة السابقة والحديث المخالف لها ؟

أفيدونا جزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فلا شكَّ أنَّ هذه القاعدةَ صحيحةٌ لا غبارَ عليها، إذِ المعلومُ من مذهب السلف من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسانٍ أنهم لا يكفِّرون ولا يفسِّقون ولا يؤثِّمون أحدًا من المجتهدين المخطئين، لا في مسألةٍ علميةٍ ولا عمليةٍ، ولا في الأصول ولا في الفروع، ولا في القطعيَّات ولا في الظنِّيَّات(٣)، وتدلُّ على صحَّةِ هذه القاعدةِ وسلامتها نصوصٌ شرعيةٌ منها قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»(٤)، ولقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»(٥)، ولأنَّ الله رفع الخطأ دون تفريقٍ بينها مطلقًا، وقد وقع الاجتهاد منه صلَّى الله عليه وسلَّم في وقائعَ كثيرةٍ منها: أخذُه الفداءَ من أسرى بدرٍ، فعاتبه الله تعالى على ذلك بقوله: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾ [الأنفال: ٦٧].

وقد كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يأذن لأصحابه بالاجتهاد ويُقِرِّهم على الصواب من اجتهاداتهم كقوله صلَّى الله عليه وسلَّم لسعد بن معاذٍ رضي الله عنه لَمَّا حكَّمه في بني قريظة: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ المَلِكِ»(٦).

غير أنَّ قبول عُذر المجتهد المخطئ ليس على إطلاقه، فإنَّ من شرط قبوله أن يكون له قدرٌ من الإيمان بالله ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، إذ لا يُقبل -من الكافر- الاعتذارُ بالاجتهاد لظهور الحجَّة الرسالية من جهةٍ، ولخصوصية الأمَّة المحمَّدية برفع إثم الخطإ عنها -كما تقدَّم في الحديث-.

ومن شرط قبول عذر المجتهد أن يسعى جاهدًا للوصول إلى الحقِّ الذي ينشده بإرادةٍ صادقةٍ ونيَّةٍ حسنةٍ على غير نمط أهل المراء والجدال وأصحاب النوايا السيِّئة والأغراض الخبيثة، لأنَّ الإثم مرتَّبٌ على المقاصد والنيَّات، لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»(٧).

كما أنَّ من شرطه -أيضًا- أن لا يفرِّط في اجتهاده، فإن لم تبلغه الحجَّةُ بسبب تفريطه، أو أعرض عن الحجَّة لشبهةٍ يعلم فسادها، أو أوَّلها تأويلاً غير سائغٍ ولا مرضيٍّ بعيدًا عن المضامين والأصول الشرعية فإنه لا يُعذر في خطئه، ويحصل له من الإثم بقدر تقصيره(٨).

وعليه، فلا يجوز إبطال مثل هذه القواعد التي درج عليها السلف والتي تشهد لها نصوصٌ من الشرع والإجماع، إذ لا يُجمعون على ضلالةٍ لقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لاَ تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلاَلَةٍ»(٩)، ولا يغيب الحقُّ عنهم جميعًا، بل يظهر كما أخبر النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ»(١٠).

وهذه القاعدة -وإن كانت صحيحةً- فليست مطلقةً لا يعتريها استثناءٌ، بل هي عامَّةٌ يدخلها التخصيص والاستثناء كشأن القواعد العامَّة الأخرى، إذ ما هو ملاحظٌ في غالب عمومات الكتاب والسنَّة أنها لا تخلو مِن قَصْر عموماتها على بعض ما يتناوله من الأفراد إلاَّ بقرينةٍ تصرف احتمالَ التخصيص والاستثناء(١١)، لذلك يظهر وجه الجمع بين القاعدة والحديث -حالَ التعارض- في إبقاء القاعدةِ صحيحةً على عمومها ويُستثنى منها ما ثبت بالدليل الصحيح، أو يُحتمل أنَّ أبا الغادية الجُهَنيَّ وقع في الفتنة بعد معرفة صحَّة موقف عمَّار بن ياسرٍ رضي الله عنهما لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان قد قال له: «وَيْحَكَ يَا ابْنَ سُمَيَّةَ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ»(١٢)، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «وَيْحَ عَمَّارٍ، تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ»، قَالَ: يَقُولُ عَمَّارٌ: «أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الفِتَنِ»(١٣)، والمعلوم أنه: «لاَ اجْتِهَادَ مَعَ النَّصِّ».

هذا، وحقيقٌ بالتنبيه أنه لا يَلزم من إخبار النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن أحدٍ من المسلمين بدخوله النارَ أنه يخلد فيها لثبوت الأحاديث الدالَّة على إخراج من كان في قلبه مثقالُ ذرَّةٍ من إيمانٍ من النار: إمَّا بشفاعة نبيِّنا محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم أو بشفاعة غيره ممَّن يرضى الله عنهم، أو من يُخرجهم الله تعالى برحمته من غير شفاعة المخلوقين.

والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٢ صفر ١٤٣٤ﻫ
الموافق ﻟ: ١٥ ديسمبر ٢٠١٢م

(١) انظر: «الإصابة» لابن حجر (٤/ ١٥٠).

(٢) أخرجه أحمد (١٧٧٧٦)، وابن سعدٍ في «الطبقات» (٣/ ٢٦٠)، والحاكم في «المستدرك» (٥٦٦١)، من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، والحديث صحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (٥/ ١٨) رقم: (٢٠٠٨).

(٣) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٢/ ٤٩٤، ١٩/ ١٤٣، ٣٠٢).

(٤) أخرجه البخاري في «الاعتصام بالكتاب والسنَّة» باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (٧٣٥٢)، ومسلم في «الأقضية» رقم (١٧١٦)، من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.

(٥) أخرجه ابن ماجه في «الطلاق» باب طلاق المكره والناسي (٢٠٤٥) من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، وصحَّحه الألباني في «الإرواء» (١/ ١٢٣) رقم (٨٢).

(٦) أخرجه البخاري في «الجهاد والسير» باب إذا نزل العدوُّ على حكم رجلٍ (٣٠٤٣)، ومسلم في «الجهاد والسير» (١٧٦٨)، من حديث أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه.

(٧) أخرجه البخاري في «بدء الوحي» باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم (١)، ومسلم في «الإمارة» (١٩٠٧)، من حديث عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه.

(٨) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٠/ ٢٥٥).

(٩) أخرجه ابن ماجه في «الفتن» باب السواد الأعظم (٣٩٥٠) من حديث أنسٍ رضي الله عنه، والترمذي في «الفتن» باب ما جاء في لزوم الجماعة (٢١٦٧)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: «إِنَّ اللهَ لا يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلالَةٍ». قال السخاوي في «المقاصد الحسنة» (٧١٧): «وبالجملة فهو حديث مشهور المتن، ذو أسانيد كثيرةٍ وشواهد متعدِّدةٍ في المرفوع وغيره»، وحسَّنه الألباني بمجموع طرقه: انظر: «السلسلة الصحيحة» (٣/ ٣٢٠).

(١٠) أخرجه مسلم بهذا اللفظ في «الإمارة» (١٩٢٠) من حديث ثوبان رضي الله عنه، وبألفاظٍ أُخَرَ من حديث غيره، وأخرجه البخاري في «الاعتصام بالكتاب والسنَّة» باب قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ» يقاتلون وهُم أهل العلم (٧٣١١) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

(١١) وقد ذكر ابن تيمية -رحمه الله- عموماتٍ كثيرةً محفوظةً من القرآن الكريم لا مخصِّصَ لها، بل هي باقيةٌ على عمومها. [انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٦/ ٤٤٢)].

(١٢) أخرجه أحمد في «مسنده» (٦٤٩٩) من حديث عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما، وشطره الثاني في مسلمٍ في «الفتن» (٢٩١٦) من حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها، وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع» (٢٨٤٣) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه بلفظ: «بُؤْسًا لَكَ يَا ابْنَ سُمَيَّةَ ...».

(١٣) أخرجه البخاري في «الصلاة» باب التعاون في بناء المسجد (٤٤٧) من حديث أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه.









 


رد مع اقتباس